«الحس» للإيطالي فيسكونتي: الخيانة مرتين إبراهيم العريس |
قبل ذلك بسنوات كان السينمائي الإيطالي لوكينو فيسكونتي قد أسس لما سيسمى لاحـــقاً «الواقعية الجديدة» في السينما، ففيــلمه الكبير «الأرض تهتز»، الذي كان يجدر به أن يكون جزءاً أول من ثلاثية تتحدث عن الفئـــات العاملة والمسحوقة في المجتمع الإيطالي. غير ان الذيـــن انتظروا بقية الثلاثـيـة، خاب أملهم بسرعة... لأنها أبداً لن تكتمل. بل ان فيسكونــتي سيبتعد تدريجاً عن تلك الواقعية الجديدة التي أسسها، ومن دون أن يسعى الى معرفة ما إذا كان أحد غيره سيحمل بيرقها من بعده. أما هو فإن سينماه راحت تغوص أكثر وأكثر في الذات الفردية، وفي المواضيع الجوانية في تلازم لافت مع نزعة مسرحية استعراضية. وكان من الواضح أن تلك النزعة مستمدة، لدى فيسكونتي، من هيامه بفن الأوبرا الذي سيواصل اهتمامه به، حتى نهاية حياته، قاسماً وقته بين بيته والسينما. المهم هنا، هو أنه ما إن بدأت تطل أواسط سنوات الخمسين من القرن العشرين، حتى كان فيسكونتي صار بعيداً جداً من تقشف الواقعية، ومن قضايا العمل والبائسين، مستعيداً على الأقل شغف بداياته (مع فيلم «استحواذ» المأخوذ عن رواية بوليسية أميركية لجيمس كين – 1942) بالعواطف الجياشة ونزعة المرء الى تدمير ذاته. وضمن هذا الاطار يأتي فيلم «الحس» الذي حققه فيسكونتي في العام 1954 انطلاقاً من قصة متوسطة الطول لكاميلو بويتو. وهي قصة كانت معروفة، غير ان اشتغال فيسكونتي عليها، أعاد اليها نبضاً جديداً، مسبغاً عليها دلالات من الصعب العثور عليها في النص الأدبي. ذلك ان فيسكونتي، وعلى رغم أن معظم ما حققه من أفلام كان منطلقاً من نصوص أدبية، كان ذا رؤية سينمائية، بحيث ان المتفرج المعني، سرعان ما ينسى إذ يشاهد فيلماً له انه أمام عمل كانت اللغة المكتوبة عماده، بل يغوص في بعده البصري الخالص. > وينطبق هذا، في شكل خاص، على «الحس» إذ، على رغم البعد التحليلي الأدبي للعمل الأصيل، وعلى رغم ان الاشتغال الأساس هنا هو على جوانية الشخصيتين الأساسيتين في الفيلم، فإن البعد البصري، السينمائي أساساً، يبدو الأهم. وتدور أحداث الفيلم في مدينة البندقية حوالى العام 1866، أي في زمن كانت فيه هذه المدينة ومنطقتها بأسرها، خاضعتين للاحتلال النمسوي... وهو احتلال كان مثيراً لغضب السكان واشمئزازهم، خصوصاً أنهم، كورثة لعصور النهضة الايطالية، كانوا يرون غرابة لذلك الاحتلال تكمن في كونه يتم من شعب هو أقل منهم حضارة. ومن هنا إذا كان في وسع الايطاليين، من أهل البندقية، أن يقاوموا فإن مقاومتهم تتخذ في جانب منها، شكل استعادة معالم الفنون الإيطالية، في تعالٍ بيّن على المحتلين. ومن هنا كان طبيعياً أن تبدأ أحداث الفيلم في مسرح «فيتشي»، حيث كان يقدم عرض لواحدة من أوبرات فردي... وإذ يكون العرض في أوجه، يقوم جماعة من الوطنيين الايطاليين بإثارة الشغب ما يخلق هرجاً ومرجاً... ويدفع عدداً من الضباط والأفراد النمسويين الحاضرين الى الرد... ويؤدي ذلك الى صدام ينتهي بمبارزة تقوم بين الوجه البارز في المحتجين الإيطاليين المركيز أوسوني، وبين ملازم نمسوي هو فرانز ماهلر. وهنا تتدخل الكونتيسة الحسناء سربياري، قريبة المركيز، لوقف المبارزة وانقاذ قريبها، الذي نعرف منذ البداية انها تشاطره أفكاره الوطنية... واحتقاره لقوات الاحتلال النمسوية... ولكن ليس لفترة طويلة، ذلك ان الكونتيسة إذ تلتقي بماهلر أملاً في التوسط لإنهاء الخلاف تنبهر به وبشخصيته، خصوصاً