شعار الموقع (Our Logo)

 

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

اندريه تاركوفسكي: «المرآة» يعمق تساؤلات عن الحياة والموت

سكورسيزي: صورة الذات عبر مجنون السينما والجراثيم والطيران

امير كوستوريكا طفل السينما العالمية المشاغب

باب الشمس اختارته الـ التايم من أفضل‏10‏ أفلام علي مستوي العالم

جيهان نجيم فيلمها القادم عن جون كيري

بيدرو المودوفار.. كلمة ختام حياتنا لم تكتب بعد

 

 

 

 

 

هوليوود تلقي المزيد من الوقود على الجبهة:

الحرب قياماً وقعوداً وفي أكثر من اتجاه وزمن

هوليوود - محمد رضا

 

 

 

 

 

هناك ذلك المشهد الذي يحاول فيه جنود فرنسيون الخروج من الخنادق المحفورة عند خطوط القتال على الجبهة الألمانية المشتعلة. لو تُركوا وشأنهم، لما أطل أحد برأسه، لكن الأوامر الصارمة اقتضت محاولة التقدم صوب المواقع الألمانية واحتلالها. هم بين نارين، نار العدو إذا تقدّموا، ونار القيادة العسكرية إذا تقاعسوا. ينهض هؤلاء الجنود من جحورهم ويحاولون التقدم في يوم رمادي قاتم. بعضهم ينقلب عائداً لتوّه الى الخندق وقد أصيب. ينقلب الى الوراء وخندقه يصبح قبره. البعض الآخر يتقدم خطوات ثم يقع ولا أحد ينجو. النار تحصد الجميع باستثناء من اختار التقاعس، والقيادة الفرنسية، متمثلة بجنرال لا يريد الاعتراف بأنه أخطأ في إصدار قرار الهجوم، تريد إعدامهم.

لا يزال «دروب المجد» لستانلي كوبريك (1957) عن رواية لهمفري كوب شارك في كتابة السيناريو لها الروائي جيم تومسون، أحد أفضل الأفلام المعادية للحرب كمبدأ عام وكموقف إنساني رافض للقتل خرجت في التاريخ الى اليوم. إنه يتقدم على، او يقف جنباً الى جنب مع «كل شيء هادئ على الجبهة الغربية» (لويس مايلستون - 1930) و«الديكتاتور العظيم» (تشارلي تشابلن - 1940) والروسي «صعود» (لاريسا شبتكو - 1976) والألماني (الشرقي حينها) «أمي أنا حي» (كونراد وولف – 1976) و«سفر الرؤيا... الآن» (فرنسيس فورد كوبولا - 1979).

كلها رائعة في النظر الى سلام مفقود وشهوة حرب جانحة وكلها من نوعية أفلام توقف ضخ الحياة فيها. ذلك أن الحرب الدائرة اليوم على الجبهة العراقية ما زالت هادئة سينمائياً. وفي حين أن عدد الكتب التي صدرت حولها خلال العامين الماضيين، أي منذ غزو العراق الذي أدّى سريعاً الى سقوط نظام تمتع بمواصفات فاشية وديكتاتورية نموذجية، وصل الى 300 كتاب، لن تجد الا عدداً محدوداً من الأفلام التسجيلية التي تطرّقت إليها، وغالباً ما صُوّرت بعيداً منها مستعينة فقط بمناظر إخبارية لها، كما هي الحال مع «فهرنهايت ١١/٩» لمايكل مور أو عمدت الى مقابلات تتحدث عنها كما في «الحرب بحسب بوش» لويليام كارل. وحالياً في العروض في الصالات المختارة فيلم وثائقي جديد تم تصويره داخل العراق وخلال الأشهر الأربعة الأولى من غزوه، عنوانه «قصر جنود المدفعية» هو الأخير في سلسلة ما تم إطلاقه تسجيلياً ليدور عن الحرب او يعلّق عليها من موقفي المؤيد او المعارض لها.

