ريما المسمار |
بصرف النظر عن الآراء النقدية التي طاولت فيلم "تاجر البندقية" The Merchant of Venice، يستحق الأخير تقديراً اولياً لجهة تقديمه مسرحية ويليام شكسبير للمرة الاولى في تاريخ السينما الناطقة. قبله، أبصر النور عدد من الاقتباسات للتلفزيون الى عمل سينمائي واحد صامت. صاحب المغامرة هو مايكل رادفورد الذي يزور ايطاليا للمرة الثانية مع هذا الفيلم بعد ان كتب أحداث فيلمه الأشهر، "ساعي البريد" IL Postino، وأخرجه في إحدى قراها. اختير "تاجر البندقية" لافتتاح مهرجان البندقية العام 2004 وقد وصل قبل ايام الصالات المحلية. لعلها من التجارب الفريدة تلك التي تضع المشاهد في جزيرة الليدو حيث يُقام المهرجان السينمائي السنوي امام فيلم تدور أحداثه في بندقية القرن السادس عشر وان يكون في الوقت عينه على مرمى حجر منها، فيدخلها كأنه يدخل زمناً آخر. ولولا وجود البندقية اليوم في شكلها التاريخي عينه لكان من الصعب بمكان اعادة إحياء عمل كهذا. فالمدينة هي بطل أساسي وربما تكون في حد ذاتها دافعاً الى تجسيد عمل تدور أحداثه في أزقتها ومساراتها المائية وجندولها. انها المكان الأوحد ربما الذي هو مكان وديكور سينمائي في آن معاً. لم تكن "تاجر البندقية" يوماً من أعمال شكسبير المتداولة في البرامج الأكاديمية او السينما. السبب واضح إذ ان الكاتب قدم فيها شخصية اليهودي التي تحولت النموذج فإذا بـ "شايلوك"، المرابي اليهودي، يتحول مع الوقت صفة اليهودي في كل مكان. غني عن القول ان اية مقاربة للعمل كانت ستجر على صاحبها تهمة "معاداة السامية" التي لحقت بشكسبير نفسه ومازالت على الرغم من التأويلات المعاصرة التي حاولت تارةً تبرير مقاربة شكسبير العنيفة للشخصية عبر ادراجها ضمن نظرة المجتمع السائدة الى اليهودي وقتذاك، وطوراً من خلال البحث عن ملامح انسانية في "شايلوك" تنفي صفة الكاريكاتور عنه. ولكن صعوبة المسرحية لا تقف عند هذا الحد الشائك بل تتعداه الى التركيبة نفسها التي تمزج بين الكوميديا والتراجيديا على نحو يجعل المسرحية مسرحيتين والنهاية نهايتين والشخصيات مزيجاً من الخفة والعمق. من الواضح ان مقاربة رادفورد للعمل عزّزت الهوة بين الشقين. فهو بتحويله "شايلوك" البطل الاساسي ووتحويله شخصية تراجيدية بامتياز خلافاً لمقاربة شكسبير الكرتونية التهريجية له، قطع كل جسر قد يصل بين الشقين. بمعنى آخر، يمكن في كتابة شكسبير ان يلائم التصوير الكرتوني للشخصية النفحة الكوميدية الرومنسية الطاغية على جزء كبير من أحداث المسرحية. اما في الفيلم، فإن تراجيدية "شايلوك" ومأساته تجعلانه عائماً على جزيرة وسط مزاج كوميدي هو في الواقع محرك الأحداث. أراد المخرج مايكل رادفورد اذاً ان يقدم رؤيته لـ"تاجر البندقية" او الأحرى لـ"شايلوك" فأنصفه ليوقع الفيلم في مأزق تركيبته الهجينة. لم يجمّل المخرج شخصية "شايلوك" ولكن اليكم ما فعله: حوله شخصية ثلاثية الأبعاد، يظهر قناعة مطلقة بأفكاره ومبادئه بخطاب متماسك، يعيش اضطهاد المجتمع له ومأساة هروب ابنته بأمواله مع شاب مسيحي... وفوق كل شيء، منح الدور للممثل آل باتشينو لينفخ فيه الروح على غرار ما يفعل في