المشهد العام للنقد السينمائى فى مصر: تراجع دعاوى التحريم.. ظهور الشللية الجديدة أمير العمري |
أصبحت الخريطة الحالية للنقد السينمائى العربى أكثر تعقيدا وتشابكا عما كان الأمر فى الماضى، مع ظهور عشرات المطبوعات فى المشرق والمغرب، وظهور برامج تليفزيونية جديدة تتخذ من السينما موضوعا لها، ومهرجانات تقام فى مدن وبلدان كثيرة فى عالمنا العربى ربما لم تكن تكترث فى الماضى بالسينما. وقد أصبح من المتاح حاليا وبسهولة، اقتناء الأفلام على الاسطوانات المدمجة، وتحميل الأفلام أو مشاهدتها على أجهزة الكومبيوتر المنزلى، بل وتشييد عدد كبير من دور العرض السينمائى الجديدة المتعددة القاعات بمواصفات متقدمة بعيدة مما شجع قطاعا من أبناء الطبقة الوسطى على العودة إلى دور السينما، وإن كان الجانب السلبى لهذا التوجه الجديد قد تجسد بوضوح فى ظهور وانتشار نوع جديد من السينما الاستهلاكية السريعة المصنوعة خصيصا لهذا الجمهور. منطلقات أخلاقية لقد تراجع الحصار الذى كان مضروبا حول السينما كمنتج فنى حديث، كما تراجعت إلى حد كبير، فتاوى تحريم السينما وتحريم الفن عموما فى ضوء الهجوم المضاد الأخير فى مواجهة تمدد الدعاوى السلفية الرجعية المغرقة فى انغلاقها وتعرض الكثير من المفاهيم السائدة فى المنظومة الفكرية العربية التقليدية إلى هزات عديدة فى أعقاب أحداث سبتمبر 2001. وقد أصبح حتى عدد من المواقع الإسلامية ذات التوجهات الإسلامية على شبكة الإنترنت، يخصص قسما للنقد السينمائى، وإن كان تناول هذه المواقع للأفلام ينطلق عادة، من وجهة نظر أخلاقية ساذجة. إلا أن ما تحقق من تقدم، فرضه فيما بعد، تلاحق الأحداث السياسية، لم يقض تماما على الاتجاهات الفكرية التى ظلت تهاجم السينما وتحرم عرض الأفلام داخل قاعات عامة مظلمة. على سبيل المثال يختتم عبد الجليل الشرنوبى مقاله المنشور فى موقع إسلام أون لاين عن فيلم بحب السيما بقوله: بحب السيما شريط جديد يضاف إلى العديد من العلب التى تحوى مشاهد صادمة أو جملاً مثيرة للجدل أو إسقاطات تجافى الواقع، وكانت كلها تكرس فى النهاية ل تابوه جديد يعطى لنفسه حق الطرح والنقد والسخرية والازدراء بدون أن يراجعه أحد وإلا تحول إلى رجعى ومتخلف وضد الإبداع وظلامى. ورغم ذلك يتخذ هذا الموقع - موقفا متقدما نسبيا من الإفتاء بتحريم السينما، هنا يكتب علاء عبد العزيز قائلا: وما يؤخذ على أصحاب هذه الرؤية- الحكم أن وعيها بالسينما سطحى لا يكاد يفرق مثلاً بين الأفلام التسجيلية أو الروائية أو حتى التعليمية، فضلاً عن أن انحسار زاوية نظر ذلك المفتى الذى يبنى حكمه بالتحريم المطلق بناء على هاجس الفتن اختلاط، عورات... لا يسمح له بإدراك المعانى السابقة فى تأثير السينما، فضلاً عن إمكانية التفكير بكيفية الإفادة منها كأداة لمقارعة الباطل على الأقل من وجهة نظره. بل إن ذلك التعميم التبسيطى المخل من شأنه أن