أين أصبحت مع مجدديها الطامحين بعد نجاحات السنوات الأخيرة؟...
بيروت - فيكي حبيب |
في السنوات الأخيرة حققت السينما اللبنانية نجاحات لم تحققها طوال 25 سنة، حتى ذهب بعضهم الى الاعتقاد بأن بيروت، بصدد ولادة صناعة سينمائية، كان لها ان تولد منذ زمن لولا الحرب التي تركت آثارها السلبية أينما كان، وشلّت غالبية القطاعات. إذ شيئاً فشيئاً راحت أفلام لبنانية تبعث بالأمل وتعزز الانطباع بتبدل جذري لأحوال السينما في البلاد، والانتقال من مجرد جهود فردية ونجاحات سينمائيين لبنانيين، الى صناعة سينمائية جادة، تمهد لولادة السينما اللبنانية بكل ما للكلمة من معنى. اي سينما متكاملة لا مجرد فيلم يتبعه فيلم يتبعه فيلم... وهكذا منذ نجاح فيلم أسد فولادكار «لما حكيت مريم» الذي حقق بموازنة بسيطة قيل أنها لم تتجاوز 15 ألف دولار، مروراً بفيلم رندا الشهال «طائرة من ورق» الذي نال جائزة الأسد الفضي في مهرجان البندقية قبل سنتين، وصولاً الى نجاحات دانيال عربيد في مهرجان «كان» ومعهد العالم العربي في فرنسا وغيرهما من المهرجانات السينمائية التي عرض فيها فيلمها الروائي الطويل الأول «معارك حب»، تطول القائمة بأسماء سينمائيين لبنانيين لم تقف المعوقات المادية حجر عثرة في وجه طموحاتهم. لا بل أصروا على التحدي فصنعوا أفلامهم بما توافر لهم من إمكانات وحملوها من مهرجان الى مهرجان... لكن هل يكفي إصرار هؤلاء الشبان لبناء صناعة سينمائية في لبنان؟ الدولة تبتعد للأسف، واقع الحال يجيبنا بالنفي، فحتى الساعة لا وجود لأية بوادر من هذا النوع. فالدولة بعيدة من هموم شبانها، ووزارة الثقافة لا تقوم بالواجب، كما يقول السينمائيون بشيء من الحسرة. والحل، إما التوقف عن السينما لأجل غير مسمى، وإما اللعب مع المجهول والتحدي. وطبعاً من يعرف ولع السينمائيين وشغفهم بالفن السابع، يدرك على الفور أن الخيار الثاني هو الأقرب إليهم. وهكذا كان. فما جديد هذه السينما اليوم؟ بنظرة بانورامية الى جديد السينما اللبنانية اليوم، يمكن ان نقسّم هذا الجديد الى ثلاث فئات. الفئة الاولى تضم الأفلام التي أنجزت أخيراً. الفئة الثانية تشمل أفلاماً في طور الإنجاز. والفئـة الثالثة هي عبارة عن مشاريع افلام تنتظر التمويل المناسب. أما الرابط بين الفئات الثلاث فالمعاناة الواحدة والهموم المشتركة التي يعيشها أصحاب تلك الأفـلام. وحسبنا هنـا ان نـشير الى ما يـعيـشه السينمائي من مشقة في طور الإعداد لعمله. وهنا لا نعني المشقة الروتينية التي يعيشها أي فيلم في أي بقعة أنجز من العالم، وإنما المشقة التي يعاني منها الفيلم اللبناني بالتحديد في ظل غياب أي دعم رسمي أو غير رسمي. فالمحظوظ وحده هو الذي يفلح في تجاوز الصعوبات من دون ان يمرّ بتلك الطريق الوعرة الأشبه بطريق الجلجلة، كما لا يتردد بعض السينمائيين في وصفها. آخر إرهاصات تلك السينما التي أتيح لنا مشاهدتها، قبل ان تقدم للجمهور العريض في أوائل الشهر المقبل، فيلم «بوسطة» لفيليب عرقتنجي، وهو الفيلم الروائي الطويل الأول لصاحبه بعدما قدم نحو 40 