شعار الموقع (Our Logo)

 

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

اندريه تاركوفسكي: «المرآة» يعمق تساؤلات عن الحياة والموت

سكورسيزي: صورة الذات عبر مجنون السينما والجراثيم والطيران

امير كوستوريكا طفل السينما العالمية المشاغب

باب الشمس اختارته الـ التايم من أفضل‏10‏ أفلام علي مستوي العالم

جيهان نجيم فيلمها القادم عن جون كيري

بيدرو المودوفار.. كلمة ختام حياتنا لم تكتب بعد

 

 

 

 

 

شهادة عن دور يحيى حقي المغيّب في السينما المصرية:

حوّل العروض الى عمل معرفي

هاشم النحاس

 

 

 

 

 

 

أشار الناقد ابراهيم العريس، في مداخلة لمناسبة احتفال المجلس الاعلى للثقافة في مصر بمئوية يحيى حقي (والمنشورة في ملحق «الحياة» 14/1/2005)، إلى دور حقي الرائد في الاهتمام بالثقافة السينمائية المعاصرة ضمن اهتماماته بالفنون. وليس غريباً أن تكون هذه الاشارة هي الوحيدة من نوعها ضمن ما ذكر عن أدوار حقي الأخرى التي انشغل بها المتحدثون طوال الاحتفال. ويرجع ذلك الى سببين: أولهما غلبة أدوار حقي الأدبية، ووضوح تأثيره في الفنون الاخرى في شكل منتج ملموس، والثاني أن تأثيره الملموس في الثقافة السينمائية ربما ينحصر - ظاهرياً - في إنشاء «ندوة الفيلم المختار»، بينما كان تأثيره غير المباشر - وأعني تأثيره التربوي - في هذا المجال، هو الأكثر أهمية في نظري. وقد امتد لأكثر من جيل، لكنه مازال غائباً عن الذكر أو يكاد حتى الآن. ولعلي استطيع بهذه الشهادة/ العجالة أن أوضح بعض جوانب هذا الدور.

ندوة الفيلم

كانت بداية علاقتي الجادة بالسينما في «ندوة الفيلم المختار» التي كانت تقام في حديقة قصر عابدين في النصف الثاني من خمسينات القرن الماضي، وهي ندوة أنشأها حقي وأسند إدارتها الى راهب الثقافة السينمائية فريد المزاوي.

من خلال هذه الندوة أُرسيت تقاليد العرض السينمائي الثقافي التي أخذت بها النوادي السينمائية في ما بعد. في البداية هناك ورقة تعريف بالفيلم يكتبها أحد المتخصصين الذي يقدم الفيلم ثم يدير المناقشة حوله مع الجمهور. وكان هذا الأمر جديداً علينا، ولا نجد له مثلاً - بالطبع - في عروض السينما التجارية.

بدأت الندوه يوماً في الأسبوع. وكان يغلب على مناقشاتها طابع التذوق الفني. ثم اضيفت اليها ندوات أخرى في أيام مختلفة على امتداد الاسبوع، وأخذت كل ندوة طابعاً خاصاً. كانت هناك ندوة عن الافلام الموسيقية وأخرى عن أفلام الفنون التشكيلية وثالثة عن أفلام الاطفال ورابعة لأفلام الأسرة.

وبعد فترة من الانتظار وفرت إدارة الندوة لنا مجموعة من المحاضرات عن فنون السينما قدمها كبار الفنانين والفنيين والنقاد.

ومن خلال عروض «ندوة الفيلم المختار» وتوابعها ومنها المحاضرات، بدأ يتبلور لدى مجموعة من الشباب وقتها - وكنت واحداً منهم - الوعي بالسينما كفن، وضرورة ثقافية، وليست مجرد تسلية.

وكان حقي وراء العمل على تعميق هذا الوعي بحرصه على حضور هذه الندوات وبخاصة في بداياتها، يشارك في المناقشات العامة حول الافلام. وكنت مع مجموعة من الاصدقاء، جمعت بينهم الندوة، ننتهز فرصة وجوده لنتحلق حوله قبل الندوة نسأله في ما يعن لنا من مواضيع أدبية وفنية. وعقب انتهاء الندوة نواصل النقاش معه حول الفيلم وما قيل عنه.

