فيلمه "القدر" أفلت من التلف
السينما اللبنانية عاشت "راجيديا"الإهمال بيروت - هوفيك حبشيان |
|
“القدر” هو اول فيلم طويل يتولى منير معاصري تأليفه وتمثيله واخراجه وانتاجه كاملاً. وما دفعه الى انتاجه اختلاف رؤيته السينمائية آنذاك عن نظرة المنتجين، فأغلبهم كانوا يتجهون نحو الفيلم التجاري البحت، ويفرضون على المخرج الاستعانة بممثلين معروفين. ايمانه بأن الفن السابع يمكنه استيعاب انماط فكرية وفنية جديدة جعله يلجأ الى انتاج الفيلم، وكان يحب ان يخرج العمل كما يحلو له. ولم يكن هذا النهج ليستجيب متطلبات السوق التجارية، لذلك كان وابناء جيله من السينمائيين يعيشون صراعاً مستمراً لتحديد رؤيتهم بشأن وظيفة السينما. في مناسبة عرض فيلمه “القدر” في نسخته المرممة التقت “الخليج” منير معاصري الذي روى تجربته في هذا الفيلم الذي أنقذ بأعجوبة من التلف، منذ بدء كتابته الى انجازه والاصداء النقدية التي واكبت عرضه. · كيف تدبرت أمر الإنتاج وقت سيطرة السينما التجارية؟ فهمت اللعبة باكراً، وأيقنت ان صنع “فيلم تأليفي” يتسم بالطابع الشخصي، يقتضي من المخرج ان يتدبّر امره لإيجاد مصادر التمويل. كان انتاج “القدر” سهلاً نسبياً، اي ان السنوات الثلاث او الاربع التي يمضيها المخرج يتهيأ للتصوير، لا تقارن بعمر كامل. زملاء حملوا مشاريع في مخيلتهم لعشرات السنين. امضى ريتشارد اتنبورو نحو عقدين وهو يبحث عن تمويل لفيلمه “غاندي”. الظروف التي صورت فيها “القدر” كانت جد محببة. كابدنا المشقات، وعانينا المتاعب خلال التصوير الذي جرى في مجدل عنجر، لأن هذه المنطقة وخلفيتها كانت تلائم نوع القصص التي كنت أرصدها. اخذنا مجدل عنجر مكان اقامة لنا على مدار شهر. كنا ننام برفقة سائقي الشاحنات الذين كانوا يجتازون الحدود اللبنانية السورية، وكانت اكثرية الممثلين من سكان القرية، ولأن السينما كانت بالنسبة اليهم امراً شيطانياً، اراد بعضهم الاساءة الينا. عندما عرض الفيلم عام ،1972 كان اشترك في مهرجانات عدة، ابرزها تظاهرة في روما اسمها “الشرق يلتقي الغرب” نال فيها جائزة، وعرض كذلك في قرطاج وموسكو، وشارك في اطار “اسبوع المخرجين” في “كان”. اما ظروف عرضه في بيروت فكانت في منتهى الصعوبة. فعشية افتتاحه كان الفيلم بدأ يعرض في طرابلس وصيدا مستقطباً جمهوراً كبيراً، وهذا ما شجع الموزع محمود ماميش على عرضه في “سيتي بالاس” و”ستراند” التي لم تكن تعرض الا الافلام الاجنبية”. · وماذا عن الرؤية الإخراجية؟ اعتمدنا الضوء الطبيعي، وكنا نوجد المناخ الذي قد ينتج من انارة القنديل. مدير التصوير روبن فوسكيان كان ممتازاً في ما يختص عمله التصويري. حين كنا نصور اللقطات الخارجية، لم نكن نمنح الاولوية للجمالية، الا اذا كانت تكمل الحدث الدرامي. صودف عرض الفيلم في بيروت مع العملية “الاسرائيلية” في فردان التي ذهب ضحيتها 3 من القادة الفلسطينيين، وشُلّت الحركة في البلد لمدة اسبوع، وأقفلت المتاجر وصالات السينما ودبت الفوضى في شوارع العاصمة. وهذا ما اساء الى جولة الفيلم في الصالات. عرض “القدر” لاحقاً