جديد الموقع

كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما

 

 

التالي
السابق

كتبوا في السينما

سينما المقاومة في فلسطين

«الحس» للإيطالي فيسكونتي

يسري نصر الله: أفلامي بسيطة وشديدة الخصوصية

غودار: نحن أقرب إلى نقطة النهاية لأننا عاجزون عن الكلام

التفاتة متأخرة الى برهان علوية في "مسرح المدينة"

وجع سينمائي في مدينة ضد السينما

جيرار سليمان

"بلا سينما قد نتعرض للزوال"

برهان علوية

قيل في برهان علوية كلام كثير. المخرج نفسه طلق اللسان ومتضلع من استخدام العبارات الرنانة والنظريات المتشعبة. ليس بكافر مَن تجرأ على المس بمقام هذا الفنان الكسول بعض الشيء، واعتبر ان له في السينما دروساً وامثولات، أكثر من الاعمال. فهذا الوطن حيث يغيب تقريبا فن السينما الجاد، (معبد الصورة مثلما يعرّفها علوية)، حكمه الاسفاف. وطالما ان التكريم ساعة حق ورد اعتبار، فقد تمنينا لو لم تقتصر التحية على الكلام المعسول والاطراءات التي لا تدوم. كفانا "مسح جوخ"، فالدرع التي تسلمها علوية اخيراً جاءت مبكرة، فالرجل لا يزال في عز العطاء. كل ما يطلبه هو يد تمتد الى فيلمه الجديد لاخراجه من غرفة الغيبوبة، لئلا يُكتب له الموت قبل الولادة.

تعس هو حظ هذا السينمائي الذي ولد في وطن احبه وآمن بقضاياه، وصوّره ينزف دماً وقهراً ثم يستعيد عافيته خطوة خطوة، حجراً فوق حجر. صوّر ابناء "هذا البلد المتنكر بزي المتروبول" الذي انتصر في داخلهم مبدأ البقاء على الرحيل، واليقين على الشك. ذهب ايضاً الى عواصم الوحدة والفراغ، هناك في اوروبا، مقتفياً خطى اولاد الهجرة، ليسألهم ماذا حدث، ولماذا رحلوا.بحث عن ذاته والآخرين، التقى تجار سيارات لا يكترثون اذا نسي اولادهم اللغة العربية ام تذكروها. نقلَ عذابات الحرب النفسية حتى الى اروقة المترو. ثم عاد.

ماذا عاد يفعل في بلد لم يبادله الحب؟ في الواقع، الامَ يطمح سينمائي، في مدينة ليس لديها صناعة سينمائية، خصوصاً اذا كان يفضل ان يبقى مهمشاً في مجتمعه، ولا يشكل جزءاً من الاكثرية "الموغلة في الجهل والامية"؟ لم يرد علوية ان ينتمي الى محيطه يوماً. سجله يدل على انه بريء من المكان الذي انبثق منه: اعماله دافعت عن حرية الفرد وكيانه، وطالبت بحق المرأة والعلاقات المدنية والعادلة بين الافراد، وبالديموقراطية الحقيقية، في حين ان اتجاه البلد كان معاكساً لاتجاهه.

وعليه، ان علوية لم ينل حقه ولن يناله ابداً. ومنحه وساماً او سيفاً او حتى منصباً مرموقاً في احدى الدوائر العامة، لن يعيد المياه الى مجاريها، ولن يصلّح الموقف. ما ضاع قد ضاع الى الابد. الرجل ذو الرؤية المغايرة، الذي كان في الامكان توظيف حرفيته وفلسفته واطلاعه على قضايا الامة العربية، في سبيل سينما جادة، بات اسمه مرادفاً للتجربة المنقوصة أو غير المكتملة. وقد يصبح اسمه لاحقاً في عداد الاسماء التي تسدل عليها الايام ستار العتمة. لأن الزمن لا "يشد ضهره" الا بمخرجي الفيديو كليب او المتطفلين على السينما. عبثاً نحاول ان نفهم ما الاسباب التي ادت بهذا المخرج الى البقاء على شفير السينما. حتى التدمير الذاتي. لماذا اختار الصمت احياناً، على ان يبيع نفسه في المزاد العلني أو لأكثر المستثمرين كرماً، رغم ادراكنا ان "الفن لا يتحمل العهر"، كما تعوّد ان يردد موريس بيالا، ورغم ان علوية ليس "مخرجاً" بقدر ما هو "مخرج افلامه".