كنا نحب أن نسمع. وما زلت استطيع تذكر نبرات صوته المتميزة في أذني. وكان يحب ان يسمع منا. وعندما لا نجد ما نقوله يثيرنا باسئلته المفاجئة. وكان يشجعنا على المشاركة في المناقشات العامة حول الفيلم ويعلق على آرائنا ويبدي اعجابه بجرأتنا على الوقوف خلف الميكروفون ومواجهة الجمهور بآرائنا السينمائية (!!). ويعلن أنه لم يكن يملك مثل هذه القدرة على مواجهة الجمهور وهو في مثل عمرنا.

وكانت عبارات حقي المشجعة لنا كفيلة بإشباع حماستنا ودفعنا الى مزيد من الجدية والاهتمام بفن الفيلم. ومن طريق فريد المزاوي الذي كان يدير أيضاً المركز الكاثوليكي المصري للسينما، عرفت أنا واصدقائي الطريق الى مكتبة هذا المركز. وكانت المكتبة الوحيدة في مصر التي تضم أكبر كمية من الكتب السينمائية الأجنبية، وكل ما كتب عن السينما بالعربية تقريباً، اضافة الى ملفات الأفلام التي يعدها المركز. ويضم كل ملف منها كل ما نشر عن كل فيلم مصري أو أجنبي عرض في القاهرة. وكانت هذه المكتبة - وظلت لعهد طويل - هي المصدر الأساس لثقافتنا السينمائية.

وقبل أن تتوقف الندوة رأى فريد المزاوي في مجموعة من اعضائها، من الكفاءة ما يسمح لهم بكتابة ورقة التعريف بالفيلم وتقديمه وإدارة المناقشة حوله، فأسند إليهم هذه المهمة واحداً بعد الآخر. وكانت النقلة التربوية التالية ان يكون منهم مجلس إدارة للندوة، يصنف البرامج ويشرف على تنفيذها ويدير أمورها.

وعندما توقفت الندوة في تشرين الثاني (نوفمبر) 1959 لم تتوقف علاقتي أو علاقة أصحابي من اعضاء الندوة بيحيى حقي أو بفريد المزاوي. ومن ثم، عندما اقترح المخرج أحمد بدرخان على مؤسسة دعم السينما باعتباره مستشارها، ترجمة مجموعة من الكتب السينمائية الانكليزية بغرض نشر الثقافة السينمائية، رشح المزاوي لترجمتها مجموعة من رواد ندوة الفيلم المختار وتولى بنفسه مهمة مراجعتها.

كانت نحو عشرة كتب، وكان نصيبي منها كتاب «كيف تعمل المؤثرات السينمائية» راجعه فريد المزاوي معي جملة بجملة، كان يمسك بالنسخة الانكليزية، وأقرأ عليه ما ترجمته ونتوقف بين حين وآخر لتصويب ترجمة مصطلح أو نعيد صوغ جملة كلما لزم الأمر. وصدر الكتاب عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 1962.

ما بعد الندوة

لم تكن «ندوة الفيلم المختار» مجرد تجمع موالد لا يلبث أن ينفض وينتهي بنهاية المولد، وإنما كانت بمثابة عملية تربوية بكل معنى الكلمة. ولذلك ما إن توقفت حتى وجد عدد من اعضائها القدرة على الاعتماد على النفس لمواصلة النشاط نفسه والعمل على تنميته وتوسيع نطاقه، فأقدموا على إنشاء «جمعية الفيلم» عام 1960. وكان من بين المؤسسين فيما عداي احمد راشد ويعقوب وهبي وعبدالحميد سعيد ومحمد قناوي وفتحي فرج وأحمد الحضري الذي انتخبناه رئيساً للجمعية. وجميعنا اتخذ السينما مهنة له بعد ذلك في شكل أو آخر.

ومع نمو نشاط الجمعية تنامى عدد اعضائها الذي تجاوز الألف عضو من المثقفين الشبان. ومنهم من اختار السينما مهنة له في ما بعد مثل: يوسف شريف رزق الله وسامي السلاموني ومحمود عبدالسميع وسعيد شيمي وسمير فريد وخيرية البشلاوي وعطيات الابنودي التي أخرجت بمعاونة الجمعية أول أفلامها «حصان الطين» (1971) الذي حقق لها شهرة واسعة ونالت عليه الكثير من الجوائز الدولية والمحلية. وما زال نشاط الجمعية متصلاً حتى الآن ويترأس مجلس إدارتها احد ابنائها القدامى مدير التصوير السينمائي محمود عبدالسميع.