فيلماً وثائقياً بينها 18 فيلماً عن لبنان. والحال أن تجربة عرقتنجي مع هذا الفيلم لم تكن مكللة بالورود. فالفيلم الذي كان مثل حلم قديم لصاحبه كاد أن يتحول الى كابوس (بالمعنى الإيجابي للكلمة) بعد كل تلك السنوات من الفشل في تحقيقه. بداية حمل عرقتنجي مشروعه في ضواحي باريس حيث كان يعيش، ودار به على المنتجين والممولين الفرنسيين. عدم الترحيب الذي واجهه جعله يفكر بتحويل مرمى اتجاهه. لمَ لا يفتش عن تمويل لبناني؟ وبالفعل عاد عرقتنجي الى بيروت وقرر السعي الى إنتاجه باموال لبنانية بحتة: «فجأة وجدت نفسي أصبح منتجاً لأنه لم يكن لدي أي خيار آخر. أعتقد ان فيلمي لا يسير في الطريق المألوف لأفلام الجنوب. لذلك وجدت صعوبة في شرح خياري للجان التحكيم الغربية ووجهة نظري حول رؤية الجنوب بطريقة مختلفة. كما إنه الوقت المناسب لصانعي الأفلام في المنطقة للإنتاج بحسب الطريقة التي يرغبون بها، وليس وفقاً للإطار المفروض علينا من نموذج شمال جنوب». وهكذا وقع عرقتنجي على شركة التمويل العربية التي تقوم على قاعدة تمويل جديدة تدعى شهادات استثمار. وهي خلافاً لمنطق الاسهم (حسب الكراس الذي وزع الى الصحافة عن الفيلم) تعطي المستثمرين الحق في الحصول على مداخيل في المستقبل، لكنها لا تعطيهم حق التصويت. هذا يعني ان لهم الأولوية في توزيع الدخل الناجم عن الافلام، وذلك حتى استعادة المبلغ الأصلي الموظف في الاستثمار. من لا شيء فيليب عرقتنجي وجد الحل إذاً، في شركة التمويل العربية، أما زميله السينمائي الشاب ميشال كمون، الذي انتهى أخيراً من تصوير فيلمه الروائي الطويل الأول «فلافل»، ويشرف حالياً على عملية المونتاج، فقد استطاع أن يصنع فيلماً من لا شيء، بموازنة متواضعة جداً، يقول كمون مضيفاً: «قمت بنفسي بإنتاج الفيلم، الى جانب بعض الأصدقاء وبمساعدة فريق عمل قَبل العمل في ظروف صعبة وبرواتب متدنية، لعشقهم الكبير لما يسمى الفن السابع. لكننا لا نستطيع العمل دائماً على هذه الشاكلة. وأتمنى أن تكون هذه المرة الاخيرة التي نعمل فيها في ظروف مماثلة». ومثلما انتظر عرقتنجي سبع سنوات حتى يحقق «بوسطة»، انتظر كمون خمس سنوات من التأجيل والمماطلة حتى يحقق «فلافل». فماذا عن هذا العمل؟ ينضوي «فلافل» في خانة الأفلام الكوميدية - الدراماتيكية، وهو يعالج عالم الليل بكل ابعاده من خلال مغامرات شاب في ليلة واحدة، تلاحقه فيها الكاميرا من لحظة غياب الشمس حتى صياح الديك. «فلافل» فيلم لبناني من ساعة ونصف الساعة يتضمن مواضيع يومية عادية، قد تتحول فيه اسخف الامور الى أهمها. إنه محاولة للدخول الى عالم جديد وفي الوقت نفسه يصور اموراً نعرفها سلفاً. أجيال وإذا كان فيليب عرقتنجي قد اضاء في فيلمه الاخير على بيروت ما بعد الحرب من خلال جيل الشباب الذي عاش هذه الحرب، وعلاقته بالجيل الذي سبقه، فإن كمون يطرق أيضاً باب تلك الحقبة من عمر مدينته، لكنه يستهدف في «فلافل» جيلاً آخر هو الجيل الجديد الذي ما أن صار واعياً حتى كانت الحرب قد انتهت. وبدوره يجمع فؤاد عليوان السينمائي الذي