الخارج من الحرب

في معظم سنوات نشاطه، كان الوثائقي بديلاً له من الروائي. ما قدمه خلالها هو سينما الحقيقة: ديكورها الحقيقة، ولكنها سينما. "لا يكفي ان يكون الله مع الفقراء"، "حكاية من زمن الهجرة"، "اليك اينما تكون"، كلها عناوين فضحت نظرته السوداوية الى ما يدور من حوله، ايماناً منه ان السينما هي لذاكرة الناس وان المجتمعات الحديثة تبنى بالنقد الذاتي لا بطمس العيوب والبكاء على الاطلال. بعد سكوت المدفع بأكثر من عقد، سمعناه يقول: "نحن مجتمع خرج من الحرب مريضاً، علاقاتنا الاجتماعية بشعة، لا نريد رؤية صورة عنها على الشاشة الكبيرة". وعندما عاتبناه لتركيزه على الالوان القاتمة من حوله، جاء ردّه: "وهل ترى انت "البياض" امامك؟ وهل الذنب ذنبي اذا كنت ارى الالوان قاتمة؟ سنصبح قريبا في السواد التام. ثمة اشكال مختلفة للحروب: الجوع، الهجرة، البطالة، قطاع الطرق الذين يتسكعون في الشوارع".

هذه النظارات التي تأمل عبرها علوية واقعنا الهش، خصوصاً بعد النهاية المزعومة للحرب اللبنانية، اذ انتقلت من المتاريس الى امكنة اخرى، لم تنتزعها منه حتى الوعود الكاذبة ببيروت ذات طابع عصري. ذات مرحلة، عندما كنت شديد العداء للرقابة وما تعني لي من مصادرة لحقوقنا في اختيار ما نريد وما لا نريد مشاهدته، لفتني ان الرقيب ليس بدعة من السلطة، بل بدعة مجتمع، اذ لا يمكنك فرض رقيب على مجتمع لا يريد رقابة. مشكلتنا، في نظره، اننا لا نقبل الآخر، ولا نقبل مفهومه للحرية. لذلك، سعى الى  بلورة فكرة الفيلم - القصيدة، مبتعداً عن التصادم السخيف بين الصح والخطأ، لانهما امران نسبيان.

شكلت الحرب والنتائج التي افرزتها في المجتمع، احد هواجس سينما علوية. ويتبدى انها انغرست عميقاً في ذاكرة شخصياته. وبرغم كثرة الافلام التي تطرقت الى الصراع المسلح، فهو مؤمن على الدوام ان كل فيلم لبناني لا يملك الحرب كذاكرة له، لا يستحق ان يكون فيلماً لبنانياً. "حتى الآن، يرفض بعضهم السكن في الطبقات العالية خشية القصف"، ويضيف: "من يريد اعطاء هذا المكان ذاكرة الخليوي هو اشبه بالخلوي. كل قصيدة ليس فيها جرح الحرب ليست قصيدة".

لعل احدى الاشكاليات التي استحوذت على تفكيره في المدة الاخيرة واصبحت عنده مادة خصبة للتحاور هي اشكالية ايلاء الاهتمام للحجر على حساب تهميش البشر. سألته ذات يوم متذاكياً: "أليس من المنطقي ان يأتي "تزفيت" الطرق قبل الانسان ومشكلاته؟"، فرأى هذا المتحدث اللبق ان السؤال لا بأس به، لكن ثمة سؤال آخر أهم: من سيمشي على هذه الطريق، وماذا سيدور عليها من احداث؟ لأنك عندما تعبّد طريقاً تطلق اشكالية كبيرة، لان الطريق تعني الحياة. لا يمكنك فتح طريق والقول "لا" لنتائجه. ولا يمكن قول "لا" لسينمائي بحجة انك تريد بناء طريق". وخلص الى القول: "هذا تفكير انكشاري".

مزج التعب بالصورة

لم تحمل سينماه مضموناً اخلاقياً صرفاً. أي انها خالية من الرسالة بالمنطق الهوليوودي. ولم يصنع صاحب "كفر قاسم" الافلام لارضاء ذاته أو كنوع من علاج النفس. ورغم ادراكه ان عدداً قليلاً جداً من الاعمال توصلت الى ذلك، فقد أراد لعمله ان يكون مطعماً بالشعر، مردداً انه ليس من بحث علمي ناجح من دونه.

فيلمه الوثائقي الاخير، "اليك اينما تكون"، كان ممهداً لشريطه الجديد الذي صوّره في احوال غاية في الصعوبة. لكن اذا سألته أستنعكس سلباً على الفيلم، فمن المؤكد انه كان تخلى عن تشاؤمه الاعتيادي، ولو للحظة، ليقول: "عندما يمتزج التعب بالصورة تصبح الصورة اجمل. في لحظة التصوير تجهل ماهية الصورة، لانها لحظة انجذاب، تغيب خلالها عن نفسك".

