القاهرة ـ ريما المسمار |
يختتم مساء اليوم مهرجان القاهرة السينمائي الدولي دورته التاسعة والعشرين بتوزيع الجوائز على الافلام الفائزة. من بين افلام المسابقة الرسمية، أثار الانتباه شريط الماني في عنوان Seeds of Doubt او "بذور الشك" ("أضرار لاحقة" بحسب ترجمة المهرجان) للمخرج المصري المقيم في المانيا سمير نصر. الفيلم هو الروائي الطويل الاول له، يتناول فيه حكاية بروفسور جزائري مقيم في المانيا مع زوجته الالمانية وابنهما حياة لم تخبُ فيها شرارة الحب. ولكن زيارة من رجال البوليس الفيدرالي إلى مكتب "مايا" للسؤال عما كان زوجها يفعله في صورة زفاف أحد مرتكبي 11 ايلول، سيكون بداية المشكلة. على الرغم من ان الفيلم يسكن التلفزيون اكثر منه السينما، الا ان نقاط قوته تكمن في وتيرته التصاعدية التي تراكم المواقف والافكار ممهدة لذروة درامية كبرى وفي توازن داخلي غير مفتعل يعكس نظرة المخرج وافقه الواسع. ففي عمل يسهل فيه اطلاق الاحكام والاتهامات، يقوم نصر بصوغ شخصيات عميقة بعيدة من الكليشيهات ويحلل الظواهر أبعد من الاعتقادات الجاهزة. وفي فيلم يمكن اعتباره فرصة ذهبية للتعبير عن "الضحية" اذا جاز التعبير، لا ينجر المخرج إلى عصبية ضيقة يحركها إحساس بالعجز او الاضطهاد. كذلك يقدم الفيلم اداءً مميزاً لبطلته الالمانية سيلك بودنبندر وللمثل الجزائري مهدي نبو. هنا لقاء مع مخرج الفيلم حول تجربته. *** · الفيلم فرصة ذهبية لك بكل المقاييس. شريط يتناول شخصية عربية في مجتمع اوروبي والضغوط التي تتعرض لها بعد 11 ايلول. كيف تحقق المشروع؟ ـ هذا اول فيلم روائي طويل أنجزه. فبعد تخرجي من معهد السينما بإلمانيا ونيل فيلم التخرج جوائز عدة، أبدت محطة التلفزة "أس.في.آر" SWR رغبتها في إنتاج فيلم لي. عرضوا علي سيناريو ولكنه لم يعجبني وبالنسبة الي كان تقديم فيلم اول جيد امراً ضرورياً لأنه غالباً ما يكون العمل الاول هو جواز السفر والبطاقة الشخصية لمخرجه. عام 2003، عُرض علي سيناريو "بذور الشك" وهو العمل الاول لكاتبه ايضاً. النسخة الاولى كانت تقوم على نظرة المانية إلى الشرق والمسلمين وبطلها كان باكستانياً. ولكنني شعرت ان القصة أقرب إلى العرب وأردت ان يفرق الفيلم بين الدول التي تعتقدها اوروبا عالماً واحداً. فهم لا يميزون بين العربي والهندي والافغاني... كان الكاتب مرحباً لفكرة اعادة كتابة السيناريو سوياً. · هل كان السيناريو يحمل ذلك الجانب المتسامح او الانساني تجاه الشخصية العربية؟ ماذا أضفت انت اليه؟ ـ هناك مشكلة دائمة في تناول موضوع ساخن إذ ان الفيلم في تلك الحالة يتحول وعاءً لرسالة مباشرة ولا يزيد عن مبرر لتمريرها. بعكس ذلك، لا يحمل سيناريو "بذور الشك" اية رسالة. الفيلم يقول اشياء كثيرة. يفاجئني قول ان الفيلم يحسّن صورة العرب والمسلمين. الحق انه يقدّمهم كبشر. منذ بداية تاريخ السينما والعرب يُعاملون في معظم الاحيان كمتوحشين. نحن لا نريد ان نتطرف بتقديمهم مثاليين. الفكرة كانت تقديم شخصية عربية حقيقية بسلبياتها وايجابياتها. الجمهور يتعاطف مع