في اماكن مختلفة، ودعيت الى عدد من المهرجانات، واتذكر الاستقبال الحار الذي حظي به في روسيا، في صالة اكتظت بآلاف المشاهدين، وتصور ماذا كان شعور مخرج في بداياته عندما يعيش تجربة كهذه. أحببت ان اعطي الفيلم طابعاً اسطورياً، لأستطيع استخدام الرمزية التي تتضمنها القصة والمتمثلة في الجوهرة. اخترت الموضوع لأني أؤمن ان الجهل عدو الانسان، وأن المعرفة وحدها تحرره. الشعوب المتخلفة ليست متأخرة عن الناس من الناحية العلمية، منهم من يملك السيارات الفخمة والصحون اللاقطة على سطوح المنازل، ويحمل الهواتف النقالة، لكن ذهنيته ذهنية اهل الكهف. · هل التقنيات وقتها ساعدتك على تنفيذ هذه الرؤية؟ الامكانات المتاحة قبل ثلاثين سنة لم تكن هي ذاتها المتوافرة اليوم. لم يكن بامكاننا الاستمتاع بما يسمي حالياً ال “ستيديكام”. خلافاً لما تقول لم نستعمل الزوم الا مرتين او ثلاثاً في الفيلم، أما مشهد الرقص فصورناه بكاميرا محمولة، بلقطة واحدة على مدار 4 دقائق دون توقف. اعطيت مدير التصوير المجال ليلتقط المشهد بأسلوب بدائي يناسب طبيعة المناخ التي رصدت فيها الرقصة، مع الوجوه التي كانت تراقب، والجوهرة التي كانت تقفز. اما عن ذلك المشهد الذي أكرر فيه عبارة “انا رجل”، فأفهم رد فعل بعضهم على هذه الجملة لأنهم اعتقدوا ان بطل الفيلم يتكلم على هذا النحو لإثبات رجوليته، وهذا ليس ما كنت اريد ابرازه، انما رغبت في التركيز على حال الفقر التي يعيشها. اخترت هذه القصة وباللهجة البقاعية، لأنها غير رائجة في المدن، وكنت اريد اظهار المناخ الجاف والقاحل الذي يرسم ملامح الاشخاص في عقليتهم المتحجرة. الشخصيات التي نراها في الفيلم ليست بعيدة عنا حتى في عصرنا هذا. اختياري للهجة سببه انني اردت ان اشمل منطقة كاملة هي المحيط العربي، والانتقاد الذي كنت اوجهه كان يشمل العالم العربي أكثر ما يشملنا نحن اللبنانيين، لأن الامور عندنا كانت مقبولة بعض الشيء. · نجحت في انتاج الفيلم بعيداً عن سيطرة السينما التجارية، فكيف نجحت في عرضه؟ لم يأخذ “القدر” حقه حين عرض في بيروت. اثناء الحرب، كنت امرّ بالاستديو قبل احتلاله، محاولاً اعادة عرض الفيلم، لكن الظروف لم تسمح لي بذلك، خصوصاً ان مستثمري الصالات لم تكن لديهم القابلية لعرض الفيلم في غمرة الافلام الرخيصة التي هيمنت آنذاك على السوق اللبنانية. هناك حقبة من تاريخ سينمانا يجهلها الجيل الجديد الذي اعتقد انه لا يعرف حتى بوجوده. نذكرهم باستمرار ان في لبنان كان ينتح ما يقارب خمسة عشر فيلماً. السينما ذاكرتنا والشعوب التي تزول ذاكرتها ليس لها مستقبل. أتلفت فصول الكثير من الافلام اللبنانية بسبب الممارسات البشعة في حقها. ثمة تراجيديا لحقت بالافلام اللبنانية، وهذا ما ادى الى فقدان بعضها. في وقت من الاوقات كانت السينما اللبنانية مضطهدة من قبل المصريين الذين كانوا يعرضون افلامنا في المواسم التي لا تستقطب المشاهدين، ولم يحيطوا الفيلم بشروط النجاح، ليقولوا لاحقاً لا سوق جيدة للفيلم اللبناني._ الخليج الإماراتية في 2 يناير 2005 |