على ان الحلقة الاقوى في افلام علوية هي ازدحام الكاراكتيرات الكاريزماتية. اذ ما زلنا نتذكر ما قالته احدى الشخصيات في "اليك اينما تكون": "نعيش منطق القسمة بين الذين يعيشون في الليل والذين يعيشون في النهار". وهي العبارة - اللغز التي يوضحها المخرج مستغرباً: "لماذا هذا الموروث وهذه الثنائية العجيبة القائمة على شخصين يختلفان ويتخانقان على شيء ما؟ ما هذه المدينة التي اسمها بيروت والتي هي اشبه بفندق؟ الرهان في بيروت اليوم يكمن في ان نحوّل عقلية البيروتيين من عقلية أناس مقيمين على هذا الطريق، الى عقلية أناس مقيمين نهائياً في هذا المكان".

ومن سخرية القدر ان برهان علوية يكرَّم بعقلية "أناس مقيمين على الطريق"، وبعدما أنكرت المدينة برمتها (او تقريباً) حقه في الوجود الى جانب رموزها. انه وسام مبكر على سترته وتكريم متأخّر لافلامه وقبلة ستنهال كصفعة على سينماه.  

النهار اللبنانية في 14 نوفمبر 2005

 

بمناسبة تكريمه في مهرجان بيروت الدولي للأفلام الوثائقية:

قبلتان.. على اسم برهان علوية

بشار إبراهيم 

يحضر اسم برهان علوية، فتلتمع العينان، وتبرقان بألق الحضور، وتألق الذاكرة. فهذا المبدع الكبير، وفي الوقت الذي يشكّل أحد الأعمدة التي نهضت بالسينما اللبنانية الحقيقية، منذ مطالع السبعينات، وما كفّ عن المحاولات الجادة، في هذا السياق، حتى اللحظة (أمدَّ الله بعمره)، إيماناً منه بأن "صنع سينما لبنانية جادة، هو مساهمة في رسم الهوية اللبنانية، وتأصيلها".. هو المبدع ذاته، الذي أهدى السينما العربية ذات يوم أحد أهم أفلامها، ووضع اسم فيلمه، بتوقيعه، في قائمة الشرف.

من هنا، فإن "مهرجان الفيلم الدولي للأفلام الوثائقية" يكرِّم نفسه، إذ يبادر إلى تكريم المخرج برهان علوية. فمثل هذه القامات العالية، المبدعة في مجالها، تستطيع أن تمنح كل من يقترب منها شيئاً من عطرها. كما إن تكريماً من هذا الطراز، إنما هو تكريم للسينما اللبنانية كلها، من خلال أحد أبرز رموزها أصالة ودأباً، وأبرز صانعيها، وثائقياً وروائياً. وهو تكريم لأجيال من السينمائيين اللبنانيين الكبار، الباحثين، طيلة العمر، عمن يحتضنهم وسينماهم، بشكل فعلي وعملي، مادياً ومعنوياً، على السواء.

لا ترتبك الكلمات بين يدي برهان علوية، فمن أتقن أمتلاك صناعة الصورة يعرف تماماً كيف يرسل الكلمة إلى موقعها الصحيح، ويمنحها معناها الدقيق.. هل ثمة من يجادل في افتقاد الحميمية المنشودة، والتي لا بد من العمل الحثيث على استعادتها اليوم، ولو بالاستعارة من تلك الأيام؛ أيام الأحلام الكبرى، والمشاريع الكبرى، وربما الخيبات الكبرى؟!..

نحتاج إلى صفحات، لا تقلّ عن كتاب، للتأمل في عالم برهان علوية السينمائي، وقراءة تجربته الإبداعية، في سياقها. وحسبنا هنا، ونحن في موقع تكريمه، أن نتوقف عند أحد أهم افلامه..

كفر قاسم، فاتحة للمدى

كان ذاك في العام 1974، عندما أخرج برهان علوية إلى النور فيلم "كفر قاسم"، نتاج تعاون مثمر، واستثنائي، لم يتكرر أبداً، بين المؤسسة العامة للسينما في سوريا، ومؤسسة السينما اللبنانية، وبدعم من بلجيكا، ومساهمة طواقم فنية فرنسية. فيلم يستند على حادثة واقعية، صاغها عاصم الجندي قصة، وبنى الحوار لها عصام محفوظ، فيما كان السيناريو للمخرج برهان علوية.