الشخصيات الحية. بالعودة إلى سؤالك، لا أنكر ان القصة سياسية ولكنها ليست مباشرة ولا تدين اشخاصاً بل جواً عاماً. الإرهاب موجود ولكن تضخيم الاعلام له واستغلاله هو ما ندينه. الفيلم يتحدث عن البارانويا، عن الخوف الذي يعطل تفكير الانسان. فما بالك اذا كانت مجتمعات بأسرها تعيش في حالة من الرعب! · هناك سؤال بديهي يخطر للمشاهد لدى معرفته بأن مخرج الفيلم مصري وهو لماذا لم يقدم شخصية "طارق" مصرية بل جزائرية؟ ـ لست متعصباً لمصريتي والحلم الكبير الذي مازلنا نفكر به ان نشعر بالفعل بأننا كلنا عرب اولاً وآخراً. ولكن اختيار شخصية جزائرية كان له علاقة بتفاصيل عملية. فنحن نحتاج إلى ممثل يتحدث الالمانية بالفعل، لم أرد ان نأتي بأي ممثل ومن ثم نقوم بدوبلاج إلى الالمانية لأن ذلك برأيي يضعف الفيلم. وبالنسبة الي ليس هناك اي مبرر للتضحية بتفصيل فني وان صغير لأن قيمة العمل في فنيته قبل اي شيء. من هنا، كان من المهم جداً في هذا الفيلم ان يتقن الممثل الالمانية وان تكون علاقته بزوجته جذابة وقوية. كما انني وجدت في مهدي نبو ما أبحث عنه منذ شاهدته في عمل سابق له. · قبل ان يُعرض السيناريو عليك، هل شعرت في وقت ما بعد 11 ايلول بأنك تريد ان تقول شيئاً عما يجري في فيلم؟ ـ في مرحلة المراهقة، كنت أشاهد افلاماً كثيرة منها لكوستا غافراس وقد أثرت في كثيراً. كذلك كنت أحب افلاماً مصرية سياسية. تلك الافلام أثرت في وأشعرتني بقدرة السينما على توصيل شيء يعجز عنه المقال حتى الفيلم التسجيلي. في فيلمي هذا، هناك خيط التوتر الذي يساعد المشاهد على الاستمتاع بالفيلم. في آخر المطاف، الفيلم عمل فني يهدف الي الامتاع. في المانيا، يفصلون بين الاعمال الفنية الجادة والاخرى المسلية. ولكن المشكلة تكمن في تعريف المتعة والتسلية. برأيي، نستطيع ان نجمع الاثنين. أليست أفلام هيتشكوك مزيجاً من الجدية والامتاع؟ بالنسبة الي، تستهويني الموضوعات السياسية والاجتماعية. لذلك أحضر لمشروع فيلم روائي عن رواية صنع الله ابراهيم "شرف" وهي رواية تضع يدها علي المأساة التي يعيشها المجتمع المصري. ولكنني مذهول بالفعل لأنني اكتشفت ان حقوقها ليست مبيعة بعد. ذاك ان كان لحسن حظي الا انه برأيي يدلل على مشكلة حقيقية في السينما العربية. هل يعقل الا يلحظ احد من السينمائيين تلك الرواية وغيرها الكثير؟ تلك استحالة في المانيا حيث ينتظر السينمائيون صدور اعمال الكتاب الكبار ليسارعوا إلى شراء الحقوق وغالباً وفقاً لمناقصة! · كيف كانت ردود الفعل على الفيلم في المانيا؟ ـ لاقى الفيلم ردود فعل ايجابية جداً في المانيا بعيد عرضه في التلفزيون المحلي. لفت النظر اليه انه يرصد حالة من دون مبالغة وانه لا يدين ولا حتى شخصية "مايا" الزوجة الالمانية. بل هناك تعاطف مع انسانة لم تتمكن من مقاومة الظروف. في السينما، نحب ان نشاهد شخصيات تخطئ. كما ان الفيلم ليس مصنوعاً بروح حاقدة. هناك من اتهم الفيلم بأنه يقدم نهاية سعيدة ولكن الواقع ان أحداً لا يعرف كيف ستسير الامور مع الوقت بعد الانتكاسة التي تعرضت لها حياة "مايا" و"طارق". · برغم موضوعه الحساس ووقوعه في منطقة الجدل، لا يخاف الفيلم من تقديم شخصية العربي مسلماً متديناً وصديقه ايراني ملتزم. هل كان مقصوداً الذهاب ابعد من تبرير المواقف او تقديم شخصية عربية علمانية مثلاً؟ ـ "طارق" متمسك بالدين وهذا يحدث لكثيرين في الخارج مع خوفهم من اندثار انتماءاتهم الاصلية. ولكنه برغم ذلك لا يصلي في البيت ونفهم من امام المسجد انه لم يعد يؤم المسجد كما كان يفعل في السابق. اي انه الآن اقل تديناً ولكنه برغم ذلك متهم بأنه متطرف لمجرد اطلاقه نكتة عن 11 ايلول. فنلاحظ اليوم ان اي فيلم عن التطرف لا بد من ان يحتوي على مشهد لمصلين كأن الصلاة فعل تطرف. لذلك كان خيارنا ان نستخدم الرموز التي ألصق الاعلام بها ابعاداً غير بريئة وتقديمها في اطارها الصحيح. المشكلة ان هناك جواً عاماً تولد بعد 11 ايلول وتراكم ليصبح معادياً. · في الفيلم اشارة إلى عدم تسامح المجتمع الاوروبي من خلال شخصية "مايا". هل لمست ذلك بنفسك وهل تلك ادانة؟ ـ هذا النوع من اللاتسامح موجود ولكنه راجع إلى عدم فهم. هناك مشكلة في العلاقات المختلطة أُلصقت بـ11 ايلول ولكنها في الواقع كانت موجودة دائماً. غالباً ما تقوم العلاقات المختلطة على انجذاب كبير بالثقافة المختلفة والعادات الاخرى ونمط الحياة المختلف بما يغطي أحياناً على تفاصيل أخرى. قبل 11 ايلول، كانت علاقة "طارق" و"مايا" تقوم على انه مسلم وانما ليس متديناً وعلى انها مسيحية من دون تطرف وتالياً فإن الامور تمشي هكذا.بعد 11 ايلول، أصبح للاختلاف معنى آخر. الاختلاف الديني والثقافي دخل في العلاقات بسبب تشديد الاعلام عليه. بهذا المعنى، فرض 11 ايلول على كثيرين ان يتحاوروا في موضوعات الدين والاختلاف التي لم يشعروا بالحاجة إلى مناقشتها من قبل. ولكن المشكلة ان الاجواء كانت مشحونة بما جعل كل حوار اما دفاعياً او هجومياً. في واحد من المشاهد، يسأل الطفل امه "مايا" لماذا لم يتمكن والدي من استئجار شقة في بداية حياتكما؟ فتجيبه بسبب المال فيضيف: ألأنه غير الماني ايضاً؟ هنا تفهم "مايا" شيئاً عن مجتمعها. تدرك ان ثمة عنصرية لم تكن ظاهرة على الاقل للالمان قبل 11 ايلول. · انت ايضاً ثمرة زواج بين رجل مصري وامرأة المانية. إلى اي حد انت موجود في الفيلم؟ ـ هناك تفاصيل عشتها خلال السنوات الاولى في المانيا واستخدمتها في الفيلم. فأنا مثل "طارق" كنت لسنوات طويلة أقضي وقتي في الدفاع عن الاسلام وفلسطين في كل جلسة اتواجد فيها ويُطرق اي من الموضوعين. كما ان حكاية ايجار الشقة والتمييز بيني وبين الالمان مع انني احمل الجنسية حدثت لي. كذلك مسألة طلب "طارق" من "مايا" ان ينشأ ابنهما على الاسلام تلك مسألة عشتها لأن والدي مصري وامي المانية. · الا يفاجئك ان فيلماً المانياً اهتم بتقديم موضوع العرب بعد 11 ايلول في حين لم تبادر اي سينما عربية إلى معالجته بتلك الجدية بعد مرور اكثر من اربع سنوات عليه؟ ـ يفاجئني هذا كثيراً. أستغرب كيف ان السينما المصرية اليوم لا تخاطب الا فئة معينة من الجمهور. اما ان السينمائيين لا يقرأون بالقدر الكافي واما انهم غير واثقين من أن الجمهور سيقبل على شيء آخر. السينما غير السائدة تحتاج إلى بعض الدعم. ليس ضرورياً ان يكون كل فيلم "بلوك بستر". هناك افلام يجب ان تنوجد لأن وجودها في حد ذاته مهم وهي حتماً ستترك اثراً بمقاييسها الخاصة وليس بمقياس السوق. لا أريد ان أدعي انني حللت وضع السينما المصرية بهاتين الكلمتين لأنني أعتقد ان في الامر لغزاً ما ولكن بداية الحل في الخروج من سينما النوع الواحد. ثم يأتيك من يهاجم عملاً مختلفاً لأنه "مسيء إلى سمعة مصر" كما حدث مع فيلم جوسلين صعب "دنيا". من نصب اولئك أمناء على الوطنية ومحتكرين للوطن؟ ينسون ان الفيلم عمل فني وان اي نقاش حوله يجب ان ينطلق من تلك النقطة. · ما هي مشاريعك للمرحلة المقبلة؟ ـ أحضر حالياً لعملين. الاول هو فيلم روائي طويل عن رواية "شرف" التي تدور أحداثها في السجون المصرية وأملي ان اتمكن من انجازها وان اعيد ممثلين إلى السينما من خلالها. التلفزيون الالماني مستعد للمساهمة في الانتاج ومعه شركة المانية ايضاً. أسعى الآن إلى ايجاد ممول في مصر بينما يقوم هاني فوزي صاحب "بحب السيما" بكتابته. الفيلم الثاني من انتاجي الخاص واصوره على مهل وهو عن اغنيات عبد الحليم حافظ الوطنية المرتبطة بحقبة الثورة وفترة الناصرية المثيرة للجدل. الفكرة التي انطلق منها كانت قدرة تلك الاغنيات على الصمود على الرغم من انها انطلقت أعمالاً دعائية او "بروباغاندا" لمرحلتها السياسية. أعتقد ان تلك افلام مهمة لأنها تؤرشف وتؤرخ للتاريخ وكذلك الافلام عن الشخصيات. ولكن للأسف هناك إعراض عن السينمائيين الشباب واقبال على الفضائيات لأنها تدفع ولأنها لا تطلب من الضيف كلاماً جديداً... المستقبل اللبنانية في 9 ديسمبر 2005 |
"أزهار متكسّرة" لجيم جارموش مهندس الكاتدرائيات في بلاد العجائب جيرار سليمان الى السينمائي النيويوركي الفذ جيم جارموش، رسالة من قلوب هواة السينما الملأى حقداً: "شكراً لك يا سيدي، لأنك اخذتنا عبر فيلمك الى حيث نتوق الذهاب، مكاناً وفكراً ومشاعر سينمائية! كنا في حاجة الى امثالك لنستعيد الايمان بأن ثمة ما يستحق ان يحكى ويروى هناك خلف الاطلسي". ان نتوجه اليوم الى أكثر المبتكرين الاميركيين غموضاً بكلام من هذا القبيل، ليس مديحاً مجانياً او حماسة ليلة يمحوها الصباح. ذلك ان هذا الصنف من الافلام لا "ينفع" معه الموقف المعتدل، لانه يحض على التطرف: إما ان نعشقه وإما نعزف عنه بعد أقل من ربع ساعة سينمائية. ثمة موقف آخر تجد نفسك فيه خلال تذوقك الحوادث الشائقة التي يقدمها جارموش لنا لقطةً لقطة: الانتظار الطويل قبل بلوغ الذروة. فالافتتاح لا يستمد اهميته ودلالاته الا بما نراه في نصف الفيلم، وهذا النصف ايضاً لا يسوّغ وجوده الا التتمة المنتظرة. هذه هي البنية الدرامية التي يعتمدها جارموش: يهندس فيلمه كما لو كان يشيّد كاتدرائية، قطعةً قطعة، الى ان تلتقي اجزاء التحفة في صورتها النهائية المبهرة. جرياً على عادة تكرّست في سينماه، يتمحور "أزهار متكسّرة" على شخصية يتيمة