أرض الخوف بين سينما المؤلف وميتافيزيقا الدين محمود الغيطاني /ناقد وقاص مصري |
حينما نرغب الدخول إلى عالم "داود عبد السيد" لا بد من اليقين بكون أية دراسة تكتب عنه هي نوع من الدراسات التفسيرية التي تحاول فك شفرات النص/ الفيلم وليست دراسة نقدية بالمفهوم الأكاديمي، ولعل مرجع ذلك تلك الفلسفة العميقة التي تدور في رأسه والتي يطرحها دائما في جميع أفلامه التي يكتبها بنفسه - سينما المؤلف- وهنا لا بد من الجزم بوجود ارتباط ما نلاحظه دائما في سينما المؤلف ألا وهو ذلك الانفراد والتميز المدوي للعمل السينمائي المعتمد علي ذلك- وكأن المخرج/السيناريست يحمل دائما نوعا ما من النظرة الفلسفية العميقة التي يرغب طرحها- فنجد أعمالا قوية مميزة لمن انتهجوا هذا النهج منها علي سبيل المثال- لا الحصر- "المرأة والساطور" للمخرج "سعيد مرزوق" 1997 بعالمه الخاص القاتم الرؤية، "القبطان" للمخرج "سيد سعيد" 1997 ذلك المتصوف الذي نقل لنا-ربما هي للمرة الأولي- فلسفة صوفية صادقة علي شاشة السينما المصرية، "رومانتيكا" للمخرج "زكي فطين عبد الوهاب" 1996 الذي قدم لنا عالما جديدا أيضا علي السينما المصرية، "البحر بيضحك ليه" للدكتور"محمد كامل القليوبي" 1995 ذلك الفيلم الهادئ في أحلامه الرومانسية، العنيف في تحرره من قيوده، ولعل من أشهر المخرجين الذين اشتهروا بسينما المؤلف "مدحت السباعي" في جل أفلامه (فل الفل 2000، مجرم مع مرتبة الشرف1998، خلطبيطة 1994 ،الجريح 1985،..) وأستاذ الفانتازيا- المتربع علي عرشها- "رأفت الميهي" في جميع أفلامه. ولكن مع النظرة العميقة المتروية لمثل هذه السينما نجد أنها الأكثر نجاحا، الأكثر مصداقية، ثم هي الأكثر فشلا جماهيريا! نتيجة لتقديمها نظرة ما تحمل نوعا ما من التفلسف أو هو قدر من الثقافة النخبوية التي لا يتمتع بها أكثر الجمهور- ذلك الجمهور الراغب دائما في الضحك فقط دون أدني اهتمام بالمضمون- لذلك نجد فيلما رائعا في فلسفته عميقا في مضمونه مثل "البحث عن سيد مرزوق" 1991 للمخرج "داود عبد السيد" يعد من أكثر الأفلام استغلاقا لدي العديد من المشاهدين؛ ولذلك كان التخوف الشديد من "أرض الخوف"- تلك الأنشودة التي أنشدها داود عبد السيد- "فداود" صاحب نظرة خاصة للسينما- بغض النظر عن كون هذه النظرة مؤدلجة أم غير مؤدلجة- تحمل نوعا ما من العمق الذي يبحث في قضايا كونية وإيمانية بل ووجودية خطيرة- نقصد هنا الوجودية بمعناها الإيماني وليس الإلحادي العبثي- لا يقدم عليها إلا القليل من المبدعين قد لا أذكر منهم سوي "سيد سعيد". إلا أننا حينما نرغب الدخول إلى العالم الجديد "لداود عبد السيد" في (أرض الخوف) فإننا لا بد وأن نقف وقفة جادة أمام العديد من الدلالات الرمزية التي رمز لنا بها "داود" عن عمد وإصرار- ربما لإثارة حفيظتنا أو تنشيط أفكارنا- (أرض الخوف) اسم المهمة التي كلف بها "يحيي المنقباوي" (أحمد زكي) ضابط المباحث الذي يلتقي مع مساعد وزير الداخلية والذي يكلفه بمهمة الاندساس بين تجار المخدرات والفاسدين والخارجين علي القانون تحت مسمي أنه جزء لا يتجزأ منهم وتاجر مثلهم؛ فيتم فصله من عمله تحت دعوى أنه مرتشي ثم حبسه حيث يلتقي مع تجار المخدرات الذين يلقبونه "بيحيي أبو دبورة" نسبة لعمله السابق وهنا نلاحظ زرع "يحيي المنقباوي" (أحمد زكي) وسط تجار المخدرات كجاسوس، إذن فهي مهمة رسمية لا يعلم بها سوي مساعد وزير الداخلية ورئيس المخابرات العامة، تلك المهمة تتسم بالسرية التامة ولذلك وضمانا لمستقبله إذا ما قبض عليه أو حكم عليه بالإعدام يتم توثيق شهادة رسمية له بذلك- تلك التي يودعها في إحدى الخزائن السرية الخاصة بأحد البنوك. ولعلنا نلاحظ هنا العديد من الملاحظات الهامة، منها ذلك الجو التأثيري الذي عرض فيه هذا المشهد، فالمؤثرات الموسيقية التي استخدمها "راجح داود" عمقت في نفوسنا المأساة التي هي علي شفا الوقوع و قد نجح "راجح داود" في ذلك