السينما التجريبية "مغامرة إبداعية" لا تتوقف عن التجدد والعطاء نحو ثقافة سينمائية طليعية موازية بقلم / دومينيك نوغيز ترجمة / صلاح سرميني |
في دراستنا التحليليّة هذه، سوف تتّضح صعوبة تصنيف "السينما" التي نرغب الاحتفاء بها اليوم، وفي الحقيقة، فإنّ هذه "السينما" ليست بحاجةٍ لأيّ تصنيف، إذّ هي "السينما" نفسها، بامتلاكها لكلّ ما هو حيٌّ وجوهريٌّ في فنّ الصوت والصور المتحركة، والمُفترض أنه بدءاً منها، يجب أن تتموقع الأفلام الأخرى وتُصنّف، كما الحال عندما نفترض مقارنةً ما، بين الروايات السطحيّة المقروءة في المحطات والقطارات لملء الفراغ وقتل الوقت، مع أشعار "رامبو" الخالدة، أو الرسومات المُفتقدة لأيّ قيمةٍ فنيّةٍ - تلك التي يرسمها الناسخون المنتشرون في الشوارع المكتظّة بالسيّاح - مع روائع "سيزان"، أو أيضاً، مابين الأغاني الخفيفة، وقدسيّة موسيقى "باخ". وعلى الرغم من ذلك، نُطلق أحياناً على "السينما التجريبيّة" ـ موضوعنا ـ أسماء مثل "سينما ـ فن" أو "سينما الفن"، والتي شاعت في العشرينيّات، وأيضاً "سينما صافية/خالصة"، "سينما كاملة/تامّة"، "سينما مُطلقة"، "سينما ذاتيّة/جوهريّة/أساسيّة/أصيلة" ... حيث نستدلُّ من خلال هذه التسميّات على رغبةٍ واحدةٍ بالاقتراب من جوهر هذه "السينما" وقوامها. على حين، نُطلق على أعمال "هانز ريشتر"، أو "جيرمين دولاك" بـ "سينما تجريديّة"، أو "إيقاعيّة"، وذلك للإشارة - بشكلٍ خاصٍّ - إلى الأفلام "اللاشكليّة". وفي أوروبا وأمريكا، تحدّث النقاد والسينمائيّون - بشكلٍ منتظمٍ تقريباً - عن "فيلمٍ ـ قصيدة"، "شعرالسينما"، وذلك ما وجدناه في أعمال "كوكتو" - على سبيل المثال – أو عن "سينما الشعر"، كما الحال في أعمال "بازولينيّ". في الأربعينيّات، بدأ الحديث في الولايات المتحدّة عن "سينما شخصيّة"، "فرديّة" أو "خاصّة"، عن "أفلام الحجرة"، بالاستناد إلى "موسيقى الحجرة"، ومن ثمّ عن "سينما/رجل"، أو "رجل/سينما". بينما تسميّاتٍ مثل : "جديدة"، "شابّة"، "مُستقلّة"، والتي نُسبت إلى بعض الأعمال السينمائيّة المُتميّزة، عرفت هنا أو هناك، نجاحاتٍ عنيدة، على الرغم من إلصاق تهمة الغموض عليها. وحوالي عام 1961، وبتحريضٍ من "دوشّا، ستان فان ديربيك، وجوناس ميكاس"، (أو الثلاثة معاً، بالإضافة لآخرين) تألّقت علامة "الأندرغراوند" بعض السنوات، قبل أن تستحوّذ عليها الصحافة السطحيّة وتُشوّهها، وقد عرفت هذه "السينما الموازيّة"، "الهامشيّة"، "السريّة" إزدهاراً ساحقاً لأفلامٍ شخصيةٍ "غير هوليوديّة"، "غير تجاريّة"، مُشوّشة سياسيّا,ً ومُجدّدة شكليّاً، وسنواتٍ فيما بعد، يُصنفها "ب. آدامز سيتني" بـ "سينما تنبؤيّة". وقد تحدّث "غريغوري ماركوبولوس" من جهته عن "فيلمٍ إبداعيّ" أو "الفيلم كفيلم"، والذي يُقرّبنا من "السينما الصافيّة". وحوالي عام 1968، شاع في أوروبا استخدام تسمياتٍ مثل "سينما أخرى"، أو "سينما مختلفة". ومن ثم بدأت تختفي بالتدريج المفاهيم السياسيّة لهذه التصنيفات، حيث تُشير "سينما سياسيّة" أو "نضاليّة" بطريقةٍ أكثر صرامةً إلى سينما "خارج النظام"، والأفلام المُستهدفة بهذه التسميّات هي "أفلام نضاليّة" تحديداً. ومنذ العشرينيّات وحتى يومنا هذا، شاع استخدام تسميّتان فقط، أكثر من أيّ تسمياتٍ أخرى: "سينما أو فيلم" طليعيّة/ي، و"سينما أو فيلم" تجريبيّة/ي، وعلى أيّ حالٍ، تُعتبر تسميّة "طليعيّة" ملائمة، ولكنها لا تعني أشياء كثيرة، وهي بالأحرى لا تُشير أبداً إلى شروط الإنتاج والتوزيع، إحدى المعايير الهامّة والضروريّة للسينما التي تهمّنا. ومنذ "بودلير"، لم يعدّ لمنهج هذه "الاستعارة العسكريّة" أيّ قيمةٍ تُذكر، بينما لا تتخلص "تجريبيّة" من بعض تفسيراتٍ لا تتوافق وما عنيناه في بداية هذه الدراسة، عندما ذكرنا بأنّ هذه "السينما" ـ أيّ التجريبيّة ـ تُصنّف ما لا حاجة به. كما يُزعج هذا التصنيف عدداً كبيراً من المبدعين، لاقترابه بمفاهيم مغلوطة، والشكّ بأنهم يُنجزون أعمالاً غير مُكتملة تتضمن مفهوماً "تدريبيّاً". وتفترض "طليعيّة" وفقاً للمفهوم السطحيّ الذي تمنحه، نموذجاً "مُتفرّداً"، وسينما "مُتقنة" إلى حدٍ بعيد. وإذّ لا بدّ من منح تسميةٍ ما، تصنيف "سينمانا" هذه - وإنّ كنّا لا نرغب في اختيار أيّ تسميةٍ أو تصنيف - نجد بأنّ "تجريبيّة" هي الأقلّ سوءاً من كلّ تلك التصنيفات الغير مرغوب فيها، الأكثر ثراءً في تاريخها، معاييرها، ومفاهيمها، والأكثر ملائمةً وتعبيراً. ولكننا في نفس الوقت، وإنّ قبلنا بهذا التصنيف، فهذا لا يمنعنا أيضاً من الاحتفاظ بالكلمة واستبعادها في آنٍ واحد، وذلك بأن نكتبها ونشطب فوق حروفها السبعة "ت، ج، ر، ي، ب، يّ، ة"، على طريقة العزيز "دريدا"، ليبقى لنا أخيراً "سينما"، اسماً، تصنيفاً، عشقاً واحداً. السينما