الشعر والشذوذ: شيطانُ بازوليني دلور ميقري |
اوستيا؛ الفجر الأخير فجر يوم الثالث من تشرين الثاني عام 1975، بدت الساحة الخلفية لأحد الملاعب الرياضية، الشعبية، على كآبتها المعهودة؛ أو هذا على الأقل ما شعر به عمال النظافة، المبكرين كعادتهم إلى المكان المهمل كأمه ، "اوستيا"؛ الضاحية الفقيرة المهملة من أمها الكبرى، روما . على طرف الساحة، المتطرف، كان ثمة ظل متطاول، قد شغل بقعة تستظل، بدورها، بالضباب المضاعف والأكثر كثافة في تلك الساعة الصباحية، الخريفية. ما إن إستأنس العمال ما حولهم، من موجودات غارقة في الظلمة الكاذبة، حتى إنجذبت أبصارهم الزائغة نحو ذلك الظل الممدد، القصيّ: كان هذا شبح آدميّ، لا تستريبه أعينهم المتيقظة للتوّ، ولا أفئدتهم الواجفة مع كل خطوة لأقدامهم المتقدمة. بدت الجثة عن قرب، غاية في الرثاثة؛ متهتكة ومسحوقة، كما لو أن آلة جهنمية محقتها عمداً، لإزالة ملامح صاحبها. وحينما إنقشع الضباب نوعاً، وتكاثر الخلق، من مارّة وجيرة فضوليّة، كان واضحاً على أرض ما بدا، للوهلة الاولى، أنه حادث مروع، أثرُ عجلات السيارة المجهولة، الجانية. "شيء رهيب حصل لـ"بيير باولو".. إنه في المستشفى "، بالكاد تستطيع إحدى الصديقات، نقل الخبر لأمّه المتسمرة أمام باب منزلها. هنيهة اخرى، والخبر تعرف به ايطالية، ومن ثمّ العالم أجمع: موت المخرج الشهير بازوليني. لقد طغى الخبر على نشرات الأنباء، والتي راحت تبثه ساعة إثر ساعة، مرجحة إياه على النبأ الآخر، العاجل؛ موت آخر جنرالات الفاشية في اوربة، فرانكو الإسباني: وما كان ليدور في خلد أحد بعد، أن "مريداً" للفاشية الجديدة، من إرتكب جريمة قتل الفنان؛ أو كما تبين لاحقاً، هو من استعمل ك " كطعم " لإصطياد من كان ينعته أيتام موسوليني ب " عدو الكنيسة والوطن ". على أنّ الوطن، وليس الكنيسة على أيّ حال، قد إحتضن بحنوّ وألم وغضب، جثمان شاعر الكلمة والصورة واللون، في تشييع مهيب، ندر أن شهدت مثله حاضرة الفنّ، روما. كان الجمع المتدفق من أنحاء الجمهورية، ومن دول اخرى مجاورة، متشحاً بالسواد المتخلل بأبيض وأحمر اللافتات والأعلام المحلقة. كان عشاق بازوليني هناك، يبكونه بعبرات وغصات كابية؛ وهناك، أيضاً، كان زملاؤه ورفاق دربه الإبداعيّ، من سينمائيين وأدباء وموسيقيين ومغنين: معلمه فيلليني وصديقته الاوبرالية ماريا كالاس وممثله المفضل نينيتو ورفيق رحلاته الروائي البيرتو مورافيا والشاعر القشتالي روفائيل البيرتي.. وآخرون؛ كانوا هناك، حول "سوسانا" المفجوعة بولدها الأثير، الذي رافقها سني حياته كلها. كاسارا؛ بلدة الأجداد حينما كان " بيير باولو " في مستهل العشرينات من عمره، كتب مسرحية ذات خلفية تاريخية، ضمّنها واقعة مرور الأتراك العثمانيين من أراضي بلدته "كاسارا"، عقب تراجعهم من حصار "فيينا "، الشهير والحاسم بالنسبة لمصير اوربة المسيحية. تقع هذه البلدة الصغيرة ضمن منطقة " فريولي "، المحاذية لجبال الألب الحالقة، في أقصى الشمال الغربي من شبه الجزيرة الإيطالية؛ منطقة ذاخرة بأوابد الرومان الحضارية، وبرمزها المؤسس، يوليوس قيصر. المسرحية تلك، والتي إختير لها عنوان من صميم الواقعة التاريخية؛ "في فريولي العهد التركي"، لم تلفت إليها النظر لمماهاتها التاريخ الوسيط مع عهد الديكتاتورية الفاشية حسب، بل وأيضاً لإختيار مؤلفها، الطالب الفتى آنذاك، لغته المحلية، الفريولية، بدلاً عن اللغة الإيطالية الكلاسيكية: وبلغته المحلية هذه، سيدوّن بازوليني معظم آثاره الأدبية، من شعرية وروائية. في مسرحيته، إذاً، يقرن المؤلف الشاب، واقع موطنه، إيطالية الأربعينيات من القرن الماضي، الرازح آنئذ تحت النير الفاشي، بحاله خلال الإجتياح التركيّ (اواخر القرن الخامس عشر للميلاد). وبين لمعات ذاكرة فناننا وشطحات مخيلته، كانت " جوانا لوسيا " ثمرة منسلخة عن الواقعة الحقيقية لصرحه الدراميّ ذاك؛ المرأة القديسة، التي ألهبت حماسة شبّان القرية، بما تخلّقت به من جسارة وتضحية؛ والتي ظل بازوليني، دوماً، يفتخر بإنتساب أجداد أمه لنسبها المقدس. وإذا كانت بلدة " كاسارا "، بمقتضى أسطورة قديستها الحامية، تفخر بوطنيتها، فإنها تباهت أيضاً بتسنم أحد أبنائها لمنصب البابوية في فاتيكان روما. وما كان يلوح في الأفق بعد، أن أحد أخلاف ذاك البابا، الرجعيين، سيفرضُ حُرماً مقدساً ، على إبن البلدة الأشهر؛ عبقريّ السينما الإيطالية. في فتوّة " بيير باولو "، عاشت بلدته حياة داخلية، منطوية على نفسها وناسها. كانت منازل الأهلين منحوتة من صخور البراكين الثائرة، المتشظية من ذلك البرزخ المحدق بجبال الألب. " كاسارا " مافتئت ، تقريباً، على حالها، منذ زيارة اليمن والبركة لمواطنها، بابا روما القرن السادس عشر للميلاد؛ بحواريها الضيقة ذات الجدران الحجرية، المتهدل عليها خصل العرائش والأشجار، المتفرقة عن بعضها، والملتقية جميعاً على مائدة المركز، المستدير؛ بأبنيته الرسمية المتواضعة المحدقة بعَرَصَة تتوسطها نافورة مياه دافقة: المشهد المتناسخ في صورة الخالق الأول لمدن شبه الجزيرة جميعاً، الشبيهة ببصطار الجنديّ؛ جنديّ روما القديمة، ربما، أو زميله، الأكثر فظاظة، من عهد الفاشية المطابق لطفولة وفتوّة شاعرنا، بازوليني: " نافورة المياه، في بلدتي المياه الأكثر عافية ً في بلدتي؛ نافورة من العشق الريفيّ " بولونّا؛ ولادة وفتوّة قدّر لكارلو بازوليني ، سليلُ كاسارا، أن يكون ذلك الجنديّ الفظّ، الذي سيغيّر حياة سوسانا، إبنة بلدته، الشابة؛ الجنديّ المتفاني في إخلاصه لسلكه؛ من سيكبر بكره، بيير باولو، على النفور منه ومن كل ما يمت لعالمه ذاك، الصارم، المطبوع بدمغة الفاشية. ويبدو أنّ مولد هذا الإبن، إثر وفاة صبيّ آخر، شكّل برهة الحنان اليتيمة في علاقة الأب به. كان كارلو منذوراً كليّة لمهنته القاسية، فيتنقل في الأقاليم، وخارج البلاد لاحقاً، تبعاً لمناقلات