جديد الموقع

كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما

 

 

التالي
السابق

كتبوا في السينما

سينما المقاومة في فلسطين

«الحس» للإيطالي فيسكونتي

يسري نصر الله: أفلامي بسيطة وشديدة الخصوصية

غودار: نحن أقرب إلى نقطة النهاية لأننا عاجزون عن الكلام

مـئـويـة غريتـا غاربو..

كـيف أنام والـنوم مــن دونك إهـدار للحياة!

 محمد سويد

لا أريد أن أفكر، أريد أن أحيا وأشعر

يقدم فيلم ماتا هاري فرنسا في صورة بلد أضحى، عشية سدل الستار على الحرب العالمية الأولى، وكر جواسيس من جميع الأجناس. يستهـل المخرج جورج فيتزموريس أحداث فيلمه، المصوّر عام 1931، بتنفيذ حكم الإعدام رمياً بالرصاص في ثلاثة رجال آثروا الموت على إفشاء هوية مخدومتهم. بعد مصرع الرجلين الأولين، يتقدم مفوّض الشرطة من رفيقهما الثالث عارضاً عليه مقايضة نجاته بإفشاء سرّ ماتا هاري وفضح عمالتها للألمان. رغم دنوّ أجله، يأبى البوح باسمها ويخرّ صريعاً. بموته رسم علامة استفهام سبقه إليها وحملها في أعقابه رجالٌ آخرون وهبوا أنفسهم قرابين ليس تكفيراً عن إثم خيانة وطنهم وإنما قهراً من استحالة حبهم لامرأة تركتهم يتلوون في أسر الوجد.

كرمى لعينيها، وضع العاشق ألكسيس إيمانه جانباً وأزال لوحة العذراء من فوق سريره انصياعاًً لإرادتها. لا مكان لأيقونة أخرى غيرها. بين يديها، يلتقي الغرام والحرام. من أهدابها، تتدلى حياة يتعلق بها المغرمون وتسري في أوصالهم نُذُر استوكهولم، على وصف علماء النفس لحال الضحية المتشبثة بجلاّدها. يستأهل علم النفس إعادة النظر في مصطلحاته واستبدال نُذُر استوكهولم بعوارض غريتا ، تيمّناً بفتاة استوكهولم غريتا غاربو وسحرها الأزلي.

قبل قرن، أبصرت النور في خريف العاصمة الأسوجية. وقبل خمسة عشر عاماً، انطفأت في ربيع نيويورك عقب انقطاعها المديد عن الأضواء منذ ظهورها الأخير في المرأة ذات الوجهين للمخرج جورج كيوكر عام 1941. اختفت بمشيئتها وبقي لمعجبيها لملمة شتات طيفها. احتفظت لنفسها بلغزها. راحت إلى غياب أشد غموضاً من شخصيات أفلامها. لاذت بعزلتها وتنازلت عن عرش جمالها لنسك عزاه جامعو قصصها المنثورة إلى رغبة، لا بل نغمة كلمات وردت على لسانها في الفندق الكبير وأمست أشهر من نار على علم: في غرفة من ذاك الفندق حملت الرقم 170، استلقت فوق أريكتها وقالت بملء التعب، أريد أن أكون وحدي . تكرر ذكر هذه الجملة ثلاث مرات. في المرة الثانية، أطالت أمدها بنيّة التشديد على مرادها. أريد أن أكون وحدي ، رددت وأردفت، وحدي فحسب . صارت هذه الكلمات قولاً مأثوراً يُرجع إليه. فعلاً، ما أحلى الرجوع إليه.

فقيرة استوكهولم، معشوقة الحظ

18 أيلول 1905: ولدت غريتا لوفيزا غوستافسون في العاصمة الأسوجية. عاشت طفولتها ومراهقتها في منزل فقير. كان والدها بستانياً متواضعاً. في الرابعة عشرة من عمرها، خرجت من البيت بحثاً عن الرزق. عملت محممة شعر في صالون حلاقة ثم عثرت على وظيفة في متجر وتحوّلت عارضة في آخر المطاف. بين عامي 1922 و1924، انتسبت إلى المسرح الدرامي الملكي ودرست التمثيل. في بداية دراستها، تعرّف اليها المخرج إريك بيتشلر ومنحها فرصة ظهورها السينمائي الأول في الشريط الصامت بيتر المتسكّع (1922) وحمل دورها اسمها الحقيقي غريتا. في ختام دراستها، التقاها موريتز ستيلر، أقدم المخرجين الأسوجيين سناً وأعجب بها. كان مهاجراً من أصل بولوني، ولد في هلسنكي وحقق شهرته في استوكهولم. على يديه، تعلمت أصول التمثيل السينمائي واتقنت حرفته. منذ اللحظة الأولى، غامر بها وراهن عليها. آمن بمواهبها. أعطاها اسمها الفني غريتا غاربو وأسند إليها دوراً مهماً في فيلم طويل، قصة غوستا برلينغ (1924)، ناهزت مدة عرضه أربع ساعات وأعلن الولادة الحقيقية لغاربو وصورتها الأخاذة.