«قصر غونر» فيلم تسجيلي جديد لبترا إيبرلين ومايكل تاكر. والكلمة Gunner مسحوبة من كلمة Gun (مدفع). أما القصر فهو المركز الذي اتخذه جنود فرقة المشاة ٢/٣ مكاناً لهم وكان من أملاك عدي حسين الى حين هرب ثم قُتل بعد أشهر قليلة من حرب التحرير الأميركية. تم تصوير الفيلم بعد أربعة أشهر من بدء الحرب وانتهى التصوير بعد أربعة أسابيع حيث انسحب المخرجان من أرض المعركة حينما أعلن رسمياً عن انتهاء الحرب، وليس عن انتهاء القتال.

ما يتعامل معه الفيلم هو حياة الجنود الأميركيين في تلك الفترة. ومع أنه يؤكد دكانة تلك الحياة وإحباطاتها وضعف القناعات فيها، الا أنه من الشطح بمكان بعيد اعتباره عملاً يقصد به إظهار ذلك البؤس من باب ذرف العاطفة تجاه الأميركيين. إنه عن الحرب من موقع متسائل والتساؤل قد لا يكون مواجهة، لكنه لا يخلو منها. وهو أيضاً عن الجهل بالآخر وعدم القدرة على التواصل معه. الى جانب أن الجنود الأميركيين آتون من بيئات تندرج من الفقر الى الطبقة الوسطى ويحملون فراغا في الأدمغة في ما يتعلّق بكل ما هو «غريب». هناك حقيقة أن أحداً، خصوصاً في تلك الحقبة الأولى، لم يكن قادراً على فهم كيف أن شعباً عاش في الحرب طويلاً يمكنه أن يكون سعيداً بزوال الحكم الطاغي ومعادياً للأميركيين في الوقت ذاته. المشهد الدال على كل ذلك هو عندما تفجّر إحدى الجماعات سيارة ملغومة في حي شيعي. ينطلق الأميركيون لمساعدة الجرحى ومواساة الأهالي فإذا بهم يواجهون بالحجارة. كيف سيفهم الأميركي هذا المنطق؟ يتساءل الفيلم، لكن التساؤل لا يحمل إجابة محددة نظراً لأن الفيلم يجد أن من المبكر فهم الذي يحدث تبعاً لموقف واحد مهما بدا صحيحاً ولو لطرف واحد من الأطراف المحيطة به.

«صلاح الدين الجديد»

على أن السينما الروائية المتعاملة مباشرة مع تلك الحرب ومسبباتها ونتائجها لا تزال بعيدة. ليس أن هوليوود تعيش على سطح كوكب آخر، لكنها لا تعرف، في وضع ينقسم الأميركيون حول هذه الحرب اليوم كما فعلوا منذ اندلاعها، كيف تتعامل وإياها على نحو رصين. هي غالباً بانتظار مخرج من وزن كوبولا او كوبريك يقدم على تحويل رواية من وزن «قلب الظلام» لجوزف كونراد او «دروب المجد» لهمفري كوب.

على ذلك، ومع ندرة أن تجد فيلماً روائياً عن الحرب العراقية، الا أنه ومنذ ١١/٩ وتلك الحرب مترجمة على صعد متعددة وعلى جبهات كثيرة. هناك أفلام تسجيلية وسياسية عن الحرب العراقية، وعن الحرب في الصومال وأفلام عن الحرب في البوسنة وأخرى تتعامل مع المذابح التي وقعت في رواندا. هناك أفلام ضد الإرهاب وأخرى ضد السياسة المعادية للإرهاب. هناك أفلام تسجيلية عن فلسطين والصراع الأبدي، وأخرى عن وسائل الإعلام الأميركية والعربية وكيف تصرّفت كل منها حيال الحروب والسياسة الأميركية الخارجية. وإذا لم يكن هذا كله كافياً، هناك الأفلام التي تعود الى التاريخ وتستمد منه خطوطاً تمتد تلقائياً، او بقدر من الغصب، الى الوعي الحاضر.

