شعار الموقع (Our Logo)

 

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

اندريه تاركوفسكي: «المرآة» يعمق تساؤلات عن الحياة والموت

سكورسيزي: صورة الذات عبر مجنون السينما والجراثيم والطيران

امير كوستوريكا طفل السينما العالمية المشاغب

باب الشمس اختارته الـ التايم من أفضل‏10‏ أفلام علي مستوي العالم

جيهان نجيم فيلمها القادم عن جون كيري

بيدرو المودوفار.. كلمة ختام حياتنا لم تكتب بعد

 

 

 

 

 

لماذا من الأفضل ألا تجسد الشخصيات الدينية؟

ماجد حبته**

 

 

 

 

 

تجسيد الشخصيات ذات البعد الديني هو أهم العقبات التي تواجه الدراما التاريخية والدينية، وكثيرا ما توجه الانتقادات لفتاوى الفقهاء وقرارات الرقابة بمنع ظهور الشخصيات الدينية، بدءا من الملائكة والأنبياء، ومرورا بكبار الصحابة حتى تشمل قائمة المنع شخصيات أخرى لها حيثية دينية أو سياسية في عصور مختلفة.

لن نناقش القضية من مدخلها الديني أو السياسي، وإنما سنعالجها من مدخل فني يرصد المفارقة التي قد تساعد في حل الإشكالية.

فقد وجد العديد من المؤلفين والنقاد أن إخفاء شخصية البطل يكون أفضل من ظهوره، ويكون له قدرة أكثر على إثارة انتباه المشاهدين وإطلاق العنان لخيالهم بما يفيد العمل الفني الذي قد يخسر كثيرا من قيمته لو ظهر البطل.

الإخفاء أفضل من الظهور

قد يبدو إيهام المتفرج بأنه شاهد البطل من خلال سماع صوته شيئا مستحيل التحقق، لكن هذا ما يحدث فعليا؛ فقد استمتع العديد من المشاهدين للكثير من الأعمال والمسلسلات التي لم تبرز فيها صورة دون أن يدرك أن شيئا ما ينقصه.

إنها قدرات المخرج، وخيال المتفرج القادر على ملء الفراغات لا إراديا وبشكل يعجز عنه مخرجو العالم؛ فكل فرد منا له تصوراته الخاصة التي لا يستطيع المخرجون حصرها. كما أنه لا يمكن الإغفال عن الحلول الفنية التي تمكّن المخرج من عدم إظهار أي شخصية لا يرغب في إظهارها، وهنا يستطيع المشاهد اختيار شكل افتراضي لهذه الشخصية والأقرب لما تقتضيه الأحداث والأكثر ملاءمة للخلفيات الاجتماعية والسلوكية والثقافية للشخصية التي سيختلف شكلها وتتباين ملامحها من متفرج لآخر.

والمثال الأبرز على ذلك هو فيلم "الشاحنة" الذي تجلس فيه المخرِجة وكاتبة السيناريو مارجريت دورا مع الممثل جيرار ديپارديو، حول مائدة عليها كمية من الأوراق، ويتناوبان قراءة نص يروي الأحداث التي وقعت لامرأة تستوقف سائق شاحنة ليأخذها معه.

هذا الفيلم لم تظهر فيه شخصية المرأة، ولم يظهر فيه سائق الشاحنة، بل كانت أصوات الأبطال تتقاطع مع لقطات الشاحنة وهي تَعبر الطريق.

وقد أشاد العديد من النقاد (من بينهم بلانشو وفوكو ودولوز) بهذا العمل الذي يتجاوز الحدود المتعارف عليها والتي تكمن في أن المخرجة وكاتبة السيناريو حجبت شخصيتي السرد، لتشير إلى أنهما مرئيان من خلال تكرار "دورا" لصيغة: هل ترى؟ التي توجهها طوال الفيلم إلى ديپارديو. وهي الصيغة التي رأى فيها ميشيل فوكو تجاوزا للفجوة بين النظر والنطق.