أنه شاب وسيم وذو شخصية مفعمة بالقوة... وتقع في غرامه. > والحقيقة ان الفيلم يتحول منذ ذلك اللقاء الى نوع من الهبوط الى الجحيم... ذلك ان الكونتيسة، إذ يتفاقم شغفها بالضابط العدو، تصل الى حد خيانة قضية بلادها على مذبح حبها له، حيث تشي أمامه بعدد من أسماء المقاومين المتزعمين حركة الاحتجاج ضد الاحتلال، وهي تأمل من ذلك أن تؤدي هذه الخدمة، الى اعفاء الضابط المعشوق من الجندية، ليبقى لها وفي أحضانها. غير ان الحرب تزداد شراسة والمقاومين يهزمون واحداً بعد الآخر، حتى تنسحق المقاومة، في البندقية على الأقل، تماماً. أما الضابط فإنه يترك الجندية ويهرب الى فيرونا، فتلحق به حبيبته متخلية عن أراضيها وكل ما لها في البندقية. لكنها بدلاً من أن تستعيد حبها معه وتجده في حال من الازدهار، تكتشف انه منهار تماماً ولا يعيش أوضاعاً ملائمة. فهو قلق تعيس بائس... ثم إنه ما أن يجابهها للمرة الأولى في شكل جدي، حتى يصارحها بأنه، أصلاً، لم يحبها أبداً... وإن كل ما أثار اهتمامه بها إنما كان المال الذي تملكه. وهنا تجن الحسناء غضباً، خصوصاً أنها لم يعد لديها أدنى شك في أنه يعني ما يقول، وان الكلام، ليس مجرد فورة غضب أو ندم لديه. فلا يكون منها، إلا أن تتوجه الى أقرب نقطة عسكرية للجيش النمسوي، وتخبر المسؤولين هناك بأنه فارّ من الجندية معلمة اياهم بمكانه. وعلى الفور يقوم الجيش النمسوي باعتقاله ويصار الى إعدامه فوراً، رمياً بالرصاص. > منذ عرض هذا الفيلم، اعتبر على الفور «فيلماً ميلودرامياً» بالمعنى الأكثر نبلاً للكلمة... كما نظر اليه على انه دراما موسيقية وعاطفية كبيرة تمزج، في شكل خلاق، بين العواطف الشخصية، والخلفية التاريخية... وهذا ما زاد من اضفاء الطابع المسرحي الاستعراضي على عمل قال عنه صاحبه انه توخى فيه أن ينسف «الفارق بين ما يدور على خشبة المسرح حيث أوبرا فردي، وما يدور في الحياة العامة الموزعة بين الحرب والثورة» مضيفاً، ان ليس ما هو أكثر من الخيانة قدرة على التعبير عن نسف ذلك الفارق. وهو يعني هنا الخيانة المزدوجة التي تقوم بها الكونتيسة: خيانة قضية بلادها من أجل حبها للضابط، ثم خيانتها للضابط نفسه، إذ تكتشف انه لم يكن، أصلاً، يحبها. وهكذا، على خلفية «تحليل» ماركسي يقوم به فيسكونتي في ثنايا الخلفية التاريخية للأحداث، نجد مخرجنا يضعنا في قلب انهيار امرأة. ولعل أهم ما في الفيلم هو أنه يقيم توازناً جيداً بين العنصرين، وهو ما سيفعله نفسه لوكينو فيسكونتي في الكثير من أفلامه الكبيرة التالية، حيث يرسم، وغالباً في شكل استعراضي، ذلك التزاوج بين برانية الأحداث الكبيرة، وجوانية الشخصيات التي تقودها تلك الأحداث الى الانهيار، ذات لحظة من تاريخها. ومثل هذا نجده في «الفهد» (1962)، كما في «عنف وعاطفة» و«الملعونين» (1969) وهي بعض أبرز أفلام هذا المخرج الذي كان «البريء» الحامل لهذه الرؤى والأفكار نفسها، آخر أفلامه قبل رحيله عن عالمنا في العام 1976 عن سبعين عاماً، وفيسكونتي الذي ولد لأسرة من النبلاء، كان مولعاً بالفنون جميعاً، ومغرقاً في التحليل العقلاني للتاريخ في آن معاً، منذ صباه. وهو اكتشف، في باريس ما قبل الحرب الثانية، نزوعه نحو السينما فعمل مساعد مخرج مع رينوار، ثم عاد الى ايطاليا حيث بدأ يحقق أفلامه، الى جانب اخراجه للأوبرا والمسرح. ومن أبرز أفلام فيسكونتي الأخرى «روكو واخوته» و«الليالي البيضاء» و«الأجمل» و«موت في البندقية» و«لودفيغ»... الخ. الحياة اللبنانية في 12 مايو 2005 |