أيما نجاح فكان اختياره كموسيقي من قبل "داود عبد السيد" موفقا تماما؛ وكيف لا و"راجح داود" صاحب موسيقي (البطل للمخرج "مجدي أحمد علي" 1998 ، القبطان للمخرج "سيد سعيد" 1997، إشارة مرور للمخرج "خيري بشارة" 1996، عفاريت الإسفلت للمخرج "أسامة فوزي" 1996، المرأة والساطور للمخرج "سعيد مرزوق" 1997، وغيرها من الأفلام الناجحة ذات الدوي) فنراه يقدم لنا موسيقي كان لها أكبر الأثر في تعميق فلسفة الفيلم في نفوسنا حتى أنها ظلت تتردد مدوية في آذاننا لفترة ليست بالقليلة بعد انتهاء مشاهدتنا للفيلم. نقول أن هذه الموسيقي و معها مؤثرات البرق والرعد مع هطول الأمطار في خلفية المشهد السمعية يمكن الربط بينها ربطا قويا وبين قضية ميتافيزيقية خطيرة ألا وهي قضية عرض الأمانة من قبل المولي عز وجل علي السماوات والأرض فأبين أن يحملنها وحملها آدم عليه السلام، تلك الأمانة التي أثقلت كاهله فيما بعد وصارت عبئا راسخا علي كتفيه، وها هو "داود عبد السيد" يعمق خطورة تلك اللحظة فنري الطبيعة تتفاعل وتتعاطف في موقف شديد القسوة- سمعيا وبصريا- لندرك عمق المأساة. هذه القضية الإيمانية الكبرى هي ما نستشفه تماما من مشهد عرض مساعد وزير الداخلية علي "يحيي المنقباوي" (أحمد زكي) مهمته فهو نفس موقف آدم عليه السلام- هذا مع الفارق العقائدي بالطبع- والذي قبل المهمة بأخذه التفاحة التي أمامه ليقضمها، وهنا نلاحظ إسقاطا مباشرا علي قصة آدم عليه السلام مع الشيطان ورضوخه لإلحاح حواء والأكل من الشجرة المقدسة التي منعه الله أن يأكل منها، فكان تناول "يحيي" (أحمد زكي) للتفاحة إيذانا بخروجه من النعيم أو حياة الاستقرار إلى "أرض الخوف"- اسم المهمة المكلف بها رسميا- الممثلة في الأسطورة الدينية بالحياة الدنيا. إنها اللحظة المصيرية التي يتحمل صاحبها تبعاتها حتى نهاية حياته، تماما كما تحمل آدم عليه السلام هو وأبناؤه من بعده تبعة القرار المصيري بحمل الأمانة ولذلك كان المشهد من أكثر المشاهد انطباعية في الذهن. ولعل مثل هذه الدلالات الدينية ذات العمق الميتافيزيقي نجدها في اسم الملهي الليلي الذي يعمل فيه "يحيي أبو دبورة" "بودي جارد" للراقصة "رباب" (صفوة)، ولنتأمل "حياة الليل" ذلك الاسم الذي يحمل العديد من الدلالات فنري أنه يعبر عن الحياة مع الشيطان وكأن "آدم" وهو الاسم الحركي "ليحيي أبو دبورة" حينما قبل المهمة قد عقد صفقة مع الشيطان ليعيشا معا حياة الليل/الظلام الملائمة للقصة الدينية. إنها إسقاطات دينية وقضايا كونية إيمانية تعتمل في ذهن "داود عبد السيد" حتى تختمر فتخرج لنا وقد أنضجها الفكر الراقي المتأمل فتحيرنا معه، إنها قصة مأساة الإنسان في هذا العالم الذي يحياه والذي اختاره بملئ إرادته، تلك المأساة الممثلة في كون "آدم" (أحمد زكي) الذي تم تكليفه بهذه المهمة تنقطع صلته تماما بالواقع المعاش فكأنه معلق بين السماء والأرض- كما عبر "ابن سينا" في بعض فلسفاته- فتتم إقالة وزير الداخلية ورئيس المخابرات العامة وهذان هما الوحيدان اللذان لديهما علم بمهمته الرسمية وبذلك يضحي- أحمد زكي- لا سند له أو من يعترف بكونه ضابطا مكلفا بمهمة رسمية، بل إن تعميق المأساة يصل ذروته حينما يكتشف أن رسائله التي يبعثها إلى رؤسائه- الذين كلفوه بالمهمة- لا تصل لأحد فكأنه يراسل الهواء أو هو "دون كيشوت" يحارب طواحين الهواء- لاحظ هنا التأثر العميق بالثقافة والملاحم اليونانية من قبل داود عبد السيد، فالآلهة تكلف الإنسان أو تحكم عليه بأمر لتتركه في دائرة مفرغة لا يكاد ينتهي منها إلا و يبدأها مرة أخري- مما يجعله يكاد أن يقترب من حافة الجنون فيتهم نفسه تارة بالجنون وتارة أخري بالتوهم وبعدم وجود من كلفه بهذه المهمة، فهو بين الحقيقة والخيال متأرجحا أو هو بين طريقين متضادين لا يدري أيهما يسلك- طريق الخير أم الشر- وتنهال عليه الأسئلة القلقي- التي هي في جوهرها أقرب إلى القلق الوجودي الفلسفي البحت- هل هو بالفعل ضابطا كلف بمهمة رسمية أم هو تاجر مخدرات؟ بل نراه يقول لنفسه (أن مجرد مجرم وقاتل وخارج علي القانون) في نوع من عدم اليقين بأي شئ حتى أنه يسرع إلى الخزانة السرية التي يخفي فيها الوثيقة- التي أعدها رؤساؤه والتي يعترفون فيها بأنه في مهمة رسمية- بأحد البنوك ليطلع عليها محاولا إقناع نفسه بأنه ليس واهما. وها نحن نري "آدم" في حالة تكاد أن تحيله إلى مجنون حقيقي- ربما هي نفس الحالة الموازية للإنسان في حياته الفكرية وإيمانه باليقين أو عدم اليقين- إنها مأساة حقيقية تكاد أن تخنقنا إذا لم نجد لها مخرجا، ولذلك فهو يرسل في خطاب جديد إلى الجهة التي من المفترض أنها تتلقي تقاريره ويطلب منهم أن يؤكدوا له أنه ليس واهما وأنه لا يراسل نفسه فيطلب منهم عمل إعلان في الجريدة عله يكتسب نوعا ما من اليقين، وبالفعل يقرأ إعلانا في الجريدة يقول "إلى الباحث عن الحقيقة" ويتم تحديد موعدا للقاء مع "موسى" (عبد الرحمن أبو زهرة)- ذلك الاسم الحركي الذي كان يراسله- في جامع السلطان حسن، ولقد كان لقاء "موسى" (عبد الرحمن أبو زهرة) مع "آدم" (أحمد زكي) ذو دلالات دينية خطيرة؛ فأن يلتقي موسى مع آدم في المسجد فيه إسقاط علي "الوادي المقدس" الذي كلم الله فيه موسى، ثم هناك موقف موسى حينما يسأله "آدم" عن كونه يعرف شيئا عن المهمة فيجيبه مترددا خائفا (أنا معرفش حاجة ومش عايز أعرف حاجة)- هل عدم المعرفة هنا نابعة من عدم قدرة أي مخلوق علي معرفة شئ بعد معرفة الله؟- إنها بهذا المعني تكون الإسقاط المباشر علي لقاء موسى "كليم الله" مع ربه وحديثه معه تعالي، ولا نستطيع هنا الزعم بأن الربط الديني هنا ضعيفا ولعل ما يزيد موقفنا يقينا قول "موسى" (عبد الرحمن أبو زهرة) "لعمر الأسيوطي" (عزت أبو عوف)- ضابط المباحث المطارد "ليحيي أبو دبورة" (أحمد زكي)- حينما يسأله عن حقيقة موقفه في القضية وعن صاحب تلك التقارير، هنا نجد "موسى"- ساعي البريد- يؤكد له قائلا (أنا مجرد رسول) هذا التأكيد من قبله علي كونه مجرد رسول يقوي داخلنا اليقين عند الربط بين المشهد والقضية الإيمانية. بل إن القضايا الكونية الكبرى لا تنتهي عند هذا الحد لدي "داود عبد السيد" ذلك المثقل بالعديد من الهموم والأفكار الفلسفية الكبرى، فنراه في ذلك المشهد الجميل الذي أبدعت فيه كاميرا "سمير بهزان" فاستعرضت بانسيابية رائعة وجمال أخاذ وألوان محددة هادئة "أرض الجولف" ذلك المرتع الأخضر الجميل الذي أحالنا إلى حالة توحد جميلة وكأننا بالفعل في الجنة الموعودة، وقد لا ننسي أيضا ذلك المشهد الذي قتل فيه "يحيي أبو دبورة" أفراد العصابة وعلي رأسهم "بسيوني أبو صباع" (مخلص البحيري) في الغابة، فلقد كانت الكاميرا تتجول بطلاقة غير مألوفة لترتفع في مشهد ذي "منسوب مرتفع" أمتعتنا فيه الرؤية كثيرا، وهو اختيار ناجح من "داود عبد السيد" لمصور محترف صاحب أفلام ناجحة مثل (القبطان للمخرج "سيد سعيد" 1997، رومانتيكا للمخرج "زكي فطين عبد الوهاب"1996، ميت فل للمخرج "رأفت الميهي"1996، تفاحة للمخرج "رأفت الميهي"1997، وغيرها من الأفلام) نقول أن ذلك المشهد الذي التقي فيه "عمر الأسيوطي" (عزت أبو عوف)، "يحيي أبو دبورة" (أحمد زكي) ليقدم يحيي تلك الوثيقة التي وثقها له رؤساؤه عند تكليفه بالمهمة في محاولة منه لتبرئة نفسه بعد أن صدر قرار اعتقاله والحجز علي أمواله فيه تعميق لأفكار "داود عبد السيد" فنري "عمر الأسيوطي" يصر بعد قرائتها علي كون "يحيي" مجرد قاتل وفاسد وخارج علي القانون وأنه يشك في هذه الوثيقة فما كان من يحيي/ آدم إلا أن قال له (انت عامل زي إبليس لما طلب منه ربنا انه يركع لآدم فرفض وتكبر وبقي إبليس) مثل هذه العبارة من يحيي/آدم "لعمر الأسيوطي" وفي هذا المكان الذي هو أشبه بالجنة الموعودة فيه دلالة إيمانية أخري؛ فالجنة هي أرض الجولف وآدم (أحمد زكي) مع إبليس الذي يرفضه (عزت أبو عوف) ثم يفترقا كل في طريقه ليأخذ كل