كتيبته العسكرية. هكذا تنجب له زوجته الجميلة، في ربيع عام 1922، طفلاً رقيقاً، شاء أن يمنح إسم جده لأبيه، بيير باولو. كان الزوجان السعيدان في أول عهدهما بالمدينة الكبيرة، "بولونّا". وبعد قليل سينتقل الفتى "جينو" إليهما في منزل العائلة الجديد، ليكون بجانب شقيقته؛ وهو الخال الذي سيؤثر فيما بعد ، في ميول إبن أخته وأهوائه. على أن عمل الأب العسكري، يضطره مجدداً إلى التنقل فيما بين المدن والبلدات: وسيؤوب بيير باولو، لوحده، إلى مسقط رأسه ، بعد مضي سنوات عشر، لينتسب إلى المدرسة الإعدادية، وليستهلّ ولادته الجديدة كفنان مبدع. في "بولونا"، بدأ تلميذنا بكتابة يومياته في دفتر صغير، رافقه بإستمرار؛ معتمداً عليه في فترة نضوجه الفنيّ، مستلاً منه ما يلزم إشتغاله على صعيد الرواية أو السيناريو أو حتى القصيدة؛ وهي اليوميات التي حملت عنوان " المفكرة الحمراء "، نسبة للون الدفتر، ولم تطبع قبل مرور عشرة أعوام على إغتيال الشاعر. هاهو يتذكر طفولة عامه الثاني، في بلدة من بلدان الرحيل الدائب، حينما ولد شقيقه الأثير، البيرتو؛ والذي سيكون مصرعه، لاحقاً، في حرب العصابات ضد الفاشية، صدمة عنيفة لمشاعره. إنه يستعيد في تلك المفكرة يوماً جميلاً، أفاق فيه على مناغاة الرضيع، وكان فخوراً أمام العائلة الصغيرة التي تحلقت حول طاولة المطبخ، لأنه أول من شاهد يقظته: فيما بعد، سينقل بازوليني صورة مطابقة لسرير شقيقه، الضئيل، المركون عند قدميْ سرير الوالديْن، الفاره؛ سينقل أيضاً السريريْن الأصليين، كما لو أنّ والديه قد تقمّصا شبحيْ لايوس وجوكاستا في فيلمه الشهير "اوديب ملكاً"! صرامة الأب ذي التقاليد العسكرية، وعواطفه المحجوبة في طيات البدلة الرسمية، أخذت الإبن البكر في مجرى ومرسى أمّه الحنون؛ الحاضرة الدائمة في بيت العائلة. وربما أنّ إفتقاد الوالد، مبكراً، بسبب غيابه في رحلة حربية إلى الحبشة المحتلة، يفسّر إنطواء أفراد الأسرة على بعضهم البعض وتلك الأصرة الوثيقة التي ربطت كلاً منهم بالآخر. ولا غرو، إذاً، أن تتأثر دواخل فناننا الفتى، الرهيفة، أكثر من غيره، بتلك الحالة المشتتة، الشاذة، التي وجدت أسرته نفسها في دوامتها: وبعيداً عن التحليل النفسي، الفرويدي ، فلا ريب أنّ ما سُميَ ب " شذوذ بازوليني "، قد إقتضى أسبابه في تلك البيئة الشديدة التعقيد؛ البيئة التي كان شاعرنا أفضل من جسّدها بآثاره المتنوعة. في قصيدة متأخرة، يستعيد من خلالها أجواء الحرب، يقول بازوليني: " في تلك الليلة، عَبْر عَبَراتي الجافة تراءت لعينيّ الأجساد البائسة، للجنود المجهولين المكتسية بذاتها الخضراء، الزيتونية اللون في المكان الأكثر إكتظاظاً فوق السرير ثمة راقداً، مستلق ٍ بعريي وكمالي كي أزلق نفسي للأسفل مع الدم، رويداً وحتى إصباحة الشمس " فريولي؛ سنواتُ الحرب مع إشتداد أوار الحرب العالمية الثانية، وجد بيير باولو نفسه مضطراً إلى قطع دراسته ، ومغادرة مدينة " بولونا "، الكبيرة، المهدَدة بقصف جويّ محتمل من جانب الحلفاء. في عام 1942 كان شاعرنا في أوان تفتح موهبته، فيما موطنه على شفير الإنزلاق إلى المجهول؛ إقالة الجمعية الوطنية للديكتاتور موسوليني وهروع حليفه هتلر لإنقاذه وبدء القوات الحليفة إنزالها البريّ على الشواطيء الجنوبية لشبه الجزيرة الإيطالية. ينضمّ بيير باولو، مجدداً، إلى عائلته الصغيرة، وهي في مستقرها الجديد / القديم، في مقاطعة فريولي، أين قرية الأسلاف " كاسارا "، وأقرباؤهم ومنزل الجدّ للأمّ فيها؛ المنزل الكبير، الذي خصص قسم منه للأسرة الهاربة من أتون الحرب الزاحفة حثيثاً على البلاد. هنا في قرية الأسلاف، المستلقية بتراخ وكسل على وسادة " الألب " الخضراء، وجَدَ صبا بازوليني مقدارَ الحرية المفقود في المدينة الكبيرة، حيث إنضباط المدرسة الداخلية وواجباتها المرهقة. فما لبث أن توارى من فتانا خجله وإنطوائيته اللتان لازمتا أسر مدرسته السابقة، فإنطلق حراً يوفي صباه حقه في متع الحياة الريفية، السهلة المنال: وإلى هذه المرحلة من حياته، تحديداً، تعود اولى محاولاته الجسدية، المثلية. فبحسب مفكرته الحمراء، حاول في القرية مراراً، وغالباً دونما نجاح، أن يظفر بمتعته تلك، عبر علاقات عابرة مع صِبية أصغر منه عمراً. على أنه إرتبط، بعد عامين من إقامته الريفية، بفتاة من أصول صربية، هجّرت الحرب عائلتها. كانت موسيقية موهوبة، مولّعة بعزف سوناتات " باخ "، وغيرها من الكلاسيكيات. وقد قضى بيير باولو ردحاً من الوقت مع صديقته تلك، معوّضاً ساعات فراغه الطويلة، المضجرة، بصحبتها ومرافقة آلات عزفها. في العام الذي تلا إنتقاله إلى القرية، جمع بيير باولو قصائده الاولى، وأصدرها في مطبعة خاصة بمدينة " بولونا "، ضمن دفتيْ كتاب حمل هذا العنوان اللافت للنظر، " أشعار كاسارا "؛ العنوان الموحي بتعلّقه الشديد بموطن الأسلاف، الساحر. وهاهو الآن في قريته الأثيرة، تحت سمائها الخضراء، وبمقربة من نهيرها وصخورها وغاباتها وكرومها ودساكر زيتونها، يواصل الكتابة الشعرية، وكذلك رفد الصحيفة الأدبية، " إل ستاسيو "، التي أسهم بتأسيسها مع زميل آخر من أيام الدراسة في " بولونا ". على أن قسوة مقالاته وإشتداد الرقابة الحكومية على المطبوعات بمسوّغ الحرب، عجلا بنهاية إصدار تلك النشرة الدورية. وتتيح مقالاته المبكرة، تلمّس جوانب من وعيه التاريخي والسياسي، وأيضاً إقترابه من الفكر الماركسي، والذي قرن به سواءً بإنتسابه، فترة قصيرة من شبابه، للحزب الشيوعيّ، أو من خلال أبداعه الأدبيّ والسينمائيّ. تنتهي الحرب، كما هو معروف، بإنتصار القوى المناهضة للفاشية، بيْدَ أن ذلك لم يتمّ بدون ثمن باهظ للغاية؛ ثمن الحرية، الذي قدّر لأسرة بازوليني أن تسدده من دم أحد أبنائها، كارلو؛ الشقيق الأكثر قرباً لشاعرنا في حياته آنئذ، والذي سيشكل مصرعه خلال نضاله مع الأنصار الشيوعيين، ضربة قاسية له. وقبل ذلك، كان بيير