جديد الموقع

كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما

 

 

عودة الى تلك التيارات السينمائية التي وضعت الإنسان وحياته على الشاشة الكبيرة (2)

ابراهيم العريس

 

التالي
السابق

كتبوا في السينما

سينما المقاومة في فلسطين

«الحس» للإيطالي فيسكونتي

يسري نصر الله: أفلامي بسيطة وشديدة الخصوصية

غودار: نحن أقرب إلى نقطة النهاية لأننا عاجزون عن الكلام

2 ـ «الموجة الجديدة» الفرنسية:

خلط اليمين باليسار وأخلاقية روسيليني بدينامية هيتشكوك

 

على عكس ما قد يخيل الى كثر من الذين يتحدثون عن «الموجة الجديدة» في السينما الفرنسية، لم يكن هذا التعبير، حين ظهور السينما التي انتمت الى هذا «التيار» اسماً رسمياً له، بل كان اسماً عاماً أطلقته الصحافية فرانسواز جيرو في مقال لها في مجلة «الاكسبرس» على كل ما هو جديد في نتاجات الأجيال الشابة في الميادين كافة. أما حين طبق التعبير على السينمائيين الطالعين حديثاً في ذلك الحين، فإنه استخدم للسخرية منهم لا أكثر. ولكن حدث له، مع مرور الزمن أن ترسخ وصارت تعرف به تلك الأفلام التي ولدت في فرنسا خلال النصف الثاني من سنوات الخمسين.

واليوم، طبعاً، صارت «الموجة الجديدة» جزءاً من تاريخ السينما، وثمة في العالم كله سينمائيون يعلنون، في شكل أو آخر، انتماءهم الى هذه الموجة... ولكن، غالباً، في خلط تام بين الموجة، كتيار سينمائي شكلي وتقني، وبين المجلة التي كانت وراء ذلك كله: مجلة «كراسات السينما»... ذلك ان القسم الأكبر من السينمائيين الذين حققوا أول أفلامهم خلال النصف الثاني من سنوات الخمسين، كانوا إما نقاداً يكتبون في هذه المجلة، وإما قـراءً لها متحمسين، وإما من حواريــي النــاقــد الكبــيــر أندريـــه بازان، الذي كانت كتاباته، منذ أواسط الأربعينات، تحض على ابداع سينما جديدة، بأساليب جديدة وأفكار جديدة.

الجزائر منطلقاً

في هذا المعنى وفي الكثير من التفاصيل، تكاد «الموجة الجديدة» الفرنسية تكون شبيهة بـ «الواقعية الجديدة» الايطالية... لكن الفروقات بين التيارين كبيرة، حتى وإن كان كل منهما ولد من رد فعل على حرب ما: الحرب العالمية الثانية بالنسبة الى التيار الايطالي، وحرب الجزائر بالنسبة الى التيار الفرنسي. ولنقل هنا ان في رأس الفروقات، ان سينما «الواقعية الجديدة» في ايطاليا ولدت من رحم العامل الاجتماعي وفي انطلاقة سياسية يسارية واضحة، ولأهداف ايديولوجية لا لبس فيها. أما «الموجة الجديدة» في فرنسا، فهي – على يساريتها – كانت أقرب الى نزعة فوضوية انسانية عامة، تجد جذورها في السينما الأميركية نفسها، ولا سيما في سينما هوارد هاوكس وألفريد هتشكوك.

في ايطاليا، ثارت السينما على الفاشية وعلى تاريخ يزيف الواقع. أما في فرنسا فإنها ثارت على بلادة سينمائية مستشرية، كما على سلطة سياسية يمارسها آباء هزموا ولا يعرفون ان العالم يتغير ونبض الشارع يتغير. واذا كان السينمائيون الايطاليون انطلقوا وهم يعرفون ماذا يريدون... فإن زملاءهم الفرنسيين انطلقوا وهم يعرفون فقط ماذا يرفضون. أولئك جاءوا من السياسة والمجتمع والنضال الايديولوجي. وهؤلاء جاءوا من صراع الأجيال والإرث السينمائي العالمي نفسه. ومهما يكن من أمر، فإن حياة «الموجة الجديدة» كانت، وللأسباب نفسها، أطول كثيراً وأقصر كثيراً من حياة «الواقعية الجديدة». فإذا كانت هذه الأخيرة دامت عقداً من السنين، فإن «الموجة الجديدة» كتيار لم تدم أكثر من نصف دزينة من السنين... لكنها كأفراد دامت طويلاً وهي في بعض الحسابات لا تزال مستمرة الى اليوم. ذلك، خصوصاً، أن ثورتها الشكلانية، وكانت أهم ما فيها، عرفت كيف تعم سينمات العالم كله وتغري سينمائيين كثراً فيه، وقد ساعد تطور التقنيات وانتشار اللغة التلفزيونية على ذلك.