منهما طريقا مضادا للآخر معطيا ظهره لزميله وكأنهما نقيضين لا يمكن التقاؤهما علي الإطلاق. كل هذه الفلسفة الدينية وكل هذه التساؤلات والقلق الوجودي بل والتأثر العميق بالأساطير اليونانية القديمة يقدمها لنا "داود عبد السيد" بنجاح يكاد أن يحسد عليه، بل هو يقدم لنا الشخصيات المتاجرة في المخدرات ذات بعد إيماني، فنري المعلم "هدهد" (حمدي غيث) علي الرغم من القسوة المميزة له إلا أنه يحزن حزنا عميقا حينما يقتل صبيه الذي يعمل معه نتيجة إفشاؤه سره للشرطة فيقول المعلم "هدهد" "لآدم" (القتل ده شئ عظيم، واللي قتل لازم يقتل) فعلي الرغم من يقينه بأن من قتل يقتل إلا أنه يمارس فعل القتل بلذة و قسوة غريبة و كأنها ثنائية إيمانية داخله، بل انه يرفض الاتجار في الهيروين حينما يعرض عليه "رجب أبو حسين" ذلك متعللا بأن (الحشيش مش جايب همه) وأن الهيروين يكسب خمسة أضعافه فيرفض المعلم "هدهد" لأن ذلك حرام، إنها شخصيات تعاني ثنائية دينية أو هو قلق وجودي أو ديني نستطيع إسقاطه مباشرة علي "داود عبد السيد" ذاته. ولكن علي الرغم من هذا الزخم الديني الفلسفي و هذا العمق المأساوي الذي يسيطر علي أجواء الفيلم نجد شيئا ما وكأنه النسيم يجمّله و يشعرنا بنوع ما من الراحة في علاقة الحب الهادئة التي تربط بين "آدم" (أحمد زكي)، "فريدة" (فيدرا المصري) تلك المهندسة المعمارية التي سعي للتعرف عليها فأحبها واطمأن إليها، إلا أن حياته كتاجر للمخدرات وعدم قدرته علي البوح بالحقيقة لأحد حتى وإن كانت زوجته (فيدرا المصري) عكر صفو تلك العلاقة فابتعدت عنه عندما أخبرها عن تجارته في المخدرات علي الرغم من حديثه إلى نفسه قائلا (حاييجي يوم وتعرف اني لما قلت لها الحقيقة كنت بكدب) فعدم قدرته علي الاعتراف تقلب حياته رأسا علي عقب ومن ثم تتسع بينهما الهوة، فها هي تحاول تحطيم بوابة القصر الذي تعيش معه فيه حينما يرفض خروجها وحدها بدون "البودي جارد" فكأنها في هذا المشهد تحاول تحطيم تلك القيود القوية التي تربطها به- هذه الخيوط/ القيود التي هي الوجه الآخر لحبها وتعلقها الشديد به- كما نراها تلقي بنفسها في "البيسين" داخل الفيلا حينما يحدثها فكأنها تحاول كظم غيظها أو هي تغسل نفسها من ذلك الحب العالق بها. وكم كان جميلا ذلك المشهد الذي قدم فيه (أحمد زكي) تلك الوردة الجميلة لزوجته (فيدرا المصري) محاول إرضائها أو مصالحتها، فها هو إصبعه يجرح حينما يحاول اقتطاف الزهرة فتقترب منه بعد نظرة عميقة مداوية له جرحه و تأخذها منه، بل إن الموقف أشبه بالقربان الذي يقدمه "آدم" "لحواء" من أجل إرضائها حتى وإن كان الثمن هو دمه المسفوح. ولكن مع كل هذا النجاح الذي كلل به "داود عبد السيد" فيلمه إلا أنه وللأسف وقع في مجموعة من الأخطاء ما كان يقع فيها عملاق في حجم "داود"، ففي المشهد الذي جمع بين "يحيي أبو دبورة" (أحمد زكي)، والمعلم "هدهد" (حمدي غيث)، (سامي العدل) في جزر اليونان نري زوجات هؤلاء المعلمين جميعا ينتحين أحد الأركان ليدور بينهن حديث النميمة ولوك الكلام والثرثرة ومص الشفاه علي "فريدة" (فيدرا المصري) تلك التي ترتدي "البيكيني" وتظهر جسدها أمام الجميع بلا خجل- فكأننا في إحدى الحارات الشعبية تجتمع فيها مجموعة من النسوة التي لا يشغلها سوي الثرثرة وعدم ترك "خلق الله" في حالهم، كذلك فان المشهد لم يثر أحداث السيناريو ولم يؤثر في تطوره علي الإطلاق- اللهم إلا في تشويه السيناريو- فكانت سقطة من "داود عبد السيد" تلتها سقطة أكثر ضجيجا وأشد قوة في ذلك المشهد الذي تم فيه لقاء "عمر الأسيوطي" (عزت أبو عوف) مع "يحيي أبو دبورة" (أحمد زكي) في "نادي ال36 في أحد فنادق القاهرة" (مشهد البرج العالي) والذي طلب فيه "عمر الأسيوطي" من "يحيي أبو دبورة" أن يتخلي عن نشاطه في الاتجار ويسافر خارج مصر؛ فهو لا يرغب في القبض عليه بل و يخبره أنه قد رفع عنه الحراسة وتم إلغاء قرار الاعتقال، هذا المشهد يكاد يكون