هي بمنزلة الدينامو الذي يشعل محرك العمل. لا حوادث عند غيابه! وهذا الامر تدركه الشخصية نفسها تمام الادراك، ولذا تحرص على عدم ترك الاطار والخروج منه ولو قليلاً. قيل سابقاً عن السينما الاميركية انها تموضع شخصيات عادية في مواقف استثنائية، خلافاً لنظيرتها الاوروبية التي تصور شخصيات غنية بسيكولوجياً، ولكن في مواجهة ظروف لا تولّد أي فضول لدى المُشاهد. لا تندحر الشخصية التي يحملها بيل موراي على كتفيه، من هاتين العائلتين. ولما كان الفيلم معادلة بين هويتين، واحدة اميركية واخرى اوروبية، فقد أتى الكاراكتير على شاكلة العمل: استثنائي حتى لو جارته المواقف في استثنائيته. يبدأ كل شيء في مدينة اميركية نائية ومجهولة. ذات صباح عابر، ينطلق دون جونستون (موراي) في مشوار وجودي جديد. سيتميّز هذا النهار بكونه يحمل رسالة تبشر ببعض الغيوم التي ستسود سماء هذا الخبير في المعلوماتية، المليونير، زير النساء المنزوي في هدوئه الجميل والناتج ربما من انكسارات عاطفية ومعنوية عميقة. سنرى! للوهلة الاولى، لا يعير دون جونستون أي اهتمام للرسالة التي تخبره بأنه اب لشاب في التاسعة عشرة من العمر. فهو الـ"دون جوان" المتعب الذي يخيّل الينا انه ابكى الكثيرات، يستصعب العودة الى الخلف والمشي على خطى ماضيه "غير المشرّف". لكن جاره التشيرلوك هولمز الغريب الاطوار (جيفري رايت) يلحّ عليه، وهو في الواقع كمخرج لفيلم في داخل الفيلم الذي يتولى ترتيبات السفر كافة. في حين يكتفي دون بأن يكون مشاهداً لحياته، فيقرر ان يذهب في رحلة هدفها العثور على الابن، وفي حوزته خرائط وعناوين واسماء عشيقات لم يرهنّ منذ عقدين من الزمن. سيكون مشواره حافلاً بالمشقات والمتاعب، لكن عند عودته سنلتقي رجلاً رجع من الحرب مهزوماً ومنكّس الرأس: من النساء الخمس اللواتي زارهنّ، المرأة الراحلة وحدها ستملأ قلبه حناناً ودفئاً. مرة جديدة، يصوّر جارموش شخصاً نصف ميت ينتمي الى دنيا الحق أكثر منه الى عالم الاحياء. ونكتشف ذلك في أكثر من مناسبة: من عدم رغبته في الاخذ والرد مع الآخرين، وخصوصاً النساء، واذا ببائعة أزهار تضمد جروحه بعد حادثة تعرّض لها، فلا يجد امراً يحدثها عنه، الا سؤالها عن عنوان مقبرة ينوي زيارتها. اذاً، رياح الشؤم تهبّ على عمل جارموش الجديد الذي يرسم بورتريه لاميركا في دهاليزها ومتاهاتها وعوالمها المختلفة. ازهار العنوان المتكسرة ليست الا اشارة الى الشتات العائلي والاجتماعي، ورمزاً لاستحالة تجميع هذه الازهار في باقة واحدة. بحثاً عن جواب يرضي ضميره، يسافر دون في مدن اميركا حيث تناغم الحياة وتشابك الحكايات المثيرة. ويتبدى من سلوكه انها رحلة لـ"شراء" راحة البال التي يهددها مضمون الرسالة ووضع علامات استفهام امام خياراته الحياتية، أكثر منها رحلة لاستعادة الابن المفقود. هي ايضاً جولة يودع فيها دون النساء اللواتي احبّهن. اللافت تناول الموضوع من باب التهكم البارد الجاف، وهو خيار يتماهى مع قماشة الفيلم وبطله وقصصه الصغيرة واجوائه ونبضه. رغم الجو الملبد بغيوم رمادية، لن تهطل