نظرية وتطبيق

والحقيقة اننا بقولنا هذا، نكون قد لامسنا جوهر الموجة الجديدة، كما تجلت، أواسط الخمسينات، في سينمائيين أتوا من مصدرين مختلفين انما غير متناحرين: الأول هو الفيلم التسجيلي القصير، والثاني الحركة النقدية، تجمع بين الاثنين حركة نوادي سينما كانت واسعة الانتشار وحصناً للتقدم الفكري في فرنسا، عند زمن الانعطاف بين الجمهورية الرابعة ومفاسدها، والجمهورية الخامسة (جمهورية شارل ديغول) ووعودها. وازدواجية المصدر هذه، هي ما جعل المؤرخين يتحدثون عن تضافر بين النظرية (الحركة النقدية) والتطبيق (حركة السينما التسجيلية)، لإيجاد سينما كان – على أية حال – منطلقها الأساس تمكّن كلود شابرول من تحقيق فيلم أول هو «سيرج الجميل» بكلفة ضئيلة جداً – حصّل المبلغ من ميراث زوجته -، وصلت الى أقل من 15 في المئة من كلفة أي فيلم فرنسي في ذلك الحين. وكان فيلماً صوِّر في أماكن حقيقية ومن دون نجم شباك، وفي لغة تقترب من حدود استخدام الكاميرا كقلم للكتابة (بحسب تعبير شهير لألكسندر استروك)، ما أتاح مجالاً للارتجال... وكأن الفيلم صار شريحة من الحياة نفسها. وقد حقق الفيلم حين عرض نجاحاً جماهيرياً، وردود فعل نقدية، كشفت لبعض المنتجين المغامرين امكانات واسعة، فراحوا يوظفون أموالاً زهيدة – آملين، عن صواب، أن ينالوا في مقابلها دعماً حكومياً مماثلاً، ما جعل بعض الأفلام يحقق أرباحه حتى قبل أن ينتج! -، وتتالت الأفلام تباعاً، وبعضها متجاوزاً، فنياً وتقنياً، لـ «سيرج الجميل» من بعيد جداً: «العشاق» (1959) للوي مال، «الضربات الـ 400» (1959) لفرانسوا تروفو، «على آخر رمق، (1960) لجان - لوك غودار، «لولا» (1960) لجاك

ديمي، وأيضاً «أبناء العم» (1959) لشابرول نفسه... ويمكننا أن نضيف الى هذه الأسماء المؤسسة: «هيروشيما باجي» (1959) لآلان رينيه، و «انا... أسود» لجان روش (1957) وأفلاماً لآنييس فاردا... وغيرها.

لغة تجديدية

طبعاً هذه الأفلام ليست كل أفلام «الموجة الجديدة» بل هي ارهاصاتها الأولى... ولعل من الأفضل القول انها الأفلام التي أسست ووضعت القواعد، لأن ما تلا ذلك، مع بداية سنوات الستين، واذ راحت ثورة الأجيال الشابة تتحرك في كل القطاعات في فرنسا، انتقلت الموجة الجديدة من شكلها التأسيسي الجماعي، الى أشكال أكثر فردية، ظلت دائماً على علاقة بالاندفاعات الأولى – وأحياناً عمقتها كما لدى آلان رينيه الى حين، وجان – لوك غودار دائماً -، ولكن كي تخلق توجهات جديدة، دائماً في مجال اختيار المواضيع الأقرب الى الحياة، ولكن في أغلب الأحيان في مجال ابداع لغة سينمائية تجديدية (مثلاً في مجال التعبير عن العواطف الانسانية والعلاقات كما لدى تروفو، أو في مجال خلق رؤية جديدة لسينما التشويق المستمدة مباشرة من هتشكوك، كما لدى شابرول، أو في الامعان تعمقاً في النضال السياسي، كما لدى غودار).

