«سينما الجنوب» في كتاب فرنسي ... اهتمام باريسي بمن لا تعترف بهم بلادهم باريس - ندى الأزهري |
«سينما الجنوب، هو هذا المكان من الحرية حيث تتقاطع وجهات النظر، تتساءل، تعطي إجابات. وينفتح هنا الانتماء الثقافي، البعيد عن أن يكون انغلاقاً على الذات، على العطاء والتسامح. وهذه السينما التي تحدثنا عن العالم الذي نعيشه، تحفظنا من انحرافات الجهل والتعصب، تجعلنا نسمع صوت الآخر. كل الآخرين. تتوجه نحو كل منا، تحكي عن الإنسانية والأمل». هكذا قدم السينمائي الكمبودي ريتي بانه كتاب «جنوب السينما» الصادر في فرنسا عن «كاييه دو سينما» و «آرتي» بمناسبة مرور عشرين سنة على إنشاء صندوق الجنوب للسينما (فوند سود). أنشئ هذا الصندوق في فرنسا عام 1984 من جانب وزارتي الثقافة والخارجية، ووضع تحت إدارة المركز الوطني للسينما. وهو يهدف إلى تقديم مساعدات أساسية لمؤلفي البلدان «ذات الوضع السينمائي الهش»، في محاولة لدعم عملية الإبداع لديهم، إدراكاً منه بمدى مساهمة ذلك في إغناء السينما العالمية» بنظرة مختلفة وبحساسية جديدة». خلال عشرين عاماً، قام هذا الصندوق بدعم 88 فيلماً من أفريقيا، و85 من أميركا اللاتينية، و82 من المغرب والشرق الأوسط، و47 من آسيا و20 من أوروبا الشرقية. ومن البلاد العربية، كان لتونس الحصة الأكبر (23 فيلماً)، فيما تساوى المغرب ولبنان في عدد الأفلام المدعومة (12 فيلماً لكل منهما)، وتم دعم 11 فيلماً جزائرياً و8 أفلام مصرية، ومن سورية (الليل لمحمد ملص وصندوق الدنيا لأسامة محمد) وثلاثة من فلسطين (ايليا سليمان، وحيفا لرشيد مشهراوي). وكانت للمخرج التونسي نوري بو زيد، حصة الأسد بين كل المخرجين. فقد كان الوحيد الذي حظي بدعم خمسة أفلام. كما نال ثلاثة مخرجين عرب من أصل خمسة، دعماً لثلاثة من أفلامهم، وهم أسماء البكري ويسري نصر الله وناصر خمير. وكان يوسف شاهين من ضمن الذين نالوا مساعدة لفيلمين، وكذلك محمد شويخ وغسان سلهب، وإيليا سليمان وداوود أولاد سياد، ومفيدة التلاتلي ومحمد زران. وتتنوع مواضيع الأفلام بين الاجتماعية والإنسانية، وتبحث في الأسئلة التي تؤرق الفرد في مجتمعات قلقة منكسرة، انطلاقاً من مقولة أن السينما وسيلة جيدة» للتساؤل حول العالم الواقعي». ويقوم كتاب «جنوب السينما» على فكرة أن ما يعرض في السينما منذ عشرين عاماً «غني بالمعلومات والاقتراحات المتنوعة عن حالة وتطور الكون». ويأتي كمحاولة لتقدير ما أنتج في السينما العالمية في هذه السنوات مع «الأمل بالمساهمة في جعل التقدير يطاول سينما غير معروفة على نحو كاف، وأيضاً في فهم كيف انقلبت نظرتنا إلى العالم» عبر أفلام فريدة، حاملة لرؤى حول هذا العالم. أفلام يمكن لصورها أن تكون تقنياً، قد أنجزت في أي مكان. فالصورة والصوت لا يحملان أي عنصر «محلي» وبدرجة أقل «فولكلوري»، ولكن هذه الصورة «لا يمكن لها إلا أن تكون قد صورت هنا، حيث تم تصويرها، بفضل هذا الذي ركبها وحققها». هذا هو «الغموض الخصب» الخاص بالسينما والذي لا يقوم إلا بتلاقي أدوات ضخمة، تقنية، اقتصادية، ثقافية وبنظرة شخصية لمؤلف الفيلم. وليس العنوان «جنوب السينما» بحسب الكتاب، تقسيماً للكرة الأرضية إلى شمال وجنوب بل هو «أفق، يتعلق بالسينما في مجملها، أين تعمل وأين تشاهد، وبشعوب من ثقافات مختلفة كانت