الشيطانيّة الملعونة ولفهم طبيعة "سينمانا" هذه، يجب عدم إغفال المعنى اللغويّ الإشتقاقيّ لكلمة "تجريبيّ- Expériment"، التي قُررت للمرة الأولى عام 1503، والمُقتفاة من الأصل اللاتينيّ "Experimentalis"، والتي تقترب من الفرنسيّة القديمة "Esperiment"، أو "Experiment" ، والمتحدّرة من الأصل اللاتينيّ "Experimentum"، ويمكن ترجمتها بـ "محاولة" أو "تجربة" ـ من فعل "Experiri" يُجرّب أو يُحاول ـ وعلى الفور، فإنّ "تجريبيّ" تشير إلى مشروع بحثٍ (ربما يكون شيطانيّاً، حيث يشير فعل "يُجرّب" إلى السحر والشعوّذة ...). وهذا يعني، بأنّ "الساحر المتدرّب" ليس بعيداً عن هذه التسميّة، ولا السينما "الشيطانيّة/ الملعونة"، وربما إنطلاقاً من هذا التقارب، نعزو ذلك الإفتتان الذي يُصيب ويشدّ المتفرجين عندما يشاهدون أفلاماً تجريبيّة (نأمل لهم ذلك على الأقلّ). سنوات فيما بعد، وبالتحديد عام 1865، يقدّم العالم "كلود برنار" كتابه "مقدّمة في دراسة الطب التجريبيّ"، والذي يُساهم بدوره في تحريك هذه "الكلمة" وتنشيطها في خدمة معنىً يبتعد ظاهريّاً عن "علم الجمال" بشكلٍ عام، و"السينما" تحديداً. وقبل عامين من ذلك التاريخ، دوَّن الفيلسوف الوضعيّ "ليتريه" بدوره، هذا المعنى في قاموسه عن اللغة الفرنسية، حين ُحدّد بأنّ "تجريبيّ: ما يستند على التجربة". بينما أكدّت القواميس اللاحقة الهالة الإيجابيّة لهذا المصطلح، حيث "تجريبيّ: ما يستند على ملاحظة الوقائع"، على حدّ ما ذكره "هاتزفيلد، دارمستر، وتوماس" حوالي عام 1890، و"تجريبيّ: ما يعتمد على التجربة العلمية" وفق "روبير" و"لاروس" اليوم. والإشكاليّة التي تواجهنا هنا: كيف يمكن الهروب من هذا المعنى المنهجيّ "العلميّ" إلى معناه "الجماليّ" الذي يشغلنا؟ وبتعبيرٍ آخر، كيف نترك لـ "كلود برنار" أرانبه، ونهتم بأفلام "ريشتر" أو "لابوجاد"؟. أولاً، عند "كلود برنار" نفسه، تأخذ - أحياناً - كلمة "تجربة" معنىً يقترب من "النشاط الفني"، إذّ يمكن أن تمتلك متلمساً طارئاً، فالتجربة من أجل الكشف، أو تلك المُعتمدة على الملاحظة والاختيار، والتي تقترب - ربما - من نشاطات مشعوّذ، وتعتمد على تدّخل الصدفة المتعلقة بظاهرةٍ ما، والتعمّد بكشف وقائع لا نمتلك عنها أيّ فكرةٍ في البداية. ونفترض - مثلاً - بأنّ شخصاً ما يريد أن يعزف على "الكلارينيت" للنباتات، وذلك لمشاهدة ومعرفة تأثّرها وإستجاباتها لموسيقى كهذه، ويمتزج النشاط "التجريبيّ" في هذا السياق بـ "الجرأة والعمّى". هذه الطريقة المغامرة بالتوجّه نحو "العمّى" و"الإبداع" بآنٍ واحد، وبدون إجراء ذلك عن عمدٍّ، هي الخطوة التي بدأت منها بعض الأعمال الأكثر أهميةً في تاريخ السينما. قال "ويلز" يوماً عن "المواطن كين": "لم أباشر عمداً لأكتشف أيّ شيءٍ، لقد قلت لنفسي فقط، لِمَ لا؟ يمكن أن يكون الجهل ُمنقذاً كبيراً، وهذا ما قدمته للمواطن كين، الجهل ..." ويعود ـ كما أعتقد ـ إرتباط كلمة "تجريبيّ" بالمعنى "الجماليّ"، بدون أن يكون بالضرورة لاإراديّاً أو مسودّة، إلى "إميل زولا"، إذّ هو الذي جمع في عام 1880 مجموعة نصوصٍ تنظيريّة عن رواية "المستقبل"، حيث يُطبّق منهج وجوهر ما قصده "كلود برنار"، ليس فقط فيما يتعلق بالظواهر "الطبيعيّة"، ولكن "الفنيّة" أيضاً. ففي "الرواية التجريبيّة" - الرواية الشابّة، الأكثر حداثةً من "الطبّ التجريبيّ"، الذي يُعتبر بدوره حديث العهد أيضاً - فقد تعدّى الروائيّ الصدّارة البيضاء للجرّاح أو البيولوجيّ، لكي يلتحق بتواضعٍ بالمختبرات، وذلك بغرض تجميع وحثّ القرّاء على المشاركة في معركةٍ أدبيةٍ حاميّة. خمسون سنة فيما بعد، وبالتحديد عام 1929، ومن خلال النصوص التنظيريّة لـ "دزيغا فيرتوف"، الذي يُحدّد في سياق أحدها، بأنّ منهج "السينما ـ عين"، يتعلّق بالدراسة العلميّة ـ التجريبيّة للعالَم المرئيّ. وفي نهاية المطاف، وبالاستفادة من إشارتنا إلى "الرواية الطبيعيّة" الشابّة، فإنّ كلمة "تجريبيّ" تصبح - بشكلٍ دائمٍ - المرادف لـما هو "جديدٌ وطليعيّ". شروط الإنتاج والتوزيع بعدما تقدّم، فإنّه يحقّ لنا طرح السؤال الأهمّ: ما هي السينما التجريبيّة؟ إنها سينما "بحثٌ شيطانيٌّ"، سينما في "الطليعة"، سينما "تتقدم"، و ... كلّ المفاهيم المضيئة، التي ُيمكن أن تُتوّج بهالةٍ هذه الكلمة الجميلة "تجريبيّة". ولكننا أيضاً، سوف نقترح معياريّن يتساويان في الأهمية و"مُثبتان بشكلٍ تجريبيّ": - يتعلق الأول بشروط الإنتاج والتوزيع. - وينحصر الثاني بالهموم الإبداعيّة الشكليّة. إنّ فرضيّة "التجريب" تعني البحث والتلّمس، وهي بالأحرى تفتح آفاقاً جديدة، حيث يمتلك "المجرّب" وجهة نظرٍ خاصّة عن علاقته بدوائر الإنتاج التقليديّة المغلقة، ومنها "المؤسّسات"، وبإختصار، مع "النظام" و"المردوديّة" ـ أيّ الربح والخسارة ـ هذه الفكرة المقززّة والمثيرة للقيء، لا تعني بالنسبة للسينمائيّ التجريبيّ أيّ معنى، فأن يتمّ مساعدته عن طريق "نصيرٍ للفن"، كحال الفيكونت "دو نواي" الذي موّل "غموض قصر الحظ" لمان ري، "دم الشاعر" لجان كوكتو، "العصر الذهبي" لبونويل، أو مؤسسةٍ (كما في الولايات المتحدة)، أو هيئة فنون (كما في كندا)، أو يعتمد فقط على قواه الذاتيّة (على حدّ تعبير الرئيس الراحل ماوتسيّ تونغ). فالسينمائيّ التجريبيّ لا يؤفلم لكي يبيع، بل ليحقق متعةً خاصّةً يُحسّها المبدع، ولا من أجل أسطورة "الجمهور" أيضاً، بل لبعض الأصدقاء، إنّ لم نقلّ من أجله وحده. ويمكن أن تتنوّع طريقة إنجاز الفيلم وشروط توزيعه (أو عدم توزيعه): من عدم الإكتراث تماماً بما يُسمى "النجاح" - ويمكن القول أيضاً "الرفض المُتكبّر" لكلّ مصيرٍ زمنيٍّ لفيلمٍ ما - إذّ يدمّر بعض السينمائيون أفلامهم بعد إنجازها، كحال كاتبٍ يحرق مخطوطةً كان قد كتبها، أو حال رسامٍ يمزّق لوحةً لم تُرضيه - حتى الهامشيّة المنظّمة، كحال سينما "الأندرغراوند" الأمريكية، والتي تهيّكلت بفضل "جوناس ميكاس" و"تعاونية مخرجيّ الأفلام"، وقد عرفت هذه السينما كيف تمتلك قوتها وتثبت أصالتها. ويختلف الحال في فرنسا عن هناك (على الأقل حاليّاً)، إذّ أنّ عدم أخذ المعيار الأول بعين الإعتبار، وبسبب التهاون، قاد عدداً لا بأس به من الأعمال المُنجزة إلى "داخل النظام"، - أو تقريباً - ولكن لا يمكن التغاضي بالمقابل عن جرأتها وجسارتها، وهذا ما يعطيها الحقّ الكامل بأن تتموقع في المجال المتلألىء للسينما التجريبيّة. وعندما نفكر بأفلامٍ نضاليّة - ونغفر بعض الأعمال القريبة من الأفلام الداعرة - نؤكّد بأنّ "الهامشيّة المنظّمة"، أو حتى "السريّة"، لا تكفيان كمعايير لـ "سينما تجريبيّة"، إذّ من الضروري التأكيد على "المعيار الثاني"، ألاّ وهو "الجماليّ" الصرف. تحطيم وبناء اللغة السينمائيّة يمكن القول إذاً، بأنّ "تجريبيّ"، هو كلّ فيلمٍ يُجسّد هموماً شكليّة إبداعيّة، وهو "المعيار الثاني" المُشار إليه في السطور السابقة، وما نقصده هو كلّ همٍّ يرتبط بالمظهر و"البناء الفيلميّ"، بدون التفكير كثيراً بـ "المعنى" الذي يقدمه. وهنا، فإنّ تحديد "رومان جاكوبسون" للوظائف الستة للغة، يمكن أن تخدمنا فيما نسعى إليه من شرحٍ وتفسير، فهو ينطلق من تصوّرٍ بيانيّ للإتصال الشفاهيّ، ويتحدّد ببساطة، "بمرسلٍ" يُقيم علاقة "إتصالٍ" مع "متلقيّ"، عن طريق "رسالةٍ" تمرّ عبر "رمزٍ"، وتتضمن "محتوىً" (أو مرجعاً).
ويتوافق كلّ عنصرٍ من عناصر الإتصال هذه مع وظيفةٍ
لغويةٍ خاصّة: - "المضمون" مع الوظيفة "المرجعيّة"، وتعني الإشارة إلى شيءٍ ما خارج "الرسالة" - تسميّة، حكيّ، وصف، تفريج -. وتمتلك "الرسالة" الوظيفة "الشعريّة"، أو تُنجز من أجل "الرسالة" لتستهدف نفسها بشكلٍ نرجسيّ، ولتجذب الإنتباه حول مظهرها وبنائها. وبتطبيق هذه الإفتراضات على "اللغة السينمائيّة"، يمكن تحديد الفيلم "التجريبيّ" حيث الوظيفة "الشعريّة" تتغلبُ بشكلٍ كبيرٍ على الوظائف الأخرى، وبشكلٍ أدقّ على الوظيفتين "التأثيريّة" و"المرجعيّة". والتخليّ عن الوظيفة "التأثيريّة"، يعني عدم الإنشغال بقواعد إصطلاحيّةٍ متعارف عليها لـ "الإتصال الجيد"، ولكن قبول أن يقدّم مثلاً "جان لوك غودار" في أفلامه الأولى شريط صوتٍ غير مسموعٍ بشكلٍ واضح، إنّ لم نقل بأنه غير مسموعٍ تقريباً. ويمكن أن تتنوع أسباب "عدم السماع" المقبولة هذه، إذّ ربما تكون فقراً تقنيّاً، التحريض، الإثارة والتحدّي، الرغبة بإعادة تشكيلٍ - بقدرٍ ما - الضوضاء اليوميّة للمدن، أو ببساطةٍ شديدة، محاولة تشكيل عالمٍ حيث "الصمت" فيه مسألة نسبية ... كما يمكن أن يكون القصد أيضاً الرغبة بتسميع ضجةٍ لا ُيمكن إحتمالها، وقد وجدنا أمثلةً من هذا النوع في بعض الأفلام النضاليّة، أو في أفلامٍ مثل "أليس, أو الحياة الحقيقيّة" لميشيل دراش. ونفس الشيء فيما يخصّ "المرئيّ"، حيث يشير "تضبيب" ما هو "مرئيّ" إلى لعبةٍ جماليّة، إستيحاءً دادائيّاً، أو طريقة للإشارة إلى "مرئيّاتٍ أخرى" تستحق المشاهدة، وهي مستترة حتى هذه اللحظة، ولا تمنح إمكانية رؤيتها إلاّ في حالة إنتباهٍ مُركّزٍ ومؤلم. وفي الحقيقة، لا يوجد في "السينما" ما لا يُمكن مشاهدته أو سماعه، فما هو "غير مرئيّ" بشكلٍ مؤقت، هو "مرئيّ" متستّر، وعلينا غزوه واكتشاف أسراره، فتلك الومضات التي تظهر في أعمال: - كوبلكا "أرنولف راينر"/1957 - 1960 - توني كونار The Flicker 1965 - بيير هيبّر Op Hop 1965 ـ - "حول الإدراك"</1968. - بول شاريتز N : A : T : H : I : N : G 1968ـ T, O , U , C , H , I , N , G 1968 ... هي طريقة لتلّمس عينٍ واعيةٍ وفعّالة، ومشاهدة مختلفة، والتذكير بالشكليّين الروس, وما قالوه منذ العشرينيّات، بأنّه