حقق حتى الآن مجموعة من الافلام القصيرة والمتوسطة، الجيلين معاً في فيلمه الجديد «الى اللقاء». جيل ما قبل الحرب وجيل ما بعده، من خلال قصة طريفة تدور حول عائلة لبنانية تعيش في قرية في جبال سويسرا من دون ان يبتعد عنها طيف الحرب اللبنانية وانعكاساتها على النفوس، وفي الفيلم نعايش المرحلة الأولى من حياة تلك العائلة في المهجر متسائلين عما إذا كانت ستذوب فيه. فيلم عليوان هذا متوسط الطول، وهو من إنتاج سويسري، الأمر الذي يستدعي السؤال: متى بالنسبة اليه الخطوة الأهم، أي متى يبصر النور فيلمه الروائي الطويل الاول؟ لا يخفي عليوان المعاناة التي يعيشها المخرج في لبنان حتى يجد التمويل اللازم للفيلم. إذ «بغياب دعم الدولة، ودعم التلفزيونات، والقطاعات الخاصة، يجد المخرج نفسه مضطراً لقضاء أكثر اوقاته في البحث عن إنتاج بدلاً من ان يتفرغ للكتابة والإبداع. «فنحن نعيش في بلد صارت فيه الثقافة مجرد اكسسوار لا اكثر. حتى ان الناس فقدوا ثقافتهم الشعبية واضحينا مجتمعاً استهلاكياً مئة في المئة، خلافاً للعديد من البلدان الاخرى». العالم الثالث أفضل يوافق بهيج حجيج زميله عليوان في رؤيته لواقع السينما اللبنانية، مؤكداً أنه حتى في دول العالم الثالث الفقيرة، الوضع افضل مما هو عليه في لبنان. يقول: «الله يساعد السينما اللبنانية»، ويسأل: «هل يعقل أن ينتج لبنان حوالى 13 فيلماً طويلاً فقط، من التسعينات الى اليوم؟ ثم يجيب: «يعود هذا الامر للوضع المأسوي الذي تعيشه السينما اللبنانية، ذلك أن كل عملية إنتاج هي عملية انتحارية. ولا أغالي إن قلت أنه على المخرج أن يمرّ بطريق الجلجلة قبل أن يبلغ هدفه». فهل من حل؟ «الحل لن يكون متوافراً في ظل غياب دعم الدولة التي من اولى واجباتها تجاه السينمائيين إنشاء صندوق دعم يكون الأساس في الإنتاج. إذ لا بد من جهاز علمي منظم لتقديم المساعدات المالية، لا جهاز استنسابي، كما يحصل اليوم». وإذ يعتبر حجيج ان السينما اللبنانية لا تزال تراوح مكانها، لا ينكر وجود سينمائيين يعملون بجهود فردية، وأعمالهم تثير الإعجاب في الخارج لما تحمله من تجديد، من دون ان يوفر عتبه على هؤلاء السينمائيين الذين بحسب رأيه، لا يعملون يداً بيد، ولا يتكاتفون في وجه الصعوبات والضغوط. ولا يقف عتب حجيج عند الدولة والسينمائيين، إنما يطاول أيضاً الجمهور الذي لم يتلقف فيلمه الأخير «زنار النار» كما يجب، على عكس المهرجانات التي استقبلته أحسن استقبال. يقول: «للأسف أرى ان الجمهور اللبناني رافض وجود سينما جادة. وبصراحة فاجأني عدم اكتراث هؤلاء بالفيلم لأنني كنت أنتظر تجاوباً كبيراً». أما جديد حجيج الذي انتهى من كتابة السيناريو له (شاركه الكتابة بسام بردويل)، وهو حالياً في طور البحث عن الإنتاج، ففيلم عن المخطوفين في لبنان، يلاحق واحداً من الذين عادوا بعد غياب 18 سنة، ليعايش كل التحولات التي طرأت خلال هذه المدة. من جهته، إذ يعي إيلي خليفة تماماً الصعوبات التي تعيشها السينما اللبنانية والوضع المأسوي الذي يطبعها، فإنه يخالف زميليه حجيج وعليوان حين يشيران الى أن وضعها أتعس من كثير من دول العالم الثالث، مؤكداً أن «هذه هي حال السينما في بلدان كثيرة، حتى المتطورة منها». «من يتصور مثلاً أن بلاد بازوليني وروسيليني وسواهما من المبدعين لا تنتج في السنة أكثر من 16 فيلماً؟ فرنسا نفسها هبط الإنتاج السينمائي فيها الى نحو 170 فيلماً في السنة! ولأبسط الأمور اكثر سأعطي مثلاً عايشته شخصياً. فأنا درست الإخراج في سويسرا، ويمكن ان اقول عن حق أنني الوحيد الذي اصنع أفلاماً بين افراد دفعتي. ماذا نستقرئ من هذا كله؟ نستقرئ ان الأزمة هي أزمة عامة ولا تخص السينما اللبنانية فحسب». وبالفعل في جعبة ايلي خليفة اليوم ثلاثة افلام قصيرة نفذها هي «تاكسي سرفيس» (1996) و«مرسي ناتكس» (1998) وأخيراً «فان اكسبرس» (2004). وهو يصور حالياً عملاً وثائقياً بأسلوب كوميدي يلاحق خطوات أهله بعنوان «قبعات وسجائر واهلي»، قبل ان يبدأ العمل على فيلمه الطويل الأول الذي يروي قصة شاب سويسري يترك كل ما يملك في بلده ليلحق بفتاة لبنانية الى بيروت، حيث تبدأ المغامرات التي يكتشف من خلالها المشاهد أنه يعيش في سيرك كبير. إذاً، بانتظار تحقيق فيلمه الروائي الطويل الاول، وبانتظار ان يجد المنتج الذي يسلمه دفة الامور، لم يضِع خليفة وقته بل ظل على تماس مباشر مع العمل السينمائي، إن لم يكن في الإخراج فعن طريق الإنتاج والتوزيع. «ما يهمني هو العمل السينمائي في أي قطاع كان. وقد شاركت اخيراً في انتاج وتوزيع فيلم دانيال عربيد «معارك حب»، وأعتقد ان الوقت الذي أكرسه في العمل على أفلام سينمائيين آخرين هو ربح لي في نهاية الامر. قطعت على نفسي وعداً أن لا اعمل إلا في السينما قبل أن أحقق فيلمي الطويل الاول، ومن يعرف بعدها؟ قد ادخل مجالات اخرى مثل الفيديو كليب والإعلانات. أما الآن فلن اقدم على مثل هذه الخطوة بتاتا»ً. حقل تجارب نادين لبكي اختارت الطريق المعاكس. فهي عـلى نقـيض خليـفة حطت أخيراً في عالم الإخـراج السينمائي بعد تجربة أولى لها قبل سنـوات في فـيلم قصير هو «11 شارع باستور»، وبعــد نجـاحات متـلاحـقة في الإعلانات والفيديو كليب، لفتت إليها الأنظار بنفسها السينمائي الجليّ، وجعلتها من أبرز مخرجات هذا النوع من الأعمال الفنية. والمهم في الامر كله هو ان النجاح الذي صادفته نادين في مجال الفيديو كليب لم يحل بينها وبين تحقيق حلمها بإنتاج فيلم سينمائي طويل. وهي لطالما كانت تردد وهي في ذروة نجاحها: «أنا اليوم أجرب ذاتي في الإعلانات والفيديو كليب، إذ إنني في كل مرة اجرب أسلوباً مختلفاً وتقنيات مختلفة في التصوير والإخراج.. من هنا احاول أن اخلق اجواء جديدة في كل مرة أقدم فيها عملاً جديداً، وصولاً الى الخطوة الاكبر أي السينما. مع العلم انني لن اتوقف عن العمل في الإعلانات والكليبات. لكنني لا بد من ان اقوم بعمل اكبر.. عمل احبه كثيراً. ولذلك اقول ان ما فعلته حتى اليوم كان بمثابة حقل تجارب لأتعرف من خلاله على قدراتي». ويبدو انه حان الوقت اخيراً، بعد نحو خمس سنوات من العمل في الإخراج، لتحقق نادين حلمها في السينما، بعدما جاءها التشجيع من مهرجان كان السينمائي حينما اختير سيناريو فيلمها مع خمسة افلام أخرى من اصل 150 سيناريو تقدم بها مخرجون من انحاء العالم. اما الفيلم فهو كوميديا - دراماتيكية، تطرح المشكلات التي يعيشها المجتمع اللبناني ما بعد الحرب، مثل علاقات المرأة بالرجل والمحرمات والأخطاء والافكار المسبقة. تحدٍ كبير تعيشه نادين مع هذه الخطوة فهل تتجاوزها بنجاح؟ الحياة اللبنانية في 18 نوفمبر 2005 |
تاريخ القضية الفلسطينية في عمل روائي همّه الانسان صاحب القضية منذ العام 1978، حين عرض فيلمه الرابع «اللجوء الى المنهج» عن رواية للكاتب الكوبي اليخو كاربانتييه لم يخف السينمائي التشيلي ميغيل ليتين انه من أصل فلسطيني، تحديداً من أسرة هاجرت الى ذلك البلد الأميركي البعيد آتية من مدينة بيت ساحور القريبة من القدس. قال ميغيل يومها حين سألناه ان الاسم الأصلي لعائلته هو التين أو يقطين وكان لا يبدو واثقاً من الاسم الصحيح على الاطلاق. ثم حين أمعن في شرح علاقته بفلسطين قال ان هجرة جده تعود الى العام 1914، وانها لم تكن بسبب ضياع فلسطين فالضياع لم يكن أتى بعد. أيامها كانت الهجرة اقتصادية، اذ راحت الأوضاع الاقتصادية والمعيشية تتفاقم مما دفع كثيرين من «الأتراك» - أي السوريين اللبنانيين الفلسطينيين – الى الهجرة. ومع هذا أبدى ميغيل ليتين أمله بأن يحقق ذات يوم فيلماً يحكي فيه عن هجرة جده وجدته الى تشيلي، ويتناول من خلاله، بالطبع، جذور القضية الفلسطينية. وها هو الآن قد فعل. والفيلم الذي حقق خلال العام الأخير يعرض الآن في مهرجان «مراكش»... وعنوانه «القمر الأخير». و «القمر الأخير» هو اسم مقهى في كويتو – تشيلي، أنشأه ميخائيل جد مخرجنا... وهو أيضاً عنوان أغنية فلسطينية تنتمي الى ذلك الزمن البعيد. للوهلة الأولى يبدو «القمر الأخير» انثروبولوجيا أكثر منه سياسياً... خصوصاً ان المخرج اراد من خلاله أن يقدم صورة حية عن الحياة هناك في بيت ساحور قبل العاصفة بسنوات. بل تحديداً، في العام الذي بدأت تهب فيه العاصفة، حيث كان الأتراك في طريقهم الى الهزيمة خلال الحرب العالمية الثانية، وكان الانكليز يدخلون فلسطين بالتدريج وفي ركابهم «ضيوف» غير متوقعين، هم اليهود. واختار المخرج أن يقدم ذلك التاريخ من خلال حكاية عائلة «سليمان اليتيم» الشاب الفلاح ابن بيت ساحور الذي يعيش هانئاً مع زوجته المحبة وولديه الصبيين. كان سليمان يمضي أيامه في وفاق وشقاق مع شاب يهودي يماثله في السن يدعى يعقوب، أتى هنا راغباً في شراء قطعة أرض يقيم عليها منزلاً له. حتى هنا يبدو كل شيء منطقياً وبريئاً بالنسبة الى سليمان وإن كان الأمر كله يدهشه فيسأل يعقوب «ولكن لماذا تريد ان تشتري أرضي في هذه المنطقة القاحلة؟» فيجيبه يعقوب: «ولكن أنت لماذا تريد أن تبيع»؟ انطلاقاً من هذه البداية تتتالى الأحداث التي تروى لنا عن طريق الصبي ميخائيل، ابن سليمان الذي زوج ابنة عمه الطفلة وهو طفل بدوره، ليرسلا معاً الى أعمام لهما في تشيلي. ميخائيل هو من يروي لنا كل ذلك التاريخ السياسي والعائلي، بطلعاته ونزلاته، بأموره الحميمة وقضاياه العامة، بانقسام الفلسطينيين بين مناصري الأتراك ومناصري الانكليز والساعين الى العروبة والبائعين أرضهم. كل هذا يبدو مفاجئاً، ليس فقط في دينامية اللغة السينمائية التي يقدم بها ليتين موضوعه، ولكن أيضاً وخصوصاً في تلك الاطلالة الجديدة والجريئة على ما قبل تاريخ القضية الفلسطينية. لا بد أن نقول ان تاريخ فلسطين ما قبل التاريخ صار له فيلم حقيقي. فيلم يصور الحياة والسياسة والصراع كما عاشها أناس من لحم ودم، برواياتهم البسيطة - والساذجة لغوياً أحياناً - بتفاصيلها البسيطة. يصور الحياة كما هي، لا كما كنا نحب لها أن تكون، كما تفعل أفلام أخرى حاولت الدنو من التاريخ الفلسطيني. «القمر الأخير» فيلم عن «القضية»، لكنه قبل ذلك فيلم عن الانسان في علاقته بالقضية، ولعل هذا ما يعطيه الحق في أن يعتبر «أول فيلم حقيقي عن تاريخ فلسطين». تاريخها فقط؟ ليس بالتأكيد... اذا انتبهنا الى العبارة الأخيرة في الفيلم التي يقول فيها الراوي: «حين انتهينا من تصوير الفيلم في فلسطين المحتلة لاحظنا ان جدار الفصل العنصري أقيم بين الفلسطينيين والاسرائيليين». الحياة اللبنانية في 18 نوفمبر 2005 الفيلـم الـكـوري «مـاراثـون» فـي منتدى شـومـان عمان - الرأي - فيلم ماراثون ( سباق) هو باكورة الأفلام الروائية الطويلة للمخرج الكوري الجنوبي جيونج يون ـ شيول الذي اقتصرت أعماله السابقة على إخراج فيلمين قصيرين والعمل كمدير فني ومونتير في عدد من الأفلام. وتستند قصة فيلم «ماراثون» الذي يعرض في السادسة والنصف من مساء الثلاثاء بمنتدى شومان إلى وقائع حقيقية تتعلق بشاب كوري جنوبي في العشرين سنة من العمر اسمه باي هيونج ـ جين مصاب بمرض التوحد (Autism)، وهو نوع من الاضطراب العقلي. ويهوى هذا الشاب رياضة العدو. ويبلغ الفيلم ذروته باشتراك هذا الشاب في سباق الماراثون. ويقوم بدور الشاب المتخلف عقليا في الفيلم الممثل شو سوينج ـ وو. وتركز قصة الفيلم الدرامية على العلاقة بين هذا الشاب وبين والدته التي تكرس حياتها لرعايته والتي تقوم بدورها الممثلة التلفزيونية كيونك ـ سوك. ومع أن بطل الفيلم في العشرين سنة من العمر، فهو يستوعب العالم من حوله بعقلية طفل. وهو مولع بأكل البسكوت وبحيوانات الزرافة ويستطيع أن يحفظ عن ظهر قلب المحادثات العابرة والبرامج التلفزيونية حرفيا. وكثيرا ما يتصرف هذا الشاب كطفل، كأن يرقص في أي مكان دون سابق إنذار. ومع أن مثل هذا التصرف قد يبدو ممتعا أو فكاهيا في بعض الأحيان، إلا أنه كثيرا ما يجلب له المتاعب لأنه غير قادر على فهم العالم من حوله. وتلعب والدة هذا الشاب دورا أساسيا ومهيمنا في حياته، فهي تتحكم في الكثير من جوانب حياته، متذرعة بحمايته. وقد مر بطل الفيلم في طفولته بمرحلة صعبة، ولكنه تمكن بفضل المدرسة الخاصة التي ذهب إليها وبسبب إصرار والدته على مشاركته في العديد من النشاطات والسباقات الرياضية أن يحقق بعض التحسن. وتقرر الأم، بسبب شغف ابنها في رياضة العدو، أن يشترك في سباق الماراثون. والسؤال الذي يطرح نفسه هو هل إن ذلك يحقق طموحات الابن أو طموحات الأم؟ وهل إن الشاب يتمتع بممارسة العدو فعلا أم أنه يواصل التدرب لتحقيق مطالب والدته ورغباتها؟ وتلقي قصة فيلم ماراثون الضوء على العلاقة بين الشاب وبين المدرب الذي استعانت به الأم لإعداد ابنها لسباق الماراثون. وهذا المدرب هو نجم سابق في العدو يشعر بالمرارة ويقبل المهمة بتردد لأنه مرغم على أداء خدمة اجتماعية نتيجة صدور حكم ضده بسبب قيادة سيارته تحت تأثير الكحول. ولكننا نرى كيف تتطور العلاقة الإنسانية بين المدرب والشاب وكيف يؤثر الشاب المتخلف عقليا والمتحمس على المدرب ويدخل الدفء إلى قلبه البارد، وبالمقابل كيف يعلم المدرب الشاب المهارات التي يحتاج إليها للتفوق في السباق، وبذلك يغير كل منهما حياة الآخر نحو الأفضل. ولا تقتصر مشكلة الشاب على إصابته باضطراب التوحد، بل إنه يتعرض فجأة لمرض آخر، ولكنه ليس مرضا مميتا يثير الإحساس بالحزن والمشاعر المأساوية، بل إنه يكون بمثابة إنذار يعطي الأم فرصة للتأمل في سلوكها وفيما سببته لابنها طوال هذه السنين. فهل حان الوقت لكي ترفع قبضتها عنه وتعطيه الفرصة للانطلاق بحرية؟ ويتميز فيلم ماراثون ببراعة المخرج جيونج يون ـ شيول في عرض قصة إنسانية بأسلوب سردي واقعي دون الغوص في بحر من العواطف. ولكن البطل الفعلي لفيلم ماراثون هو بطل الفيلم الممثل شو سيونج ـ وو الذي أمضى وقتا طويلا مع شخصية القصة الحقيقية باي هيونج ـ جين لمراقبة حركاته وتصرفاته بجميع تفاصيلها على الطبيعة، ونجح في تقمص شخصية المصاب باضطراب التوحد بواقعية مذهلة من حيث الصوت والحركة والسلوك، إلى درجة أنه يصعب على المشاهد أن يميز بين الممثل وبين المصاب باضطراب التوحد. كما أجرى المخرج جيونج يون ـ شيول سلسلة من المقابلات مع باي هيونج ـ جين المصاب بالتوحد على مدى عامين للتعرف على شخصيته على الطبيعة. ومع أن فيلم ماراثون يعالج الواقع الاجتماعي للمضطربين عقليا في المجتمع الكوري الجنوبي، فإن ذلك لا يحدث كليا من منظور المصاب باضطراب التوحد، بل إنه يبرز أيضا أثر التوحد على أفراد الأسرة، وخاصة العواقب الكارثية الناتجة عن تفضيل الأم لابنها المريض، على الوحدة الأسرية. فقد أدى سلوكها، كما يتضح في بداية القصة، إلى نفور الأب وقيامه بهجر الأسرة، كما أن إهمالها لابنها الآخر أدى إلى إحداث شرخ في العلاقة بينهما. يشار إلى أن باي يونج ـ جين، محور قصة فيلم ماراثون تحول إلى شخصية شهيرة على الصعيد المحلي في كوريا الجنوبية بعد اشتراكه في عدد من سباقات الماراثون، وظهر في العديد من المقابلات التلفزيونية. وقد جمع فيلم ماراثون بين النجاح الفني والتجاري. وهيمن الفيلم هذا العام على الجوائز السينمائية الكورية الجنوبية، وفاز بست منها هي جوائز أفضل فيلم وأفضل مخرج وأفضل ممثل، بالإضافة إلى جوائز السيناريو والموسيقى التصويرية والتخطيط. كما سجل الفيلم أرقاما قياسية في الإيرادات على شباك التذاكر في دور السينما بكوريا الجنوبية. الرأي الأردنية في 20 نوفمبر 2005
|