شعار الموقع (Our Logo)

 

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

اندريه تاركوفسكي: «المرآة» يعمق تساؤلات عن الحياة والموت

سكورسيزي: صورة الذات عبر مجنون السينما والجراثيم والطيران

امير كوستوريكا طفل السينما العالمية المشاغب

باب الشمس اختارته الـ التايم من أفضل‏10‏ أفلام علي مستوي العالم

جيهان نجيم فيلمها القادم عن جون كيري

بيدرو المودوفار.. كلمة ختام حياتنا لم تكتب بعد

 

 

 

 

 

درس للحاضر

نديم جرجورة

 

 

 

 

 

أنجز المخرج اللبناني سايد كعدو فيلماً وثائقياً جديداً بعنوان <<الأوزاعي، إمام بلاد الشام>> (45 دقيقة، إنتاج زهير إبراهيم الخطيب)، عُرض للمرّة الأول مساء الثالث من آذار الجاري في قصر الأونيسكو. تعليق: علي شقير. بحوث: محمد موسى. إضاءة: <<المؤسّسة العامة للسينما>> في سوريا. مدير تصوير: فادي أبو جودة. الأرشيف: التلفزيون العربي السوري.

هنا مقالتان للزميلين نديم جرجوره وصقر أبو فخر، تناولت الأولى علاقة المادة التاريخية بالفيلم الوثائقي، وتوقّفت الثانية عند بعض العناوين العامّة الخاصّة بالإمام الأوزاعي.

لم يكن التعامل السينمائيّ مع التاريخ سهلاً في يوم من الأيام، في العالم العربي. ذلك أن التداخل الفظيع بين العام والخاصّ، وبين الدينيّ والاجتماعيّ والفكريّ، يحول دون السماح للفنان في مزاولة عمله بالحرية الإبداعية المتكاملة مع حرفية التنفيذ الفني والتقني والإسقاط الدراميّ على الحاضر، في حال أراد السينمائيّ أن يستعين من الماضي ما يُعينه على الإضاءة على الحاضر. فالسينما محتاجة إلى أدوات متحرّرة من أي قيد أو رقابة، والتحقيق التلفزيوني السوي والموضوعيّ عاجز عن التنصّل من دوره في الكشف والمُسَاءلة والتنقيب، على الرغم من أن الغالبية الساحقة من الأفلام السينمائية والأعمال التلفزيونية فشلت في تحقيق المُعادلة المطلوبة بين حرية الاختيار والمعالجة والمادة التاريخية.

لم يعد مقبولاً أن <<يهرب>> الفيلم الوثائقي أو التسجيلي، الخاص بالتلفزيون أو المصنوع للسينما، من <<الألغام>> المتنوّعة التي زرعها الموروث الثقافي والديني والاجتماعي العربي في التاريخ الإنساني. وليس مسموحاً أن يتجاوز المرء مراحل أو حقبات أو أحداثاً أو جوانب يراها <<مُسيئة>> للواقع الآنيّ أو للصورة المطلوب ترويجها بحجّة <<الظروف الصعبة التي يمرّ بها العالم العربيّ اليوم>>، مثلاً. إن النتاج الفني والثقافي المُفرَّغ من أي نقاش نقدي، والخالي من أي تحريض على طرح أو إعادة طرح الأسئلة كلّها، وعلى السعي إلى حثّ المتلقّي على البحث عن أجوبة، يبقى مجرّد نتاج مُسطّح لا يصلح لأن يكون عملاً إبداعياً حقيقياً.

تحدّيات الفيلم التاريخي

في مقابل هذا كلّه، يواجه المخرج السينمائيّ العربيّ تحدّياً كبيراً ما إن يُعلن عن رغبته في استعادة محطّة تاريخية، أو شخصية تاريخية، أو حدث تاريخي: كَمّ هائل من الممنوعات يحول دون تحرّره من معاينة المادة بشفافية وموضوعية، وبلغة فنية سوية وإبداعية. الأمثلة في هذا المجال كثيرة: يكفي التوقّف عند بعض المشاريع السينمائية والتلفزيونية التي تناولت مواضيع تاريخية، كجمال عبد الناصر وأنور السادات وأم كلثوم وطه حسين، أو اللحظات التاريخية الأخرى المتمثّلة بحروب وانقلابات، أو إنتاج ثقافي أو فكري أو سياسي أو ديني. هناك دائماً محظورات، تفرض <<تقديساً>> للشخصية أو الحدث أو الإنتاج. هناك دائماً انتقاصٌ خطرٌ من القيمة الإبداعية للعمل الفني وموضوعيته وسويته. تزداد حدّة هذا الانتقاص حين <<يتراجع>> المخرج أمام التحدّي، و<<يتنازل>> عن المعنى الأهمّ في صنع فيلم سينمائيّ، بقبوله بما يفرضه الواقع. هذا يعني <<تنقية>> الحدث أو الشخصية من جوانب ومحطّات يرفض القيّمون عليه/عليها استعادتها بألف حجّة واهية.

بدت هذه المقدّمة ضرورية، لأنها حاولت أن تعكس واقعاً فنياً خطراً في صناعة الفيلم التاريخي العربي. وهي ليست قراءة مُسبقة للعمل الفني الجديد الذي أنجزه المخرج الوثائقي اللبناني سايد كعدو بعنوان <<الأوزاعي، إمام بلاد الشام>>، بقدر ما نتجت من مشاهدته التي كشفت طريقة إنجازه وكيفية تعاطيه مع هذه الشخصية التاريخية. أعترف أني لم أطّلع كفاية على السيرتين الذاتية والمهنية للإمام الأوزاعي، أو على المرحلتين التاريخيتين السابِقة لولادته والمواكِبة لحياته. لكن الفيلم بدوره لم يُقدّم إلاّ لحظات مجيدة قليلة، مأخوذة من تاريخ مليء بالعنف والتحوّلات الخطرة والصدام الدينيّ والطائفيّ والصراعات الدموية، محاولاً أن يربط بينها وبين موقع الإمام الأوزاعي، على خلفية التناغم المسيحي الإسلاميّ والعيش المشترك بين أبناء هاتين الديانتين.