يورط ذلك المفتى بتحريم الأفلام التسجيلية مثلاً كالتى تقدم صورة عن أحوال وعيشة المسلمين فى أى من بلدان العالم، وكذلك الأفلام التعليمية. لا بأس، رغم ما فى المعنى من رغبة فى توظيف للسينما لخدمة الأيديولوجية الدعائية الدينية الطابع. الصحافة والنقد والملاحظ أن التوجه العام للصحافة العربية تجاه النقد السينمائى لم يتغير كثيرا، رغم زيادة المساحات المخصصة للكتابة عن السينما، التى تصل أحيانا إلى أربع صفحات فى ملاحق أسبوعية خاصة، وقد يصل المقال النقدى إلى صفحة كاملة فى صحيفة يومية. فلا تزال النظرة السائدة الغالبة تميل إلى اعتبار السينما وسيلة من وسائل التسلية، وتعزلها بالتالى عن كونها أداة ثقافية، كما تعتبرها أيضا صناعة وتجارة تتدخل فيها عوامل الدعاية والإعلان والترويج، وبالتالى ترحب هذه الصحف بالكتابة السريعة التى تكتفى بالعرض العام بدلا من التحليل، وتميل إلى الوصف بدلا من التعمق فى استنباط الدلالات. وقد استشرت فيما يسمى بالصحافة الفنية فى مصر ظاهرة الصحفيين الذين يكتبون السيناريوهات للأفلام وفى الوقت نفسه يمارسون بانتظام نقد أفلام الآخرين، دون أن يجدوا فى ذلك أى غرابة أو تناقض. وتبدو الأحكام النقدية لهؤلاء النقاد أحيانا صارخة فى تناقضاتها: فمنهم من يكتب متأثرا بما يشاهده فى مهرجان يحضره، فى حين أنك لا تلمس أى تأثر عملى فى الأفلام التى يؤلفها! المهرجانات والدعاية ولا تزال الصحافة تميل إلى الخلط بين التحقيق والمقال النقدى، كما تميل إلى نشر المعلومات بدلا من الرأى أو التحليل. وتتعامل الصحف مع المهرجانات السينمائية العربية باعتبارها ظاهرة إعلامية للترويج لأهمية الدولة التى يقام المهرجان على أرضها واستعراض قدراتها المادية وقدرتها على استقدام كبار نجوم السينما - الأمريكية والغربية أساسا، بل وقد تحولت فكرة المنافسة المزعومة بين عدد من المهرجانات السينمائية العربية إلى موضوع ممتد يستنفذ الطاقة فيما لا طائل من ورائه، وهو ما يبتعد تماما عن النظرة الموضوعية لمحدودية السوق العربية السينمائية. وتظل المشكلة المزمنة تكمن فى قدرة النقد على التأثير فى الجمهور والسينمائيين وبالتالى فى السينما. فالنقد السينمائى لا يستطيع أن يعمل فى الفراغ، يكتفى بالجانب النظرى التاريخى، بل يجب أن يعثر الناقد على النماذج السينمائية الحقيقية التى يمكنه أن يطبق عليها منهاجه النقدى لكى يشرح لجمهوره لماذا يعتبر هذا العمل عملا فنيا حقيقيا دون غيره. وهذا الأمر يرتبط بسوق عربية للتوزيع السينمائى تبدو وقد استسلمت تماما لنوعية واحدة فقط من الفيلم الأمريكى، هى النوعية الاستهلاكية الشائعة فى حين تغيب سينمات كاملة عن ساحة العروض العامة. الشللية الجديدة وبعد أن كنا نشكو من انفراط عقد النقاد فى التسعينيات وانشغالهم بالبحث عن طريق، ومن أن بعضهم فضل اللجوء إلى الطريق المضمونة فالتحق بالعمل لدى شركات