شعار الموقع (Our Logo)

 

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

اندريه تاركوفسكي: «المرآة» يعمق تساؤلات عن الحياة والموت

سكورسيزي: صورة الذات عبر مجنون السينما والجراثيم والطيران

امير كوستوريكا طفل السينما العالمية المشاغب

باب الشمس اختارته الـ التايم من أفضل‏10‏ أفلام علي مستوي العالم

جيهان نجيم فيلمها القادم عن جون كيري

بيدرو المودوفار.. كلمة ختام حياتنا لم تكتب بعد

 

 

 

 

 

صورة طنجة في السينما الفرنسية

فيلم "الأزمنة التي تتغير": تحية إلي "طنجة" سرها وحسنها

صلاح هاشم

 

 

 

 

 

من أبرز الأفلام الفرنسية الجيدة التي خرجت للعرض حديثا فيلم "الأزمنة التي تتغير" من إخراج الفرنسي اندريه تيشينيه وبطولة كاترين دينوف وجيرار دو بارديو، اللذان يتربعان علي عرش الشهرة في فرنسا، كأشهر ممثلين في البلاد، وهي المرة الخامسة التي يلتقي فيها الاثنان في فيلم فرنسي، بعدما تألقا ولأول مرة، في فيلم "المترو الاخير" لفرانسوا تروفو، وحصد العديد من جوائز "السيزار" جوائز السينما الفرنسية الشهيرة، الموازية لجوائز الاوسكار في هوليوود، غير أن الأهمية القصوي لهذا الفيلم، في رأينا، تبرز من خلال حضور مدينة "طنجة" المغربية، في خلفيته، لا كديكور فارغ أجوف، يشكل المنظر الطبيعي فحسب، بل كشخصية، تؤثر في تطور أحداث الفيلم وحبكته، بمعمارها وأهلها. ولم تكن هذه هي المرة الاولي التي يوظف فيها أندريه تيشينيه " طنجة " كشخصية في أفلامه، إذ حضرت المدينة بقوة من قبل، في فيلمه الجميل " بعيدا "، وبحضور ممثلة مغربية صاعدة هي لبني ازبال، التي تعود هنا للتمثيل من جديد تحت إدارة تيشينيه، في صحبة العملاقين دينوف ودوبارديو، و تبرع في أداء دورين في ذات الفيلم. يحكي "الأزمنة التي تتغير" LES TEMPS QUI CHANGENTعن مهندس معماري يقوم بدوره جيرار دوبارديو، ونراه في المشهد الأول من الفيلم يتوجه بسيارة يقودها سائق خاص الي موقع عمله في مدينة طنجة، حيث يشرف علي تشييد مجمع تلفزيوني اعلامي جديد، يضارع في ضخامته وقدراته الارسالية المجمعات الاوروبية، ونعرف ان الهدف من بناء المجمع الجديد هو منافسة قناة الجزيرة والمحطات التلفزيونية العربية الحديثة، والكشف عن تطلعات المغرب في اللحاق بعجلة الحداثة والعصر، وذلك في مايتعلق بقضايا الاعلام المتطوروالدفاع عن الاسلام، ويقوم المهندس بتفقد عمليات الحفر في الموقع الجديد لوضع أساس المجمع، ويكون هذا يوم الاحد، أي يوم العطلة الاسبوعية، حيث ان العمل يجري علي قدم وساق في الموقع ليل نهار، وبشكل متواصل حتي يوم العطلة كما نري،   ويهبط المهندس في حفرة من الحفر التي تغطيها المياه الجوفية الصاعدة من بطن الارض في الموقع، ويروح يتحسس تلال التراب والطين المحيطة بها، لكنه فجأة يتعثر في سيره، ويسقط في الحفرة فاذا بتل الاحجار والتراب والطين ينهال عليه، ويغطيه تماما، ويدفن المهندس تحته، وينتهي المشهد باظلام تدريجي، ويبدأ الفيلم من عند تلك الحادثة، ليحكي عما جري سلفا لمهندسنا، اي قبل وقوع تلك الحادثة. أي منذ وصوله للعمل في طنجة، وتبدأ أحداث الفيلم فنتعرف تدريجيا علي هذا المهندس المعماري الفرنسي الغريب الذي يبدو طول الفيلم هائما محلقا في عوالم غريبة، وكأنه منوم مغناطيسيا، ونكتشف سر حضوره الي المدينة، اذ انه لم يحضر للاشراف علي تشييد ذلك المجمع الاعلامي الضخم ( ونري في الفيلم صورة مجسمة للمجمع رسمها الكمبيوتر، ونتجول لفترة في ممراته وغرفه وساحاته، اثناء هبوطها علي الشاشة ) بل حضر لكي يقنع المرأة التي أحبها، حبه الاول، بأن تعود اليه، علي الرغم من مرور اكثر من ثلاثين عاما علي فراقهما وانتهاء العلاقة بينهما، وعلي الرغم من أن تلك المرأة تزوجت مرتين، وانجبت طفلا، صار الآن رجلا، وتروح أمه التي تقوم بدورها كاترين دينوف، تروح تستقبله عند حضوره الي مطار طنجة قادما من فرنسا في بداية الفيلم، وهو يصطحب معه صديقته الفرنسية – من أصل عربي -التي تقوم بدورها الممثلة المغربية لبني ازبال، وابنها في السابعة من عمره. ويسير الفيلم علي خطين متوازيين، خط يربطنا بذلك المهندس المعماري المجنون الذي يريد لحبيبته الاولي ان تعود