منذ البداية، اذاً، لم يخفِ أصحاب «الموجة الجديدة» تعلقهم بأنواع معينة من السينما الأميركية، وهو ما عبرت عنه بوضوح مجلة «كراسات السينما» التي اكتشفت وأعادت اكتشاف سينمات، كانت تعيش في الظل وعلى الهامش في هوليوود (سينما دلمر دايفيز، جون هسنون، بعض أفلام مانكفتش... وصولاً الى فرانك كابرا) أو ألقت أضواء تفسيرية جديدة على سينمات معروفة، انما غائمة المعنى في هوليوود، تحت وطأة الأبعاد التجارية، واستنكاف الأميركيين عن أي تحليل أو تفسير عميق.

ولكن، ألا يضعنا هذا كله، أمام خلطة غريبة بعض الشيء؟ وطالما اننا نتحدث هنا عن ثورة في الشكل تستوحي أصلاً سينما أميركية كانت «مشبوهة» في ذلك الحين تحت ربقة هيمنة النقد اليساري، أَفَلَسنا كمن يحكم على التيار حكماً مسبقاً؟ على الاطلاق... فإذا كانت «الموجة الجديدة» خلطت ثورة الشكل بثورة المضمون، ووحدت في ثورة تجديدية الى الأمام «سينمائيين يساريين ويمينيين، فإنها عرفت في الوقت نفسه كيف تقيم تناسقاً، في أفلامها، بين أخلاقية تقدمية مستقاة من سيد الواقعية الجديدة الايطالية، روبرتو روسليني، وديناميكية ماكرة مستمدة من سيد تقنيات التشويق في السينما الهوليوودية ألفريد هتشكوك.

والمدهش أن هذه الخلطة المزدوجة نجحت، وحتى باعتراف الناقد ميشال سيمان، أحد أقطاب النقد المضاد في مجلة «بوزتيف» التي كانت المنافس الرئيس لـ «كراسات السينما»، وبالتالي بكرت في فتح النار على «الموجة الجديدة»، اذ ان سيمان سيكتب في العام 1983: «لن يكون في وسعنا أبداً التقليل من أهمية ظاهرة الموجة الجديدة (...) اذ لا مراء في أنه كان لها صدى كبير في أرجاء العالم كافة، حيث لم يكن له شبيه بعد الحرب، اذا استثنينا الواقعية الجديدة في ايطاليا. فالموجة الجديدة حررت عدداً من السينمائيين الشبان. واذ أقول هذا، لا بد من أن أشير أيضاً في الوقت نفسه الى ان هذه الموجة بدت كوكباً من الصعب الاحاطة به. لكن من المؤكد أنها كانت ظاهرة صراع أجيال، وسيطرة على السينما الفرنسية، أكثر منها حركة ايديولوجية أو جمالية».

ومن الواضح هنا أن سيمان يعبر في هذا الموقف عن حيرة الحياة الثقافية الفرنسية ازاء هذا التيار. فإذا كان النقد اليساري مال في البداية الى اعتبارها ثورة بورجوازية صغيرة، لن يفوتنا أن نتذكر ان جورج سادول وسارتر اليساريين تحمسا لها. أما لويس اراغون فإنه أعلن دائماً تعصبه الحقيقي لسينما جان - لوك غودار.  

اذاً، وسط هذه المواقف المتشابكة، كانطلاقتها نفسها، عاشت «الموجة الجديدة» حياتها لتحلّق، منذ النصف الأول من سنوات الستين، بسينمائييها وقد صاروا أكثر نضجاً وفردية، عبر أفلام رائعة مثل «جول وجيم» لتروفو و «بيارو المجنون» و «الاحتقار» لغودار و «الحب المجنون» لجاك ريفيت وخصوصاً «العام الماضي في مارينباد» لآن رينيه... وهي أفلام يشكل كل منها على طريقته منطلقاً جديداً للموجة الجديدة وقد أضحت اسماً تقنياً، متخلصة من أية أبعاد ايديولوجية كان يمكن أن تنسب اليها، بطريقة أو بأخرى. 