يرى الممثل الألماني المخضرم ماكسيميليان شيل أن الحظ عامل أساسي في مهنة الممثل تفتقده مهن أخرى. عدا المتيّمين بها، كان الحظ عشيق غاربو. ما من ريب في أن السماء أرسلت إليها موريتز ستيلر وأمسك بيدها حتى أوصلها إلى هوليوود. بعد ذيوع صيته في أسوج، تلقى دعوة من مترو غولدوين ماير للعمل في استوديوهاتها. رحب واشترط. أصر على إدراج اكتشافه الجميل غاربو ضمن الاتفاق. أذعن أقطاب الشركة العملاقة لطلبه وحل المخرج ونجمته في ضيافتهم. غالب ستيلر الظن أن شروطه وحريته الفنية ستكون موضع احترام في هوليوود. فور شروعه في العمل، انقلبت الآية. شاءت سخرية القدر أن يـجد نفسه محاصراً بالحواجز ولم يتحقق من شروطه سوى تثبيت قدمَي نجمته ومحظيته الشابة. منّى النفس بإمكان بقاء غاربو في رعايته وعملها في أفلامه المقبلة في هوليوود. ما حصل، أنه أقصي عن إخراج باكورة أفلامها الأميركية الشلاّل (1925)، وما أن تسنى له العمل معها في فيلمها التالي، الغاوية ، حتى دبّ الخلاف مع منتجي مترو غولدوين ماير وانتهى الأمر بطرده وتعيين مخرج آخر محله. لم تدم تجربته الهوليوودية أكثر من عامين. آب إلى وطنه خائباً وحملت الأيام خبر موته عام 1928. صدمت غاربو بموت أستاذها وأبيها الروحي. شعرت باليتم والضياع بيد أنها استمدت القوة من علاقتها بالممثل جون غيلبرت. لقاؤهما تجاوز حدود الصداقة، نجاحهما المهني المتوّج بتكوين ثنائي عاشق ألهب عواطف الجمهور عام 1927 في فيلمي حب و الجسد والشيطان . أحبها وأحبته. هذا ما حدث في بساطة. قبله، ذاب موريتز ستيلر في غرامها وبعدما غادر هوليوود وتركها في عهدة الأضواء، لم يدر المسكين أن أيام عمره باتت معدودة حتى فارق الحياة عن ثمانية وأربعين عاماً.

ما برحت علاقتها بستيلر وغيلبرت محط اهتمام وتساؤل، ذاك أنها تمكنت، في كنف غموضها، من تحييد كل من اهتم بنبش أسرارها العاطفية وحمله على الاكتفاء بوضعها في دائرة الاحتمال. طوال عزلتها المديدة، تسربت الشائعات وخلت من أسماء الرجال مفسحةً التكهن بميلها إلى بنات جنسها والتستر على حياتها العاطفية بنكرانها. لو سُئِلت عن الحب العظيم آنئذ، لما توانت عن الإجابة، أؤمن باحتماله ولا أؤمن بوجوده ، على قولها في فيلم الملكة كريستينا .

عاشت غريبة، ماتت غريبة. غربتها سرّ خلودها وجوهر أسطورتها. من حكايا السينما ونوادرها أن شركة مترو غولدوين ماير ترددت في تبنّي الممثلة الوافدة من اسكندينافيا وضمها إلى نجومها ولم تقتنع بجدوى تسويقها إلا حين لاحظت أن عزوفها عن الكلام ومؤاثرة السكوت كانا العلامة الفارقة في صورتها. من وحي صمتها، سميت أم الهول ، وكان أبو الهول من الألقاب المستعارة في تمجيد كبار رواد الحقبة الصامتة من نجوم هوليوود، أمثال شارلي شابلن ولون شاني. اقتداء بمعجزة الهرم الفرعوني، تربعت غاربو في ملكوت السينما صرحاً شامخاً بالصمت.