بعيدة عن مجال التعبير، وهي الآن مشاهدة ومسموعة». سينما المغرب يقدم الكتاب عروضاً لتاريخ السينما في: المغرب، أفريقيا السوداء، الشرق الأوسط، إيران، الهند، آسيا الوسطى، الصين، جنوب شرقي آسيا، وأميركا اللاتينية. وقدم طاهر شيخاوي (ناقد سينمائي تونسي) عرضاً لتاريخ السينما المغاربية، جاء فيه أن هذه السينما الوليدة وقعت بعد الاستقلال، في فخ» الرغبة في بناء صورة وطنية مفروضة نوعاً ما من الدولة» عوضاً عن التوافق مع خيال شعبي شديد التأثر بالسينما المصرية والأميركية. ثم في نهاية السبعينات، بدأ المؤلف السينمائي ينفصل عن الدولة مع شعور مختلط» بالتحرر والتخلي (تخلي الدولة عنه)». ومن الملحمة الوطنية، إلى نقد الواقع الاجتماعي في السبعينات، انتقل التعبير السينمائي أكثر نحو الذاتية. وكان نوري بو زيد الممثل الأكبر لهذا الاتجاه. ففي ريح السد (86) وحتى عروس الطين (2002) لم يتوقف «عن تقليب موضوع الجسد المجروح، المغتصب، المعذب من دون أي مخرج للنجاة سوى الميتافور الشاعري». والصدى الاجتماعي السياسي لأفلامه كان له تأثيره الصادم على الجمهور حيث اختلط «الاعتراف بالاستنكار». وعلى صعيد آخر عمل ناصر خمير على «المطالبة بالذاكرة الجماعية» والتي لا يقول فيها ما يقول باسم الجماعة ولكن «باسمه الشخصي وفي عالم من الفانتازم المشكل بحرية». أما في الجزائر والمغرب، فقد تطورت سينما كوميدية أكثر وعياً بجمهورها. ونستطيع في تلك الفترة لمس إجابات «أكثر سينمائية وأكثر ذاتية من أفلام السبعينات». وكمثال فيلم «العبور» لمحمود بن محمود الذي عمل على موضوع الهجرة في شكلها المعبر عن وضع المؤلف أكثر منه عن العمال. وهو فيلم فكري وضع في نطاق السينما العالمية إذ تخلص من كل «نظرة بائسة عالم ثالثية». كما اتجهت السينما المغربية كالتونسية، بعيداً عن «التشنج الجمالي» وفضلت المواضيع الاجتماعية من دون إغفال الجمهور. وجسد هذا التطور محمد تازي وجيلالي فرحاتي. لاقت تلك النزعة قبولاً من نظام تمويل أوروبي ولا سيما فرنسي وظهر تعبير «دعم» في بداية الثمانينات. وفي الوقت نفسه كانت السينما الجزائرية تخرج مع الأخضر حامينا من الطريق الذي رسمته لها الدولة. وكان محمد شويخ أحد المؤلفين المهمين في تلك الفترة وقد قام بتغيير طفيف بيد أنه عميق (القلعة عام 88). ويشير الكاتب إلى أن الاعتماد المزدوج للسينمائي على الداخل والخارج، كان يضعه في وضع غير مريح. فقد كان نجاحه، وهو الذي يسرد قصصاً محلية، يعتمد على مكافآت المهرجانات الأجنبية بمقدار أكثر من اعتماده على سوقه الداخلية. وبالتالي كان مصير السينمائي يقرر ضمن دائرة ضيقة تنحصر بين قراء السيناريو ومحكمي المهرجانات. إضافة إلى أن هذا المؤلف لم يجد نفسه في الدولة، فاتجه نحو جمهور لم يكن هناك دائماً. ويعيد الكاتب هذا إلى «التطبيق الجمالي» في المغرب وهوس التمكن من التقنية في تونس». أما في الجزائر فالتغير كان أكثر عنفاً وقد ترك كثيرون البلاد واستقروا في فرنسا. وتميزت التسعينات بتجاوز حدود موضوعة «النفسية الاجتماعية»، وإحلال مكان أوسع لنظرة العدسة ولا سيما في الجزائر والمغرب، وعودة لمناظر الخارج. فلم تعد الشخصيات منغلقة في أماكن مغلقة لمواجهة العالم الخارجي عبر دواخلها، بل كانت ومن الآن فصاعداً «ضائعة في الفضاء الواسع