أوليفر ستون قرر وهو يصوّر «الإسكندر» أن فيلمه يحاكي الزمن الراهن. وعبثاً يحاول المرء أن يشق طريقه وسط الأغلفة السميكة التي تحيط باحتمال وجود هذه الرسالة، فيجد أن الرابط المحتمل الوحيد هو أن الإسكندر كان أول قائد سعى لتوحيد العالم عسكرياً. ستون لا يقولها صراحة في الفيلم، لكن جورج وبوش ومسعاه، بحسب الفيلم، ليس مختلفاً عن الإسكندر وغاياته.

حتى وإن لم يكن هناك رابط قوي بين فيلم تاريخي من وزن الأفلام الثلاثة التي خرجت في العامين الماضيين حول حروب السيف والدرع والصناديل، باتت مشاهدة مثل هذه الأفلام تأخذ منحى ممعناً: ... أحياتنا كلها منذ بدء الخليقة على هذا الكوكب هي قتل وتدمير؟ «الملك آرثر»، لأنطوان فوكوا أقل هذه الأفلام إمعاناً في الربط مع الحاضر، لكن «طروادة» لوولفغانغ بيترسون فيه ما يكفي للنظر الى كيف أن التاريخ والجغرافيا شكّلا المعين الأساس لقتال الشعوب، بل للنزاعات المسلحة ضمن الشعب الواحد. وقريباً، حينما يحط «مملكة الجنة» لريدلي سكوت (الذي كان صنع فيلماً عن الموقعة الدامية التي دارت بين الثوار الصوماليين والجنود الأميركيين في «بلاك هوك داون») سنجد أكثر من طرح ملاصق لزمننا المعاصر. يكفي انه عن الحملة الصليبية على فلسطين والبلاد العربية ما يكفل ربطاً بين حروب الأمس وحروب اليوم ومبرراتها وعالمين يرفض كل منهما الرضوخ الى الآخر.

المناظر الدعائية بوشر بعرضها على الشاشات كاشفة عن فيلم تاريخي كبير جداً لصاحب «غلادياتور»، الفيلم الذي فتح الباب أمام عودة أفلام السيوف المتقارعة. «مملكة الجنة» هو عن الحملة الصليبية والاقتتال الطويل بين جيوش الحملة وجيوش الدفاع عن بيت المقدس والعالم العربي والدينين الإسلامي والمسيحي ضد طرف اعتبرهما معاً في خندق معاد واحد. صلاح الدين الأيوبي موجود في الفيلم (يؤديه الممثل السوري غسّان مسعود) لكن بحسب المناظر، فإن الدور صغير، فالقيادة في الفيلم من نصيب الصليبي الذي يحوي في معسكره معارضين ومؤيدين، كما للمشاهد الكبيرة حينما تتلاحم الجيوش في قتال قادر على أن يجلب للبال أي حرب لاحقة خاضها العالم الى اليوم. ما هو متوقع من فيلم ريدلي سكوت أن يتحدث عن معسكر الغزاة وليس معسكر المدافعين مع احتمال محاولة إظهار موقف إيجابي ما حيال مناهضة العرب للغزو. هذا ليس عائداً، بالضرورة، الى فهم أفضل لأبناء هذه الأمة بل يبدو أقرب لأن يكون الحل المنطقي الوحيد في غمار المواقف المتعددة حالياً تجاه الحرب ضد الإرهاب وضد العمليات المناوئة للقوات الأميركية في العراق وتبعاً للتجاذب العربي - الغربي في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية.

المخرج المغربي محمد عسلي يؤكد أن البنتاغون وراء إنتاج أفلام ريدلي سكوت الأخيرة كونه حقق فيلمه السابق، «بلاك هوك داون» عن الحرب التي دارت في الصومال حينما هب الجنود الأميركيون لمحاولة إنقاذ أميركيين وموظفين تابعين للأمم المتحدة وقعوا فيكمائن لقوّات «إسلامية» ثائرة. ويجد مخرج «فوق الدار البيضاء، الملائكة لا تحلّق» في عودة سكوت الى الموضوع العربي (وهو صوّر فيلمه «مملكة الجنة» في المغرب) دلالة الى أنه مدفوع بخطة، أو أجندة، أبعد من مجرد تحقيق أفلام تاريخية.