إنجاز تقليدي

غالب الظنّ أن الاكتفاء بإبراز الجانب الحسن والإيجابيّ من سيرة الإمام الأوزاعيّ تأتي في الإطار التقليدي المعتمَد في العالم العربي، على مستوى العلاقة الملتبسة بين التاريخ وصناعة الفن البصري. وعلى الرغم من هذا الاكتفاء، إلاّ أن المضمون الدراميّ ل<<الأوزاعي، إمام بلاد الشام>> ظلّ عادياً ومبسّطاً، كأنه درسٌ أخلاقيّ ووعظٌ إنسانيّ يتمحور حول <<عظمة>> العلاقة السوية بين المسيحية والإسلامية، من خلال إمام (أي رجل دين مسلم) بدا مُسرفاً في إنسانيته وبساطته وتقواه وجمال تسامحه. هل هذا صحيح؟ هل هناك ما هو <<مخفي>> في سيرته المرتبطة بتحوّلات سياسية وثقافية واجتماعية وإنسانية متنوّعة عرفتها بلاد الشام في القرن الثامن؟ هل أراد المخرج سايد كعدو أن يُقدّم نموذجاً ما عن معاني التسامح والعيش المشترك والمقوّمات الإنسانية المنفتحة على الآخر، اقتبسه من التاريخ لإسقاطه على حاضر غارق في فوضى العلاقات وفراغ الروح والفكر وعنف التواصل؟

لم تكن المرّة الأولى التي يستعيد فيها سايد كعدو شيئاً من التاريخ العربيّ. فيلمه السابق <<إرفع رأسك يا أخي>> أعاد تقديم حقبة مهمّة من الذاكرة العربية، من خلال شخصية الزعيم جمال عبد الناصر، الذي امتلك حلماً فسقط ضحيته لأسباب كثيرة لا مجال لمنقاشتها هنا. غير أن أسلوب تحقيق <<الأوزاعي، إمام بلاد الشام>> يختلف كثيراً عن آلية تنفيذ <<إرفع رأسك يا أخي>>: لإنجازه هذا الأخير، اختار كعدو عدداً كبيراً من الصُوَر الفوتوغرافية الخاصّة بالسيرتين الذاتية والمهنية للزعيم المصري العربيّ، مُوَلِّفاً إياها في متتاليات مشهدية روت، من دون تعليق، التفاصيل المتنوّعة التي عاشها جمال عبد الناصر، في حياته ويومياته ومساره المهنيّ من انتسابه إلى الجيش ومشاركته في ثورة الضباط الأحرار، وصولاً إلى السلطة والتغيير الداخلي والعلاقة بالخارج، وانتهاءً بموته. أراد سايد كعدو أن يروي، بفضل هذه الصُوَر، تاريخاً حافلاً بالتحوّل والإنجازات والمواقف، من دون أن يتطرّق إلى الأخطاء ارتكازاً على التقليد المتّبع في إنجاز فيلم تاريخي، فإذا به يُقدّم عملاً باهتاً ومملاً، لا يشفع به تناوله شخصية ملتبسة ومثيرة للجدل كشخصية جمال عبد الناصر.

غير أن سايد كعدو، باختياره الإمام الأوزاعي موضوعاً درامياً لفيلمه الوثائقي الجديد <<الأوزاعي، إمام بلاد الشام>>، بدّل من أسلوب عمله مختاراً ما رآه متلائماً مع المادة المختلفة عن فيلمه السابق. التقى أناساً مختصّين بالتاريخين العربيّ والإسلاميّ، ومُطّلعين على السيرتين الذاتية والمهنية للإمام الأوزاعي، وقارئين أعماله، وباحثين في المراحل التاريخية التي عاشها، ودارسين التفاصيل الاجتماعية والدينية والفقهية الخاصّة بالإمام وبعصره (محمد محفل، الأب سمير خليل، الأب سهيل قاشا، السيّد علي الأمين والشيخ أمين الكردي). هذا كلّه حسن. إن فيلماً وثائقياً يتناول شخصية تاريخية محتاجٌ إلى أخصائيين. لكن، هل هناك جديد في آلية تنفيذ الفيلم؟ حين أنجز <<تقاسيم من بغداد>>، لم يكتفِ سايد كعدو في تصوير المعاناة والتقاط النبض الإنسانيّ في ظلّ الحصار الدولي على العراق في التسعينيات المنصرمة، بل وسم تنفيذه ببعض التقنيات المُختلفة في التعبير عن هذا الوجع وذاك الدمار. هنا أيضاً، حاول كعدو أن يُفسح مجالاً لهذا النوع من <<الجمالية الفنية>>، فاستعان بأرشيف مُصَوّر عن حروب وغزوات، وأعطى الحكاية أبعاداً بصرية لا شكّ في أنها ساهمت في تخفيف وطأة السرد التاريخي والعلمي والمعرفي، من دون أن يمنح فيلمه فرصة الخروج من مأزق التقليد في تنفيذه.

السفير اللبنانية في 24 مارس 2005