الإنتاج والتوزيع، أصبحنا نشهد حاليا عودة إلى التكتل مجددا، من خلال إصدار المطبوعات، إلا أن الشللية تحكم الكثير من توجهات عدد كبير من النقاد الذين أصبحوا يميلون إلى إضفاء نوع من القداسة على أعمال بعض السينمائيين لا يجوز التنقيب فى سلبياتها، بل تكريسها باعتبارها أم الإيجابيات، من هذه الأعمال مثلا أفلام يوسف شاهين فى السنوات الأخيرة التى اعتبرتها جماعة معينة من النقاد، تصدر لها مجلة سينمائية فى أوروبا، موضوعا دائما للاحتفاء والاحتفال رغم ما فيها من سلبيات عديدة. بل ومحاربة أى رأى يتناقض مع ما يرونه وتشويهه والتقليل من شانه بل ومحاولة حظر نشره. الشللية النقدية امتدت أيضا إلى ساحة المهرجانات السينمائية فى مصر والمنطقة العربية، ففكر العصابة أصبح هو الفكر السائد، أى منطق تبادل المنافع وجمعيات المنتفعين والمرتزقة، وطبقا لهذا الفكر تتقرر دعوة النقاد إلى المهرجانات من عدم دعوتهم، وضم ناقد ما إلى لجان التحكيم وتسليط الضوء عليه، أو استيراده من الخارج - إذا اقتضى الأمر- لكى يدير المناقشات فى مهرجان القاهرة أو يمنح جوائز باسم مطبوعته كنوع من الدعاية لها فى مهرجان ما. وأصبح منطق المصالح والعلاقة الوطيدة مع السلطة والمؤسسات الرسمية ومغازلتها مطلوبا فى حد ذاته - على حساب كل القيم الأخري- كضمان لتكريم الناقد والاعتراف به ضمن المنظومة الرسمية المتدهورة السائدة. هذه الشللية الجديدة ارتبطت بالطبع باتساع شبكة المصالح المالية لهؤلاء المشتغلين بالفكر كما يفترض وبحرصهم على الاستفادة من التحول الكبير الذى حدث فى المجتمع فى اتجاه الفساد والفوضى واستغلال النفوذ والرشوة مقابل تمرير أعمال أو وقف أخرى، وهى مصالح ترتبط أساسا بالعمل مع المؤسسات الرسمية أو الارتباط بها. العربي المصرية في 27 نوفمبر 2005 |
الكراهية.. فيلم سينمائى يتنبأ بثورة البؤساء فى فرنسا أحمد يوسف عندما سمعت للمرة الأولى عن فيلم الكراهية للمخرج الفرنسى الشاب ماثيو كازوفيتس كان ذلك بفضل ابنى خالد البالغ عندئذ السابعة عشرة من عمره، ومن خلال عشقه لهذا الفيلم الذى يخلو تماما من أى بهلوانيات سينمائية، ومشاهدته له عشرات المرات باستمتاع بالغ وإجبارى أحيانا على أن أشاهده معه، تيقنت أن الجيل الجديد من الفنانين وعاشقى السينما يقفزون بهذا الفن إلى آفاق جديدة لا تضع خطا فاصلا بين ما تواضع جيلى عليه فى التفريق بين الفن والواقع، فكلاهما امتداد للآخر فى عصر أصبح فيه الفن واقعا موازيا والواقع يتم التعامل معه كأنه عمل فنى. صنع كازوفيتس هذا الفيلم منذ عشر سنوات كاملة، لكنه عاد بقوة إلى الأذهان وصفحات الجرائد بعد الاضطرابات العنيفة التى تشهدها المدن الفرنسية هذه الأيام، وهى الاضطرابات التى تنطلق من الأحياء العشوائية - هل تذكرك كلمة العشوائية بشئ ما؟ - التى يسكنها الفقراء والمهاجرون الذين أقصتهم الديمقراطية الغربية التى تزهو بنفسها رغم أنها ديمقراطية الصفوة وحدهم، وتنسى أن هؤلاء المهاجرين قد جاءوا إلى فرنسا خلال الخمسينات والستينات، ليس لأنها بلد الحريات، وإنما لأنهم يعوضون النقص فى العمالة الرخيصة للأعمال الشاقة مثل البناء والتعدين، وكانت فرنسا ترسل بالشاحنات إلى الشمال الأفريقى لإحضار المزيد منهم، ومن أبنائهم تكون جيل البوير الحاصلين على الجنسية الفرنسية لكنهم يعاملون كمواطنين من الدرجة الثانية، وكان عليهم أن يتحملوا الظلم والكراهية فى أحيائهم البائسة. كان كازوفيتس فى الثامنة والعشرين من عمره عندما كتب وأخرج فيلم الكراهية، وحصل به على الجائزة الكبرى فى مهرجان كان عام 1995، وهو الفيلم الذى يحكى عن ثلاثة أصدقاء شبان من جيل البوير : يهودى فرنسى فقير وأفريقى وعربى، خلال يوم واحد من حياتهم اليومية فى إحدى ضواحى باريس التى تضطرم بالصراعات العنصرية والمواجهات القاسية الظالمة مع الشرطة. إنهم يطوفون الشوارع بلا أحلام أو مال أو عمل، لكنهم أيضا ليسوا مجرمين أو أشرارا ولا يميلون للعنف، وإن كان الجميع يعاملهم -من النظرة الأولي- على أنهم أشقياء يجب الحذر منهم. كان هذا الفيلم قليل التكاليف إلى حد بعيد، بالأبيض والأسود، لكن حركة الكاميرا وإيقاعه وأسلوبه التسجيلى تعكس جميعا رؤية سينمائية وجمالية ناضجة، خاصة أن الفيلم وضع أبطاله وسط غابات الأسمنت التى تملأ باريس كأنها صحراء من البنايات الضخمة التى تلفظ هؤلاء ولا ترحب بهم، لينتهى الفيلم وقد تحول الأفريقى - بعد أن فقد صديقيه على أيدى رجال الشرطة- إلى موقف العنف الذى لم يجد عنه بديلا. بكلمات قاسية عبر ماثيو كازوفيتس هذا الأسبوع - على موقعه على الإنترنت وفى صحيفة الجارديان - عن موقفه الغاضب تجاه ما يحدث فى فرنسا اليوم : كلما حاولت أن أبقى بعيدا عن السياسة، فإن من الصعب أن أبقى كذلك أمام ممارسات سياسيين مثل نيكولاس ساركوزى الذى يبدو فى وسائل الإعلام كأنه أحد الصبيان الباحثين بأى شكل عن النجومية، حتى بافتعال الأحداث التى تعيده إلى دائرة الضوء كلما انحسرت عنه.. إن ساركوزى الذى وصف مثيرى القلاقل بأنهم حثالة يقف ضد كل ما تمثله الثورة الفرنسية: الحرية والإخاء والمساواة لكل الشعب. إن الضواحى تحترق اليوم لأن أهلها الذين نطلق عليهم المهاجرين طوال أجيال كاملة لم يجدوا الحد الأدنى من شروط الحياة التى ظلوا على مدى عمرهم يحلمون بها ويعملون من أجلها.. لقد كانت الكراهية تزيد من نار الكراهية اشتعالا طوال القرون الماضية، ومع ذلك فإن ساركوزى لايزال يعتقد أن القمع هو الطريقة الوحيدة لمنع التمرد، بينما لم نترك للمتمردين إلا الغضب لكى يعلنوا به عن أنفسهم.. إن ساركوزى، وزير داخليتنا والمرشح الرئاسى المقبل، يريد أن يصنع من نفسه نابليون جديدا، فإذا تركناه يفعل هل يمكننا عندئذ -وبعد فوات الأوان- أن نقول إننا لم نكن نعرف؟!. العربي المصرية في 27 نوفمبر 2005 |