وتكررت هذه المعادلة في العديد من الأفلام دون أن يلحظ المشاهدون غياب البطل في الفيلم كما ينتهي الجزء الأول من فيلم "اقتل بيل" دون أن يظهر بيل ودون أن يسمع أحد صوته! ولم يؤثر ذلك في قيمة الفيلم ولم ينتقص منه شيئا، وكما هو واضح من خلال العنوان أن بيل هو بطل الفيلم الذي أخرجه كوينتين ترانتينو وقامت ببطولته أوما ثورمان.

الظهور يضر أحيانا

وكثيرا ما يكون ظهور البطل بعد حجبه سببا في ضعف العمل الفني وقطع الطريق على خيال المشاهدين مثلما حدث مع فيلم "فان هيلسنج" الذي ظل بناؤه قويا ومتماسكا حتى ظهر البطل (هوج جاكمان صائد الوحوش الذي يتم إرساله إلى أرض غامضة في أوربا الشرقية ليقضي على قوى الشر) فأفسد الصورة التي كونها المشاهد له في خياله.

كما أن الأفلام التي كان يجري فيها الحديث عن زعيم العصابة كان من الملحوظ أن ظن المشاهدين يخيب فور ظهور البطل؛ إذ في كل مرة كان يقل كثيرا عن الشخص الذي رسموه في خيالهم.

ومثال على ذلك شخصية البرادعي في المسلسل الشهير (ومشيت طريق الأخطار)، حيث ظلت هذه الشخصية تلعب في فلك المشاهد ذلك الشخص الذي حير الشرطة منذ أول مشهد في المسلسل. اختفاء الشخصية طوال الأحداث وعدم قدرة الشخصيات الأخرى على التفاعل معه لم يكن عيبا فنيا، بل كان قيمة فنية فقدها المسلسل بمجرد ظهور الشخصية!.

فالعديد من الناس يتذكرون الحلقات الكوميدية "القرموطي في مهمة رسمية" التي عرضتها شاشات التليفزيون منذ عدة سنوات. وقد لا يتذكر البعض أحداث المسلسل، لكن القليل جدا منهم من سينسون "مرعي بتَاع الكِلَمَة". ومرعي هو من ظل القرموطي يردد اسمه طوال الحلقات، وكان مرتبطا تقريبا بكل الأحداث وانتهت الحلقات دون أن يراه من تابعوها.

الشيء نفسه حدث مع طنط كيميت، ومحسن بيه. كان يتكرر دائما اسم طنط كيميت على لسان عصمت (رشدي أباظة) في فيلم "الرجل الثاني"، وكانت هي التي تحل كل مشكلاته وكان الجميع يخشون غضبها وبالرغم من ذلك ظلت هذه الشخصية غائبة عن عيوننا، كما أن محسن بيه كان هو السند الذي يلجأ إليه على بيه مظهر (محمد صبحي) في فيلم "عاشق المظاهر" كلما ألمت به ضائقة، وقد ينسى البعض فيلم الرجل الثاني أو فيلم علي بيه مظهر لكن يظل اسم محسن بيه أو طنط كيميت يرد على ألسنتهم.

والأمثلة الثلاثة تؤكد أن ارتباط المشاهدين بشخصيات في العمل الدرامي لا تشترط أن تكون مرئية.

ولهذا تفوقت الإذاعة

وقد تحقق بعض المسلسلات الإذاعية نجاحا باهرا، ولكن لا تلقى نفس الصدى إذا تحولت إلى مسلسل تليفزيوني أو فيلم سينمائي. المثال الأكثر وضوحا على ذلك حلقات ألف ليلة وليلة التي تعلق بها كل العرب وكانوا يضبطون أوقاتهم على موعد إذاعته ويجتمعون حول الراديو ليتابعوا حكايات شهرزاد.

وقد ترجمت مسلسل ألف ليلة وليلة إلى أكثر من مسلسل تليفزيوني، منها ذلك الذي قام ببطولته حسين فهمي ونجلاء فتحي. وإذا كانت الحلقات التي نسجها طاهر أبو فاشا من ألف ليلة ظلت شاشات التليفزيون تعرضها لسنوات طويلة في رمضان قد حققت نجاحا إلا أنه ليس بالمقارنة بالمسلسل الإذاعي.