فيلم "كفر قاسم"، اليوم، وعلى الرغم من مرور أكثر من ثلاثة عقود، على إنتاجه، ما زال فيلماً رفيعاً شكلاً ومضموناً، قوياً خطاباً وبناء، إذ استطاع برهان علوية، بموهبته الفائقة، أن ينسج فيلماً، متجدداً على الدوام.. فيلماً وعلى الرغم من أنه روائي، إلاّ أنه يصل إلى مصاف الوثيقة السينمائية، التي تكشف حقيقة العدو الصهيوني، وواقع الفلسطينيين والعرب، وجذر القضية الفلسطينية. فمنذ المشهد الافتتاحي للفيلم، وحتى لقطة النهاية، ينتظم هذا العمل سلساً متقناً، بالمشهد والصورة والحوار، بالغناء والموسيقى، ليعيد بناء وقراءة مرحلة تاريخية محددة من عمر المنطقة كلها.

يكتب برهان علوية سيناريو الفيلم، وهو يريد الحديث عن المجزرة الدامية التي ارتكبها جيش الاحتلال الصهيوني في قرية "كفر قاسم" الفلسطينية، عشية العدوان الثلاثي. هو العام 1956، وجمال عبد الناصر يستطيع أن يجعل أبناء الشعب العربي، من المحيط إلى الخليج، ينصتون إلى كل كلمة يقولها، في خطاباته الشهيرة، وهانحن عند واحد من أهمها، إذ سيعلن في خطاب تاريخي قرار تأميم شركة "قناة السويس العالمية" شركة مصرية مساهمة!.. فتلتهب المشاعر، وتجيش في وجدان الناس، التي طالما رأت في عبد الناصر صوتها، أو صورتها. الناس التي علَّقت حلمها به.. فكان العدوان والمجزرة، محاولة لكسر الحلم.

من المؤكد أن اختيار برهان علوية لمشروعه السينمائي، في هذا الفيلم، كان خياراً واعياً، وجريئاً، على المستوى الفكري. كما كان تحدياً، ومغامرة، على المستوى الفني. ففي ذاك الوقت (عام 1974)، كان الإقدام على مثل هذه التجربة، يشبه السير على نصل السكين، أو على حافة الشفرة!.. يومها، كان المخرج المصري الكبير توفيق صالح قد نجح في تحقيق فيلمه "المخدوعون"، المأخوذ عام 1972 عن رواية "رجال في الشمس" للأديب الشهيد غسان كنفاني، ونال الجائزة الذهبية من مهرجان قرطاج عام 1972، فيما فشل كثيرون من المخرجين العرب، وأخفقوا في صياغة فيلم يتناول الشأن الفلسطيني، بجدية فكرية، ومستوى فني لائق.. فصار من المعتاد أن يتحرَّج البعض من الاقتراب من هذا الحقل الشائك.

كان على برهان علوية، قبل كل هذا، أن يجتاز العديد من العوائق، والصعوبات الإدارية، والمشكلات المادية. أن يتنقل هنا وهناك، من عاصمة إلى أخرى، عربية وأجنبية، وكان عليه أن ينقل سرّ إيمانه بهذا العمل إلى المعنيين بالأمر، ممن سيشكلون الجهات الانتاجية، والطواقم الفنية، فتمنحه الثقة، وتنضم للعمل معه، وتحت إدارته، وهو المخرج الشاب، يومها.

و"كفر قاسم" في واقعها، وكما نراها في الفيلم، وقد لعبت دورها قرية "الشيخ سعد" في ريف طرطوس، هي نموذج لواقع فلسطيني وعربي، إذ تحفل بكل مفردات التيارات السياسية، والحزبية، وتترع بناسها على اختلاف مشاربهم وألوانهم، من مناضلين ووطنيين، ومن انتهازيين، وعابثين، ولامبالين، ومن عملاء ومتعاونين، أيضاً. إنها فيض من تفاصيل حياتية، ومعاناة يومية، ومواقف متضاربة، بدءاً من معاناة العمال والعاملات العرب، اليومية، واستغلال سمسار العمال لهم، وسرقة جهدهم بعد سرقة أراضيهم، وصولاً إلى لعبة العربي المشنوق في تل أبيب، والسؤالات الحائرة عن المصير المجهول، الذي يترقّب الجميع.

كانت "كفر قاسم" قرية تتشبث بكل خيوط البقاء، والحياة والصمود والاستمرار، بينما المحتل الصهيوني الغادر يحضّر آلته العسكرية لارتكاب مجزرة بشعة بحق الفلسطينيين العزّل، وستجري محاكمات تافهة، يظهر فيها الصهيوني قاتلاً بدم بارد، والفلسطيني ضحية بلا ثمن، في جريمة مدبَّرة، لن تزيد غرامتها عن الشيكل الواحد.