أعطني ويسكي ولا تكن بخيلاً

مرة أخرى حالفها الحظ وبرهن أنه أكثر ثباتاً في عمرها من كلّ إنسان عبر ذاكرتها ومن كلّ عشيق أو بالأحرى من كلّ شائعة عشق مجهول طاولت رجال حياتها ونسائها في آن واحد: بعد اجتيازها صدمة رحيل أستاذها ستيلر، واجهت امتحان انتقال السينما إلى حقبتها الناطقة. حتى أواخر عشرينات القرن المنصرم، قام نجاح السينما الصامتة على أكتاف ممثلين وممثلات جاؤوا من المسرح، أو أتوا بحسنهم المدلل من غير حاجتهم إلى أكثر من إرشادات مخرج وإجادة التصرّف أمام الكاميرا. كانت وسامة الطلعة في غنى عن بهاء الصوت إلى أن أحدثت استديوهات الإخوة وارنر ثورة في إنتاج أول شريط ناطق بالكامل، مغنّي الجاز ، وتبع زوال الفيلم الصامت القضاء على مستقبل العديد من ممثليه وعلى وجه الخصوص نجومه. بالضحك وصيحات الاحتجاج ساء هواة السينما اكتشاف رداءة أصوات معبوديهم وسقوط سحرهم وهالة جمالهم وقدسية أساطيرهم في عجزهم عن النطق السليم. من يعد إلى بعض كلاسيكيات السينما مثل ميوزيكال الغناء في الشتاء لجين كيلي وستانلي دونان ودراما سانسيت بوليفار لبيلي وايلدر، يَرَ هول ما نزل بنجوم السينما الصامتة من ازدراء ومآس تستدر الشفقة. كان في مقدور المصيبة ألاّ توفر غريتا غاربو وتترك أسطورتها في ذمة النسيان. خفق قلبها من أن تأتي رصاصة الرحمة من صوتها وتحيلها فلولا لضحايا الحقبة الصامتة. لما أزف موعد عرض أول أفلامها الناطقة، آنا كريستي ، المنقول في إشراف المنتج والمخرج كلارنس براون عن مسرحية في العنوان نفسه ليوجين أونيل (1931)، بوشر العد العكسي وازداد رواد الصالة رعباً من تأخر ظهور النجمة ما يزيد على ربع الساعة منذ بداية العرض. نحو الدقيقة الخامسة عشرة وإثنتي عشرة ثانية، طرقت باب الحانة وأطلت بقبعتها وحقيبة سفرها. في تمام الدقيقة الخامسة عشرة والنصف ارتاحت في جلوسها الى الطاولة، نظرت إلى النادل و... نطقت: أعطني ويسكي ولا تكن بخيلاً . إلى هذا اليوم، لا تكتمل رواية السينما الناطقة بلا ذكر عبارة Gimme a whiskey . كان الناقد والصديق الراحل سمير نصري يقول لي إن مطابقة صوت نجمة خارقة الأنوثة بوجهها تفضي إلى تحسس الرجل داخل المرأة. تبدو فتنة أميرات الشاشة ناقصة من دون تواؤم الجنسين. وعلى ذكر العبارة الآنفة لغاربو وطريقة أدائها، خرجت الكلمات من حبالها الصوتية رخوة على شيء من الخشونة وتراءت لطافة الوجه ونعومة البشرة كأنهما غشاء لذكورة مضمرة. ما كان لهذه الذكورة أن تنزع غشاءها إلا حين اقتضى دور غاربو في الملكة كريستينا تنكرها في ثوب شاب. في هذا الفيلم الممهور بتوقيع المخرج روبن ماموليان عام 1933، توارت أنوثتها في فتوة صبي وتماهت جاذبيتها في مثلية جنسية موحية ونافرة في الوقت عينه. بمعايير العصر الحالي، يستعيد حوار غاربو مع نادل الحانة وطلبها كأساً من الويسكي زمن البسمات الحنونة قدر ما يفتح شهية المتهكمين على أساليب التمثيل في القرن الغابر. وراء خشونة صوتها رواسب لكنة متجذرة في لغتها الأسوجية الأم. أكثر من صلابة الصوت وامارات الرجولة الخفية، حملت فتاة استوكهولم إلى اللغة الإنكليزية بروداً وتقطعاً من المرجح أنه فعل فعله في تقطع أوصال المسحورين بفتنتها وغرابة أطوارها. بقليل من التصرف الألسني غير الموضوعي، يطيب لي الادعاء أن اسم غاربو تحوير لفظي لنعت الغريبة في العربية. كان يحلو لصنّاع النجوم في عصر السينما الصامتة اشتقاق ألقابهم الفنية من مفردات عربية. للمثال جاءت تسمية ثيدا بارا، رائدة أدوار المرأة القاتلة في إغرائها على الشاشة، من القراءة العكسية لـ موت عربي (Theda Bara هي تقريباً وبالمقلوب Arab Death). لم تكن هذه حال غريتا غاربو. لغرابتها علاقة بالزمان وليس بالمكان. في المقدمة الإعلانية لفيلم الملكة كريستينا ، كُتِب بالخط العريض: عذراء من القرن السابع عشر تحيا جنون القرن العشرين . مدى أفلامها، دأبت في اختيار أدوارها على تحدي العرف ومخالفة المألوف. بخلاف النجمة الحريصة على صورتها المثالية والنهايات السعيدة في أفلامها، تقمصت المومس في أول أدوارها الناطقة، وأخذت من الملكة كريستينا تنكرها في ملامح رجل، وارتضت الخيانة الزوجية فداء العشق في آنا كارنينا ، وفيما ارتدت لباس الجاسوسة ماتا هاري وأغوت عشاقها بالرقص أمام تماثيل الآلهة، عاشت اكتئاب الراقصة في الفندق الكبير واستسلمت لحب لص يواجه مصيراً مشؤوماً. تملكتها رغبة العيش في زمن آخر، وتقربت من نساء الأدب الروسي والعهد القيصري البائد والنساء الآفلات في جمر الرغبة ونار الخطيئة ورماد المغفرة. من آيات ذلك إقبالها على انتحال شخصية آنا كارنينا مرتين، الأولى في شريطها الصامت مع جون غيلبرت، حب ، والثانية في شريط ناطق، بمشاركة الممثل فريدريك مارش، عرف انتشاراً أوسع من سلفه وحمل عنوان رواية آنا كارنينا لمؤلفها تولستوي، أو الكونت ليو تولستوي وفقاً لما ورد في مقدمة الفيلم. في مراجعة لأبرز أعمالها الناطقة طوال ثلاثينات القرن الماضي، يمكن التوقف عند تقمصها عدداً من الشخصيات الروسية: راقصة الباليه المتقلبة المزاج غروزنيسكايا في الفندق الكبير لإدموند غولدينغ (1932)، الزوجة الخائنة في آنا كارنينا لكلارنس براون (1935) والعميلة البلشفية الآتية من الصقيع في نينوتشكا لإرنست لوبيتش (1939). ولئن ارتدت ثوب الجاسوسة ماتا هاري ، فقد اكتشفت في حضن الطيار الروسي ألكسيس مأساتها العاطفية الكبرى.