الحلقة المقبلة: «السينما الحرة» في بريطانيا.

الحياة اللبنانية في 12 أغسطس 2005

غودار:

الفارس الأخير وتناقضاته العجيبة المدهشة  

في الوقت الذي اتجه كبار زملائه، كل في وجهة... كان جان – لوك غودار يخوض في الميدان وحيداً، ولا يزال. ففرانسوا تروفو (الراحل عام 1984) أمعن أدباً وباتجاه كلاسيكية واضحة في اللغة والمضمون، وكلود شابرول واصل طريقه الهتشكوكية متعثراً غالباً، ناجحاً أحياناً، وآلان رينيه أوغل في ما يسمى بـ «التوعية الفرنسية» واصلاً الى حدود مسرح الفودفيل، وريفيت ظل سابراً غور العواطف والمناطق العميقة في عمق المشاعر الانسانية، فيما تمسك رومر بحكايات أخلاقية مملة. أما غودار فظل متمسكاً بالسينما كمرجع أساس للسينما، كما في بداياته، وان كان أطاش صوابه توجه سياسي – نضالي، بدا لحين عقيماً عبر أفلام متلهفة لقول «الكلمة الفصل» ايديولوجياً. المهم في هذا كله ان غودار (المولود العام 1930) ظل الأكثر تماسكاً وتألقاً من بين كل أبناء ذلك الجيل... وظل الأكثر قدرة على ادهاش متفرجيه، حتى في تناقضاته العجيبة. ونعرف ان غودار أتى الى السينما, من عتمة نوادي السينما، ومن حب للفن السابع، ساندته ثقافة مذهلة، تجلت لديه أولاً ككاتب وناقد... دافع بحرارة، تحت مظلة اندريه بازان، عراب «الموجة الجديدة» الكبير وباني أسسها النظرية، دافع عن سينما أميركية ظل مخلصاً لها دائماً، وبالتضاد مع الايديولوجية الأميركية السلطوية أو الهوليوودية، وهو اليساري الفوضوي.

غودار تأخر، عن رفاق دربه، بعض الشيء في تحقيق فيلمه الروائي الطويل الأول (وكان الفيلم «على آخر رمق») لكنه حين حققه، عرف فيه كيف يعطي الموجة الجديدة كل زخمها: سينما تنبض بالحياة، دينامية اللغة، انسانية الموضوع، مرتجلة كما الحياة نفسها، عابقة بالمفاجآت كما هي مهنة العيش حقاً. ومنذ ذلك الحين واصل غودار طريقه، واصلاً قبل عام ونصف العام الى ذروة جديدة في مجاله التعبيري عبر فيلم «موسيقانا» الذي بناه جزئياً حول موقف مدهش من القضية الفلسطينية. وفلسطين كانت حاضرة في سينما غودار وذهنه، منذ زمن مبكر، اذ نعرف أنه صور العام 1970 في الأردن فيلماً عن النضال الفلسطيني بعنوان «حتى النصر» عاد ودمجه في فيلم «هنا وهناك» المتحدث عن الاعلام التلفزيوني ودوره في حياتنا.

لكن النضال الفلسطيني لم يكن كل ما شغل غودار بالطبع، فهو حقق عشرات الأفلام، وعجز عن اكمال نصف دزينة منها، وشارك آخرين في اخراج بعضها... وتطرق الى مواضيع عدة، من موزار، الى السيدة مريم العذراء ومن الحرب الجزائرية الى الخيانة والحب، ومن كارمن الى أدب ألبرتو مورافيا... واصلاً الى تحقيق فيلم عنوانه «الموجة الجديدة». بالنسبة الى غودار يبدو كل شيء في هذا العالم وكأنه وجد لينتهي على الشاشة. ومن هنا هذا التنوع في أفلام حملت عناوين باتت علامات في تاريخ الفن السابع، علامات هي اليوم الشاهد الأجمل والأكبر على ذلك النيزك الذي مر يوماً في سماء السينما وحمل اسم «الموجة الجديدة». ومن بين هذه العناوين: «الجنوب الصغير»، «عاشت حياتها»، «شيئان أو ثلاثة أعرفها عنها»، «الاحتقار»، «اسم العلم كارمن»، «تحري»، «كل شيء على ما يرام»، «بعيداً من فييتنام» وغيرها بين طويل وقصير وروائي وتسجيلي، وأحياناًَ في مزج بين هذا كله.