ذاك المساء أعلن المنادي عن فرض حظر التجول، وكان العمال من أبناء القرية لا يزالون طيّ أعمالهم، في المزارع والحقول النائية عن قريتهم، وإذ أخذوا يلملمون أنفسهم على عجل، ويشقون طريق العودة إلى بيوتهم، راجلين، أو على دراجاتهم الهوائية، أو الشاحنات المتهالكة، كان الجنود قد أعدّوا العدة؛ جهزوا رصاصهم، وقطعوا الطريق، وبدأ القتل الذي لم يفرق بين كبير أو صغير، رجل أو امرأة. والفيلم سينشئ وثيقته البصرية بنفسه، كما سيسجّل قوائم أسماء من نالتهم المجزرة.. ويكون الشاهد الحقيقي على أهمية الفيلم السينمائي، في تناول "الحقيقة الواقعية"، وإعادة إنتاجها على هيئة "حقيقة سينمائية".

فيلم "كفر قاسم" للمخرج برهان علوية، فيلم دقيق ومتوازن، وعلامة بارزة في تاريخ السينما العربية، ولم يكن حصوله على الجائزة الذهبية في مهرجان قرطاج 1974، ودبلوم شرف في مهرجان موسكو 1975، وجائزة منظمة التحرير في قرطاج 1974، ومهرجان السينما العربية باريس 1977، إلا بطاقات شكر وتحية.

فيلم واحد، كان يكفي للكشف عن حقيقة الموهبة الهامة، التي يمتلكها المخرج برهان علوية.. ونجاح مميز من هذا الطراز. كان ينبغي أن يفتح الدرب أمام هذا المخرج الكبير، وتتاح له الفرص المتتالية!.. ولكن لا المخرج برهان علوية اكتفى بفيلم واحد، ولا الدرب فُرشت أمامه بالورود، بل كانت مسيرة من العطاء، تمازج فيها التعب والجهد، بالمستوى الفني العالي، الذي يكتب اليوم اسم برهان علوية متألقاً، على الرغم من انكسارات الحلم..

قبلتان.. على اسم برهان علوية

"أمانة".. وكان أبو عبدو سالم/مدير إنتاج فيلم "كفر قاسم"، يحاول بكل اجتراحات اللغة، أن يتأكّد من إيصال القليل من مشاعره، بالقبلات، إلى "حبيب القلب"/برهان علوية..

أبو عبدو سالم، الذي ينغمس اليوم في مشاعر الوحدة، والالم، والاغتراب، في دمشق، يؤمن بأن صلة القلب بالقلب، وامتزاج الذاكرة بالذاكرة، والحلم بالحلم، لن تنقطع!..

وفي فيض كلمات الحب والتقدير، وفي تألّق الذاكرة، يبقى برهان علوية يطلّ عالياً.. تماماً كما جبال لبنان.

المستقبل اللبنانية في 13 نوفمبر 2005

 

من تكريم علوية الى شباب «14 آذار» ... وأين السينما الوثائقية اللبنانية؟  

حسناً فعل مهرجان «أيام الفيلم الوثائقي» الذي أقيم في بيروت قبل فترة، عندما كرّم المخرج المخضرم برهان علوية. وأيضاً حسناً فعل القيمون على مسرح المدينة قبل أيام حين عُرضت خمسة افلام لعلوية (روائية ووثائقية) ضمن إحدى تظاهرات المسرح بعنوان: «برهان علوية... اللقاء».

ذلك ان الجانب الوثائقي من سينما علوية لا يزال شبه مجهول لدى الاجيال الجديدة التي باتت تعرف الكثير عن افلامه الروائية (مثل «كفرقاسم» و «بيروت اللقاء») وعن مشاريعه التي لم تنجز بعد أو التي لم تر النور اصلاً (مثل العمل الذي لا يزال يشتغل عليه «الحب مرّ من هنا»، أو سيرة «جبران» التي يحضر لها منذ سنوات عدة).

فعلوية حقق أفلاماً وثائقية مميزة طافت في مهرجانات كثيرة وحققت نجاحات كبيرة، لعل أبرزها «سد أسوان» و «لا يكفي ان يكون الله مع الفقراء»، ناهيك عن اعمال له تتأرجح بين الروائي والتسجيلي في شكل خلاق («رسالة من زمن المنفى» و «رسالة من زمن الحرب»). والحقيقة ان تكريم علوية على هذا النحو يذكرنا بنجاحات حققها هذا النوع السينمائي (الوثائقي) من إنجازات مارون بغدادي، الى أعمال أكرم زعتري (فاز بالجائزة الكبرى في مهرجان «الاسماعيلية» الدولي في مصر قبل ثلاثة أعوام)، وصولاً الى النجاح الذي حققه، لدى الأرمن الاميركيين فيلم انتجته محطة «أل بي سي» من إخراج كارمن لبكي عن «أرمن لبنان». وفي هذا الإطار نذكر ان معظم الأسماء اللامعة في تاريخ السينما اللبنانية منذ العام 1975، حقق اصحابها أفلاماً وثائقية مهمة، بل إن رندة الشهال التي تصر على تجربة حظها في السينما الروائية، وصلت الى افضل مستوياتها الفنية في فيلم وثائقي هو «حروبنا الطائشة» وليس في أي من افلامها الروائية.