لا يوجد إدراكاً حقيقيّاً (ونقول بدورنا جماليّاً) بدون ضيقٍ ومفاجأة. كتب واحدٌ منهم: "على الرسام المُجدّد أن يشاهد في الموضوع ما لم نشاهده بالأمس"، وأُضيف بدوري: "عليه أن يُظهر ما هو كامنٌ ومستتر"، وينطبق ذلك على السينمائيّ أيضاً. "أيقونيّة" الصورة وانطلاقا من التقشف الضروري، حيث "الوحدة البصريّة" ليست اللقطة، ولكنها "الصورة السينمائيّة" نفسها ـ Le Photogramme ـ كواحدةٍ من 24/25 صورةً في الثانية، يتدّخل السينمائيّ التجريبيّ بشكلٍ مباشرٍ فوق الشريط الفيلميّ الحسّاس (الخام)، وذلك بطرائق مختلفةٍ ومتعدّدة، وفقاً لأهواءٍ إبداعيةٍ خاصّة بكلّ واحدٍ من هؤلاء (الحكّ، التخطيط، التلطيخ بألوان سيلولوزيّة ...)والتي يمارسها الأمريكان بشكلٍ جيد، ومعهم بعض الفرنسيين، "رودولف بوكوريل" - على سبيل المثال – في Intervu Exanimé 1974، وقبلهم "الحروفيّين" منذ الخمسينيّات. كما يُجري إضافاتٍ (كولاج شرائط لاصقة، أو قطعةٍ من فيلمٍ فوق أخرى)، والتي نلاحظها عند "جيوفانيّ مارتيديّ" في "فيلم بدون كاميرا رقم 1"، أو عند "باتريك ديلابريه" في "فيلم من قطع". ويُعتبر التصوير أكثر من مرةٍ فوق نفس الشريط، أحد العوامل المشتركة مابين السينمائيين الطليعيين الفرنسيين في العشرينيّات (آبيل غانس، دولاك ...)، والسينما الأمريكيّة الجديدة في الستينيّات. ويمكن تفسير الدور البصريّ لإستخداماتٍ كهذه تفسيراً مجازياً، كحال اللقطة المُكبّرة الشهيرة لـ "جينا مانيز" فوق خلفية بحرٍ في فيلم "قلبٌ مُخلص" لـ "جان أبستين"، وبعض اللقطات في "الإضراب" لإيزنشتين، حيث تطابق صور حيواناتٍ تُضاعف وتشوّه الوجوه ... وربما تنزع إستخداماتٍ كهذه إلى تحطيم "أيقونيّة" الصورة وتغيير تكوينات ملامحها الشكليّة إلى نقاطٍ أو أشكالٍ غير تصويرية، مساحات صافيةٍ من الخطوط والألوان، أو رقصاتٍ "لاشكليّة"، والهدف من ذلك "جماليٌ" بحتّ، وبمعنى أكثر دلالةً: أليس المقصود هو إعادة الإدراك "الجماليّ" إلى حالةٍ "متوحشة" مثلاً؟ ـ وتُعتبر في الحقيقة متحضّرة بما يكفي ـ حيث تتبخر "الدلالة" أو "المحتوى" بطريقةٍ أو بأخرى ولا يبقَ غير جوهرها. وهكذا، لا ينتظر المتلقيّ أكثر من مشاهدة تخطيطاتٍ مُدوّخة لواجهات مباني شارع "مونبارناس" (كلودين أيزيكمان، وغيّ فيهمان)، أو أعمدة ملوّنة في أبنية أحد الشوارع، "أنظرُ من نافذتي" لـ "أهميت كوت"/1974، مستطيلات ألوانٍ ثريّة في القرى الجزائريّة، "الجزائر الملوّنة" لجوهرة عبودة وآلان بونامي، ألوانٌ رمادية قذرة للممرات الخاوية في فيلم "Hotel Monterey" لشانتال أكيرمان. وأحياناً، يساعد السينمائيّ على إضفاء مسحةٍ تجميليّة "خاصّة" للأشياء التي يتعامل معها، كأن يقوم - مثلاً - بإعادة دهن الجدران، الطرق، والأشجار، كحال "لابوجاد" في "سقراط"، أو إيجاد توافقاتٍ لونيّةٍ للتركيب البنائيّ لفيلمٍ ما، بدهن كلّ الأشياء باللون الأصفر "Le Horla" لجان دانييل بوليه. وهكذا، يمكن الإشارة بأنّ الطليعة المعاصرة تلتقي مع نفس غايات وأهداف روّاد العشرينيّات، إذّ كتبت "جيرمين دولاك" عام1927 في مجلتها "Schémas": "عندما أُفكر براقصةٍ، لا أجسّد إمرأةً، بل خطاً واثباً بإيقاعاتٍ مُتناغمة ومُسترسلة، وأقدم عرضاً مضيئاً يتلألئ فوق مسطّح الشاشة. وأتساءل بدوري، ألاّ تمنحنا الحركة متعةً ما عندما نشاهدها على خشبة المسرح؟ فلماذا نحتقرها على الشاشة إذاً ؟ ..." وهكذا، يتّضح لنا كيف أنّ إختراق "المظهر" نحو ما هو أبعد من ذلك، يرتبط، بتشوّشاتٍ خشنةٍ وعنيفةٍ للصورة و"التدفقات الضوئيّة"، ويتطلب الكشف النهائيّ عن ذلك تدريباً طويلاً وشاقاً. ومع ذلك، فإنّ فظاظة وخشونة "السينما التجريبيّة"، ليست مقتصرة على السمع والمشاهدة، بل يمكن إستخدامهما كنوعٍ من الهجوم - كما الحال في "عذراء بغداد" لجان كريستوف بيغوزي - ليس فقط ضدّ ظاهرة معروفة جيداً، بتوّحد وتماهي المتفرج مع الممثل أوالراوي، ولكن على طريقة "ساد" أو "الدادائيين" الأكثر تحريضاً وتحديّاً. خصوصية "بيغوزي" في فيلمه هذا، مجابهته بمرحٍ خطير أن يكون سمجاً وكريهاً، وذلك بدفع التحريض، الهجوم، والعدوان، حتى الحدود المتطرّفة للهزل، إلى الحدّ الذي تُلغى المسافة ما بين "الإتصال" والوظيفة "التأثيريّة". الزمان والمكان في "السينما التجريبيّة" لم تحظَ الوظيفة "المرجعيّة" بدورها على معالجةٍ أفضل في "السينما التجريبيّة"، إذّ هي التي تتصدّر وتسيطر على "الحكاية"، وذلك بإجبارها على الخضوع لقوانينها في الإختزال والشفافية: هناك شيء ما علينا أن نحكيه، ويجب فعل ذلك بأسرع ما يمكن، وبشكلٍ مباشرٍ قدر الإمكان، والفيلم يتكون من المكان، الزمان، والصوت/أو الصمت، ويعني ذلك بدقةٍ أكثر، أنّ الكاميرا تؤطّر المكان كما يجب، بحيث لا نفقد أيّ ثانيةٍ وأيّ صوتٍ زيادة، أيّ الإيجاز بكلِّ ما يتضمن من معنى. ولكن، فيما لو عكسنا هذه الشروط، بمنح المكان حقّه كما يشاء، وتقديم لحظاتٍ زائدةٍ بدون أيّ غايةٍ أو هدف، وإسماع أصواتٍ بلا سبب، .. فإننا نصل إلى فكرة "التحطيم في السينما التجريبيّة". في فيلم "F2" لجان باسكال أُبيرجيه وآلان مينيان، يتّضح لنا إكتشاف طويل زمنياً لمكانٍ تمّ تغيير معالمه بتثليم الصورة وتخطيطها بأداةٍ ما. كما نعثر في فيلم "أبعد من الظلال" لجان بول دوبوي، على الأماكن الأكثر إستخداماً (غرفة، منزل، شارع ..)