شخصياته كافة. هذا على الأقل بالنسبة الى الجمهور اللبناني الذي شاهد الفيلم ناقصاً ما يربو على خمس دقائق من مدته الأصلية. في النسخة الكاملة، تقوم انامل رادفورد بإضافات أخرى. فهو يفتتح فيلمه بنص يُكتب على الشاشة، يوضح كيف ان نظرة شكسبير لشخصية "شايلوك" اليهودي كانت ثمرة زمانه ومكانه حيث كان اليهود منبوذين وفي الوقت عينه يشكلون مصدر الدين حيث لم تكن تعاليم المسيحية تسمح للمسيحيين بالدين بالفائض. ومن ثم ينتقل الى مشهد غير مكتوب في النص المسرحي ولا يُشار اليه سوى بالكلام وهو ما يصور شبه تظاهرة ضد اليهود في البندقية وسلوكاً عدائياً ضدهم يصل حد اهانة "شايلوك" بالبصق عليه. كلاهما، النص والمشهد، محذوفان من النسخة المعروضة في الصالات اللبنانية على الرغم من ان الأول يصب في مصلحة "اليهودي" اما المشهد فيهينه. هكذا يُفتتح الفيلم مباشرةً بـ"شايلوك" سائراً بين جموع الناس من دون ان يكون للمشهد حركة او كلمة إذ انه يُفترض به ان يكون تابعاً لمشهد اهانته. ولكن لا بد من الاعتراف بأن حتى ذلك المشهد المبتور يخلف اثراً ما غامضاً هو تأثير باتشينو الانساني النافذ والحاضر حتى في شخصياته الأكثر قسوة. انها تلك النظرات المعبرة عن الوحدة ومهانة الزمن وانطفاء جذوة الحياة، نظرات تذكر بأدواره في "دوني براسكو" والجزء الأخير من "العراب" وفي "عطر امرأة".. نظرات الرجل المغلوب برغم كل مظاهر القسوة الخارجية. تلك هي مساهمة آل باتشينو التي غالباً أدركها مايكل رادفورد سلفاً. يتيح القدر لشايلوك فرصة للانتقام ولاخراج كبته. فعندما يلجأ الشاب المتهور "باسانيو" (جوزيف فاينس في دوره الشكسبيري الثاني بعد Shakespeare In Love لجون مادن) الى صديقه "انطونيو" (جيرمي ايرونز الشكسبيري بامتياز في هذا الدور والذي يعود اليه لقب "تاجر البندقية") لاقتراض المال بهدف الزواج من الأميرة "بورشيا" الجميلة والثرية، فإن "انطونيو" يرسله بتوصية منه الى المرابي "شايلوك" لأن امواله كلها في بضائعه المشحونة في البحر. بالطبع يستغرب "شايلوك" ان يرسل "انطونيو" صديقه اليه بعد ان اهانه غير مرة، ولكنها لغة "الاعمال" او "البيزنس" التي دفعت بانطونيو الى ذلك بينما هو استشعار فرصة للانتقام الذي يحمل "شايلوك" على الموافقة. تظهر نيته الانتقامية عندما يضع شرطاً جزائياً في حال عدم سداد المبلغ في الوقت المحدد يقضي باقتطاع اونصة من لحم "انطونيو" كفيل "باسانيو". يستنكر الأخير الشرط ولكن "انطونيو" سرعان ما يوافق لتأكده اولاً من قدرته على سداد المبلغ مع الوصول المنتظر لإحدى سفنه ولتعبيره عن حبه لـ"باسانيو" ثانياً الذي يبدو اقرب الى العشق. لا يركز الفيلم كثيراً على هذه الناحية خلا من خلال القبلة التي يطبعها "باسانيو" على شفاه "انطونيو" تعبيراً عن الامتنان. ولكنها في مسرحية شكسبير نقطة ذات دلالة كبرى تنضم الى عناوين المسرحي عن التضحية في سبيل الحب. فالواقع ان "انطونيو" عبر توقيعه الاتفاق، انما يجازف بحياته في سبيل سعادة من يحب مع أحد سواه. حتى هذا الحد، يحافظ مناخ المسرحية على التحضير للحدث الدرامي الكبير. ولكن هرب "جيسيكا"، ابنة "شايلوك"، سيكون بمثابة