1- «الواقعية الجديدة» في إيطاليا: ساعة ونصف عن حياة شخص لا يحدث له شيء |
ابراهيم العريس |
بالنسبة الى جان – بول سارتر لم يكن الأمر أكثر من «مجرد تسوية بين الواقعية النقدية والرقابة». اما بالنسبة الى تشيزار زافاتيني فإن الفيلم الواقعي الجديد يجب أن «يتحدث عن ساعة ونصف الساعة من حياة شخص لا يحدث له شيء». وفي الاحوال كافة كانت الواقعية الجديدة هذه «سينما شديدة المعاصرة» و «سينما شجاعة» و «تجربة مكثفة للسينما الاجتماعية». غير أن هذه السينما التي تعتبر، ومنذ زمن بعيد، مرجعية في تاريخ سينما الواقع، والتي وضع عنها مئات الكتب، ونسب اليها عشرات المخرجين، وربطت بها تيارات عدة قامت من بعدها، في عدد كبير من البلدان، هذه السينما لو تمعّنا فيها جيداً، سنجدها بعد كل شيء ذات عمر قصير، وبالكاد تضم في لائحة افلامها، دزينتين حقيقيتين لدزينة من المخرجين. هذه وهؤلاء يشكلون النواة... اما الباقي فعلى الاطراف... بل حتى النواة نفسها ستبدو لنا امام الفحص متأرجحة. فهل علينا ان نذكر هنا بأن «الواقعية الجديدة» عوملت لاحقاً كأسطورة وأصابها كل ما يصيب الاساطير عادة: ضُخمت، أُسطرت... حتى فقدت شكلها وسماتها وصارت اسماً... بالكاد يدل حقاً على شيء؟ أحياه وأماته سنرى هذا كله، اما هنا، كبداية، فقد يكون من المهم ان نشير الى ان هذا «التيار» الذي ولد على يدي لوكينو فسكونتي (في العام 1942) وسيموت على يديه ايضاً بعد ذلك بعشرة اعوام، قام اصلاً، من خلال عدد من السينمائيين والنقاد المتحلقين من حول محطة تنظير سينمائية يسارية تدعى «تشينها» يملكها ويديرها المدعو فيتوريو موسوليني (شقيق الدكتاتور الشهير!)... كيف كان هذا ممكناً؟ حسناً لسنا ندري، انها معجزة اخرى من المعجزات الايطالية. غير ان افكار موسوليني لم تكن هي السائدة هنا بالطبع، بل كان السائد مزيج من افكار انطونيو غرامشي (مؤسس الحزب الشيوعي الايطالي) وأساليب جيوفاني فرغا (رائد الواقعية الحقيقية في الادب الايطالي)... لكن هذا لم يمنع الفيلم «الواقعي الجديد» الاول «وسداس» من ان يكون مقتبساً عن رواية بوليسية اميركية! سلطة؟ كوكتيل؟ ربما... المهم ان الأمور جرت على هذا النحو. والايطاليون اخترعوا على هذه الطريقة واقعيتهم بعدما رصدوا طويلاً ما كان حدث في السينما الروسية، وأعجبوا بواقعية جان رينوار الفرنسية... وبدأوا يظهرون سأمهم من سينما بلادهم التي لم تعد، زمن الفاشية، سوى نسخة مشوهة عن «سينما هوليوود التخديرية»... وصارت بدعم من الفاشيين سينما هروب حقيقي من الواقع لتعرف باسم «سينما التلفونات البيضاء». وكان في مقدمة الذين سئموا تلك السينما، فيسكونتي العائد حديثاً من فرنسا حين كان قد عمل مساعداً لجان رينوار، واليساندرو وبلازيتي، الذي كان آتياً من السينما السائدة، اضافة الى فيتوريو دي سيكا، الممثل الكوميدي المعروف والذي كان يتحين الفرص لتحقيق افلام اجتماعية، فإذا اضفنا الى هؤلاء، الكاتب والصحافي رافاتيني، الذي سيكتب اول سيناريوهين واقعيين جديدين لدى سيكا ولبلازيتي، ستكون قد اكتلمت امام اعيننا صورة البداية. غير ان هذا الاكتمال لن يتم من دون توضيح «قضية فسكونتي». فالحقيقة ان هذا الارستقراطي الماركسي، والذي راح يهتم بالواقع وحياة الناس تحت تأثير قراءته لغرامشي، واطلاعه على الماركسية، كان اراد