من مذكرات تحية كاريوكا |
في نهاية السبعينات نشرت مجلة "الكواكب" المصرية مذكرات الفنانة الكبيرة تحية كاريوكا بقلم الكاتب صالح مرسي. وقد كشفت تحية في هذه المذكرات كثيراً من الخبايا والاسرار في حياتها الخاصة والمهنية. المذكرات تصدر في كتاب. والكواكب تستعيدها على حلقات. هنا بعضها: في يوم 19 فبراير عام 1921 هذا انبعثت الصرخة الأولى لطفلة قدر لها أن تصبح واحدة من أشهر نساء مصر كانت فاطمة الزهراء زوجة المعلم محمد علي النيداني ـ قد وضعت طفلة ولم يكن ميلاد الطفلة في الاسماعيلية، بل كان في قرية المنزلة حيث ذهبت فاطمة ـ منذ سفر زوجها الى جدة ـ لتقيم في بيت أخيها. ولأن الأب كان غائباً يوم ميلاد الطفلة التي لم ترث عن أمها شيئاً سوى ذلك النمش الكثير والكثيف الذي كان يغطي الوجه واليدين، فإن فاطمة الزهراء أبت أن تطلق عليها اسماً قبل عودة الأب من سفره الطويل. جاءت هذه الطفلة الى الدنيا وكأنها صورة مصغرة للأب، ورثت عنه كل شيء؛ اليدين الكبيرتين، والقدمين الرشيقتين، القوة، والشخصية المتميزة بالاقتحام دون خوف! والذين تتبعوا حياة تلك الطفلة منذ مولدها حتى اليوم.. يعرفون، ويدهشون في نفس الوقت، لذلك التشابه الغريب بين أخلاقها وأخلاق البحارة.. هؤلاء الرجال ذوو الطباع الخشنة والقلوب الشديدة الطيبة الذين يقتحمون الأهوال، ويواجهون الأخطار لا لشيء، الا لكي يصلوا الى الشاطئ حتى إذا ما رست بهم السفينة أياماً، انتابهم قلق لا يزول إلا عندما يبارحون الشاطئ من جديد، يخوضون ملحمة الطبيعة، بحثاً عن شاطئ آخر". (...) ولم تمض خمسة وعشرون عاماً على هذا اليوم، حتى كانت بدوية تحية ملء الأسماع في مصر، وبهجة للإبصار والوجدان... وكان اسمها قد تغير، وكانت قد أصبحت شيئاً آخر. كانت قد أصبحت: تحية كاريوكا! لم يكن هناك من يستطيع أن يتنبأ بأن هذه الطفلة، هي بالتحديد التي قدر لها أن تخلف شفيقة القبطية ـ أشهر من احترفت الرقص في مصر حتى ذلك الوقت ـ على العرش الذي ظل خالياً لسنوات طويلة، وأن هذا العرش سيظل خاوياً حتى تزف اليه بدوية تحية بعد رحلة عذاب طالت لسنوات. في ذلك الوقت... كانت أيام شفيقة قد ولت، وكانت مصر تفتح عينيها مبهورة على ذلك النجم الذي سطع مع ثورة 1919: فقلب حال الموسيقى، وفي شهور عديدة، كان هذا النجم يكتسح كل التراث في طريقه، وكان قد نزل الى الناس، وراح يغني مع المتظاهرين: بلادي بلادي.. وفي تلك الأيام بالذات، كان "سيد درويش" يستعد لأن يفتح الستار، بعد عشرين يوماً بالتمام والكمال، عن واحدة من أروع وأكمل أعماله، تلك الأوبريت التي أطلقوا عليها اسم "العشرة الطيبة"! لكن بدوية، عندما فتحت عينيها، كان قد مات، واختفى بموته ذلك الوهج الموسيقي الذي صحب ظهوره. تفتح بدوية عينيها على ثلاثة أشخاص الأب والأم، والجدة. كان هؤلاء هم كل عالمها الصغير.. رضعت في