إلى نقطة ضعفها من السحر الروسي، أعاد كتّاب قصصها السينمائية التذكير بأصلها الأسوجي كلما سنحت لهم الفرصة. من عنوان الملكة كريستينا ، يفهم المتفرج أنها صاحبة العرش الأسوجي في القرن السابع عشر. ومن بداية آنا كريستي ، يتضح أن بطلة الفيلم المقيمة في ولاية مينسوتا ابنة بحار ومهاجر أسوجي رآها للمرة الأخيرة في استوكهولم يوم كانت في الخامسة من عمرها.

شذا غاربو

عندما استقرت غريتا غاربو في الولايات المتحدة وأضافت إلى استديو مترو غولدوين ماير سبباً جديداً للتفاخر بشعاره الشهير أنه يمتلك من النجوم ما لا تمتلكه السماء ، نعمت هوليوود بما سمّي في ثلاثينات القرن العشرين شذا غاربو . ترفعت عن الأساليب المكشوفة في المنافسة والعداوات المهنية. ومع أنها عملت في هوليوود ولم تفارق نيويورك حتى وفاتها، فهي تفادت اختيار أدوار تجسد المرأة الأميركية وثقافة محيطها في صورة مثالية.

إلى حد بعيد جداً، تجاوزت معنى المكان ودارت رحى أفلامها في أرضها الأم ( الملكة كريستينا ) وفي برلين ( الفندق الكبير ) وباريس ( ماتا هاري و نينوتشكا ) وروسيا ( آنا كارنينا ). جاءت إلى أميركا غريبة ودفنت في ترابها غريبة. أحبت حتى الابتعاد عن نفسها واسمها. يؤثر عنها لهو التخفي بهوية الآنسة هارييت براون . وبصرف النظر عن اختتام مشوارها الفني بفشل ذريع، حمل عنوان فيلمها الأخير دلالة معبّرة: المرأة ذات الوجهين . لعل في هذه الدلالة ما يطابق قولها في آنا كارنينا إن عالماً بلا خداع هو كالجنة في الأرض .

يقول السينمائي الإيطالي الراحل فدريكو فلليني إنه لا يذكر من غريتا غاربو غير رموشها ومن أفلامها سوى أنها أبكت أمه. لم تكن مصادفة، والحال هذه، أن تمنى بالفشل بعد ظهورها في فيلم كوميدي. ثمة شحنة ميلودرامية هائلة في الأفلام السابقة على دورها الكوميدي في المرأة ذات الوجهين . فلم يكن صفاء الضوء وهدأة الطبيعة هوى غاربو. كانت تلك المرأة الآتية من ضباب ( آنا كريستي ) ومطر ( ماتا هاري ) وبرد ( نينوتشكا )، فضاؤها الثلج ( الملكة كريستينا ) و مصيرها محتوم لليأس والأمل ، على حد آنا كارنينا . هكذا لاقت النهاية التراجيدية لبطلة تولستوي تحت عجلات قطار، وفوجئت بمصرع عشيقيها في الملكة كريستينا و الفندق الكبير وتحملت ضيم ماتا هاري حين أصيب حبيبها أليكسيس بالعمى ومضت إلى حفل إعدامها من دون أن تتركه مرتاباً في سعادتها. السعادة والحزن سيان عندها. أشعر بالألم والدموع لأني في غاية السعادة! ، قالت في آنا كارنينا . رسولة الحزن السعيد، هي، لا تكف عن تأثيم نفسها هرباً مما وصفه كاتبو سيرتها بالإحساس المفرط بالذنب المستمر منذ طفولتها البائسة: في الرابعة عشرة من عمرها، مات والدها. وفي وقت لاحق، مرضت أختها وماتت. لم تستطع فعل شيء لهما. ظلت أسيرة هاجس أنها طريدة الذنب. الذنب يلاحقني ، قالت في آنا كارنينا ، وهو شعور متلاحق في معظم أفلامها. في آنا كريستي ، طاردها ذنب المومس. وفي آنا كارنينا و ماتا هاري و الفندق الكبير تباعاً، لاحقها ذنب الخيانة الزوجية والعمالة واستحالة المجد الدائم.