صورة كربونية- صورة طبق الأصل- لأحد مشاهد فيلم The heat "اللهيب" لكل من AL-Patcino "آل باتشينو" ،"روبرت دي نيرو" Robert de niro فقد طلب "آل باتشينو"- بصفته ضابط شرطة مطارد- من "روبرت دي نيرو" أن يتخلي عن نشاطه الإجرامي لأنه لا يرغب في القبض عليه أو قتله، انه نفس المشهد- مع الفارق البسيط- مضمونا و أداءا و هي سقطة كان دويها مسموعا لفرط قوتها. كذلك لم يكن مقبولا علي الإطلاق من مخرج في حجم "داود عبد السيد" أن يقوم باقتباس قصة فيلمه من الفيلم الشهير Deep cover الذي قدمه الممثل الذي تحول إلى الإخراج فيما بعد "بيل ديوك" حيث نري الشرطي المتخرج Rookie cop الذي يؤدي دوره "لورانس فيشبرن" إذ يزرعه رؤساؤه وسط مهربي المخدرات لأن وجهه جديد وغير معروف لهم ويبدأ فعلا في ممارسة تجارة المخدرات معهم أثناء عمله كمخبر لما يحدث داخل دهاليز مخابئهم، ولكن الفساد يصيبه تدريجيا حتى يصبح في النهاية تاجرا للمخدرات، لعلنا نلاحظ هنا مدي التأثر الشديد من قبل "داود عبد السيد" بفيلم Deep cover من خلال أحداثه إلا أنه إحقاقا للحق فان "داود" من خلال معالجته السينمائية للقصة التي تأثر بها كان أكثر عمقا من القصة الأصلية التي أخذ عنها فيلمه نظرا لما أضفاه عليها من مسحة وبعد ميتافيزيقي فلسفي بل وديني عميق أدي في النهاية إلى خروج تجربته في شكل يكاد أن يكون أكثر نضجا من التجربة الأجنبية-حتى أننا نكاد أن نقول علي فيلم "داود" أنه الأصل وأن فيلم "بيل ديوك" هو الصورة- إلا أن ما نأخذه علي "داود" هو عدم الإشارة إلى مصدره الأساسي الذي تأثر من خلاله بفيلمه الذي قدمه لنا. إلا أنه بالإضافة لهذا كان مشهد النهاية غير موفق علي الإطلاق وكأن الفيلم كان ذو نهايتين؛ فلقد تيقن المشاهدون جميعا بأن الفيلم قد انتهي في مشهد لقاء "عمر الأسيوطي" مع "يحيي أبو دبورة" في أرض الجولف عندما أعطي كل منهما ظهره للآخر حتى أن العديد من المشاهدين قاموا مغادرين لقاعة السينما إلا أننا فوجئنا بالمخرج "داود عبد السيد" يسترسل في أفكاره ويصر علي استمرارية الأحداث بلا أي داع لذلك، فالمشهدين أو الثلاثة المعروضين بعد ذلك لم يضيفوا جديدا في التطور البنائي للسيناريو بقدر ما عمل علي تشويه صورة "فريدة" (فيدرا المصري) لدي المشاهد، فها هي الزوجة التي اغتصبها زوجها تعود إليه مرة أخري بملئ إرادتها سعيدة محبة له. وهكذا بالرغم من النجاح المدوي الذي قام به "داود" وخاصة قدرته علي الإمساك بنسيج الفيلم وعدم إفلات خيوطه من يده أو ترهله بالرغم من أنه يتحدث عن عالم المخدرات والخارجين علي القانون والقتلة، ذلك العالم الذي كان من الممكن أن يؤدي إلى انحراف أحداث السيناريو تماما إلى فيلم من أفلام الحركة إلا أن قدرة "داود عبد السيد" وثقافته ومقه، كل ذلك ساعده علي الإمساك بنسيج الفيلم كي يسيّره كما يشاء. ولكن بالرغم من ذلك كله فشل فشلا ذريعا في تلك المشاهد الثلاثة فكانت سقطات قوية تدوي إحداها ويعلو صوتها علي صوت سابقتها فأصابتنا جميعا بالصمم!! موقع "التجديد العربي" في 27 نوفمبر 2005 |
"حكايا من الواد".. تشوه الجزائري أسامة إفراح** كثيرة هي الأسباب التي دفعت الجزائريين إلى التشكيك بداية بفيلم "حكايا من الواد"، منها حرص المنظمين غداة عرضه على عدم حضور الصحافة الوطنية الجزائرية لعرض الافتتاح، وسط حضور رسمي جزائري كبير من وزراء وسفراء ورجال ثقافة، إضافة إلى ممثلين عن شركة "غومونت" الفرنسية منتجة الفيلم، والعائدة بقوة إلى السوق الفنية الجزائرية. فالفيلم الذي تكلف إنتاجه 5 ملايين يورو، وحمل توقيع المخرج الشاب جمال بن صالح تأليفا وإخراجا، بدا بنظرة سريعة إلى قصته عاديا، فهو لم يخرج عن المألوف في شيء، كما أنه ليس أول فيلم تنتجه جهات فرنسية ليتم عرضه بالجزائر وتقديمه على أنه إنتاج جزائري بدعم حكومي سخي أغضب الجماهير الجزائرية وأزعجها رغم أنه وفي جزء منه قدم صورة لحلم شباب فرنسي يرغبون في أن يكونوا عربا ومسلمين. فبعد المتابعة الدقيقة والعميقة من الجماهير الجزائرية ظهرت الأسباب التي حملت أكثر مما توقعوا؛ فالفيلم امتدح طرفا (الشاب الفرنسي من أصل جزائري)، وقدم طرفا آخر بصورة إيجابية (اليهودي الجزائري)، ونال من طرف ثالث (شخصية الجزائري المسلم). ذلك وغيره كثير في تفاصيل هذا العمل الفني أثار ضجة إعلامية واسعة حول: من أنتج الشريط؟ ومن صوره؟ ومن مثّل فيه؟ ومن هيأ له استقبال الأبطال في الجزائر التي ظلم أهلها؟. تشريح الفيلم ينطلق الفيلم من العاصمة الجزائرية، بزمان من صيف 1988، قبيل أحداث الخامس من أكتوبر، شاب فرنسي من أصول جزائرية يدعى "جوني" ويدعو نفسه "عبد البشير" يرغب في القدوم إلى الجزائر للبحث عن قرية والده، يتحدث عن رمضان وعن الصيام ويلبس قميص الفريق الجزائري لكرة القدم تارة، وجبّة تارة أخرى. قرر الشاب الفرنسي السفر خفية إلى الجزائر مع عائلة صديقه "ياسين" -الذي يقبل مكرها مرافقة أبيه- في زيارتهم للوطن خوفا من أحد مروجي المخدرات، الذي يعاني من هوس الإعجاب بالحياة الفرنسية. فيما يجد أمامه صديقه الفرنسي "عبد البشير" (جوني) سعيدا بكونه في الجزائر وينجح دوما حيث يفشل "ياسين"، هذا الأخير الذي يريد والده تزويجه فتاة لا يعرفها، بينما يهيم هو في حب فتاة قابلها على متن الباخرة ثم في العاصمة، فيقرر الهروب إلى أسبانيا. أما "عبد البشير" فيجد صدفة قريته التي طالما بحث عنها، وبالتالي أصوله، ويتزوج في الجزائر ويستقر بها محققا حلمه في العودة إلى موطن والده. الفيلم يعد ثالث عمل سينمائي طويل يخرجه "جمال بن صالح" الذي يبلغ من العمر 29 سنة، وغداة مطالعتنا لاسم المخرج يتبادر إلى الذهن فكرتان أولهما: أن المخرج شاب في صدد اكتساب الخبرة؛ وهو ما يعطينا فكرة مسبقة عن السقف الذي يمكن أن يبلغه مستواه. أما الفكرة الثانية فهي الربط بين اسم عائلة المخرج جمال بن صالح واسم عائلة ثالث رجل في الدولة الجزائرية "عبد القادر بن صالح"، رئيس مجلس الأمة الجزائري. ولعل أهم الإيجابيات التي نلمسها في هذا الفيلم هي تفادي الحديث عن جزائر الحرب والإرهاب وحالة الطوارئ؛ إذ استطاع المخرج وكاتب السيناريو بن صالح أن يعطي صورة لمجتمع يحب الحرية ويعيش بسلام، حيث تدور أحداثه في صيف 1988. ومن جهة أخرى، يلاحظ المشاهد كم الأخطاء الموجودة في الفيلم، وهي أخطاء تجعل المرء يدرك أنه لم يُبْذل جهد يذكر في كتابة السيناريو، ومن ثم في تصويره، خاصة عندما يعود المخرج بالمشاهد 17 سنة إلى الوراء، فتصبح دقائق الأمور جد مهمة؛ فهي التي تمنح إحساسا بالعودة الفعلية إلى تلك الحقبة. ومن هذه الإخفاقات: اختيار موسيقى الفيلم التي لم تأت لتناسب فترة الثمانينيات، إضافة إلى قفزات في مشاهد الفيلم، وأماكن تصويره دون أدنى مبرر منطقي أو ربط يقبله العقل، إضافة إلى أخطاء إخراجية وتصويرية أخرى لا مجال للخوض فيها. يضاف إلى ذلك غياب الحبكة في السيناريو، وإهمال التفاصيل التي ترفع من قيمة أي عمل أو تنزلها إلى الحضيض، وربما يعود هذا للمدة التي تم فيها كتابة السيناريو. فبحسب تصريحات مخرجه، فإن الفيلم لم يستغرق كتابة السيناريو له وإنتاجه أشهرا معدودة، ويمكن للمشاهد دون عناء ملاحظة السرعة التي صوّر بها، والتي صارت تسرعا إذا ما ربطناها بالأخطاء العديدة التي وردت في هذا العمل السينمائي. تشويه للجزائري غريبة هي الطريقة التي صوّر بها المخرج "بن صالح" الفرد الجزائري؛ فمشاهد الفيلم يحتار غداة مشاهدته للفيلم في شخصية الجزائري، فقد قدمت بين صفة الإنسان المتوحش والأبله في أحيان أخرى، والتي تصل إلى حد الإحساس أن الفرد الجزائري لا يزال يعيش في فترة ما قبل التاريخ. فكثيرة المشاهد التي تعطي ذلك الانطباع؛ بدءا من مشهد صعود المسافرين بسياراتهم في الباخرة العائدة إلى الجزائر، والصراخ والحركات القوية والسباب وغير ذلك من الأمور التي بدت المبالغة فيها واضحة وجلية لدرجة