باولو قد فقد صديقته الصربية، التي رفض عرضها الزواج منه. أضحت أشعار بازوليني منذئذ، منذورة للثورة على قدَر الإنسان، وأيضاً على النظام السائد وشرائطه الظالمة. هاهو يصوّر وداعه لأخيه الحبيب، الذي لن يلقاه بعد ذلك أبداً: "في لون أبيض الهواء والتراب أبصرتهُ يمضي متأبطاً حقيبته، كما لو أنّ كتاباً ل " مونتالا "، متعلقاً به محشورٌ بين ملابسه القليلة ومسدسه. قميصه، الذي كان مرة ً من متاعي، بدا ضيقاً عليه عند الأكتاف والرقبة الصبيانية.. عدتُ مرة اخرى عبر الدرب الملتهب"
إشارات 1 _ المقاطع الشعرية، الواردة في المقال، من ترجمتنا، عن مختارات لبازوليني: Pier Paolo Pasolini , Gramscis aska , svensk tolkning av Arne Lundgren _ Stockholm 1975 2 _ إستقينا، بشكل أساس، المعلومات عن حياة بازوليني ، من كتاب: Barth David Schwartz , Pasolini Requim , svensk tolkning av Britt Arenander _ Stockholm 1994
موقع "إيلاف" في 21 نوفمبر 2005 |
حديث لم ينشر عام 1972 مع بيير باولو بازوليني أثور ضد ما يسمونها الثقافة الجماعية وأخشى أن تتحول أفلامي إليها عمر اميرالاي كان بازوليني في دمشق حينما التقاه عمر أميرالاي في حديث تلفزيوني هنا نصه: · من أنت بازوليني؟ أنا رجل أعيش وأفكر، ومبتل بطموح يدفعني إلى تسجيل كلّ ما أعيشه وما أفكر فيه بأية وسيلة كانت، سواء عن طريق الشعر، أم الرواية، أم السينما. · في الخمسينيات عملت كمدرّس في بعض مدارس المناطق الفقيرة بضواحي روما، وقد أثرت هذه التجربة في نفسك إلى درجة أنها سميت ب<<بالمرحلة الرومانية>> عند بازوليني. إلى أيّ حدّ يمكن القول أنّ هذه المرحلة قد أثرت أيضاً في أعمالك السينمائية؟ أنا لم أقم فقط بالتدريس في أماكن فقيرة جداً من ضواحي روما، بل عشت هذه الحياة نفسها لأنني كنت فقيراً أنا أيضاً، ولسنين طويلة، خبرت خلالها حياة البؤس والفاقة في هذه الضواحي المحيطة بمدينة روما. هذا الحرمان ساعدني على كتابة روايتين هما (أولاد الحياة) و(حياة عنيفة)، بل وأثر أيضاً على نتاجي السينمائي، ليس فقط في أفلامي الأولى مثل (أكاتونه) و(ماما روما) و(الحصاد) و(طيور كبيرة، طيور صغيرة)، بل أن تأثيره لا يزال مستمراً في أفلامي الحاضرة أيضاً. ففي فيلمي الأخير (ديكاميرون) مثلاً، ما زلت أعرض للحياة في ضواحي روما ولصعاليكها وصعاليك نابولي. · ماذا كان ردّ فعل الجمهور لدى مشاهدته فيلميك (أكاتونه) و(ماما روما)؟ توجد في إيطاليا جماهير مختلفة الأذواق والطبقات. فكما يوجد جمهور متنوّر، وهو الجمهور التقدمي، يوجد أيضاً جمهور بورجوازي يميني وهو رجعي. فنحن إذن تجاه انفعالين مختلفين: الجمهور التقدمي تقبّل أفلامي الأولى بشغف وتقدير، بينما هاجمها الجمهور الثاني البورجوازي بحقد وكراهية. البورجوازية الإيطالية التي لم تعبّر يوماً عن عنصريتها، فجرت بصراحة وعنف عنصريتها وحقدها على الطبقة الرومانية الدنيا، والتي تجلت في فيلمي الأول (أكاتونه). هذه العنصرية الجنونية تشبه إلى حدّ ما العنصرية الأميركية ضد الزنوج مثلاً. · نحن نعلم أن الواقعية الجديدة في إيطاليا جاءت على شكل حركة جماعية التزمت التعبير عن الفترة الصعبة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية. هل يمكن التفكير في ظلّ المعطيات الجديدة لواقع المجتمع الإيطالي باحتمال ولادة حركة شبيهة بالواقعية الجديدة؟ لا يمكن القول أنّ الواقعية الإيطالية الجديدة هي حركة منظمة، لأنه ليس ثمّة منظمة موجودة من هذا النوع. فهذه الحركة ظهرت بشكل تلقائي، أي خلقت من الأشياء، ومن التاريخ الإيطالي: فبعد حركة المقاومة إبّان الحرب الأخيرة، تمكن الإيطاليون من أن يواجهوا حقيقتهم بأنفسهم، وبشكل لم يكن يجرأون حتى على التفكير به أيّام الفاشيّة. بمثل هذه التلقائية والبساطة ولد هذا النوع من الواقعية الجديدة، بدون تنظيمات أو جماعات تعمل من أجلها. لذلك، فإننا لا نستطيع اليوم أن نتكلم عن أيّ تنظيم للسينما الإيطالية على شكل مجموعة كتاب أو مخرجين يعملون معاً في إنتاج معيّن. هذه الواقعية الجديدة انتقلت من إيطاليا إلى فرنسا، حيث نراها مثلاً في أعمال غودار، لكنها سرعان ما عادت مجدداً إلى إيطاليا لتتجلى في الإنتاج السينمائي الإيطالي الأخير. · ما رأيك بالتجمع السينمائي الإيطالي الجديد المعروف ب<<المانيفستو>>؟ أنا لا أنتمي إلى أيّة منظمة سياسية إيطالية، وليس لي اتجاه محدّد. ويمكن القول أنني أجد نفسي إلى يسار الحزب الشيوعي، أو بعبارة أخرى بين الحزب الشيوعي والتجمعات غير البرلمانية، أو بعض المجموعات الفوضوية. ولمّا كان <<المانيفستو>> إلى يسار الحزب الشيوعي، فأنا أجد نفسي إذاً أقرب إلى <<المانيفستو>> من غيره. لكنّي في الوقت ذاته أرى أنّ <<المانيفستو>> لا يمثل اتجاهاً معارضاً ومجدداً للماركسية، بل أراه يحاول أن يجد في الماركسية بكارته الآرثوذكسية، ويرنو بها إلى آرثوذكسية أكثر نقاوة وكمالاً. · هل سبق وعملت في حقل الفيلم التسجيلي؟ نعم، لقد قمت بإخراج فيلم تسجيلي بعنوان (بوادر الحبّ). وكان أشبه بتحقيق عن مشكلة الجنس، شمل إيطاليا بأكملها من شمالها إلى جنوبها، وكان ذلك عام 63 أو 64 لم أعد أذكر جيّداً. ثم أخرجت بعض الأفلام الوثائقية الأخرى السياحية، وفيلم قصير عن الهند، وآخر عن اليمن، وثالث عن أفريقيا، لكنّ هذه الأفلام تبقى أكثر من مجرّد أفلام تسجيلية، لأنها كانت نواة لفيلم طويل أنتجته فيما بعد. وقد انتهيت في الأيام الأخيرة من التحضير لفيلم تسجيلي سأطلق عليه عنوان (12 كانون الأول)، وهو فيلم يمثل الصراع السياسي في إيطاليا منذ عام 1968 وحتى اليوم. وسبب اختيار العنوان يعود إلى أنّ الفاشيين بتأييد من جهات أميركية قاموا بتفجير قنبلة في ميلانو أدّت إلى مقتل 14 شخصاً، وقد اتهمت عناصر اليسار المتطرّف بهذه الجريمة. · لقد حققت أفلامك في ظلّ نظام إنتاجي متشدّد ومعقد جداً، نظام يعتبر أن الفيلم هو سلعة قبل كل شيء، وفي الوقت ذاته أداة فعالة لتمرير الإيديولوجيا السائدة. كيف توصلت حتى الآن إلى التحرّك بين هذين الشرطين؟ إنّي أعتبر ذلك أصعب وأدق مشكلة بالنسبة للمخرج، أكثر منها بالنسبة للكاتب. إذ على المخرج، في هذه الحالة، أن يلجأ إلى حلّ وسط يوفق بين هذين الهدفين. أي أنه يترتب علينا أن نقبل بأن يحوّلنا هذا النظام إلى آلة، لأننا نحن أيضاً بدورنا نحوّل النظام إلى آلة. بمعنى آخر، إننا أشبه بساعد من حديد يمسك بالحبل الذي يشدنا نحن من جهة، والنظام من جهة أخرى: ننتصر نحن تارة، وينتصر النظام تارة أخرى. من المعلوم أنّ النظام البورجوازي تلزمه المعارضة كي يتقدم. فهو من جهة يصنع ويستخدم أتفه أنظمة الكلمة، ومن جهة أخرى يحتاج إلى معارضة داخلية له. ونحن نسعى بأن نقوم بهذه المعارضة بأكثر الطرق عنفاً وتطرّفاً. المهم في الموضوع هو أنه يوجد اليوم في إيطاليا حزبان قويّان: الشيوعي والاشتراكي. وهذا ما نعتبره دعما لنا، ويوفر لأفلامنا رواجاً طيّباً وجمهوراً خاصاً. · هل يمكنك أن تعطينا فكرة عن الأطوار الرئيسية التي شكلت مسيرة تجربتك السينمائية، وما هي خصائصها الفكرية الموازية؟ هذه الأطوار بلغت حتى الآن طورين، إلا أن معالم طور ثالث بدأت تتضّح بعد فيلمي الأخير (ديكاميرون). فالطور الأول يشمل فيلمي الأول (أكاتونه)، ويصل إلى فيلم (طيور كبيرة، طيور صغيرة). وهذه الأفلام الأربعة التي أخرجتها في السنوات العشر الماضية هي أفلام يمكنني أن أطلق عليها: أفلام وطنية شعبية حسب تعبير <<غرامشي>>، مؤسس الحزب الشيوعي الإيطالي أفلام تغلب عليها البساطة، وتتحلى بروح الفروسية، وتبرز بصورة خاصة الأشخاص الشعبيين والحياة الفطرية. أما الطور الثاني، فيبدأ مع فيلم (بيبرون)، وينتهى ب(ميديا)، وهذا التطور هو أكثر تعقيداً وصعوبة من الأول، لأنه لم يعد يمثل الشعب، بل البورجوازية ومشاكلها كما تراها الماركسية وتنظر إليها بكراهية عنيفة. في حين أن الطور الثالث يبدأ بداية شعبية أيضاً مع (ديكاميرون)، لكني لا أعلم منذ الآن كيف سينتهي هذا الطور. لقد بتّ اليوم أنظر إلى الأمور بتفاؤل أكبر وبهدوء أكبر. ولعلّ السبب يعود إلى أنني كلما تقدمت في السنّ صرت أكثر مرحاً. · في أفلامك الأولى كانت الطبقات المعدمة تحظى بالكثير من اهتمامك، وهذا ما جعلها، عرفاناً بالجميل، تصفق كثيراً ل(آكاتونه)، شخصية فيلمك الأول. لكنّ ثمة تبدّلا قد طرأ على مشاهديك منذ أن بدأت تدين في أفلامك الأخيرة تركيبة البورجوازية، حتى أنه قيل بأنك تحولت إلى فنان للنخبة. كيف ترى هذا التبدل، إن وجد طبعاً؟ ثمة أسباب عديدة وعميقة منها أنه لا يروق لي التوقف عند موضوع معيّن، أو اتجاه واحد، بل أتوق دائماً للصعود، لارتقاء جميع درجات الحياة، من حياة الصعاليك وأفراد الطبقات الشعبية الدنيا إلى أعلى طبقات البورجوازية المرفهة. لذلك أنا أحب أن أطرق هذين الموضوعين الشعبي والبورجوازي معاً. ومن جهة أخرى، كنت خلال إخراجي لأفلامي الأولى من (آكاتونه) إلى (إنجيل متى) أكتب أشعاراً مختلفة، تدور كلها حول مشاكل البورجوازية. إلا أنّ ثمة سببا آخر، تاريخيا، دفعني لأن أكون كما تقول أنت: فنان نخبة، وأن أجد في نفسي الرغبة في أن أثور ضدّ ما يسمونها <<الثقافة الجماعية>>. إنه الخوف من أن تتحوّل أفلامي إلى <<ثقافة جماعية>>. وهذا ما دفعني لأن أجعل موضوعاتها أكثر تعقيداً، وصعبة الفهم، وأقلّ استهلاكاً. السفير اللبنانية في 25 نوفمبر 2005
ثـــلاثـــون على قــــتـل بـــازولـيـــنـي احــتــفــاءً بــ"المـــلاك النـجـــس" .ك. في مثل هذا اليوم منذ ثلاثين عاماً، قُتل الشاعر والسينمائي الايطالي بيار باولو بازوليني طعناً على يد شاب في السابعة عشرة من العمر. وُجِد مرميا على شاطىء اوستيا في حال من الدمار العبثي لا تليق بسوى عبثيته المدمِّرة: موت "ثقافي"، كما سمّاه كثر، ونهاية مأسوية كان الشاعر وصفها بتـفاصيلها في نبوية مذهلة. موتٌ، ايضا، تعرّض لحملة لا نهاية لها من الشائعات تهدف الى تشويه سمعة "الملاك النجس"، وقد انكشفت اخيرا حقيقة هذا الموت عندما اعترف بينو بيلوزي، قاتل الشاعر، الذي امضى تسعة اعوام في السجن "تكفيرا" عن فعلته، بأن مرتكبي الجريمة الحقيقيين هم كوماندوس من ثلاثة رجال ضربوا الشاعر حتى الموت، بعدما نعتوه بـ"الشيوعي الحقير". وكان بيلوزي محض شاهد على الجريمة، فألصقوها به وهددوه بالاعتداء على عائلته اذا باح بالحقيقة يوما. واذ "تحتفل" بلاده اليوم بذكرى هذه "الجريمة - وأحد اسباب الاحتفال اعادة الامور الى نصابها - تقام مئات المعارض والمؤتمرات داخل ايطاليا وخارجها على السواء، قد يكون ابرزها معرض بولونيا، "صورة بازوليني في التشويهات الاعلامية"، الذي يفتتح اليوم ويستمر حتى 8 كانون الثاني 2006، وستكون لنا عودة مفصلة اليه، وهو يضم مقالات وصوراً واخباراً وغلف مجلات تخبر قصة الاضطهاد العنيف الذي تعرّض له قبل موته، طوال 20 عاماً من حياته، وتواصل في ما بعد. فضلا عن هذا المعرض التوثيقي الضخم، سلسلة محاضرات في روما عنوانها "باوزوليني بعدد 30 عاما: واحد منا"، تترافق مع معرض صور وامسية انشادية لنصوص من الشاعر وبرامج اذاعية وتلفزيونية واعادة عرض الافلام. الشيء نفسه في بيزا وبسكارا وطييتي وبيشا وتريستي وميلانو وجينوفا وفلورنسا، الخ، بل تكاد كل مدينة تحتفي به كأنها تطلب الغفران عما جنته أيديها. عدد هائل من الكتب الجديدة حول حياة الشاعر واعماله، قد يكون ابرزها واكثرها جدية كتاب "شغف باوزوليني" لايتالو موسكاتي وكتاب "هرطقة بازوليني" لجاني ديليا. كذلك تجري مجلة "بانوراما" احصاء في اوساط الشباب الايطالي الذين تراوح اعمارهم بين 15 و30 عاما لمعرفة كيف يرصدونه. اما خارج الحدود الايطالية فمعارض في برلين وكمبريدج ولوبيانا وساراييفو ولوس انجلس ومدريد ومونتريال واسطنبول. النهار اللبنانية في 2 نوفمبر 2005
|