على الفيلم دموع مدرارة. ومع ان الميلودراما حاضرة حضوراً قوياً، لكنها تتمالك نفسها وتحبس انفاسها. اما رد الفعل الناتج من هذا الخيار فهو طرافة تمسك بزمام الفيلم حتى الهلاك. واذا كان جارموش نموذجاً للفنان الهامشي، فإن القدر كان قاسياً على شخصياته ايضاً، الى ان نالت نصيبها من الاستبعاد والاقصاء عن خيرات الدنيا ونعمها. من "رجل ميت" (1994) الى "غوست دوغ" (1999) مروراً بـ"قطار غامض" (1989)، شقّت مسألة البحث عن الهوية طريقها في سينما هذا الخلاّق المنهمك بتفكيك خفايا الطبيعة الانسانية. فشل التواصل هو ما تتفق عليه شخوصه، برغم اختلافها الظاهري وتنوع حوافزها، حتى بعضها يخاطب بعضها الآخر، كل بلغته، ومع ذلك يصل الطرفان الى تفاهم مشترك. اليوم، في استعادة لبعض من تيماته الاثيرة، يلتقي مجمل ما صنع اسلوبية جارموش في فيلم واحد: الدقة في تناول التفاصيل، الموسيقى كلغة قائمة في ذاتها، شفافية السرد، خيارات توليفية صارمة. ومن خلال الزيارات التي يجريها دون لمنازل السيدات اللواتي عاشرهن في شبابه، يضع نفسه في موقف لا يُحسد عليه، وهو مواجهة الاحتمالات الحياتية المتعددة (البورجوازية الصغيرة، الرأسمالية، المهنة الحرة، الانفلات في الطبيعة) التي كانت في انتظاره لولا أنه اختار الانضمام الى "القطيع". في اقتحامه حميمية العائلة الاميركية، يأخذ معه دون احلامه التي تبددت واوهامه التي سقطت اسيرة الخيبات. ما يولّد هذا القدر من التأمل، عنده وعند المُشاهد، حيال المسكوت عنه في الفيلم، هو سلوكه العقلاني والحكيم لدى تصديه للآخرين. هذه الفكرة تجد صداها من جانب موراي، في اداء متين يرتكز اولاً على التوفير في الطاقات الخلاّقة، وفي قدرته على حجب رد الفعل العفوي، وايضاً يتبنى مدرسة عصر السينما الصامتة في طريقة التحرك داخل الكادر والنطق والتفاعل. بهذا النمط يرتقي موراي الى مصاف رواد السينما الصامتة. لعل أكثر ما يبرع فيه جارموش، هو منح الحوادث صيغة غرائبية. في لحظة ما، نكاد نعتقد ان العالم الذي نراه عالم افتراضي، وان دون ليس الا بديلاً من أليس في بلاد العجائب، علماً ان الرؤية السينيفيلية هنا مشبعة، وإن ليس عمداً، بكياروستامي ولينتش. بين انحيازه الى الحس الساخر من جانب والكوميديا السوداء من جانب آخر، يفصح جارموش عن تعاطفه مع الشخصيات القابعة في عزلتها وتقوقعها، مصوّراً الآفات التي تجذرت في المجتمعات المعاصرة. قلائل هم، مثل جارموش، الذين يتحسسون دفء الناس، ويلتقطون - ايحاء وليس تجسيداً باهتاً ـ - صوراً تختزل وجودهم وارباكهم حيال ما يخفي لهم المستقبل. قد تجري تلك اللحظات في غابة غلّفتها رطوبة صباح ماطر، او في طائرة او على الطريق او في غرفة فندق نشتم منها رائحة الوحدة الشبيهة برائحة المقابر. لا احد مثله، يجرؤ على اخذنا من مدينة الى مدينة، مبرهناً على ان ثمة رحلات لا تغيّر المرء انما تضعه قبالة شريط الحياة والذكريات واحتمالات السعادة التي خسرها قبل ان يذوقها، واذ بها تنهض من جديد لمرافقته حتى "الآخرة". النهار اللبنانية في 8 ديسمبر 2005 |