بياض الشبح

بلغ مجموع أفلام غريتا غاربو سبعة وعشرين فيلماً، صوّرت جميعها في أميركا باستثناء إثنين منها في أسوج وفيلم وحيد في ألمانيا. كانت أكثر نجوم متروغولدوين ماير تلألؤاً، أعطاها هذا الاستديو العريق السلطة المطلقة على أعمالها وحق الامتناع عن حضور حفلات العروض الافتتاحية لأفلامها الجديدة ومقابلة الصحافيين.

لم تكن في حاجة إلى دعاية. احتجابها عن الأنظار كان دعاية في ذاتها. ولم تخل أفلامها من ترقب إطلالتها، يبدأ العرض وتمضي دقائق تناهز أحياناً ربع الساعة أو أكثر ( آنا كريستي ، الفندق الكبير ) قبل ظهورها برموشها الطويلة ونظراتها الناعسة وبرودها المشتعل إغراء. حمل توقيت ظهورها على الشاشة سلوك سيدات المسرح. بموجب الامتيازات الممنوحة إليها، تحكمت بكل العناصر المسخّرة في خدمة أفلامها. وضع في تصرفها أمهر الكتاب، ألمع المخرجين، أبرع المصورين، أنجح مصممي الأزياء، وكانت صاحبة الحل والربط في اختيار شركاء التمثيل. أثناء تصوير الملكة كريستينا ، انزعجت من العمل مع لورنس أوليفييه. طردته وأرغمت متروغولدوين ماير على استبداله بجون غيلبرت.

أرادت من قرارها مساعدة حبيبها المفترض غيلبرت المهدد بأفول نجمه في زمن الصوت. يصعب تبرير طرد ممثل من قامة لورنس أوليفييه بغير النزوة الشخصية. الحديث عن غاربو هو في بعض نواحيه حديث عن غاربو، وحدها ووحدها فحسب.

أريد أن أكون وحدي، وحدي فحسب ، قالت وفعلت. أفلامها صورة عنها. عندما عاودت مشاهدة هذه الأفلام، شعرت أنه لم يتبقّ منها غير الأزياء والديكورات الباذخة وفوقها جميعاً جمال غريتا غاربو. جمالها تسأل عنه الكاميرا وليس السينما. أستعير من فلليني وصفه لها بالطيف. قال إن أحلى ما فيها أهدابها. بالأسود والأبيض صوّروها وكانت شديدة البياض من حدة الأضواء المركزة عليها حتى بدت كأنها شبح. في صحبة هذا الشبح، لم يستطع ألكسيس العاشق إغماض جفن. سألته ماتا هاري، لماذا؟، أجاب، كيف أنام والنوم من دونك إهدار للحياة . لو كانت ماتا حية في زمن غريتا لعلمت أنها ليست سوى شبح غاربو.

النهار اللبنانية في 17 نوفمبر 2005

الحلم بالأبداع وحده لايكفي من اجل واقع السينما

طاهر عبد مسلم  

I

قصة الأبداع وحدها لاتكفي لكي نقرأ الواقع بثبات ... خلاصة قالها منظر اسمه فيركلوج وهو يراجع صلة الفيلم والفنون السمعية البصرية بالواقع واي واقع اشكالي هو ... والفاصلة كبيرة والقطيعة متصلة ... ولاتدري لم تتفاقم الأوضاع وتغدو العملية الأبداعية ضربا من الترف واللاجدوى وبضاعة مفلسين في اوساط الأمم المبتلاة بالتخلف والجهالة .. وكذا الأمر مع   ثلة تتكرر في كل عهد من القائمين على امر ما يسمونه الأبداع والأبداع لايمت لهم بصلة لامن بعيد ولا من قريب .. ولذا لاتستغرب ان تتسرب الجهالة الى كل صعيد حتى يقول قائلهم عن اي شيء يتعلق بالأبداع وبما في ذلك الصحافة الثقافية : ( وماذا يعني ؟ او شنو يعني  ) .. عند هذا السؤال القطعي تتحقق صور التخلف حقا والا فيم كل هذا التباكي على السينما وأيامها ولياليها ؟ ولم هذه الحساسية المستشرية في قراءة صورة الأبداع الذي يجب ان يكون منزها عن كل نقد .. ويمضي فقط في تدبيج المديح .. ويتطور الى كتابة القصائد العمودية التي كانت تلقى في مناسبة وبدونها بين يدي الأصنام والطواغيت والطغاة .. لالشيء سوى انهم يملكون المال والجاه ... كم هو محزن هذا الفصام المرير الذي يتم فيه صنع مزيد من الأصنام وحتى في صميم العملية الأبداعية الوهمية التي تساق هكذا عنوة في عمليات غير اصيلة ولا صلة لها بالواقع ... مجرد هلوسات كلامية وصورية يجب على الآخرين ان يصدقوها... القصة ياصاح ليست بهذه الصورة التي يحشر فيها الناس في زاوية ضيقة ويخنقون من فرط تكريس الحالات الصنمية على صعيد شيء هجين وغير حقيقي يسمونه هم  ( ثقافة ) ويسمونه ( ابداعا ) ويسمونه( سينما ) ... مرة صادفني شخص راح يتفحص معي عمودا كتبته واذا به يحفظ منه مايريده هو ويتجاهل  سواه ... ذكرني بصورة الساسة الذين قادوا الأمم الى مهالك تتكرر وتتناسل اذ ظلوا يطربون لما يشجيهم ويسكرون بقصائد المديح وهتافات الكومبارس ويتطيرون من همسة ناقدة والقصة معروفة امامنا بالتفصيل عبر ماعاشه عراقنا الجريح من مآس. 