، تسيطر عليها أفعال حركيّة بطيئة جداً لمجموعة ممثلين، تخلق تدريجياً القلق والإضطراب. وأكثر جرأةً وتحريضاً، كلّ تلك الأفلام بدون إيجازٍ أو إستخداماتٍ زمنيّة مُضمرة، حيث الزمان "المحكيّ" يتوافق تماماً مع "زمن العرض". ويُعتبر إستخدام الزمن الحقيقيّ/الواقعيّ فضيحة الفضائح في السينما، كتب "فيرناند ليجيه" يوماً: "لقد حلمتُ بفيلمٍ مدته24 ساعةٍ لعشيقان لا على التعيين، يمتهنا عملاً ما، وبواسطة أجهزةٍ غامضةٍ وجديدةٍ تسمح بتصويرهما ومتابعتهما بدون أن يشعرا، وذلك بهدف الحصول على تحقيقٍ بصريّ حاذق، بدون فقدان أيّ تفصيلةٍ من عملهما، صمتهما، حياتهما الخاصة، علاقتهما الجسدية، ... إنّ عرض فيلمٍ كهذا بكلّ فجاجته، وبدون أيّ تدّخل، سوف يمنح نتيجة رهيبة، بحيث يهرب المتفرجون مذعورين، يطلقون صيحات الإستغاثة، ويطلبون النجدة، وكأنهم في مواجهة كارثةٍ عالمية. وبدورنا، علينا الإعتراف بأنّ جزءاً من هذه "اليوتوبيا" قد تجسّدت وتحققت نسبياً في أعمالٍ كثيرة: "وارول" في "لقطاته - مشاهده" المستمرّة بدون توقف، المكوّنة لفيلم "The Chelsea Girls"، والتي تعتبر مثل خلايا حياةٍ جلفة وجوفاء بلا نهاية، ولم يُحدث هذا الفيلم أيّ كارثةٍ عالمية. وبالحديث عن الزمان، فإنّ "غودار" أثبت ذلك يوماً، بتحريض المتفرج وتقديم دقيقة صمتٍ حقيقيةٍ في فيلمٍ روائيّ، بدّت للمُتفرج وكأنها ساعات. هذا الإحساس النسبيّ بالزمن هو نتيجة تعوّدٍ موروثٍ من آلاف الحكايات المرئيّة على الشاشة (والتي تختصر الزمن، وتستخدم أساليباً مجازيّة لنسخ الواقع). وفي الحقيقة، يمكن "للسينما" أن تكون "حكاية"، أو "وسيلةً" لتقديمها، ولكن يمكن لها أن تفعل أفضل من ذلك بكثير، بأن تمنح المتفرج إمكانية "الفرجة"، وهذا يعني تقديم الواقع أو التعبير عنه (لا نسخه). ولنتساءل : من أين يأتي مصدر "الألم" الذي يُحدثه "الملل" الذي تخشاه النسبة العظمى من متفرجيّ السينما؟ يمكن إعتبار الضيق بمثابة لسعةٍ حارقة يصيبنا بها "الزمن" الذي يمضي، منذ اللحظة التي نمنحه إنتباهنا، وُتجبرنا السينما بدورها على أن نكون في حالة تيّقظ، فهي مرآةٌ/تجسيدٌ للزمان، والمرآة تُخيف أحياناً عندما تعكس صوراً لا نحبها، أو لا نحب مشاهدتها، ولكن لنعترف أيضاً، بأنّ هناك الكثير من المتفرجين لا يحسّون بالملل أو الضيق، وعلى العكس تماماً، فهم يتمتعون بمشاهدة أفلام لـ "فيليب غاريل"، أو فيلم مثل "جين ديلمان، 23 رصيف التجارة - 1080 بروكسل"، "دعني لوحدي" لجيرهارد تورينغ، أو "أغنية هندية" لمارغريت دوراس، وفي هذه الأفلام، فإنّ الفترة الزمنية هي التي تحظى بالدور الأكبر، ولا يشعر هؤلاء بالملل أو الضيق، لأنّ هذه المرآة الفيلميّة تعكس أنفسهم، وفترتهم الزمنيّة الخاصّة بهم، وبالمشاهدة العقلانيّة، فإنّها لا تبدو لهم شنيعة ومقيتة. صحيحٌ أنّ هذه "السينما" تلسعنا في البداية بحروقها الأولى، ولكنها تمنحنا بعد ذلك الفطنة، الإعتدال، والعقلانية، وقد ذكر "ميكاس" يوماً بمناسبة عرض أحد أفلام "وارول": >لو إفترضنا أنّ كلّ الناس يستطيعون تحمّل الجلوس لثماني ساعاتٍ بشكلٍ متواصلٍ من أجل مشاهدة "l'Empire State Building" لـ "وارول"، وفكروا كثيراً بهذا العمل، سوف لن يكون هناك حروباً، كراهيةً، أو رعباً، ولسوف تعود السعادة إلى الأرض". هذه الفرضيّة التنبؤيّة ليست بريئةً أو ساذجة كما يبدو للوهلة الأولى، فالسينما التجريبيّة هي إمتحانٌ جيدٌ للتسامح، التحمّل، والصبر. إنها تكشف بشكلٍ جيدٍ، عن طريق الصراخ، الضجيج، الهروب الذي ُتحدثه في بعض المرات، كراهية "الإختلاف"، إستحالة تخيّل وقبول "الآخر"، حيث يرى "بارت" بنباهةٍ وذكاءٍ بأنّها من طبيعة "البورجوازيّ الصغير". هيروغليفية الأحلام ولنعود مرةً أخرى إلى الأفلام التي تتعمّد تدمير التناسق الجميل، وإستثمار الجوهريّ في هذا الفائض، والذي يسميه "بارت" بـ "الوساطات"، ويعني الأزمنة التي يُقال عنها بأنها "ضعيفة" في "الحكاية": - فتاةٌ صغيرةٌ تستحم في "الربيع" لمارسيل هانون. - "ديلفين سيريغ" ُتحضّر الطعام في "جين ديلمان" لـ "شانتال أكيرمان". - "ماري فرانس" تتزيّن في "عُقَدْ سيلفيّا كوسكي" لـ "أدولفو أرييتا". -عاملةٌ شابةٌ تهزّ ورقة سيلوفان لمراتٍ عديدةٍ في "تنويعات