«حرب العوالم»، لم يكن أفضل فيلم يرمز لهذا الصراع، بل أحدها. الترميز الأفضل سيبقى دائماً من نصيب فيلم دون سيغال «غزو ناهشي الجسد» (1956). ذلك الفيلم، الذي أعيد تحقيقه مرتين (واحدة حيادية سنة 1978 لفيليب كوفمان وأخرى ليبرالية لآبل فيريرا سنة 1997 وهناك نسخة رابعة قريبة مجدولة للعرض في العام المقبل) يبقى أفضل فيلم بروباغندا ضد الخطر الشيوعي غير المسمّى تم إنجازه الى اليوم. به خاض سيغال ومن خلفه هوليوود الخارجة من محاكمات المكارثية لتوّها حربهما ضد المعسكر الآخر في ظل سنوات الحرب الباردة بين المعسكرين.

السؤال إذا كان سبيلبرغ سيجد الرمز الشيوعي غير مجد اليوم، وإذا كان سيستبدله برمز عربي، او لعله يبقيه رمزاً مفتوحاً او يلغي الرمزية إلغاء مطلقاً. هذا السؤال لا جواب عنه الآن.

الحياة اللبنانية في 1 أبريل 2005

«الضربات الـ400» لتروفو:

موجة جديدة... كلاسيكية

إبراهيم العريس

إذا كان من الصعب بالنسبة الى الأدب والشعر، وحتى بالنسبة الى الفلسفة، الحديث عن العمل المعين الذي به بدأ تيار من التيارات، كالرومنطيقية والكلاسيكية، في مقابل الوضوح في تحديد ماهية جملة من أعمال شكلت تياراً في لحظة زمنية معينة، فإن الحال بالنسبة الى فن السينما، وربما الى فن المسرح أيضاً، تبدو على العكس من ذلك. إذ من الممكن منطقياً، تحديد ان فيلم «الأرض تهتز» للإيطالي لوكينو فيسكونتي، كان البادئ في قيام «الواقعية الجديدة» في ايطاليا، أو ان فيلم «مساء السبت صباح الأحد» لطوني ريتشاردسون هو الذي افتتح تيار «السينما الحرة» في بريطانيا، وما الى ذلك. والكلام نفسه ينطبق، أيضاً، على واحد من أهم التيارات السينمائية التي ظهرت خلال النصف الثاني من القرن العشرين، نعني به تيار «الموجة الجديدة» الفرنسي، الذي لا شك مارس، من خلال الأفلام التي حققت في ظله، أو من خلال نظريات المجلة التأسيسية التي احتضنته، وهي «كراسات السينما» نفوذاً كبيراً على كل السينما «التي تفكر» في طول العالم وعرضه، بعد ولادته، ولا سيما في أميركا، حيث يدين قطاع كبير من السينما المستقلة، في الحاضر كما في الماضي، له ببعض وجوده. واللافت في أمر هذا التيار انه، وعلى عكس التيارات السابقة عليه والمتزامنة معه، لم يولد من الممارسة العملية لفن السينما، بل من الممارسة النظرية، إذ نعرف ان معظم أقطابه، إنما كانوا في الأصل صحافيين ونقاداً في «كراسات السينما» وغيرها، وانه كان لهم جميعاً أب روحي هو اندريه بازان. وإذ قلنا ان هذا التيار كانت له بداية محددة، نستطرد لنقول ان هذه البداية تمثلت في ثلاثة أو أربعة أفلام حملت تواقيع من سيصبحون لاحقاً «نجوم» التيار: فرانسوا تروفو، جان – لوك غودار، كلود شابرول، ألكسندر آستروك... الخ. وكما هي حال التيارات الأخرى، يمكن القول ان «الموجة الجديدة» نبعت من رصد الحياة نفسها، ورصد المشاعر والمواقف وعلاقة الأفراد بالمجتمع، ناهيك باتباعها أساليب «لغوية» جديدة في التوليف والحوار، واختيار الكادرات، بالتوازي مع الاستعانة، عموماً، بممثلين جدد – لا بأس أن يتحولوا لاحقاً الى نجوم -. غير ان الميزة اللافتة في مجمل الأفلام الأولى التابعة لهذه «الموجة الجديدة»، هي ان طابع السيرة الذاتية غلب على معظم تلك الأفلام، ما جعل من المنطقي الحديث معها عن «سينما المؤلف»، أي السينما التي يكتب المخرج مواضيعها ويخرجها، لأنها – ولو جزئياً – مستقاة من حياته نفسها، أو الحياة التي يرصد تفاصيلها من حوله، ودائماً في لعبة تحطيم للزمن تدين لمارسيل بروست... بالكثير.