الانتقال بالاحداث الى الضفة المشرقة. هناك في قصر "بورشيا"، يتبارز العرسان على قلبها من خلال امتحان اوصى به والدها الراحل: على كل راغب بالزواج منها ان يخضع لامتحان امام ثلاثة صناديق من الذهب والفضة والرصاص. ومن يختار الصندوق الملائم يحظى بقلبها. هناك يقف "باسانيو" مكتشفاً جوهر الاختبار. فهو إذ يختار الصندوق المصنوع من الرصاص، انما يبرهن نأيه عن المظاهر البراقة الخادعة. في الوقت الذي ينعم فيه "باسانيو" باحتفالات فوزه بـ"بورشيا"، تغرق سفن "انطونيو" ويحين موعد دفع الدين فيطالب "شايلوك" بحصته اي بلحم "انطونيو" مختاراً اقتلاع قلبه! مرة أخرى، يدخل تأويل رادفورد الخاص عبر استخدامه واحداً من المشاهد في اتجاه ترك اثر عميق. فهناك من يأتي الى "شايلوك" ليخبره عن ابنته وما فعلته من تبديد امواله واستبدالها الخاتم الفيروزي الذي اهداها والدها اياه بقرد. يمزج المرسل بين حكاية ابنته وحكاية غرق سفن "انطونيو" في اشارة الى ان انتقام "شايلوك" من "انطونيو" انما سببه هرب ابنته مع شاب مسيحي. يتحول "انطونيو" بهذا المعنى رمز المسيحي الذي اهانه وبصق عليه ونبذه وسرق ابنته وبدد امواله... ويثير المشهد برمته سؤالاً حول ما اذا كان "شايلوك" المتجني ام المُتجَنَّى عليه. مع هذه النظرة السوداوية، يزداد شق الفيلم الآخر المتعلق ببورشيا وباسانيو خفة غير منسجمة مع وطأة التراجيديا الطاغية.. حتى مشهد المحاكمة العنيف، يبدد شيئاً من عمقه وتأثيره تنكر "بورشيا" بزي طبيب شاب يدلي بدلوه في القضية. الا ان المونولوغ الذي تلقيه حول التسامح يبقى واحداً من مونولوغات شكسبير الأجمل. يصفّد هذا المشهد الحقد تجاه "شايلوك" المصمم على اقتطاع لحم "انطونيو" بحسب الاتفاق المنصوص بينهما. ولكن التحول الأخير في شكله وسلوكه يفوق حقارته الاولى. ينهار "شايلوك" تماماً عندما تتمكن "بورشيا" في شخصيتها التنكرية من منع تنفيذ الشرط بحجة انه لا يجوز هدر نقطة دم. بل وتلاحقه بتهمة الحاق الأذى بمواطن مسيحي والتي تصل عقوبتها حد مصادرة امواله لصالح المتأذي اي "انطونيو". ولكن الأخير يرفض المال، مشترطاً عوضاً عنه ان يعتنق "شايلوك" المسيحية وان يوصي بنصف ثروته لابنته بعد مماته. هكذا يهيم "شايلوك" على وجهه فاقد نصف عقله. مجدداً تبرز الهوة بين الشقين التراجيدي والكوميدي. فبينما تبدو نهاية "شايلوك" نهاية مناسبة للمسرحية، تنتقل الأحداث مجدداً الى "بورشيا" و"باسانيو" ولعبة الخواتم الخفيفة. هل هي مشكلة النص نفسه انه يخلط بين حدثين احدهما مأسوي والآخر كوميدي؟ ام انها مشكلة الفيلم الذي قرر الذهاب بعيداً في رسم تراجيديا "شايلوك" من دون ان يتنبه الى انفصالها الكلي عن الشق الكوميدي؟ من الواضح ان رادفورد صب جهوده في هذا العمل على شخصية "شايلوك" ليحولها شخصية ذات ابعاد وعمق ربما لم يتقصدهما شكسبير نفسه. ولكن تلك هي عظمة الشخصيات الشكسبيرية التي تتكشف اعماقاً جديدة لها مع كل قراءة وبحسب كل عين. ربما كان "شايلوك" ليكون من الشخصيات العابرة في مسرح شكسبير لو لم يكن يهودياً ولو لم يتقاطع ذلك مع التحول العالمي الكبير الذي شهدته النظرة الى اليهود واسرائيل والصهيونية ومازالت. بهذا المعنى، ثمة من سيسأل: هل كان يمكن عمل من هذا النوع ان يبصر النور لو لم يتبنَ هذه المقاربة لشخصية "شايلوك"؟ وربما نسأل: هل كان يمكن هذه المسرحية ان تحيا الى اليوم لو انها بقيت اسيرة نظرة شكسبير الى اليهودي؟ لعله من البديهي القول انه من الصعب بمكان تقديم النظرة الشكسبيرية للشخصية اليهودية اليوم بعد مرور نحو اربعمئة سنة عليها ومع كل التغييرات الحاصلة في التاريخ والجغرافيا. ولكنه من الظلم ان نوجز جهد رادفورد في الفيلم بإنصاف شخصية اليهودي. فهذا عمل تاريخي متقن بملابسه واكسسواراته واستعادته ملامح الحقبة. وهو حجة مقبولة دائماً لتقديم آل باتشينو في اداء يُضاف الى رضيده. كما انه فيلم يعيد شكسبير الى الشاشة بعد انقطاع أكثر السينمائيين شغفاً به عن اقتباس اعماله، اي كينيث برانا، منذ عاهد الاخير نفسه على عدم العودة الى شكسبير بعد الهجوم النقدي الذي واجهه اقتباسه الموسيقي الكوميدي لمسرحية "جعجعة من دون طحين" Much Ado About Nothing. المستقبل اللبنانية في 12 أغسطس 2005 |
رادفورد المتبدل اشتهر المخرج مايكل رادفورد من خلال الفيلم الذي أنجزه العام 1995، اي بعد نحو خمس عشرة سنة من انطلاقة مسيرته السينمائية. "ساعي البريد" او IL Postino شغل الناس بمناخه الحميم عن علاقة بين ساعي بريد بسيط والشاعر التشيلي بابلو نيرودا ايم كان الأخير منفياً الى قرية ايطالية. أفاد الفيلم من حدثين وقتذاك، أحدهما تراجيدي والآخر مفرح. اما الأخير فكان ترشحه لأوسكار افضل فيلم ليكون بذلك الفيلم الثاني غير الأميركي الذي نال الترشيح يعد شريط انغمار بورغمن Cries and Whispers العام 1973. اما الحدث التراجيدي فكان موت بطله الممثل ماسيمو ترويزي الذي لعب دور ساعي البريد بمزيج من التلقائية والشغف بعد وقت قصير على خروج الفيلم. تعود بدايات رادفورد المولود لأب انكليزي وام نمساوية في الهند الى العام 1971. فبعد ان انهى دراسة الفلسفة والسياسة والاقتصاد في اوكسفورد بانكلترا، اتجه الى التمثيل ومن ثم قرر الالتحاق بالمدرسة الوطنية للفيلم ليتخرج منها صانع افلام وثائقية. من اعمال تلك المرحلة، يبرز فيلمان وثائقيان: The Madonna and the Volcano (1979) وVan Morrison In Ireland (1981). استمر في العمل الوثائقي حتى 1983 عندما انتقل الى الروائي بكتابته وإخراجه شريط الحرب العالمية الثانية الرومنسي Another Time, Another Place. ثم كانت تجربته التالية المثيرة للإهتمام بعد عام من خلال اقتباسه لرواية جورج اورويل الشهيرة 1984 في فيلم لعب بطولته ريتشارد بورتن في ظهوره السينمائي الأخير. بعد ثلاثة اعوام، اي في 1987، قدم رادفورد White Mischief ولكنه برغم تنوع اعماله، بقي خارج دائرة الضوء الى ان قدم IL Postino. بعده انقطع عن السينما لأربع سنوات قبل ان يعود بدراما الجريمة B. Monkey العام 1998 ومن ثم Dancing at the Blue Iguana عام 2001. واقع الحال ان رادفورد لم يعد الى التمتع بالشهرة التي حازها مع Postino، وان كانت مسيرته تقوم على ثراء الموضوعات وفرادة النظرة أحياناً على قلة افلامه. المستقبل اللبنانية في 12 أغسطس 2005 |