شعار الموقع (Our Logo)

 

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

اندريه تاركوفسكي: «المرآة» يعمق تساؤلات عن الحياة والموت

سكورسيزي: صورة الذات عبر مجنون السينما والجراثيم والطيران

امير كوستوريكا طفل السينما العالمية المشاغب

باب الشمس اختارته الـ التايم من أفضل‏10‏ أفلام علي مستوي العالم

جيهان نجيم فيلمها القادم عن جون كيري

بيدرو المودوفار.. كلمة ختام حياتنا لم تكتب بعد

 

 

 

 

 

مخرج أفضل انتاج سينمائي للعام 2004

جان لوك غودار

أفلامه لا تعرف التوقعات

 

 

 

 

 

 

حين ينجز جان- لوك غودار لا يتوقع أحد من جمهوره شيئا يختلف عما كان أنجزه من قبل. الجميع بات يعرف أن فيلماً جديداً لجان- لوك غودار هو استمرار للفيلم الذي قبله الذي كان، بدوره، استمراراً للفيلم الذي قبله وقبله وقبله وصولاً الى المرحلة الأولى من حياته السينمائية عندما انتقل من فعل الكتابة عن السينما ناقداً ومنظراً الى فعل السينما ذاتها. أصبح مخرجاً هدفه أن يختلف وهو اختلف فعلاً حينها، ولا يزال يختلف.

حقيقة أن أفلامه تتراص على نحو متوقع لا يعني انها متشابهة. خذ فيلمه الأخير “موسيقانا” مثلاً تجد انه في الوقت الذي يتمتع به بكل عناصره “الغودارية” بقدر ما هو جديد في تفاصيل كثيرة ومختلف عن أفلام غودار السابقة. اذا ما كانت أفلام أندريه تاركوفسكي، حسبما سمّاها المخرج الروسي الراحل بنفسه “نحت في الزمن”، فان أفلام غودار هي نحت في السينما. لا هي تسجيلية ولا هي روائية بل هي تسجيلية وروائية معاً انما من دون خطوط فارقة. انها، بكلمة واحدة، غودارية.

ولد جان- لوك غودار في 3/12/ 1930 في باريس من عائلة بروستانتية ميسورة. وبينما كان يتابع دراساته في السوربون، كان يواظب على حضور الأفلام في “نادي سينما الكارتييه لاتان” (الذي لا يزال مفعما بصالات الفن والتجربة الى اليوم). في أحد الأيام تعرّف غودار على هاويين للسينما مثله هما جاك ريفيت واريد رومير. كانت لقاءات لطرح الأفكار وتبادل الآراء حول الأفلام التي يشاهدونها والحديث عن السينما الفرنسية والأمريكية وسواهما. هذه الأحاديث قادت الى التفكير بتأسيس مجلة سينما. والمجلة فعلاً تأسست في العام 1950 باسم “كاييه دو سينما” التي لا تزال تصدر الى اليوم.

يمكن للمرء تأليف كتاب حول تلك المجلة، سياستها الفنية، منهجها الأكاديمي، كتاباتها وآراء مخرجيها كما تأثيرهم وتأثيرها في السينما الفرنسية وخارجها، لكن ليس هنا متسع للتوغل في هذا الموضوع سوى القول ان “كاييه دو سينما” غيّرت الكثير من مفاهيم الثقافة السينمائية التي كانت سائدة قبلها لا في فرنسا فحسب بل في غيرها من العالم. كتب غودار أول كلماته في النقد السينمائي. وامتدت كتاباته لتشمل مقالات نظرية تبحث في شكل ووجه جديد للسينما تنقلها من سينما الترفيه الى سينما التوجيه.

في العام 1952 توقف عن الكتابة الشهرية وانطلق مسافراً. في سويسرا اشتغل عامل بناء لبضع سنوات. حصيلة أجره كانت تكفي في العام 1956 لاخراج فيلمه الأول “عملية بيتون” الذي تألف من 20 دقيقة.

عاد غودار الى الكتابة سنة 1959 ليس فقط في المجلة التي ساعد على تأسيسها بل في مجلات أخرى (بينها واحدة بعنوان “فنون”). لكنه بعد فترة توقف مرة أخرى، وهذه المرة لكي يخرج فيلمه الروائي الطويل الأول: “نفس لاهث” عن سيناريو كتبه رفيق سينمائي آخر له هو فرانسوا تروفو. القصة التي يستند إليها فيلم غودار الأول بسيطة في المظهر والجوهر: جان بول بلماندو شقي هارب من البوليس. لديه صديقة (جين سيبرغ) هي الوحيدة التي تستطيع الايقاع به وهو يفعل ذلك في نهاية الفيلم. السبب الذي من أجله تميّز هذا الفيلم عن أي فيلم بوليسي حينها (وربما الى اليوم) هو أن غودار وجد طريقه الخاص لتقديم ما هو عادي وشكلي بصورة مختلفة و- فنياً- جدلية. مزايا تلك الطريقة ما زالت تتردد في أفلام غودار الى اليوم وأبرزها طريقة سرده الحكاية حيث يحوّلها الى مقالة. يقطع فيها على أكثر من نحو بمونتاج يختار توقيته من دون تلقائية السرد التقليدي. بذلك يبقي المشاهد متحفّزاً في سياق عدم قدرته على التحكم في مجرى الحكاية بأي نوع من التوقعات. هذا وحده يحوّل ما يبدو تقليدياً الى ما هو مختلف عن كل ما هو تقليدي.