على سيلوفان فاربر" لـ "دافيد ريّمر"... ويعتبر "العمل" إستيحاءً من "الحلم" مفتاحاً ثميناً لفهم "بنائيّة" هذه الأفلام، حيث لايتمّ توظيف "كلمةٍ من أجل أُخرى"، كما نجد ذلك في نصّ "جان تارديّو"، ولكن "شيئاً ـ أو وجهاً ـ من أجل آخر"، والذي يُستخدم كمبدأ رئيسيّ لتفجير الصور، بتناسي التركيزات والإنتقالات المتعددّة للشفافية الجميلة للسينما "الروائية الساذجة" - Na(rrat)ïf - حيث القطّة قطّة، والمسيح رجلٌ ملتحٍ. في "حقيقة المعاناة المُتخيّلة لرجلٍ غير معروف" لمارسيل هانون، يصبح المسيح وبشكلٍ تبادليّ إمرأة أو رجلاً. وفيما لو أننا نستطيع المشاهدة في تجمّعات الصور، أشكال تصنعٍ بريختيّ (عند غودار غالباً، وعند آخرين)، أو الدعابات الهزليّة ("رواد الفضاء" لبوروفتسيك)، يمكن لنا الكشف غالباً عمّا يمكن تسميته بـ "هيروغليفيّة الأحلام"، أشكال طلسميّة لأحلامٍ، مجموعة صورٍ علينا حلّ طلاسمها بأنفسنا. ولكنّ الطريقة الأكثر جذريّة للتغاضي عن "الوظيفة المرجعيّة"، هي عمل أفلامٍ "لا شكليّة"، وهذا يعني عدم اللجوء إلى "مرجع". ومن هنا، تُقدم "السينما" على نفس القفزة التي أحدثها "الرسم" منذ 1908، مع اللوحات الأولى لفنٍ تجريديّ، وذلك بالتحوّل من النموذج "الرومانسيّ" إلى نظيره "الموسيقيّ"، إذّ هي تختلق سيمفونيات ألوانٍ، كحال "قوس قزح" أو "الرقص" للأخوين كورّاديني - فيلمان أُنجزا قبل 1912 وإختفى أثرهما اليوم -، "إيقاعاتٌ ملونة"، والذي فكر "سورفاج" بإنجازه في عام 1914، ولم يتمكن من تحقيق ذلك، ولم يتبقَ من هذا المشروع غير أوراقٍ، رسوماتٍ، وقطع كرتونيّة، "سيمفونيّات مائلة"/1921-1923 لـ "فيكينغ إغلينغ"، "إيقاعات21"/1921-1924 لـ "هانز ريشتر"، أو "PUS" لـ "والتر روتمان" منذ 1921 أو 1922. وهكذا، إختفى البعد الروائيّ تماماً من هذه الأفلام، كما إختفت فيها أيّ صفةٍ تمثيليّةٍ/تجسيديّة، وإلتجأت للإحتماء في قصص مربعاتٍ ودوائر، تشويقٍ في حركة نقاط، مفاجآتٍ مسرحيّةٍ هذيانيّة، أو مغامرات أشكالٍ نُجيميّةٍ سديميّة. هذه هي إذاً "سينما" تهزأ بما يكفي من "المعنى"، وهي تجد - على الأقلّ - بأنّ طريقتها التقليديّة في التحرّك غير كافية، ولهذا فإنها تقرّر تدعيم مصاعب إضافية، وعليه فإنها تضع الهموم الشكليّة في المقام الأول، وعلى التوازي فإنها تدع هذه الهموم تقود مونتاج الفيلم بالتوافق (أو بالخلاف) مع الضرورات التي تخصّ "الوظيفة المرجعيّة". يمكن أن يدع السينمائيّ الأصوات، الإيقاعات، الإنحدارات الخاصّة بالكتابة السينمائيّة تمتلك حاجزاً على "المعنى" نفسه، وبدون أن يحتاج إلى نظريةٍ "ماديّةٍ" ساذجة للـ "دلاليّ" لتسمح له بذلك القدرات الخلاّقة لمونتاجٍ "توافقيّ" على طريقة "ريشتر"، أو "روتمان"، آلاف العلاقات الكامنة ينسجها "كوبلكا" بين اللقطات، وذلك في "Unsere afrikareise"، دعابات "بروس كونر" في "سينما"، أو "روبرت نيلسون" في soh Dem Watermelon، وهنا فإنّ التطوّر البنائيّ لفيلمٍ يقتصر على تشابهات أو تعارضات الأشكال البصريّة، الحركات - سواء الناتجة عن الكاميرا أو ماتُصوّره - أو "الدلالات" - لقطة لإمرأة تتزيّن، يتبعها لقطة رشّ أحد الشوارع بالماء- وهو مثالٌ مأخوذٌ من "رجل الكاميرا" لـ "دزيغا فيرتوف"، الذي يؤكّد لماذا يُعتبر "فيرتوف" سينمائيّاً تجريبيّاً. وإذ نتحدث هنا عن الروّاد، فإننا نفكر فوراً بـ "فلوبير" يطلب من "موباسان" بأن يجد له في "نورماندي" وصفاً لحافةٍ صخرية يمكن أن يستفيد منها في كتابه، ويطلب ذلك مُحدداً بأن الوصف الضروري لـ "بوفار وبيكوشيه" لا يجب أن يتجاوز بعض سطورٍ حجزها في مشروع روايته الجديدة هذه. وذلك يعني، بأنّ هذا الإنتباه الدقيق والمؤلم لتناغمات الأشكال، لا توجد في كل الأعمال التي ذكرناها سابقاً. هناك أفلام نادرة ومتلألئة : Main Line ، لميشيل بولتوو- على سبيل المثال- تمّ تصويره في جلسة مخدرات، حيث حُملت الكاميرا بالكاد بواسطة المشتركين، بشكلٍ جيدٍ أو سيئ ، باليدين وبمساعدة أطراف الجسد، نكتشف - بمرورها من تجريداتٍ ضوئيّة سوداء وبيضاء- سينما مشوّشة كصاحبها، وفيما يتعلق بـ "رودولف بوكوريل" في "روبرت ف. لينغ"، فيلمٌ هذيانيٌّ جميلٌ يتزامن مع موسيقى تجذب الإهتمام بعنف، إنها تفاجئ المتفرج وتُقلقه في كلّ لحظة، هذا النوع من السينمائيين، هم في الحقيقة قادرون على فعل كلّ شيء، مع/أو بواسطة الكاميرا، وعلى الأقلّ، فإنهم قادرون على إنجاز عكس ما يُنجز. "السينما التجريبيّة" فجرٌ بلا نهاية وإنطلاقاً من ضرورة أن لا يكون هناك ديّناً مع أحد، فإنّه من الضروري الإشارة إلى الوضعيّة الحاليّة لـ "المعيار الإقتصاديّ" في فرنسا، فمنذ زمنٍ طويلٍ، يرغب السينمائيون الفرنسيون الشباب في التجديد - أو على الأقلّ - أن يؤفلموا على طريقتهم الخاصّة، (وإعتقدوا