II

اذا كان حقا ان قصة الأبداع وحدها لاتكفي لقراءة الواقع ... فكيف يقرأ هذا الواقع ياترى ... اذا كانت كل المعية وبراعة وعبقرية المبدع لاتسعفه دوما لقراءة هذا الواقع بدقة فماذا عن الجاهل والعاجز والمتشبه بالأبداع والمحسوب على الثقافة والأبداع والسينما ؟ ما حاله ياترى وما  صلته بالواقع ؟

قصص تترى وانت تشهد هذه السريالية التي لايربطها رابط لأناس يتكافأون على بعضهم ويشد بعضهم بعضا ولا يربط بعضهم رابط سوى (المصلحة) و ( المنفعة ) والصراعات العابرة والعقد الشخصية ...حتى ولو   من خلال مايسمى ثقافة وما يقال انه ابداع ... وبينما رسول حمزاتوف يحاكي الطبيعة قائلا : ايتها الطبيعة يا علامة العجز البشري ... اجل هي قمة من القمم التي لايطالها احد ... اعجاز ابداعي خارق ولا حد له ... ولذا كان هاجس الأنسان ان ينحت على هذه القدرة الجبارة بالمحاكاة والمحاولة مع كثير من العمل والدأب والصبر ومع قليل من الأدعاء والضجيج...

الأعلام اليوم صورة اخرى لهذا الواقع المرتبط بالأبداع والثقافة : يراد لهذا الأعلام صحافة مقروءة ومرئية .. وبسبب الفراغ وضعف المهنية ان يصبح ذيليا وتابعا ... للحكومة والمسؤول وحتى تاجر(  الشنطة السينمائية والثقافية هذه المرة ).... ولذا يستشيط هؤلاء من اي نقد ويعدونه نغما نشازا تطبيقا لنظرية المؤامرة ... وتغيب في ظل هذا قيم تربوية تتعلق بأصول الحوار ومنطق فهم الآخر والتعاطي مع النقد وتقليل مساحة الوشاية والسوء .

الصحافة والأعلام الحر والقلم الحر لن يكون عبدا لسلاطين جدد واصنام جدد  في اي حقل ثقافي ولا اباطرة جدد تصنعهم المخيلة غير السوية  والمصالح. 

III

مرة ... حادثني  صديق مهتم بما نكتب هنا وهو لايني ينشره في مواقع الشبكة العالمية ... جاءني برأي في غاية الغرابة : ان سلطان الكلام ... وجستابو الثقافة لاموه على مايفعل ... وما يقدم من خدمة ... وقالوا : حري به ان يدبج مقالات المديح والقصائد العمودية (للميلاد) .. ميلاد النماذج الهجينية ...بدلا من الحفر في الأبداع ...وتتبع من يقوى على كتابة العمود موسوما  بالتجدد والتنوع والخصوبة  وهذه الأستمرارية مما تقدمه الزمان لقرائها منذ سنوات وماتزال ...

قلنا له ياصاح ... اليس من الأفضل ان تثبت نفسك  وتكتب شيئا من افكارك تفيد به الناس  ...مادام المرء مخبوء تحت لسانه وتحت قلمه لو شئت ... اجاب في نبرة من انكسار و فشل مزمن :  انه يقاطع المنابر .. لكنه لايني يتشمم هنا وهناك ويتسقط كل شاردة وواردة وكل قيل وقال ...

اشكالية اخرى ... ان يعجز الأبداع عن قراءة الواقع حقا ...

لانحتاج مزيدا من الخبراء كي يقدموا مزيدا من التوصيات .... فالساحة تعج بهم .... والأبداع طوع البنان.... يوم عجز الفيلسوف هيدغر عن حب العالمة وتلميذته العبقرية (حنا ارندت ) يومها قال ان ابداعه كله لايرقى الى كلمة صدق قالتها ... وهي تردد انها عاجزة عن اللحاق بقامة شاهقة هي هذا الهيدغر ....

ترى .... يوم تتواضع قامات العمالقة امام الأبداع اي درس يمكن ان يتعلمه التلاميذ وهم يدرجون في مهاد هذه الفوضى الكلامية والسمعية البصرية وهذا الهباء ( الثقافي ) وهذا الألتباس والأستقطابات القبائلية التي انسحبت الى قبائل الثقافة وقبائل السينما حتى وقبائل الأبداع التي يجب ان نتأملها وهي تجمع مزيدا من الأتباع وتنتج مزيدا من الخصوم الخارجين على الطوق كأيام( سولجنستين ) متمردا على الوشاية والقهر والمصادرة ...