فيلمه التالي لم يختلف فنياً لكنه كان خطوة على صعيد الطرح. الفيلم كان “الجندي الصغير” وموضوعه الحرب في الجزائر من وجهة نظر تدين الاحتلال وتنتقد الوجود الفرنسي من دون استثناءات او تراجعات. هذا ما جلب عليه نقمة فرنسية كبيرة تجاهلها وحقق في العام التالي فيلمه الثالث “المرأة هي المرأة” مرة أخرى مع جان-بول بلموندو وآنا كارينا (التي تزوّج غودار بها في ذلك العام).

وسواء أثّرت فيه الحياة الزوجية ام لم تؤثر نجد أن أفلامه للعامين التاليين تطرّقت الى مصاعب الحياة الزوجية والمستويات المختلفة من التفكير والرغبات التي تؤثر في الحياة الزوجية وتدفع بها الى الجمود او الى النهاية. في العام 1965 تطلق وتزوّج من الممثلة آن ويازمسكي. العام ذاته الذي أخرج فيه واحداً من أهم أعماله “ألفافيل”.

وهي الفترة ذاتها التي أخذت فيها أفلامه تتخلى، أكثر وأكثر، عن عناصر السرد القصصي (الحكي والحكاية) لتعكس نزوعه سوى الفيلم المركّب نفسياً وفلسفياً والمتحدث بلغة الفن والسياسة والاقتصاد والتاريخ والحضارات. طارحاً أسئلة في شتى هذه الأمور ومن زاوية نقدية تشمل كل هذه الأمور. غودار في طروحاته لا يتساءل لينقل السؤال الى مشاهديه ، بل يتساءل ليرد.

الأجواء السياسية في العام 1968 كانت مضطربة وجان- لوك غودار لعب فيها دوراً مهماً انطلاقاً من منحاه اليساري. في تلك الآونة كان اعتنق الماوية، لكنه في العام 1971 تعرّض لحادثة سير كادت أن تقضي عليه، وهذا غيّر قناعاته السياسية تجاه الالتزام بالآخر مختارا العمل على نفسه وحياته وترتيب أولوياتها من جديد. وخلال ذلك طلق زوجته الثانية وتزوّج من المرأة التي عملت معه لثلاثين سنة آن ماري ميافيل. “كل شيء على ما يرام” كان نوعا من الاعتذار عن حدة مواقفه السياسية الماوية والماركسية اذ يدور حول مخرج سينمائي (ايف مونتان) الذي توقف عن العمل خلال ثورة 1968 الطلابية وتحوّل بعد سنوات من الانقطاع الى ممثل اعلانات. الرسالة السياسية في ذلك الفيلم كانت أوضح من غيرها، لكن المثير في الفيلم ليس رسالته بل فنه. الأمر الذي كثيراً ما تجاهل البحث فيه النقاد الفرنسيين والعرب على حد سواء.

شيء مما في رسالة “كل شيء على ما يرام” كان شخصياً أيضاً من حيث أن غودار في فيلمه اللاحق، “كل رجل لنفسه” قدّم عملاً أكثر سهولة في الفهم من أعماله السابقة. الجمهور كافأه على ذلك بالاقبال على الفيلم.. أمر لم يكن حدث مع غودار على ذلك النحو منذ بعض أفلامه الأولى.

الثمانينات هي بداية المرحلة الثالثة التي لا تزال مستمرة الى اليوم. انها فترة النضج فنياً حتى ضمن أسلوبه الخاص. عوض التبعثر صار أكثر تنظيماً ولو أن البعض ما زال يعتقد انه فوضوي- لكن الحقيقة هي أنه يتبع منهجاً يفهمه ومن الممكن لغيره أن يفهمه حالما ينفذ الى ذلك المنهج (وأعترف أن ذلك صعباً). عوض الحدة الشديدة أصبحت قطعاته من والى المشهد أكثر سلاسة وأحياناً أكثر شعرية، ولو أنها شعرية سوداء داكنة.

جهده هذا منحه تقديرا جديداً فنال “الأسد الذهبي” (جائزة مهرجان “فانيسيا” الأولى) عن فيلمه “الاسم كارمن” (1983) وفيلمه اللاحق “مرحى يا مريم” نال تقديرا نقدياً واسعاً على الرغم من أنه أثار اليمين المتدين في فرنسا. كذلك فعل فيلمه الآخر في الفترة ذاتها “شهوة” الذي اعتبره بعض النقاد أفضل هذه الأفلام الثلاثة.

“موسيقانا” مثل أعمال غودار الأخيرة يتوغل في التاريخ ويتمحور حول مسألة الحضارة والثقافة وتواريخ الشعوب. يتطرق الى وضع البوسني والى تاريخ الهنود الحمر الذي “لن يفهمه الرجل الأبيض لأن الرجل الأبيض في حياته لم يفهم ثقافات الآخرين” والى الوضع الفلسطيني. غودار يظهر هنا ترسّخ قناعاته المؤيدة للموضوع والقضية الفلسطينية وينجح في تقديم قراءة تاريخية في ايجاز وثقة. يمسك بيده صورتين واحدة لوصول مهاجرين يهود الى فلسطين سنة 1948 قادمين بقارب كبير، وأخرى لنزوح فلسطينيين من فلسطين في العام ذاته. الصورتان تختزلان أطنانا من الكتابات حول القضية الفلسطينية.

فنياً، لا يزال غودار مؤلفاً وناحتا في السينما كما كان وضعه منذ البداية. أعماله لا يمكن لها أن تتأخر عن مواكبة العصر لأنها ليست مرتبطة ب “موضته” لذلك العصر يمضي وأفلامه تبقى صالحة للنظر اليها مرات ومرات.

“موسيقانا”، على الأخص، من بين أفضل أفلام العام. وفي نواحٍ كثيرة هو أفضل فيلم للعام. أمر من الصعب اجراء استفتاء عليه لأن الموزعين السينمائيين في العالم العربي يحرموننا دوماً من الحكم.

الخليج الإماراتية في 26 ديسمبر 2004