متى يدخل الفيلم في جسم الثقافة؟ طاهر عبد مسلم |
|
ثمة مفاهيم متسيدة في مشهد الثقافة العربية تدخل من يتداولها راغبا او راغما في لبس غريب , فمثلا , كانت القصة والرواية وماتزال - علي حداثة عهدهما عندنا - معادلا موضوعيا للثقافة في شقها الأدبي وهكذا مضت الرواية كنوع ابداعي وهي في برجها البعيد ، عني بها الدارسون في معاهد وكليات الأدب وظلوا ان تكلموا عنها تكلموا عن الثقافة كتحصيل حاصل . واما عند الحديث عن الفيلم - كوجود طارئ اودخيل في الثقافة العربية - فسيتجه باتجاه عده نوعا غير منتم لجسم الثقافة العربية , وهو كذلك فعلا في وجه من الوجوه , لكنه ليس كذلك عند قراءة مشهد مابعد الحداثة بالأبجدية العربية . ظل الفيلم وثقافته ونقده جزءا من جسم الفنون وبقينا حتي الساعة نعزز في الأذهان الثقافة الكتابية وحتي الشفاهية بينما تفتك الثقافة المرئية في بني المجتمعات وهياكل ومكونات ثقافاتها فتكا ذريعا . اذا هنالك نواميس متوارثة لاندري من الذي اسسها ورسخها عندنا ومنع هذا الأختلاط بين الجنسين : الأدب والفيلم , ومنع انتماء الفيلم الي كيان الثقافة المحلية . ربما كان الجهل بأبجدية هذه اللغة الفيلمية هو الذي يدفع لهذه النظرة كوننا مجتمعات امية في الغالب حيث تفتك الأمية بمايقرب من 50 % من سكان البلاد العربية وربما كانت حداثة عهدنا بلغة الصورة وعدم تحول الصورة الي مفردة من حياتنا، وربما كان هنالك من يكرسون هذا المفهوم التقليدي من منطلق ان الذي تعرفه خير من الذي انت جاهله وهكذا . بموازاة هذا صرنا ازاء تهميش لقيمة الجمال التي تنطوي عليها الفنون الجميلة وفي طليعتها فن الفيلم , هذه الكثافة الحسية الرفيعة التي تشكل لوحدها ذخيرة هائلة لمجتمع الثقافة في كل زمان ومكان . وكان اندريه مالرو يردد : لقد تعلمت الكثير من هذا الجمال الذي تتدفق به فنون الموسيقي والرسم والسينما , وعلي هذا المنوال قرأ رولان بارت تجربة الرائد في فن الفيلم سيركيه ايزنشتاين .من هنا سنتساءل اني للمثقف ان يرتقي وهو يعيش يعاني هذه القطيعة مع فن الفيلم , وفي وسط تهميش قيمة الجمال التي ينطوي عليها ؟ II من هنا سنقرأ الفيلم من خلال الأداة التقليدية والنوع الأدبي السائد : الرواية , موسوعة القرن كما تسمي ودائرة معارف الذات والمجتمعات وبانوراما الجمال عبر التواريخ وملحمة العصور وهكذا تتري صورة وطبيعة الرواية ، من المؤكد اننا سنعني ببني السرد وبتركيب الشخصيات وبدافعية الصراع وبالمكان وبدورة التاريخ والزمن وهذه كلها قد اتخذها فن الفيلم مدارا لأشتغاله منذ بواكير السينما، واوجد امتزاجا فريدا بين لغة الكلمة ولغة الصورة ، ولقد ادهشتني حقا مكونات تلك العلاقة بين الوسطين وهو ما حاولت ان اقرأه بعمق في كتابي الذي يصدر قريبا : الخطاب السينمائي من الكلمة الي الصورة . علي صعيد ثقافتنا العربية فقد كانت السينما المصرية هي الأسبق في الخوض في اشكالية الأعداد والأقتباس السينمائي للأبداع الروائي .