وهنا، في سياق هذا الحديث عن السينما التسجيلية، لا بد من التوقف عند الظاهرتين الابرز في مسار هذه السينما في لبنان: جان شمعون بأفلامه العديدة والمميزة منفرداً، منذ العام 1976، ثم شراكة مع زوجته مي المصري، خلال ما لا يقل عن عشر سنوات حققا خلالها أفضل ما حقق في لبنان في هذا المجال، قبل ان يعودا ليستقل كل منهما بعمله، فيتجه شمعون، بعد عمل مميز هو «رهينة الانتظار» ناحية السينما الروائية («طيف المدينة»). وتحقق مي مصري أفلاماً عدة عن نابلس واطفالها ومخيم شاتيلا واهل المخيمات في شكل عام... في اعمال لفتت العالم ونالت جوائز عدة احتسبت لفلسطين كما احتسبت للبنان. وآخر اخبار الثنائي شمعون / مصري، هو اشتراكهما معاً في فيلم ينجزانه حالياً (هو في الإنتاج والإشراف العام، وهي في الإخراج)، عن شباب انتفاضة «14 آذار» التي تابعتها كاميراهما يوماً بيوم طوال اسابيع عدة.

الحياة اللبنانية في 18 نوفمبر 2005

 

تكريم برهان علوية في المهرجان الوثائقي.. أربعة وثلاثون عاماً من الهمّ السينمائي والإنساني

<<خلص>> في مرحلته الأخيرة.. مرآة أبدعها المخرج بجمالِ قاسِ

نديم جرجورة

في حفل افتتاح الدورة السابعة ل<<مهرجان بيروت الدولي للأفلام الوثائقية>>، في السادس من تشرين الثاني الجاري في <<قصر الأونيسكو>>، تمّ تكريم المخرج اللبناني برهان علوية، بحضور وزير الثقافة طارق متري وعدد من المعنيين بالشأن السينمائي.

سبق ذلك اتفاق بين إدارة المهرجان و<<نادي لكل الناس>> لاستكمال التكريم بما يتلاءم والمكانة الإبداعية الخاصّة ببرهان علوية، إذ تُعرض أفلام روائية ووثائقية للمُكَرّم في <<مسرح المدينة>> (سارولا، الحمراء) في ثلاثة أيام (13، 14 و15 تشرين الثاني)، يتخلّلها لقاء والمخرج، وندوتين تناقشان جوانب عدّة من نتاجه السينمائي.

لا يحتاج برهان علوية إلى أي تكريم عابر، بقدر ما يستحقّ وقفة نقدية متكاملة، تربط القراءة التحليلية الخاصّة بنتاجه السينمائي المتنوّع بعلاقة الجمهور بأفلامه الروائية والوثائقية. لكن، على الرغم من هذا، فإن تكريمه من قبل إدارة <<مهرجان بيروت الدولي للأفلام الوثائقية>> بدا وكأنه تكريم للمهرجان، الذي تتوطّد مكانته في المشهد السينمائي اللبناني المنفتح على التجارب العربية والأجنبية، دورة إثر أخرى. كما أن موعد تكريمه في افتتاح الدورة السابعة هذه، مساء الأحد الفائت، تزامن وسعي المخرج إلى وضع اللمسات الأخيرة على فيلمه الروائي الطويل الجديد <<خلص>>، الذي يواجه تحدّياً مالياً صرفاً قبل اكتمال عملية إنجازه.

ذلك أن برهان علوية، المسكون بعشق كبير لمدينة التهمت نفسها قبل أن تنزوي في بؤس التاريخ وشقاوة الآنيّ ومتاهة المستقبل، كما التهمها أبناؤها أيضاً، مستمرٌ في بحثه البصري والدرامي عن أسئلة معلّقة تبدأ بالحرب الأهلية والسلام الهشّ والمنقوص، ولا تنتهي عند أناس يعيشون مآزقهم وتحوّلاتهم وانكساراتهم في لحظات القلق والغضب. وفي مقابل انغماسه في شؤون هذه المدينة وشجون ناسها، لم ينزو برهان علوية في الحيّز اللبناني الضيّق، بل انفتح على الآخر العربي، ساعياً إلى تأكيد انتمائه العربي الطالع من عمق حيويته اللبنانية، وملتزماً الهمّ الإنساني البحت، من خلال موازنته البصرية بين المواضيع (التي لا يخلو بعضها من نَفَس ثقافي وفكري واضح ومباشر) وصناعته الصورة.