واشتهر غودار أيضاً ككاتب ومحاور من طراز رفيع تؤثر عنه عبارات وأقوال مدهشة كأن قال مرة حين سئل عن رأيه في الأعمال الارهابية، وهو المؤيد بقوة لكل قضايا التحرر العادلة: «ان قتل انسان في سبيل قضية، لا يمكن اعتباره انتصاراً لقضية، بل هو قتل لإنسان».

 

«الضربات الـ400» لتروفو:

البداية الأبرز في التيار سيرة ذاتية

إذا قلنا ان تيار الموجة الجديدة كانت له بداية محددة، نستطرد لنقول ان هذه البداية تمثلت في ثلاثة أو أربعة أفلام حملت تواقيع من سيصبحون لاحقاً «نجوم» التيار: فرانسوا تروفو، جان - لوك غودار، كلود شابرول، ألكسندر آستروك... الخ. وكما هي حال التيارات الأخرى، يمكن القول ان «الموجة الجديدة» نبعت من رصد الحياة نفسها، ورصد المشاعر والمواقف وعلاقة الأفراد بالمجتمع، ناهيك باتباعها أساليب «لغوية» جديدة في التوليف والحوار، واختيار الكادرات، بالتوازي مع الاستعانة، عموماً، بممثلين جدد - لا بأس أن يتحولوا لاحقاً الى نجوم -. غير ان الميزة اللافتة في مجمل الأفلام الأولى التابعة لهذه «الموجة الجديدة»، هي ان طابع السيرة الذاتية غلب على معظم تلك الأفلام، ما جعل من المنطقي الحديث معها عن «سينما المؤلف»، أي السينما التي يكتب المخرج مواضيعها ويخرجها، لأنها - ولو جزئياً - مستقاة من حياته نفسها، أو الحياة التي يرصد تفاصيلها من حوله، ودائماً في لعبة تحطيم للزمن تدين لمارسيل بروست... بالكثير. ونحن لو بحثنا عن فيلم أول تبدو فيه كل هذه العناصر مجتمعة، سنجد أنفسنا أمام واحد من أبكر وأجمل أفلام هذا التيار: فيلم «الضربات الـ 400» لفرانسوا تروفو، الذي كان وبقي حتى رحيله المؤسي والمبكر، في مقدم أهل «الموجة الجديدة» أحياناً وحده، وأحياناً شراكة مع أناه/ الآخر، لكن المشاكس وذي الخصوصية الاستثنائية، جان - لوك غودار... حتى وإن أطل تروفو، دائماً، أكثر كلاسيكية ومحافظة في الشكل، أكثر ثورية في المضمون العقلاني لأعماله. وكل هذا أيضاً نجده واضحاً في «الضربات الـ 400».