الحرية ياصاح ... هي اكبر من كل الأوبئة وموجات الخراب ... هي اكبر من اموال تجار المرحلة.. تجار الشنطة  ومشتري الذمم الذين يحضرون عند الوليمة ويختفون بعدها  ... الحرية ان لاتعيش هذا الفصام المر... لأن السماء تتسع لكل النجوم ... والأرض تتسع لكل الأشجار ... والمكان يتسع لكل البشر .... والأبداع يتسع لكل المبدعين... لا الأشباه ...

موقع "ألف ياء" في 18 نوفمبر 2005

 

الفيلم الكردي سينما بلا رتوش

تجارب متميزة رغم ضعف الإمكانات التقنية

شاخون ادريس 

شأنه شأن قضيته القومية، فأن الفيلم الكوردي عانى وما زال من التهميش والتغييب بسبب الظروف السياسية التي جعلت منه دائما اسير جدران من الانعزالية وان يكون مغيباً.

فأن الفيلم الكوردي تهيأ له ان يولد من رحم المعاناة، وكانت رحلة البحث عن الهوية السمة البارزة لهذه الولادة التي وان كانت عسيرة في البداية الا انها شيئا فشيئا استطاعت ان تبدع لها سمات وملامح بارزة جعلت منها تقتحم عالم الفن السابع. وبرزت الى الافق اسماء سينمائية كوردية لامعة استطاعت وبحق ان ترسم الصورة الحقيقية لواقع المجتمع الكوردي وبطرق واساليب فنية رغم الامكانيات المادية المتواضعة من جهة وصعوبة الحصول على المواد السينمائية والتصوير في كوردستان، ناهيك عن قلة الخبرة وعدم توفر ملاكات سينمائية كوردية بسبب حداثة هذا الفن في كوردستان مع بداية الثمانينيات. لذلك ليس من السهولة ان نتنصل عن حقيقة مفادها ان الفيلم الكوردي (السينمائي) ولد في المهجر، وعلى ايدي مخرجين كورد اضطروا بسبب الظروف السياسية ان يتركوا كوردستان، لينحتوا بمخيلتهم وعبر عدسات الكاميرات من جديد تاريخهم، واقعهم، معاناتهم... رغبتهم للتحرر والعيش في كوردستان بحرية وبعيدا عن الرقيب...  ولا نستثني من جملة المخرجين الكورد الذين ولدت اعمالهم في المهجر سوى (بهمن قبادي) الذي كان لمتانة السينما الايرانية وانفتاحها على الشأن الكوردي اثرها، من حيث تناول بعض القضايا التي تخص الحياة في كوردستان، ولا خير من تناول السياسية وقضاياها بصورة مبطنة. فهذا المخرج الكوردي الذي بدأ العمل في السينما مساعدا لعملاق السينما الايرانية عباس كيارستمي، وشارك سميرة مخملباف تجربتها السينمائية في الفيلم الايراني (تخته سياه) (والناطق بالكوردية لان احداثه تجري في كوردستان وابطاله من الكورد والقضية في الاساس قضية كوردية).لقد استطاع (قوبادي) ومن خلال سلسلة افلامه ان يضع لمساته الخاصة ويتفرد باسلوبه المتميز والمتمكن في السرد الصوري من خلال اختياره للبساطة في الموضوع والعمق في الطرح، فكانت افلامه (وقت لثمالة الخيول، ضائع في العراق، السلاحف تستطيع الطيران) بمثابة ايقونات فنية شابة تتحدى الاساليب القديمة في اختيار النصوص ومعالجتها الفنية وطرق تقديمها للمشاهد... وقت لثمالة الخيول كان هذا الفيلم بمثابة القنبلة الموقوتة التي اثبتت جدارة هذا الشاب الذي اتى من مدينة بانة الايرانية وبكل تواضع حمل الكاميرا بين ثلوج كوردستان ليرسم ملامح عائلة كوردية تعاني شظف العيش، شأنها شأن العديد من الاسر التي تعيش على اعمال التهريب. القضية لا تقف هنا تحديدا، فقوبادي عندما يقدم هذه الاسرة الصغيرة انما يقدم انموذجا عن مجتمع كوردي مهمش ومغيب في جزء من اجزاء كوردستان، وجنوحهم نحو العمل في التهريب لا يدل على حبهم لهذا العمل كما فسره البعض بل لانهم تجردوا من العمل الرسمي والذي ان مارسوه حتى فأنه لن يكفيهم لسد الرمق فما بالك بالعوائل التي تقطن المناطق الجبلية القاسية والوعرة والتي تعاني من عدم توفر ابسط مستلزمات العيش وهم محرومون من خدمات التعليم والصحة والكهرباء الخ.... ابطال قوبادي في هذا الفيلم يصارعون الحياة بكل صورها البشعة، ورغم هذا فهم متمسكون وبكل اصرار على ضرورة المقاومة... مقاومة كل شيء من اجل البقاء على الحياة...ان تجسيد قوبادي للمجتمع الكوردي في شرق كوردستان من خلال استلهام المأساة والمعاناة ولابطاله وشخصياته التي عندما تراها في الشاشة تشعر لاول وهلة انها شخصيات قد اتت من صلب الواقع الكوردستاني بكل تنوعاته وتشعباته الفكرية والاجتماعية... انه يقدم الحياة ولا شيء اخر، ومن خلال هذا التجسيد فان المشاهد هو الذي يقوم بفك الخيوط والرموز للوصول الى المغزى الرئيس الذي يؤكد عليه المخرج... سألته مرة وفي احد لقاءاتي به... هل تكتب السيناريو قبل ان تصور الفيلم، فقال لي، لماذا هذا السؤال... فقلت له... لا اعلم اشعر ان بعض اللقطات عفوية اكثر من ان تكون مدروسة، فأجابني وهل كانت ضعيفة، فقلت لا... فقال: بل تختمر عندي الفكرة وعندما احضر الكاست اذهب الى مواقع التصوير وهناك اعمل يوما بعد يوم..