لعلّ الصدفة وحدها لعبت دوراً في تزامن مدهش: تكريمه في افتتاح هذه الدورة في <<قصر الأونيسكو>>، مساء الأحد الفائت، والعرض الخاص لنسخة (شبه) أخيرة من <<خلص>>، بعد أقلّ من يوم واحد فقط. لا يُمكن تجاوز هذه الصدفة الجميلة، إذ إن العرض الخاص بدا استكمالاً لتكريم لم يحظَ بتغطية إعلامية تليق بالمخرج وبنتاجه السينمائي وتجربته الإبداعية، التي تثير نقاشاً نقدياً، وتطرح الأسئلة، وتحثّ المشاهدين على البحث عن أجوبة ما. جاء العرض الخاص جداً ب<<خلص>>، في لحظة بدت نتيجة حتمية للانتظار الطويل الذي عاشه محبّو المخرج وسينماه. في حين أن التكريم، الذي انعكس إيجاباً على حفل الافتتاح، بدا تمهيداً طبيعياً لهذا العرض الخاص، وللعروض الأخرى التي يزمع <<نادي لكل الناس>> تنظيمها في <<مسرح المدينة>> (سارولا، الحمراء) لثلاثة أيام فقط، بدءاً من يوم الأحد المقبل، في الثالث عشر من تشرين الثاني الجاري. وإذا اكتفت إدارة المهرجان بدعوة وزير الثقافة لمنح برهان علوية درعاً تكريمية، ترافق (هذا المنح) وكلمة مثيرة للنقاش ألقاها طارق متري، فإن <<نادي لكل الناس>> جمع عرض عدد من الأفلام المختارة بلقاء والمخرج، إلى جانب ندوتين مختلفتين. بهذا، وعلى الرغم من أن النادي تعاون مع إدارة المهرجان في تحقيق العروض والنشاط الرديف، فإن الأيام الثلاثة تُشكّل محطّة أساسية يُفترض بها أن تُثمر تكاملاً بين العرض والتحليل والنقاش.

<<خلص>> شهادة حيّة

إذاً، بات <<خلص>> في مراحله النهائية. يحتاج إلى بعض المال كي يخرج إلى العلن. إنه واحدٌ من الأفلام اللبنانية الروائية الطويلة التي تؤكّد أن السينما المحلية تخطو خطوات إيجابية ومهمّة، وإن بطيئة، باتجاه تفعيل حضورها الفني الإبداعي، وبلورة إطار إنتاجي لعلّه يساهم في تأسيس <<صناعة>> سينمائية محلية. ذلك أن <<خلص>>، الذي عرف عنوانين سابقين هما <<الحرامي>> و<<من هنا مرّ الحبّ>>، يُعتبر شهادة إنسانية حيّة لزمن لبناني مجبول بالأسى والتمزّق، ولأناس مخنوقين بالفراغ المدوّي في السلام الهشّ والهدوء المصطنع والباهت لمرحلة ما بعد <<النهاية>> المزعومة للحرب اللبنانية. كأن هذه العناوين الثلاثة تختصر المادة كلّها: فالحرامي نشأ من الشقاء الآنيّ، المستمرّ في تدمير المدينة وسلامها. و<<من هنا مرّ الحبّ>> تعبير انفعالي واضح عن الوداع الأخير لأسمى شعور إنساني في زمن الانكسار والألم. في حين أن <<خلص>> صوتٌ صارخٌ في برية وطن مرميّ على حافة طريق التاريخ والمستقبل. وإذا أراد البعض <<تنظيراً>> يُسقِط على الفيلم شيئاً من التحوّل اللبناني الأخير، مع أن المشروع انطلق قبل نحو ثلاث سنوات، والسيناريو مكتوب منذ أعوام عدّة، فإن <<خلص>> ينتمي إلى ثقافة النقد الذاتي التي تأخذ اللبنانيين إلى راحتهم الداخلية، في حال تعاطوا معها بجدّية واحترام ووعي. ذلك أن الفيلم ليس إلاّ واحدة من تلك المرايا التي أبدع برهان علوية في صنعها بجمال قاس، كي يتسنّى للمرء أن يرى ذاته من خلالها، بكل ما في هذه الذات من بشاعة وتمزّق وألم وبهاء وتناقضات.