طفولتها المبكرة حب هؤلاء الثلاثة الشديد، وتعلقهم بها. تفتح بدوية عينيها على فناء هائل، وحول الفناء أبواب عديدة، لغرف يسكنها الضيوف أو يستقبل فيها الأب زواره... في زاوية من الفناء، سلم يصعد الى الدور العلوي بغرفه الفسيحة ونوافذه المستطيلة ذات الشيش المربع.. وفي هذا الدور، كانت تقيم مع أمها وجدتها. ولقد بلغ حب المعلم النيداني لابنته، أنه نذر أن يذبح عجلاً يوم تطول قامة بدوية، وتفتح مزلاج الباب وحدها.. ولقد وفى الرجل بنذره هذا قبل أن يموت بشهور قليلة. وكانت بدوية في الرابعة من عمرها! كانت بدوية طفلة جوالة! جاءت الى الدنيا طفلة من هذا النوع الذي يسرح كلما وجد باباً مفتوحاً. كانت تسرح الى حواري الاسماعيلية وشوارعها حتى تصل الى شاطئ البحيرات، حيث ترسو السفن الكبيرة والسفن الصغيرة، في انتظار دورها في المرور من القناة الى الشمال أو الجنوب، تتناثر فوق سطح المياه وتتصاعد من مداخنها سحب الدخان فتصنع يوم تتكاثر فوق البحيرات سحابات سوداء يحملها الريح الى بعيد.. وعلى البعد، كانت بدوية ترقب السفن التي تعبر القناة في تتال وغزارة.. وفي مكان ما على شاطئ البحيرات، حيث تترامى الرمال الناعمة البيضاء، وأشجار النخيل السامقة، كانت ثمة امرأة تجلس دائماً تحت ظل نخلة، كانت دائماً هناك وكأنها زرعت بجوار تلك النخلة لا تستطيع حراكاً.. وكانت تضع أمامها صندوقاً مقفلاً تبيع فيه الحلوى... وما إن تصل بدوية اليها، حتى تعطيها ما تحمل من ملاليم، وتأخذ ما تقدمه لها المرأة من حلوى، ثم تجلس بجوارها وتلعب في الرمال. ولأن هذه المرأة كانت تجلس حيث يفرد الصيادون شباكهم، وحيث يصلحون قواربهم، وحيث يجدلون حبالهم، فلقد أطلق الناس عليها اسم "الصيادة"! كانت بدوية، إذا ما اختفت من البيت، كانوا يعلمون يقيناً، أنهم سوف يجدونها بجوار "الصيادة" بائعة الحلوى! مرة واحدة ذهبت فيها مع أبيها الى الحلاق، ثم وجدوها مع أب هندي. كان سعد زغلول ـ زعيم الأمة ـ قد أصبح رئيساً للوزراء! وبدا أن الهدوء سوف يسود البلاد لفترة طويلة بعد أن اكتسح حزب الوفد الانتخابات التي أجريت في أواخر عام 1923 وكان السلطان أحمد فؤاد قد أصبح ملكاً بعد أن أنجب ولي عهده الأمير فاروق قبل ميلاد بدوية بعام بالتمام والكمال... وفي بداية عام 1924 لم يعد محظوراً على جنود الامبراطورية ـ وكانوا من أجناس عدة، جلبتهم بريطانيا من مستعمراتها ـ أن يتجولوا في الحي العربي، بعد أن ظلوا شهوراً ـ أثناء اعتقال سعد زغلول في جبل طارق قبل ذلك بشهور ـ لا يستطيعون الاقتراب من حواريه خوفاً على حياتهم... وكان طبيعياً أن يشاهد الناس جنود الامبراطورية وهم يجوسون في الحي العربي، يشترون ويبيعون ويتعاملون.. لكنه لم يكن طبيعياً أن يجد أحدهم طفلة تسير في الشارع وحدها، فيأخذها، ويدعي أنها ابنته! المستقبل اللبنانية في 22 ديسمبر 2004 |