مقززة. ثم يأتي مشهد الاتصال الهاتفي الذي يجريه "ياسين" بفرنسا، وكيف أن الجزائريين متأخرون وكأنهم لا يعرفون ما هو الهاتف، وبعده مشهد المقهى حين يبدأ "القهوجي" بالصراخ في وجه زبائنه دون سبب؛ حيث يظهر في صفة "البليد والساقط" في ذات الوقت. أما مشهد زيارة الأقارب في الصحراء فحدث ولا حرج؛ إذ ظهر سكان الصحراء المعروفون بقيمهم النبيلة وثقافتهم الرفيعة وكأنهم من سكان الكهوف، أو متوحشي العصور الوسطى، وتم التركيز بإسفاف على أسنانهم التي تم طلاؤها لتظهر مقرفة للعيان. توظيف الدين.. والمشهد الأخير كثير من الأخطاء يمكن أن يغفرها المشاهد لأي مخرج كان، ولكن ملاحظات أخرى أكثر خطورة، كونها تتعلق بالدين الإسلامي، ومن هذه الملاحظات الاسم المختار لشخصية "جوني لوكليرك" بطل الفيلم الفرنسي وهو "عبد البشير"؛ والقصة هنا أنه ربط بتعليقات ساخرة كثيرة، مثل "بشير.. ما هذا الاسم؟ أنا لم أسمع به من قبل..." أو "هذا الاسم أحمق، ثم إنه غير موجود البتة"، وغير ذلك مما تضمنه الحوار. ومن جهة أخرى، نجد توظيف الدين في الحوار من أجل الإشهار؛ حيث يبدأ "عبد البشير" في نصح الشيخ المتشرد الذي دله على قبر أبيه حين وجد قريته صدفة، ويقول له إذ وجده يشرب "الجعة" (نوع من المسكرات): "هذا ليس جيدا يا شيخ، ثم إن الخمر حرام"، ليفاجأ المشاهد بصورة مكبرة لقارورة "جعة"، فيجيب المتشرد: "ولكن جعة كذا... أمر مختلف..."، وكان من الأجدر بالكاتب أن يجد حجة أخرى يربط بها هذه الومضة الإشهارية بالسيناريو عدا الحرام والحلال، وهذه أمثلة تغني عن الحديث عن المشاهد الإباحية في الفيلم المحسوب على أنه جزائري. بعد كل ما سبق ذكره، بقي الفيلم يحظى بفرصة ما قد تنجيه من النقد، وقد تترك الباب مفتوحا أمام المشاهد لكي يعجب به، ولكن المشهد الذي جاء في أواخر الفيلم كان مفاجئا للجميع: ففي العرس الذي يقام آخر الفيلم يلقى الابن الأصغر في العائلة الجزائرية المغتربة رجلا يلبس لباسا يهوديا، ويسأل شيخا أمامه "من هذا الرجل؟" فيجيبه "هو رجل يهودي"، فيتعجب الطفل "وهل دعوتم يهوديا للعرس...؟" ويتواصل الحوار إلى أن يقول الشيخ: "كان جدي يقول: إن مجتمعا بلا يهود هو مثل محاكمة دون شهود...". فهذا المشهد ومقدار الإساءة وطبيعة الصورة التي سيقت بها الشخصية الجزائرية جعلت غضبا عاما يسود المشاهدين عبّر عنه في الصحافة الجزائرية، في ضوء وجود عوامل تاريخية لها علاقة بالجزائر أولا، والقضية الفلسطينية، تجعل المشاهد يستنكر، بل يرفض فيلما كاملا جاء محملا بالأخطاء والهفوات. خلفية سياسية في حالة هذا الفيلم هناك ما يشي بأن خلفية سياسية وربما اقتصادية تقف خلفه، فكان توقيت عرض الفيلم، واحتفاء الجهات الرسمية به، وثقل الشخصيات التي حضرت العرض الافتتاحي عوامل اجتمعت لتلفت الأنظار إلى الخلفيات السياسية. فهو يأتي قبيل التوقيع على معاهدة الصداقة بين الجزائر وفرنسا، وبُعيد التصعيد الذي عرفته هذه العلاقات إثر القانون الفرنسي الممجد للاستعمار والذي قوبل برد جزائري عنيف، وأعاد تسليط الأضواء على قضايا من يسمون بـ"الحركة" (أي عملاء فرنسا ومسألة عودتهم إلى الوطن)، إلى جانب من يسمون "الأقدام السوداء" (وهم المعمرون الذين غادروا الجزائر مع استقلالها). ورغم ذلك تبقى علامات التعجب والاستفهام على تصرف كهذا: هل هي محاباة لمخرج من عائلة رجل دولة؟ أم أنه افتخار بعمل أريد له أن يمثل الجزائر وأخرجه شاب يجهل الكثير عنها؟ وهل كان المشهد عن اليهود خطوة عمدية في طريق التطبيع برضا من الحكومة، أم أنه كان خطأ من أخطاء المخرج العديدة التي لا يغفر له تقديمه في جانب آخر في الفيلم شباب فرنسي يعشق التقاليد والحياة الإسلامية، ويريد البقاء والعيش في بلد والده وقريته الصغيرة؟. **صحفي جزائري موقع "اسلام أنلاين" في 28 نوفمبر 2005 "حكايات من الواد".. الحلم العربي لفرنسيين باريس- هادي يحمد يصومون رمضان ويسافرون إلى المغرب العربي، ويرددون "إن شاء الله" بلكنة عربية، ويعشقون شرب الحساء.. إنهم فرنسيون، ليس لفرنسا هذه الأيام حديث سوى عنهم عبر فيلم "حكايات من الواد" الذي يدور حول حلم فئة من الفرنسيين بأن يكونوا عرباً ومسلمين. الفيلم الذي بدأ عرضه في قاعات السينما الفرنسية يوم 18-10-2005، من إخراج "جمال بن صالح" (26 عاماً)، المخرج الفرنسي من أصل جزائري، والذي ولد في ضاحية "سانت ساندني" بشمال العاصمة الفرنسية باريس. ويعد هذا الفيلم الثالث لنفس المخرج بعد فيلمه الأول "السماء والعصافير.. وأمك" الذي أخرجه عام 1999، وفيلمه الثاني "الغارة" في عام 2001. وعبر شخصية "جوني لكلارك" الشاب الفرنسي ذي الشعر الأشقر والعينين الزرقاوين، الذي ولد لأب إلزاسي (نسبة إلى منطقة الإلزاس)، وأم نورماندية (منطقة نورماندي)، يأخذنا المخرج في رحلة سينمائية عبر شريحة كبيرة من الفرنسيين المنجذبين للثقافة العربية الإسلامية، والذين يحلمون بأن يكونوا عربا ومسلمين، متجاوزين في ذلك كل العوائق البيولوجية والثقافية والجغرافية. تسلل عكسي تدور قصة الفيلم في صيف عام 1988 حينما يستعد المغاربة في فرنسا للعودة إلى بلدانهم الأصلية لقضاء العطلة الصيفية أو "البلاد" كما ينطقها "جوني" بلهجته العربية. وأثناء صعود عائلة "ياسين" إلى الباخرة التي ستقلهم إلى الجزائر يكتشفون أن "جوني" قد تسلل إلى الباخرة خلسة دون جواز سفر أو تذكرة. ومن خلال هذا المشهد، يصور المخرج عملية تسلل فرنسي خلسة إلى الجزائر، في طرح عكسي لما يحدث الآن من هجرة مغاربية وإفريقية سرية إلى "الجنة الأوربية". وبجلبابه العربي، وترديده لألفاظ عربية من قبيل: "والله" عند الحلف و"باسم الله" عند الأكل و"إن شاء الله"، يعبر "جوني" في الفيلم عن انجذابه للعرب وللثقافة الإسلامية. ويذهب في أحد مشاهد الفيلم إلى حد تحذير صديقه وجاره "ياسين" في العمارة التي يسكنها بإحدى ضواحي باريس، من "الكذب في رمضان". وعندما تطالبه أمه بأن يخلع عنه هذه الجبة قائلة له: "اخلع عنك جبة أيام السبت اليهودية"، يرد عليها "جوني" قائلاً: "إنها ليست جبة أيام السبت، إنها جبة رمضان يا أمي". ويذهب "جوني" بطل الفيلم إلى ما هو أبعد من ذاك لإبراز تصميمه على أن يكون عربياً؛ إذ يقدم نفسه في الجزائر للذين يسألون عن اسمه على أنه "عبد البشير". ورغم دهشة السائلين، فإن "جوني" يواصل رسم صورة عربية لنفسه، عندما يرفض تقبيل إحدى المعجبات به قائلا لها: "إنه يفضل التقدم لخطبتها من أهلها بطريقة شرعية". وإلى جانب تصويره فئة من الفرنسيين المغرمين بالثقافة العربية الإسلامية عبر فيلمه "حكايات من الواد" (الواد حي من أحياء العاصمة الجزائر)، يعود المخرج "ابن صالح" إلى موطنه الأصلي وموطن والديه. وقد اختار المخرج عام 1988 لأحداث الفيلم لعرض ما كانت تنعم به الجزائر من هدوء قبل الحرب الأهلية التي عصفت بالبلاد معظم سنوات تسعينيات القرن الماضي وأوائل القرن الحادي والعشرين. تعبير عن واقع ولا يختلف الممثل الفرنسي "جيليان كوربي" الذي جسد دور "جوني" في الواقع عن بطل الفيلم في ولعه بالثقافة العربية والإسلامية. ففي تعليق له على الشخصية التي أداها في الفيلم يقول "كوربي": "هذا الفيلم يصور شيئا من حقيقتي، فشخصية جوني ليست خيالية؛ لأن الكثير من الفرنسيين يشعرون أنهم عرب". ويضيف: "بمجرد أن وصلت إلى الجزائر شعرت بأنني بين أهلي، وتبادر إلى ذهني العديد من الأشياء التلقائية؛ إذ إنني من أب فرنسي وأم موريتانية مسلمة، وهذا ما أعانني كثيراً على أداء دوري في الفيلم". ويعيش في فرنسا حوالي 5 ملايين مسلم من إجمالي سكان البلاد البالغ 60.6 مليونا، وهي أكبر أقلية مسلمة في كل دول أوربا الغربية. وينتمي الكثير من المسلمين الفرنسيين إلى الجيل الثاني من المهاجرين القادمين من دول المغرب العربي والشرق الأوسط، ويعيش غالبيتهم في العاصمة باريس وضواحيها. موقع "اسلام أنلاين" في 22 أكتوبر 2005
|