أنهم يستطيعون ذلك) ومحاولة إنجاز ذلك داخل النظام نفسه. تسهيلاتٍ من منتجين واعين، أو بمساعداتٍ من الدولة، جعلت هذا النهج ممكناً، ولكنّ، هذه التسهيلات نفسها - بمقتضى "ميكاس" - هي التي أعاقت تكوين سينما مستقلّة حقيقية في فرنسا ما بعد الحرب، وغيابها في الولايات المتحدة، بالإضافة لفشل محاولاتٍ لتأسيس موجةٍ جديدةٍ على "الطريقة الفرنسية"، أجبر المبدعون الأمريكان حوالي عام 1962 أن يتهمشوا ويؤسّسوا سينما موازيّة تماماً، مع بُنى' وإمكانياتٍ وأهدافٍ مختلفة. وعلى إثر ظاهرة تمركز الرأسمالية، وحساسية ذلك بشكلٍ خاص في فرنسا منذ بعض السنوات، جعل الإبداع الحرّ وتخلصه من مفهوم "المردوديّة"، تتقلص إمكانيات تحقيقه يوماً بعد يوم داخل النظام. وبينما كانت المهمّة والأولوية للمؤسّسات الحكومية موجهة مبدئياً لتصليح القوانين المخزيّة للربح والخسارة، وفضح تجّار السينما لإستغلال هذا الفن لمصالحهم الخاصّة. حادت بدورها هذه المؤسسات تدريجياً - كحال "المركز الوطني للسينما" - عن الأهداف التي أُنشئت من أجلها، ولعلّنا نتذكر هنا واقعة "مارسيل هانون" الذي أضرب يوماً عن الطعام، محاولةً منه بالحصول على مساعدة "المركز" - ولم يحقق ما أراد على أية حال -في الوقت الذي تذهب هذه المساعدات - أكثر فأكثر- إلى أفلامٍ يُتوقع لها نجاحاً جماهيرياً ساحقاً، أيّ مضمونة العوائد مُسبقاً. يُشيرالموزع السينمائيّ "هنري لاسّا" في كتابه "الجانب الخلفي من الشاشة"، بأنّه في أقلّ من عشرين عاماً، أوقفت نصف شركات التوزيع الفرنسية نشاطاتها، بينما تتزايد نسبة الإنتاج، ويسيطر عليه عدد محدود من الشركات الكبرى، ويمتلك - على سبيل المثال - إداريٌّ واحدٌ منها إمكانية برمجة المئات من الصالات السينمائيّة. ومع ذلك، يبدو اليوم، بأنّ الظروف قد تجمّعت في فرنسا لتطوير "خارج النظام" لسينما حرّة، مُبدعة، غريبة، خارقة، "ت، ج، ر، ي، ب، يّ، ة"، ولكن أين هي في الواقع؟ الأمثلة الوضّاءة، الخصبة، والمجسّدة منذ ما قبل العشرينيّات على أيدي المستقبليين، وإبداعات "ماكلارين" بدءاً من الحرب العالمية الثانية، أو حركة "الأندرغراوند" الأمريكية، مع مرافقيها من السينمائيين اليابانيين أو الألمان ... تمنحنا كثيراً من التفاؤل، ولكنها تمتلك من طرفٍ آخر حديّن خطريّن، إذّ لم تتوانَ هذه الحركات - أحياناً - عن تقديم مُقلدين عن كونهم مبدعين حقيقيين. وإنطلاقاً من هذه النقطة بالذات، يتضح بأنّ مفهوم "التجريب" نفسه قد أصبح بالأحرى إشكاليّة. كما علينا التخفيف قليلاً من أهمية الخواص التحرريّة التي تمتلكها الدعامات الجديدة للتعبير السينمائي (8 مللي، أو فيديو). إذّ أنّ لعبةً صغيرةً لن تعوض أبداً عن صدفةٍ مّا يُمكن أن تخدم عملاً فنياً، فإنتاج الأعمال الفنية كهدفٍ حقيقيٍّ لعملٍ تجريبيّ، يظل عملاً مغامراً ونادراً مع كاميراتٍ خفيفة، ولكنه كذلك أيضاً مع تلك الأجهزة الحديدية الشبيهة بحيوانات ما قبل التاريخ، والتي إستخدمت في إنجاز الكلاسيكيّات الهوليوديّة. التقدم العلميّ هو أن يسمح لـ "المغامرة الإبداعيّة" بأن تكون في متناول أكبر عددٍ. والمعجزة، بأنّه وعلى الرغم من الصعوبات، لن تتوقف هذه "المغامرة" عن التجدّد، ولن يتوقف أولئك الذين يقتحمونها بدورهم عن العطاء، فـ "السينما التجريبيّة" فجرٌ بلا نهاية. فراديس في 4 نوفمبر 2005 |
عشرون عاما علي مهرجان استضاف ابرز أسماء السينما العربية مهرجان السينمات والثقافات المتوسطية في باستيا: باستيا(كورسيكا) ـ القدس العربي ـ من صلاح سرميني في شهر تشرين الاول (أكتوبر) 2005 تحتفي فرنسا لوحدها بحوالي ستين مهرجاناً، وتظاهرة سينمائيةً دورية، تتباين في حجمها، وأهميتها، وتغطي نشاطاتها معظم المدن الكبيرة، والصغيرة، وتصل الي القري، والمُنتجعات النائية، وتهتم بكلّ الأنواع السينمائية، والثيمات الفكرية، والجمالية. ومدينة (باستيا) الواقعة في شمال جزيرة (كورسيكا)، والبعيدة عن (باريس) بحوالي ساعة ونصف بالطائرة، تتباهي بدورها بمهرجانات سينمائية عديدة، ويمكن اعتبار Arte Mare (فنّ البحار) أهمّها علي الاطلاق، هذه التظاهرة المُتعددة الجوانب، كانت قبل خمس سنوات تحمل اسم (مهرجان السينما، والثقافات المتوسطية) قبل أن تتغير ادارته، وتتخير Arte Mare عنواناً مُصغراً، وتشمل فعاليّاتها السينما، الفنون البصرية، الموسيقي، الكتاب، المعارض، الندوات، واللقاءات.... وفي الشكل السابق، والحالي، فانها واحدة من التظاهرات السينمائية المُتخصصة بالسينمات المتوسطية، ويكفي أنّ الكثير من الأسماء المُتداولة في المشهد السينمائي العالمي قد توقفت حضوراً، وأفلاماً لبعض الأيام في (باستيا) كي تشير الي الموقع المُتميز لهذا المهرجان في خريطة المهرجانات السينمائية الفرنسية، الأوروبية، والعالمية. ومن السينما