وكانت اولي الروايات التي تم نقلها الي الشاشة هي رواية زينب التي اخرجها محمد كريم سنة 1930, وبالرغم من كون الفيلم صامتا آنذاك الا ان كريم اقدم علي تلك الخطوة الجريئة بأخراج الفيلم العربي لأول مرة من دائرة الحكاية البسيطة الي البناء المركب للرواية ثم ليقوم سنة 1952 بأخراج الفيلم ذاته في نسخته الناطقة . ونعلم ان جل الأسماء الروائية المصرية الكبيرة قد وجدت اعمالهم طريقها الي الشاشة الفضية , بينما ستبرز تجربة نجيب محفوظ لتحتل الصدارة حيث تم اخراج اكثر من 40 فيلما عن نصوص روائية او قصصية لنجيب محفوظ وبنفس العدد تقريبا كانت حصة احسان عبد القدوس ثم توفيق الحكيم ويحيي حقي وعبدالحميد جودة السحار و عبد الرحمن الشرقاوي وطه حسين وعلي احمد باكثير ويوسف السباعي وجمال الغيطاني ويوسف القعيد وغيرهم. لقد رسخت مسيرة السينما المصرية السابقة هذا النوع الأبداعي وقربته من التداول واكتسبت الرواية طابعا تبسيطيا اقرب الي ذائقة ووعي الجمهور العريض من المتعلمين والأميين علي السواء . علي اننا بالرغم من هذا المنجز المشهود مازلنا نعيش ( القطيعة المعرفية ) ذاتها بين من يدرس الفن الروائي في تكوينه واتجاهاته وبين من يقرأ الرواية نقديا وجماليا من داخل الفيلم وهو الأمر الأشكالي الذي لم نجد له حلا بغير الأجابة عن السؤال الأكثر تبسيطا ولا جدوي وهو : ماذا اضاف الفيلم للرواية وماذا حذف منها ؟ والقوم في هذه الحال حريصون علي الأمانة العلمية وان يبلغوا الكاتب كيف امعن المخرج المكار في تلكم الرواية تحريفا وتغييرا وحتي تزييفا حتي سمعنا اصوات روائيين عدة وهم يتبرأون من تلك الأفلام المأخوذة عن رواياتهم . III وتبدو تجربة نجيب محفوظ مع الشاشة هي الأكثر طرافة فالرجل يستذكر كيف اقنعه الراحل صلاح ابو سيف كي يجرب عملية كتابة السيناريو ويدخل معه في كتابة نص فيلم مغامرات عنتر وعبلة وكيف انه وجد في ذلك العالم الساحر دافعا اضافيا كي يقترب من لغة الفيلم في اعماله وكانت كفاح طيبة تجربته المبكرة في اعداد النص الروائي للشاشة ، وتلت ذلك سلسلة اعماله ذائعة الصيت . لقد صارت شخصيات مثل سعيد مهران في رواية اللص والكلاب وصابر الرحيمي في رواية الطريق وعيسي الدباغ في رواية السمان والخريف وحمزاوي في رواية الشحاذ واحمد عبد الجواد في الثلاثية وعباس الحلو في رواية زقاق المدق وفرج الجبالي في رواية الحرافيش وغيرها شخصيات حية وفاعلة واكثر قربا من حياة الناس من جمهور المشاهدين ، واحسب ان هذا التقريب الذي مارسه الفيلم بين المشاهد والرواية لوحده كفيل بأعادة قراءة النوع الفيلمي علي انه اعادة انتاج للنص الروائي بالوسائل السمعية البصرية .لكن ماهو سائد غالبا هو احالة الفيلم ايا كان الي دارسيه في كونه كيانا طارئا علي جسم الثقافة العربية التي تنشغل في كل حين بما اعتادت وتواترت الأجيال من الدارسين علي تكراره وحتي اجتراره حتي ان المرء يشعر ان الولادة الروائية قد توقفت مقتصرة علي جيل من ( العماليق ) الذين سيظل متحفهم هو المنهل الأأول الذي لايقبل الشك بينما يبقي الفيلم الي اجل غير مسمي كائنا غرائبيا مجهولا لاصلة له بالثقافة المتداولة عربيا حتي لو دخل اليها مادخل من هجين الثقافات الأخري . موقع "ألف ياء" في 28 يناير 2005 |