الخارجي». وعرفت السينما المغربية في سنوات التسعينات حيوية لا سابق لها بفضل العناية التي أولتها إياها الدولة. فيما تميزت تلك الفترة في تونس بعودة مؤلفي السبعينات (بن عمار، باباي) وظهور خجول لجيل جديد (رجا عماري، جيلاني سعدي...) وهو جيل بدا متحرراً تماماً من المهمة التي انغمس فيها مؤلفو الستينات والسبعينات. وبعد الألفين، جرى إيلاء ثقة أكبر للقوة الإيحائية للصورة المتحررة من ضغط الخطابات. وأوليت الأفلام الوثائقية أهمية متزايدة. ويخلص الكاتب إلى أن التاريخ «القصير جداً» للسينما المغاربية هو تحرير تدريجي وغالباً مشغول عليه من الانغلاق السياسي ومن طوق الأيدلوجيات والضغوطات الاجتماعية في مصلحة تعبير سينمائي، حيث يتخلص الفن من «شعوره بالذنب بكونه لا يقول ما يكفي». المؤلفون فلسطينيون كتب «جاك ماندلبوم» الناقد السينمائي في صحيفة «لوموند»، عن ظاهرة رئيسية في السنوات الـ15 الأخيرة تمثلت في بروز مؤلفين أفراد في دول المنطقة، نجحوا في فرض أنفسهم، وبدرجات متفاوتة، على المشهد العالمي، سواء أكانوا من مصر أو لبنان أو سورية. واعتبرهم «أوت سايدر» حيث لم يكن الاعتراف بهم في بلادهم، في أفضل الحالات، إلا مرتبطاً بما حققوه من مكانة وسمعة في الخارج. وكانت سينماهم صدى للتاريخ المركب والممزق للمنطقة. ويبرز الكاتب مدى تعلق هؤلاء السينمائيين وارتباطهم بما يحصل والانتماء الذي يوحد بينهم وهم بمعنى ما «فلسطينيون» بعيداً من الحدود والأديان والخلافات السياسية فاخوتهم قائمة على مشاركة عامة «في تحرير الأراضي المحتلة في المخيلة». ويعطي أمثلة متعددة على هؤلاء الذين كانت أعمالهم تجسيداً لهذا. وأبرزهم يوسف شاهين. مشيراً إلى ناحية أخرى في أعماله وهي «تمجيد الرغبة وجذل الجسد» التي تبقى من الأوراق الرابحة لهذا المؤلف ومعتبراً أن لديه من هذه الناحية تلميذان على الأقل وهما يسري نصر الله وأكرم زعتري. الحياة اللبنانية في 28 أكتوبر 2005 |
واكبت حكاية بسام ومريم منذ بدايتها ... «عرس في رام الله» لشيرين سلامة: تحطيم «الحلم الأميركي»! رام الله - يوسف الشايب استطاعت المخرجة الفلسطينية، المقيمة في الولايات المتحدة، وعبر حكاية بسام ومريم، في فيلم «عرس في رام الله»، تحطيم حلم الإقامة في أميركا، والذي يراود الكثير من الفتيات الفلسطينيات وذويهن، الذين لا يترددون، في كثير من الأحيان، بالموافقة على تزويج ابنته بالعريس «الأميركاني»، وهو المصطلح المتعارف عليه محلياً لوصف الفلسطيني الحامل للجنسية الأميركية، ويقيم في الولايات المتحدة، من دون التدقيق كثيراً في مواصفاته. الانبهار برنين اسم «أميركا» كان الهاجس الذي يحرك مريم، التي مكثت قرابة تسعة أشهر تنتظر «الفيزا الحلم»، في حين لا تزال «سلفتها سنيورة” تنتظر منذ أكثر من سبع سنوات، لكن سرعان ما تحول الحلم إلى كابوس، منذ اليوم الأول الذي وطأت فيه أرض الولايات المتحدة (الفردوس المفقود). يخرج بسام، الذي ذاقت مريم الأمرين لتعيش معه تحت سقف أميركي واحد، في الصباح المبكر، وما أن ينهي عمله الأول حتى يلتحق بالثاني، ليصل حوالي الساعة العاشرة مساء .. يخلع حذاءه، يتناول طعامه، ويغفو على الكنبة، بينما ينشغل المصارعون في ركل وضرب بعضهما البعض على شاشة التلفزيون. وفي هذا اليوم الطويل والمتكرر، لا تجد