العربية، وصانعيها، نذكر بعض الأسماء من الذين حطّوا الرحال يوماً في الجزيرة: داود أولاد سياد، محمد عبد الرحمن تازي، مفيدة تلاتلي، ميشيل خليفي، فريد بوغدير، يوسف شاهين، محمد شويخ، يسرا، عمر الشريف، رشيد فرشيو، عكاشة تويتا، كريم دريدي، المُعطي قبال، ماجدة واصف، مرزاق علواش، محمد شكري، يامينا شويخ، رشيد قريشي، بو علام غردجو، جوسلين صعب، ألبير قصيري، طارق بن عمار، صلاح أبو سيف، عبد الكريم بهلول، توفيق أبو وائل، محمود زيموري، إدوار الخراط، فريدة بن يزيد، رشيد بحر، هيام عباس. ہہہ لقد مرّت عشرون دورة للمهرجان منذ 1982، سنة تأسيسه في باستيا(كورسيكا)، توقف في بعض السنوات، وتعرض لارتفاعات، وانخفاضات، وبدون حبّ السينما ما كان لفريق العمل المُتطوع الصمود كلّ تلك السنوات، وما كان لبعض الهواة انجاز مهرجان باحترافية عالية، ولكن، من المهم أيضاً أن نحبّ الناس، وأن نكون فضوليين تجاههم، من يعيش علي الشاشة، في الأغنيات، وفي الروايات، من يجعلهم أحياء، فنانين، ومتفرجين، أدباء، وقرّاء...... أن نحبّ جيراننا المتوسطيين الأقرب لنا، كما الأبعد عن أراضينا، كلماتهم، صورهم، أصواتهم، وموسيقاهم..... اذاً، Arte Mare مهرجانٌ للعشق، والعاشقين. بهذه الكلمات البسيطة، والحميميّة ـ مثل أهالي جزيرة كورسيكا ـ افتتحت ميشيل كوروتي المُفوضة العامة صفحات الكتالوغ الرسميّ للمهرجان، الذي تضمنت مسابقته الرسمية ثمانية أفلام طويلة: HABANA BLUES ـ بينيتو زامبرانو ـ اسبانيا ـ فرنسا ـ كوبا. أورشليم الصغيرة ـ كارين ألبو ـ فرنسا. من أجل واحدة من عينيّ ـ آفي مغربي ـ اسرائيل/فرنسا. Quando sei nato non puoi pi— nasconderti (ما أن تُولد، لايمكن لك أن تختبئ) ـ ماركو توليو جيوردانو ـ ايطاليا/فرنسا/المملكة المتحدة. A PERFECT DAY ـ جوانا حاجي توما، وخليل جريج ـ لبنان. الطفل النائم ـ ياسمين قصاري ـ المغرب ـ بلجيكا. باب العرش ـ مختار العجيمي ـ تونس ـ فرنسا. قتل الأخ ـ يلماز أرسلان ـ تركيا. وفي (خارج المسابقة): حدث ذات مرة في الوادي ـ جمال بن صالح ـ فرنسا (فيلم الافتتاح). زينة، فارسة الأطلس ـ بورلم غوردجو ـ المغرب ـ فرنسا ـ ألمانيا (فيلم الختام). وفيلمان فرنسيان: المُرضعة لمخرجه أنطوان سانتانا، وغابرييل لمخرجه باتريس شيرو. وهذا العام، كانت (اليونان) ضيف المهرجان، حيث عُرضت من انتاجاتها السينمائية أربعة أفلام يونانية طويلة، وفيلم فرنسي لمخرج يوناني، ومختارات من أفلام قصيرة بالتعاون مع المهرجان الدولي للأفلام القصيرة في دراما(اليونان). ومن الأقسام المثيرة للفضول، تحت عنوان (نافذةٌ علي الانتاج الكورسيكي)، ومن خلاله نتعرف علي بعض الانتاجات المحلية للجزيرة، أكانت تلك التي صُورت فيها، واتخذت مدنها، طبيعتها، وتاريخها ديكوراً، أو أفلاماً لمخرجين يعيشون فيها، أو من أصول كورسيكية. وبالاضافة للأقسام السابقة، احتفي المهرجان بأفلام خارج المسابقة الرسمية (كأحداث مهمّة): منطقة حرّة ـ للمخرج الاسرائيلي آموس غيتايّ. عبور الجسر ـ للمخرج التركي فاتح أكين. الكيلو متر صفر ـ للمخرج العراقي ـ الكردي هينر سالم. المتفرجة ـ للايطالي باولو فرانشي. ومن الواضح أنّ السينما العربية ـ أو المُنجزة من قبل سينمائيين من أصول عربية ـ كانت حاضرة في الأقسام المُختلفة للمهرجان:
فيلم الافتتاح: حدث ذات مرة في الوادي ـ جمال بن صالح ـ فرنسا وفي المسابقة الرسمية ثلاثة أفلام (لبنان، المغرب، وتونس) من مجموع ثمانية، وفيلمان خارج المسابقة (العراق ـ كردستان، وفلسطين) من مجموع خمسة. ہہہ تكونت لجنة تحكيم الدورة العشرين لمهرجان السينمات، والثقافات المتوسطية(الخامسة بالنسبة لـ(Arte Mare) من: برنار راب (مخرج، سيناريست، ممثل، صحافي) (رئيساً). وعضوية كلّ من: ماري فرانس سانتون (ممثلة) ليونيل أبيلانسكي (ممثل) ناتالي رونسييه (مستشارة، وموثقة، مؤلفة، ومخرجة أفلام تسجيلية، ومبرمجة مهرجانات). فرانسوا فانسانتللي (ممثل) سامي تيزي (رسام ستوري بورد). ادوارد واينتروب(صحافي، وناقد سينمائي). ومنحت جوائزها التالية: الجائزة الكبري: قتل الأخ ـ يلماز أرسلان ـ تركيا. جائزة لجنة التحكيم الخاصة : من أجل واحدة من عينيّ ـ آفي مغربي ـ اسرائيل ـ فرنسا جائزة التمثيل: (يايلين سييرا) عن فيلم HABANA BLUES ـ بينيتو زامبرانو ـ اسبانيا ـ فرنسا ـ كوبا. جائزة الجمهور :HABANA BLUES بينيتو زامبرانو ـ اسبانيا ـ فرنسا ـ كوبا. جائزة أفضل موسيقي، وشريط صوت: موسيقي (سيريل موران) عن فيلم أورشليم الصغيرة ـ كارين ألبو ـ فرنسا. أما لجنة تحكيم الشباب فقد منحت جائزتها لفيلم :Quando sei nato non puoi pi— nasconderti (ما أن تُولد، لايمكن لك أن تختبئ) ـ ماركو توليو جيوردانو ـ ايطاليا/فرنسا/المملكة المتحدة. القدس العربي في 8 نوفمبر 2005 |