وفي اعتقادي أن الجذور التربوية والتنظيمية التي وضعها يحيى حقي (بالتعاون مع فريد المزاوي) في «ندوة الفيلم المختار»، وأثمرت في ما بعد «جمعية الفيلم»، واصلت إثمارها الذي بلغ ذروته في «نادي سينما» القاهرة بإدارة أحمد الحضري ومعه بعض الاعضاء القدامى وغيرهم ممن اكتسبتهم الحركة. فقد وصل عدد اعضاء النادي الى 5400 عضو، وظل يقدم خدماته الثقافية المتميزة نحو ثلاثة عقود ابتداء من 1968 حتى 1994 قدم خلالها مختلف اتجاهات السينما العالمية الكلاسيكية منها والمعاصرة في وقتها. وعرض ابرز أعمال الكثير من أعلام المخرجين العالميين. وكانت بعض الأفلام تأتي من بلادها خصيصاً للنادي، وكان في استطاعة النادي دعوة بعض مخرجيها. والى جانب ذلك وفر النادي نشرة اسبوعية مع كل عرض على نحو غير مسبوق أو لاحق من العمق والتنوع والحجم والاخراج.

ولا أتصور ان هناك سينمائياً مصرياً لم يقض فترة من حياته ينهل من الثقافة السينمائية الرفيعة التي يوفرها هذا النادي من خلال عروضه ومناقشاته ومن خلال نشرته.

مجلة «المجلة»

دور آخر ليحيى حقي في خدمة الثقافة السينمائية العربية يستكمل به دوره السابق وما زال بعيداً من الضوء أيضاً عندما تولى رئاسة تحرير مجلة «المجلة»، ورحب بالكتابات السينمائية لمجموعة من الكتّاب الجدد الذين رأى أنهم جديرون بتقديم كتابات متعمقة في السينما تليق بمستوى المجلة التي كان يكتب فيها أمثال: عباس العقاد وحسين فوزي وعزالدين اسماعيل وعلي الراعي وجمال حمدان ومحمد عوض محمد وصلاح عبدالصبور.

وكان من كتاب المجلة في السينما صلاح عز الدين وصلاح التهامي واحمد الحضري. وأسعدني الحظ بترحيب يحيى حقي بنشر أولى مقالاتي المطولة عن «اخراج صلاح ابو سيف». وأظنها أول دراسة منهجية عن أعمال مخرج مصري. ونشرت في «المجلة» في عددي كانون الثاني (يناير) وآذار (مارس) 1963.

وتوالت بعدها مقالاتي في المجلة، وكنت أشعر بالاطمئنان الى مستواها عندما ينتحي بي يحيى حقي جانباً في غرفة مكتبه لاقرأها عليه قبل نشرها. وأحظى ببعض ملاحظاته. وقد ظل على طبيعته التي عهدتها فيه منذ أيام «ندوة الفيلم المختار»، وفيها تمتزج مشاعر الأب بمشاعر المعلم.

ولا شك في أن يحيى حقي بنشره للكتّاب الجدد مثل هذه المقالات والدراسات السينمائية، التي لم تكن تجد مكاناً في المجلة أو غيرها من قبل، حقق بهذا الانجاز نقلة كيفية في حركة النقد والكتابات السينمائية العربية. ومهد بذلك لحركة النقد السينمائية المتعمقة التي أخذت في الاتساع كذلك في ما بعد. وظهرت نتائجها في مجلة السينما التي كان يترأسها سعدالدين وهبة فضلاً عن نشرة نادي سينما القاهرة. وكان لتنامي هذه الحركة النقدية الى جانب تنامي الوعي السينمائي من خلال اتساع نشاط الجمعيات السينمائية التي انتشرت في ما بعد، أثره الواضح في الانتاج السينمائي نفسه، وبخاصة في السبعينات والثمانينات (الأمر الذي يستحق دراسة خاصة تكشف عن العلاقة بين نمو الوعي السينمائي والحركة النقدية وتطور الانتاج السينمائي). وكان فضل يحيى حقي كبيراً في بث هذا الوعي وإنعاش الحركة النقدية السينمائية. 

ناقد ومخرج مصري

الحياة اللبنانية في 4 فبراير 2005