ونحن لو بحثنا عن فيلم أول تبدو فيه كل هذه العناصر مجتمعة، سنجد أنفسنا أمام واحد من أبكر وأجمل أفلام هذا التيار: فيلم «الضربات الـ400» لفرانسوا تروفو، الذي كان وبقي حتى رحيله المؤسي والمبكر، في مقدم أهل «الموجة الجديدة» أحياناً وحده، وأحياناً شراكة مع أناه/ الآخر، لكن المشاكس وذي الخصوصية الاستثنائية، جان – لوك غودار... حتى وإن أطل تروفو، دائماً، أكثر كلاسيكية ومحافظة في الشكل، أكثر ثورية في المضمون العقلاني لأعماله. وكل هذا أيضاً نجده واضحاً في «الضربات الـ400». وقبل أن تتحدث عن هذا الفيلم لا بأس من الاشارة الى ان عنوانه الفرنسي الذي يستخدم عادة في ترجمته الحرفية، هو مصطلح تعبيري يعني «العيش كيفما اتفق».

وهذا العيش كيفما اتفق هو الذي يمارسه في الفيلم بطله، الفتى المراهق المسمى انطوان دوانيل، والذي يكاد يكون مع بعض الفوارق صورة مما كان عليه فرانسوا تروفو نفسه، في صباه. وانطوان هذا (الذي لعب دوره في ذلك الحين فتى في الثالثة عشرة من عمره هو جان – بيار ليو)، يعيش في الفيلم حياته اليومية، التي من الصعب القول انها شديدة الاستثنائية، مفرطة في مأسويتها، حتى وإن كانت تتسم بشيء من الغرابة – أو الخروج عن السياق العام لعادية المجتمع – من خلال وضعية انطوان نفسه. فهو صبي باريسي، تبناه زوج أمه الطيب الذي لا يدخر وسعاً في العناية به، على رغم آلامه هو الذي لا تكف زوجته – أم انطوان – عن خيانته عابثة مع شبان آخرين. وفي خضم هذا، يبدو لنا انطوان حالماً مشاكساً، لا يكف عن التغيب عن صفه متسكعاً في الأزقة والحواري برفقة رفيقه رينيه. ويحدث ذات يوم إذ يشتد ضغط الناظر على انطوان في المدرسة لكي يبرر غيابه المتكرر، يحدث ان يزعم انطوان ان سبب غيابه موت أمه. غير ان هذه الكذبة سرعان ما تفتضح ويصبح ذنب انطوان مضاعفاً، ما يدفع الناظر الى معاقبته، لتبدأ سلسلة من الهروب والمشاكسات التي تنتهي بأن يوضع انطوان بموافقة الأهل في مركز للرقابة على الأحداث الخارجين عن القانون. ولكن هذه المرة أيضاً، لا يكون أمام انطوان إلا أن يهرب راكضاً... راكضاً حتى يصل الى البحر... وينتهي الفيلم على ذلك.