العيش كيفما اتفق هو الذي يمارسه في الفيلم بطله، الفتى المراهق المسمى انطوان دوانيل، والذي يكاد يكون مع بعض الفوارق صورة مما كان عليه فرانسوا تروفو نفسه، في صباه. وانطوان هذا (الذي لعب دوره في ذلك الحين فتى في الثالثة عشرة من عمره هو جان - بيار ليو)، يعيش في الفيلم حياته اليومية، التي من الصعب القول انها شديدة الاستثنائية، مفرطة في مأسويتها، حتى وإن كانت تتسم بشيء من الغرابة - أو الخروج عن السياق العام لعادية المجتمع - من خلال وضعية انطوان نفسه. فهو صبي باريسي، تبناه زوج أمه الطيب الذي لا يدخر وسعاً في العناية به، على رغم آلامه هو الذي لا تكف زوجته - أم انطوان - عن خيانته عابثة مع شبان آخرين. وفي خضم هذا، يبدو لنا انطوان حالماً مشاكساً، لا يكف عن التغيب عن صفه متسكعاً في الأزقة والحواري برفقة رفيقه رينيه. ويحدث ذات يوم إذ يشتد ضغط الناظر على انطوان في المدرسة لكي يبرر غيابه المتكرر، يحدث ان يزعم انطوان ان سبب غيابه موت أمه. غير ان هذه الكذبة سرعان ما تفتضح ويصبح ذنب انطوان مضاعفاً، ما يدفع الناظر الى معاقبته، لتبدأ سلسلة من الهروب والمشاكسات التي تنتهي بأن يوضع انطوان بموافقة الأهل في مركز للرقابة على الأحداث الخارجين عن القانون. ولكن هذه المرة أيضاً، لا يكون أمام انطوان إلا أن يهرب راكضاً... راكضاً حتى يصل الى البحر... وينتهي الفيلم على ذلك. في الحقيقة ان هذا الموضوع قد يبدو للوهلة الأولى، مستقى من عوالم تشارلز ديكنز. بيد ان لغة تروفو لا بؤسوية فيها ولا أي شيء من هذا القبيل. فأنطوان لا يتصرف كولد وقع ضحية المجتمع، بل ككائن حر يشعر انه يمتلك العالم... لأنه يقاوم بشدة ويصارع. وتلكم هي، على أية حال، الرسالة الأساسية للفيلم، ناهيك بأن تروفو يقدم لنا في مشاهد عدة وذات مغزى في الفيلم، بطله الفتي وهو يكتشف فن السينما باكراً لتصبح السينما جزءاً من حياته، بل إنه لا يتوانى عن سرقة صور الأفلام المعروضة على واجهة الصالات. ومن هنا يصبح هذا الفيلم أيضاً، مؤسساً لعلاقة الفن - والمخرج بالتالي - بالفن السابع، وهي علاقة سيكون تروفو لاحقاً، وفي فيلم «الليل الأميركي» بخاصة من أبرع الذين يعبرون عنها وأكثرهم شفافية، ما يضعنا أيضاً في صلب سيرة تروفو الذاتية. (...)

ملخص عن مقال نشر في زاوية «ألف وجه لألف عام».

الحياة اللبنانية في 12 أغسطس 2005

 

 

 

 

 

 

منذ بداياتها اتجهت السينما لتكون فناً واقعياً. هكذا صاغها الاخوان لوميير. وهكذا فهمها مبدعون كثر على مدى سنواتها الأولى. ثم جاء الفرنسي جورج ميلياس، ومن بعده فنانون من شتى أنحاء العالم، من الذين «اكتشفوا» قدرة هذا الوسيط الفني، الجديد في أيامهم، على ان يرث المسرح والرواية، قبل أن يرث الشعر والأوبرا وبقية الفنون لاحقاً. وهكذا راحت السينما تبتعد أكثر وأكثر عن الواقعية، ولكن من دون ان يكون هذا خياراً نهائياً. الذي حدث هو ان السينما، انطلاقاً من هوليوود، وصولاً الى روما وباريس والقاهرة والهند، صارت مصنعاً للأحلام. لكن الحرب العالمية الثانية وما تلاها من حروب ساخنة وباردة، عادت لتوقظ الانسان على واقعه. وهكذا، راحت السينما تعود أكثر وأكثر الى الواقعية والى حياة الانسان وهمومه ومشاغله ومشاكله. وانبعثت تيارات، بنظريات او من دون نظريات، تسعى للوصول الى الحياة والى الانسان من جديد.  

ولئن كان جمهور عريض لم يكتشف هذا التوجه إلا لاحقاً، مع ازدياد الاهتمام بالسينما التسجيلية وصولاً الى فوز «فهرنهايت 11/9» بالسعفة الذهبية في «كان»، فإن الجمهور الأكثر اهتماماً بالسينما، رصد مثل هذه التحولات، منذ راحت تظهر تلك التيارات، التي بدت أقل أو أكثر واقعية من بعضها بعضاً. وهذه التيارات، المؤسسة، هي ما نحاول ان نبقي عليه في هذه السلسلة من المقالات التي بدأناها الاسبوع الفائت بـ «الواقعية الجديدة» في إيطاليا، ونتابعها هنا بإطلالة على توجه لم يقلّ أهمية، هو ما سمي بـ «الموجة الجديدة» الفرنسية... على ان نتابع التوقف عند بقية التيارات في الأسابيع المقبلة.

إبراهيم العريس ـ الحياة اللبنانية

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

التالي
السابق
أعلى