اليه و كانت اعتبرت ان العلاقة بينهما انتهت منذ زمن طويل، وتركت عملها كصحفية في فرنسا وقبلت العمل كمذيعة في المغرب لتقديم برنامج تافه مايطلبه المستمعون بالفرنسية، وهو لايتورع عن انتهاج كافة السبل حتي تتحقق له رغبته، ومن ضمنها الاستعانة بسحرة من المغرب ( الجناوة ) لعمل تعويذة سحرية ترجع اليه حبيبته، والتسلل الي غرفة نومها، لوضع صورة تجمعه بها ايام شبابهما تحت مرتبة السرير، حتي تعود اليه، ويتألق دوبارديو في تجسيد هذه الشخصية المجنونة الرومانتيكية الآسرة التي تحن الي الماضي ومجد الايام الخوالي التي يبدو انها انقرضت تماما من عالمنا، ويمنحه هنا تيشينه دورا من أحسن الادوار التي جسدها دوبارديو وطوال مسيرته السينمائية ( اكثر من 165 فيلما ) ويجعلنا نأمل ان تتحقق المعجزة، في حين يربطنا الفيلم من خلال الخط الروائي الآخر في حبكة الفيلم، يربطنا بتلك المرأة الحبيبة الاولي التي تقوم بدورها كاترين دينوف، ويكشف لنا عن حياتها وهمومها بعد أن كبرت، ومشاكلها مع زوجها الطبيب الذي يخونها مع عشيقاته، وعلاقتها بابنها الشاذ جنسيا، الذي يبحث عن متعته في احضان شاب مغربي، ويخلص في ذات الوقت لحبيبته العربية التي تعود معه الي المغرب مع ابنها لزيارة وطنها بعد فترة غياب طويلة، وهي تأمل أن تجد خلاصها في حضن أختها التوأم الممرضة التي صارت الآن محجبة، وترفض ان تلتقي باختها. ومن خلال تطور أحداث الفيلم تحضر مدينة طنجة في المنظر الطبيعي، ونكتشف تناقضات المجتمع المغربي، الذي يريد ان يلحق بركب الحداثة، من خلال تشييد المجمع الاعلامي المذكور، والانفتاح علي العالم، والانخراط في مسيرة العولمة، في حين يظل بعض أهله، وبعض الغربيين، كما ذلك المهندس المعماري الفرنسي، مرتبطين بتلك القيم والتقاليد الغرائبية، التي تشدهم الي عوالم الغيب، والايمان بالارواح والخرافات التي عفي عليها الزمن، علي أمل ان تتحقق المعجزة، ويعود الزمن الي الوراء، كما يظهر في الفيلم علي ساحل طنجة العديد من ابناء المغرب الهامشيين المنسيين المهملين، الذين يرقدون علي الشاطيء، وهم يتطلعون الي شواطيء اسبانيا، ويحلمون بالسفر و الهجرة والعبور الي الجانب الآخر، في محاولة للخلاص من غربتهم داخل مجتمعاتهم الاصلية، التي لاتوفر لهم فرص العيش الكريم، وتلفظهم مثل الغرباء. فيلم " الازمنة التي تتغير " تكمن قيمته في تلك" المواجهة " التي يعقدها علي ارض مدينة طنجة، بين نوعين من التفكير: التفكير العقلاني المعاصر، الذي يتطور مع الزمن ومتغيراته، من دون أن يفقد توهجه وأصالته، والتفكير السلفي الغيبي، الذي يريد ان يعود بنا الي الماضي، وينهل من أيامه وسعادته ومجده الزائل، ومن خلال تلك المواجهة، يؤسس تيشينه، الذي بدا لنا عاشقا مفتونا بهذه المدينة، يؤسس فيلمه علي عنصر "الحركة" في السينما، من خلال مشاهد الفيلم التي تعتمد علي الكاميرا المحمولة علي الكتف، وتحركاتها داخل مناظر الفيلم، في شوارع المدينة، وداخل غرف الفندق الكبير، وفي نزهة العاشقين وتجوالهما واحاديثهما داخل تلك الغابات و التلال في طنجة التي تطل علي البحر. هذه " الحركة " التي تصالح مابين القطبين المتعارضين في الفيلم، والتي تدفعنا شئنا ام ابينا، تدفعنا قدما مع أحداث الفيلم الي الامام، وهي تزيل عنا غشاوة الماضي وعصره التليد، وتجعنا أجل نحلم من جديد بحب جديد، يعيد الينا زهو تلك الايام، ايام السعادة التي انقضت، وهو يدخلنا في التو، من خلال حركة الكاميرا، واللهاث خلف مشاهد الفيلم، والتنقل بين شخصياته ومحاوره، يدخلنا في ذلك "الايقاع" ابن الحاضر، ورغبتنا في التطور والتغيير والانسجام مع متطلبات عصرنا، ولذلك بدا لنا هذا العمل السينمائي المتميز، كما لوكان " تحية " HOMMAGE الي تلك المدينة العفية التي هي اشبه ماتكون ب " بوتقة " لتيارات الحداثة التي تعبر بلاد المغرب وتناقضات مجتمعاته، ومحاولة لاكتشاف مدينة هي علي مرمي حجر من أوروبا، بسرها وحسنها، كما انه يشكل أيضا تحية أيضا إلي عنصر " الحركة " الذي يشكل جوهر السينما، ويطرح علينا العديد من التساؤلات، ولكل هذه الاسباب مجتمعة نرشحه، حيث يعرض الآن في باريس، للمشاهدة عن جدارة.

موقع "إيلاف" في 27 يناير 2005