ربما لا <<يحقّ>> لي أن أكتب عن الفيلم الجديد لبرهان علوية، قبل أن يكتمل. ربما لم يهدف العرض الخاص إلى أي تعليق نقدي. لكن <<خلص>> يُحرّض على النقاش، ويفتح العين والقلب والروح على أفق المعنى الآنيّ لبيروت وحياتها وفضائها وناسها وانفعالاتها وشقائها، ويحثّ على الكتابة التي تستقي كلماتها الأولى من القلب والروح والانفعال. لا شكّ في أن هذا الفيلم يحتاج إلى قراءة نقدية تحليلية مستقلّة، لا تكتفي بالتجوّل في تفاصيله فقط، بل تغوص في أعماقه الملتبسة والمعلّقة كأعماق شخصياته ومصائرهم المدوّية بين الغربة والدم والانكسار.

مسار

حقّق برهان علوية فيلمه هذا في المرحلة الممتدة بين العامين 2002 و2004، ولا يزال محتاجاً إلى بعض الوقت لوضع اللمسات الأخيرة عليه. وعلى الرغم من ذلك، فإن <<خلص>> شكّل مفصلاً تاريخياً في السيرة الذاتية والمهنية للمخرج، إذ بدأ تنفيذه في العام الأول بعد بلوغه الستين من عمره (وُلد في الأول من نيسان 1941)، وفي العام الأول أيضاً بعد الثلاثين على إنجازه الفيلم الأول له، وهو بعنوان <<ملصق ضد ملصق>> (1971)، كما أنه الفيلم الروائي الطويل الأول الذي يحقّقه في مرحلة ما بعد <<انتهاء>> الحرب اللبنانية، التي لا تزال تُعتبر واحداُ من أبرز <<الهموم>> الثقافية والفكرية والحياتية والإنسانية الخاصّة ببرهان علوية، والتي تشغل الحيّز الأكبر والأهمّ في الغالبية الساحقة من أفلامه المختلفة.

بالإضافة إلى هذا، فإن <<خلص>> يستكمل المسار الفكري والجمالي لمخرج <<بيروت اللقاء>> (1982) و<<رسالة من زمن الحرب>> (1985) و<<رسالة من زمن المنفى>> (1990) و<<إليك أينما تكون>> (2001). ذلك أن علوية مسكون بالهمّ الإنساني في مواجهة القدر والموت والدمار، ومشغولٌ بالبحث في معنى الذاكرة وعنه، من خلال أناس عاشوا الخراب الكبير، وعرفوا التفاصيل الكثيرة للذلّ والقهر والألم. وهو لا يتوانى عن معاينة الحرب اللبنانية وآثارها، ممعناً في تفتيتها وطرح الأسئلة المختلفة فيها وعنها، وساعياً إلى قراءة تداعياتها في مرحلة السلام الهشّ والمنقوص هذا. وفي المقابل، لا ينفصل عن الأمة العربية، ولا يتردّد في خوض تساؤلات الفرد والجماعة فيها، ولا يتجاوز آفاقها المتنوّعة: من فلسطين في <<كفرقاسم>> (1973) إلى حرب الخليج الثانية في <<خسوف في ليلة مظلمة>> (مقطع روائي في فيلم جماعي بعنوان <<حرب الخليج... وبعد>>، 1992)، مروراً بمصر العمارة في <<لا يكفي أن يكون الله مع الفقراء>> (1978) وأحد إنجازات ثورة الضباط الأحرار (السدّ العالي) في <<أسوان>> (1991). هذا دليل على التزام علوية مداه العربي، وتحويله السينما مرآة ما تعكس وجع الإنسان العربي وأفق أحلامه، وتؤكّد انتماء اللبناني إلى الجغرافيا العربية وتاريخها.

لم تخرج أفلام برهان علوية عن سينما رفضت الانصياع إلى تركيبة الأعمال التي صنعها سينمائيون عرب عديدون، بين أربعينيات القرن الفائت وستينياته. ولم تخضع للشروط التجارية والاستهلاكية، واستمدت موادها مما يعتمل في داخل المجتمعين اللبناني والعربي من غليان ثقافي واجتماعي وسياسي واقتصادي وانفعالي وذاتي وروحي، أي من غليان إنساني بحت. سينما حاولت أن تجعل من الشكل المتجدّد (تصويراً وتوليفاً وتركيباً بصرياً وإدارة ممثلين وبناء شخصيات) لغة تتلاءم والمتطلبات الفنية الجديدة التي رغب سينمائيون لبنانيون وعرب مجدّدون (وبرهان علوية واحداً منهم) في طرحها.

السفير اللبنانية في 10 نوفمبر 2005

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

التالي
السابق
أعلى