في الحقيقة ان هذا الموضوع قد يبدو للوهلة الأولى، مستقى من عوالم تشارلز ديكنز. بيد ان لغة تروفو لا بؤسوية فيها ولا أي شيء من هذا القبيل. فأنطوان لا يتصرف كولد وقع ضحية المجتمع، بل ككائن حر يشعر انه يمتلك العالم... لأنه يقاوم بشدة ويصارع. وتلكم هي، على أية حال، الرسالة الأساسية للفيلم، ناهيك بأن تروفو يقدم لنا في مشاهد عدة وذات مغزى في الفيلم، بطله الفتي وهو يكتشف فن السينما باكراً لتصبح السينما جزءاً من حياته، بل إنه لا يتوانى عن سرقة صور الأفلام المعروضة على واجهة الصالات. ومن هنا يصبح هذا الفيلم أيضاً، مؤسساً لعلاقة الفن – والمخرج بالتالي – بالفن السابع، وهي علاقة سيكون تروفو لاحقاً، وفي فيلم «الليل الأميركي» بخاصة من أبرع الذين يعبرون عنها وأكثرهم شفافية، ما يضعنا أيضاً في صلب سيرة تروفو الذاتية.

غير ان فرانسوا تروفو سيتعامل مع سينماه، بأكثر تركيبية ولن يرضى بأن يجعل من «الضربات الـ400» مجرد سرد لطفولته، خصوصاً ان قطاعاً كبيراً من حياة انطوان، يختلف عن القطاع الأساس من حياة تروفو، طفلاً... وتروفو سيؤكد لاحقاً هذا، من خلال مواصلته، عبر ثلاثة أفلام تالية يحققها خلال مراحل متأخرة من حياته ومساره المهني، اذ سنراه يستعيد انطوان دوانيل نفسه (ودائماً مع جان – بيار ليو في مراحل مختلفة من عمره)، بحيث ان تلك الأفلام ستشكل مع «الضربات الـ400» كمقدمة لها، رباعية عرفت سينمائياً باسم «رباعية انطوان دوانيل». وفي الأفلام التالية سنرى انطوان في خضم الحياة والحب، وفي علاقاته شاباً، ثم متزوجاً، مع المجتمع، بحيث يفترق المجموع تماماً عن حياة تروفو، ليصبح مجرد سيرة لشاب فرنسي، من أبناء الربع الثالث من القرن العشرين. وعلى رغم نجاح كل أفلام السلسلة فإن «الضربات الـ400» يظل الأكثر شعبية وقوة، ولطالما قلده سينمائيون في شتى أنحاء العالم مشيرين اليه، أيضاً، بصفته الفيلم الذي مارس أكبر تأثير فيهم.

وفرانسوا تروفو (1832 – 1984) الذي يعتبر الآن، وعلى رغم ضلوعه في «الموجة الجديدة» ولغتها المتنوعة والحية، من أكبر كلاسيكيي السينما الفرنسية، بدأ حياته، كزملائه المقربين، ناقداً، ثم حقق شرائط قصيرة قبل أن يحقق ذلك الفيلم الأول الشفاف والقوي. وهو حقق، عدا عن تلك الرباعية، مجموعة لا بأس بها من أفلام يعتبر معظمها علامات في السينما الحديثة، من «جول وجيم» الى «العروس كانت ترتدي ثياب الحداد» ومن «أطلقوا النار على عازف البيانو» الى «فهرنهايت 521» و»المترو الأخير» و»الليل الأميركي» و»آديل هـ.» و»الغرفة الخضراء» وصولاً الى «يا حبذا يوم الأحد» الذي عرض في العام 1984، أي في العام نفسه الذي رحل فيه تروفو بعد صراع مع المرض، وهو بعد في عز شبابه وعطائه، كمخرج وكاتب ومنظّر، ولكن أيضاً كممثل، في بعض أفلامه، كما في فيلم «لقاءات قريبة من الدرجة الثالثة» لستيفن سبيلبرغ.

الحياة اللبنانية

1 أبريل 2005