موقع "ألف ياء" في 18 نوفمبر 2005

 

الفريد هتشكوك وانفعالات الرعب والترقب على الشاشة

الفريد نمشك    ترجمة : قاسم مطر التميمي 

أشارة طيبة. فبأستثناء (بونيل)  Bunuel  و(فلليني)  Fellini  و(بيرجمان)  Bergman  وربما (ميشيل أنجلو أنطونيوني )  Michel Angelo Antonioni  لم يعيش مخرج فيلمه في وسطه الفني n شخصيا وفنيا وتجاريا - معاندا الى هذا الحد مثل ألفريد هتشكوك . وهو رجل جدي في العمل وصارم لايكاد يماثله أحد . و الممثلون - النجوم الكبارمن جوان فونتين الى جريس كيلي ، ومن بيتر لور الى جيري جرانت - ليسوا سوى (خراف) في مخططات كتب السيناريو المنقحة تنقيحا دقيقا : يكره التوتر أمام الكاميرا ، لأنه خطر على (التشويق) - السلاح السري لهتشكوك ضد تأثير المفاجأة المبالغ جدا في استحسانه .

المفاجأة عند هتشكوك : ثلاثة رجال في مكان ، مخبأة فيه قنبلة . الرجال لا يعلمون شيئا عنها ولا يعلم عنها الجمهور . الرجال يتحدثون عن الطقس ، والقنبلة تنفجر ـ وماذا بعد ؟ وعلى العكس من ذلك التوتر : الجمهور يعلم بوجود القنبلة ، والرجال المتواجدون في المكان لا يعلمون شيئا . وما زالوا يتحدثون عن الطقس . يريدون الخروج . يصلهم نداء في أثناء ذلك ، دقيقة ويحصل الانفجار ـ الجمهور يستبد به الحماس ويذهب الرجال في النهاية ـ انفجار .   

الانفعالات توجه من خلال حركة الكاميرا والأزياء والحوار والرسوم المظللة وتعابير الوجه والموسيقى ؛ المضمون يشتبك مع الشكل : كل حالة يجب ان تكون واضحة كالبلور (كما يقول هتشكوك) ـ لا أحد سواه جمع بين السرد القصصي والتفوق في صناعة الفيلم التجريبي وردا على سؤال وجه اليه ؛ لماذا تباطأ في إنجاز سيناريو فيلمه الأخيرة (مقبرة الأسرة) ، قال : (لقد أمضينا معظم الوقت نفكر في كيفية استبعاد القوالب الجاهزة Klischees) وقد فتش طيلة خمس عشرة سنة عن تحول بصري لمفهوم  (رهاب المرتفعات) Akrophobie ، حتى عثر لفلمه (من مملكة الموتى) على حل تقني : تقدم الكاميرا للأمام ورجوعها للخلف في وقت واحد .      

في مثل هذه التفاصيل يكمن بالتأكيد سر نجاح هتشكوك ، الذي يعتمد أيضا على المضمون : الشك العميق بمواجهة العدالة الدنيوية يستغرق العمل كله ، يظهر فيه الشرطي غبي دائما والقاضي خبيث دائما . التعلق الخطير بالأم ( كما في (مارني) و(سايكو) و(الطيور) . وحسد المراهقة (كما في (فوق سطوح نيزا) والرموز الدينية (الرجل الخطأ) والهاجس الجنسي يعمق التشويق والترقب . في (مارني) شون كونري تواق الى حب السرقة . وفي (من مملكة الموتى) جيمس ستيوارت يريد مضاجعة ميت في السرير . واضافة الى ذلك قال هتشكوك : (اني بحاجة الى نساء ، الى نساء حقيقيات يتحولن فيما بعد الى نساء غريبات الأطوار ، في غرفة النوم). وغالبا ما تحوم التهمة في أفلام هتشكوك حول برئ . حتى ان ناقد أعماله (فرانسس تروفو) Francois Truffaut  قال : (كل أفلامه تتحدث عن قصص مشابهة).

وهتشكوك الذي اشتهر بأفلام الرعب الخالية من العنف . جاء من بعده مخرجون اغرقوا الشاشة بالدماء ، من أمثال : (بريان دي بالما) Brian De Palma  في فيلم Carrie  و(جون كاربنتر) John Carpenter  في فيلم Halloween  و(جورج روميرو) George A. Romero  في فيلمه Zombie.

موقع "ألف ياء" في 18 نوفمبر 2005

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

التالي
السابق
أعلى