و"دموع صاحبة الجلالة"، الرواية التي كتبها موسى صبري، تم ترجمتها إلى مسلسل إذاعي وتليفزيوني وفيلم سينمائي، فنجد أن المسلسل التليفزيوني الذي قام ببطولته فاروق الفيشاوي وميرفت أمين حقق هو الآخر نجاحا يفوق بمراحل ما حققه الفيلم الذي قام ببطولته سمير صبري، إلا أن المسلسل الإذاعي ظل أكثرهم تأثيرا والذي قام ببطولته أصوات أحمد زكي ويسرا.

والمقارنة هنا كبيرة، ليس بسبب أننا نقارن بين فاروق الفيشاوي وأحمد زكي، أو بين يسرا وميرفت أمين، ولكن لسبب آخر أهم هو أن المقارنة بين خيال المستمع وأداء الممثل شديد الاتساع؛ حيث يصعب على الممثل والمخرج وكذلك مهندسو الديكور أو مديرو الإضاءة أن يصلوا إلى تصورات المشاهد مهما كانت براعتهم. فهم في هذه الحالة يتنافسون مع إمكانات لا مدى لها، فلا يستطيع هؤلاء أن يروا ما بداخل الشخصية وما تحتويه عقولهم من تخيلات بشكل تعجز أي قدرات بشرية على تنفيذه.

وإذا حاولنا أن نسترجع مسلسل ألف ليلة وليلة، فهناك "الغول" و"الأشكيف" والمارد والأمراء والملوك، كما أن هناك القصور التي جدرانها من الذهب والياقوت والمرجان. فهل يستطيع أحد أن يضع تصورات لما يتخيله المستمعون للغول؟ وهل يستطيع أعظم مهندس ديكور في العالم أن يبني قصرا كالذي بناه المستمع في خياله؟.

قطعا، الإجابة هي لا. فالأشخاص الذين قاموا بتمثيل دور الأشرار أو الأمراء وغيرهم... لم يكونوا أكثر تعبيرا وأقوى تأثيرا من الصوت الذي أداه الممثلون في حلقات الإذاعة.

الشخصيات التاريخية

وفيما يخص الشخصيات التاريخية، فإن العديد منهم لم يتركوا أثرا يدل على أشكالهم أو ملامحهم التي لا تكتمل بالفعل إلا بالسلوك العام والخاص، سواء بالقيم السالبة أو الموجبة. ومن ثم يظل المستمع يكوّن صورة في ذهنه عبر تراكمات عديدة إلى أن تكتمل في خياله، ومن الصعب أن يقتنع المشاهد بأن ذلك الشخص الذي ظل لفترة طويلة يقوم بتكوين صورته وملامحه هو فقط هذا الشخص الذي يراه على الشاشة مهما كانت براعة من يقومون بأداء تلك الشخصيات.

وبالرغم من حصول بن كسينجلي على أفضل أوسكار لكونه أفضل ممثل قام بدور المهاتما غاندي، ورغم اقتراب ملامحه إلى حد بعيد من الشكل الخارجي لغاندي فإن الصورة المحفورة لغاندي في الأذهان بقيت هي الأخرى بعيدة عن شكل الممثل. وكذلك في مسلسل "لا إله إلا الله"، حيث قام الممثل أحمد ماهر بتجسيد شخصية أحمس طارد الهكسوس، إلا أن الصورة الحقيقية لهذا البطل ظلت بعيدة هي الأخرى عن شكل الممثل.

والأمثلة على ذلك كثيرة، ويكفي أن نذكّركم أخيرا بأن ظهور أحمد زكي في ناصر 56 بصوت وصورة جمال عبد الناصر لم يكن بقوة فيلم أيام السادات الذي اكتفي فيه بالتعبير عن جمال عبد الناصر من خلال الأداء الصوتي للشخصية.

فخيال المتفرج أوسع من خيال الكاميرا، ولا يستطيع الرقيب أن ينفذ إليه أو يسيطر عليه، وفي الوقت نفسه لا تستطيع أي قوى أن تمنع مبدعا من طرح فكرة. بل إن المبدع الحقيقي هو الذي تتحول عنده هذه الموانع إلى ميزات ترتقي بالعمل الفني ولا تضره!.

** صحفي وناقد سينمائي مصري.

موقع "إسلام أنلاين" في 13 فبراير 2005