مريم، التي لا تجيد من الإنكليزية غير «أوكي»، ما يشغل وقتها، فتنظيف وترتيب المنزل لا يحتاج أكثر من ساعتين إلى ثلاث، فماذا عن العشر ساعات أو أكثر المتبقية للقائها ببسام، الذي لا يدوم أحياناً أكثر من نصف ساعة. بخار يتطاير في الأيام الأولى لمريم ابنة «دير عمار»، البلدة القريبة من رام الله، في أميركا، كانت منبهرة بالغسالة الاوتوماتيكية والنشافة، لدرجة أنها حدثت والدتها وشقيقتها عنهما، كما عانت من تشغيل المكنسة الكهربائية، والإضاءة، واخافها منبه المنزل، الذي يعمل بمجرد قيامها بالطهي، وتطاير البخار هنا وهناك... في تلك الأيام لم تكن مريم بتلقائيتها قادرة على أن تدير الأمور، لولا المخرجة شيرين، التي كانت ترافقها لساعتين يومياً، ترصد فيه يومياتها في «بلاد العم سام». المثير أن ما حدث مع مريم كان تجسيداً للمثل الشعبي الفلسطيني «رضينا بالهم والهم مش راضي فينا»، فعلى رغم ساعات الملل والحصار التي تعيشها يومياً داخل منزلها، وعلى رغم رغبتها العارمة بتغيير شيء من هذا الروتين القاتل، وعلى رغم تلاشي هذا الحلم الأميركي، وشعورها بأنها باتت تعيش قسراً في هذه البلاد الغريبة، ليس إلا لترى زوجها نصف ساعة أو أقل يومياً، يأتي مالك البناية التي يسكنان بشقة فيها، ليطردهما من منزلها، على خلفية أحداث 11 أيلول (سبتمبر)، والتفجيرات التي طاولت نيويورك وواشنطن، لمجرد أنها ذوي أصول عربية. أما سنيورة، التي تزوجت الشقيق الأكبر لبسام، في وقت لم تتجاوز فيه الخامسة عشرة، وبعد زوجته الأميركية التي أنجب منها عدداً من الأطفال، فلا تزال تنتظر في منزل حماها منذ أكثر من سبع سنوات، فمهما كان الحلم بغيضاً، يبقى أفضل بالقرب من زوجها، الذي يتضح أنه لم يكن يرغب باصطحابها معه.. تقول سنيورة: كنت صغيرة، ولا أفهم شيئاً، ووالدي انبهر بعريس «أميركاني»، وأنا كذلك .. لكن أنظري ما يحدث بي وبابنتي. سنيورة تحتج مراراً على حالة «الزواج مع وقف التنفيذ»، التي تعيشها منذ سنوات، لكن «ما باليد حيلة»، فعلاقتها بحماتها متوترة، وزوجها لا يأبه بها، خصوصاً بعد أن اشترت «هاتفاً خلوياً» ولم تبلغه أو تبلغ والدته، حتى أنه ودعها بعد شهر من زيارته لرام الله، وبعد أكثر من سنوات من اليأس، وداعاً أكثر من بارد .. كان حلمها أن يمكث بقربها ثلاثة أشهر متتالية، واستطاعت تحقيق هذا الحلم أخيراً. مسكوت عنه الفيلم، الذي عرض في قصر رام الله الثقافي، مؤخراً، أثار ردود فعل إيجابية، بتسليطه الضوء على قضية «مسكوت عنها» داخل المجتمع الفلسطيني، بجرأة بالغة، وبلغة سينمائية راقية، والأهم أنها صادقة، فلم يكن بسام أو مريم أو سنيورة يضعون أقنعة أمام الكاميرا، فكانوا يتعاملون وكأن لا كاميرا تصور تفاصيل حياتهم اليومية، ولا مخرجة تعمل على نقل رسائل كبيرة إلى المجتمع الفلسطيني، عبرهم. نهاية الفيلم لا تجيب عن تساؤلات، ولا تقدم أي حلول، بل تكتفي بالإيحاء، فمريم عاشت حلمها الأميركي، وطردت من المنزل الذي كانت تعيش وبسام فيه، في حين كان أقصى ما حققته سنيورة إقناع زوجها بثلاثة أشهر متتالية من الإقامة بجانبها في منزل العائلة برام الله، بينما لا تزال مئات الفتيات الفلسطينيات ينتظرن «الفيزا القاتلة»، ويعشن على أمل نصف ساعة أو أقل قرب أزواجهن يومياً. الحياة اللبنانية في 28 أكتوبر 2005 |