في البداية ان يكون مشروعه الاول فيلماً مقتبساً عن فيرغا هو «الارض تهتز»، عن حياة الصيادين البائسين في صقلية، كجزء اول من ثلاثية اجتماعية، فكوّن خلفية المشروع وحدد الاسس الواقعية لتحقيقه، ميدانياً في مكان الاحداث وداخل حياة ومشاعر الناس ومن دون ممثلين محترفين. غير ان الرقابة الفاشية كانت في المرصاد (1941) فحالت دون تحقيق المشروع، وهكذا انعطف فسكونتي ليحقق فيلماً – كان رينوار نصحه به – انطلاقاً من رواية «ساعي البريد يدق الباب دائماً مرتين» للكاتب الاميركي جيمس كين. طبعاً من يعرف هذه الرواية يدرك البعد الميتافيزيقي في موضوعها، والبعد الاميركي في حبكتها... ولكن... لا يهم. بالنسبة الى فسكونتي: المناخ والديكور والمواقف كلها ستكون ايطالية... وواقعية... وجديدة. طبعاً هو لم يصنف... هو حقق فيلمه. لكن الناقد اومبرتو باربارو، ما ان شاهد الفيلم حتى صرخ: انه نيو واقعي! والتقط الناس بالاسم، ليعمموه، وليصبح للأفلام التي حققت تالياً نصيب فيه. وهذه الافلام التي حققت تالياً، ظلت تحقق تبعاً للمفاهيم نفسها حتى العام 1953، الذي شهد وحده تحقيق ما لا يقل عن خمسة افلام تنتمي الى التوجه نفسه، منها «المهزومون» لأنطونيوني و «آل فيتيلوني» لفيليني و «الريفيون» لسولداتي وخصوصاً «الحب في المدينة» لعدد من المخرجين. وكان فسكونتي في ذلك الوقت يحضر لفيلمه الجديد «الحس» فيما يحضر فيليني لـ «الطريق» ودي سيكال «ذهب روما». طبعاً هذه الافلام الاخيرة لم تكن من «الواقعية الجديدة» في شيء، لكن المنظرين لم يكونوا ينتظرون ظهور هذه الافلام، وخصوصاً فيلم «الحس» لفسكونتي ليعلنوا موت «الواقعية الجديدة»... بل هم اعلنوه خلال اجتماع عقد في بارما أوائل كانون الاول (ديسمبر) 1953، وكان الهدف منه «انقاذ الواقعية الجديدة من الطريق المسدود الذي كانت وصلت اليه». ولكن لم يتمخض الامر عن انقاذ ولا عن تجديد... بل تمخض عن عبارة اعتبرت نعياً رسمياً، اذ وقف احد كبار مخرجي الواقعية الجديدة وقال: «أيها السادة... لندع النفاق جانباً ولنعلن موت الواقعية الجديدة». هل تراها ماتت بالفعل لحظتذاك؟... ابداً... ماتت رسمياً، لكن روسليني، رجلها الاكبر – وإن لم يكن الاول – واصل طريقه، كما ان سينمائيي بلدان اخرى تلقفوها... بل انها في ايطاليا نفسها سرعان ما اندمجت في سينمات اكثر خصوبة وقوة. قواعد ذهبية 11 عاماً، اذاً، عاشت «الواقعية الجديدة» في ايطاليا بصورة رسمية... لتعيش نتفاً نتفاً في كل مكان بعد ذلك. فما هي – بعد كل شيء – هذه الواقعية الجديدة؟ إن الاجابة المنطقية على هذا السؤال، لا تحيلنا في الواقع الى الافلام الاولى التي حققت خلال سنوات الحرب لتكون مجرد ارهاصات، بل تحيلنا الى فيلم محدد هو «روما مدينة مفتوحة» (1945) – راجع في مكان آخر من هذه الصفحة -. وهذا الفيلم، الذي هو العلامة الاساسية لذلك التيار، حقق في العام 1945، وكان مخرجه هو روبرتو روسليني، الذي اعلن بفيلمه، ليس فقط، الولادة الحقيقية لهذا التيار الكبير، بل كذلك شهادة الفن على هزيمة الفاشية وانتهاء الحرب. فالواقع ان سقوط الفاشية في ايطاليا في ذلك العام كان ادى الى ارتباك سياسي عام، صحبه ارتباك فني وأدبي، تحول لدى المتقدمين من الكتاب والفنانين (وهم كثر دائماً في ايطاليا) الى رغبة «عارمة في التعبير عن ارضية الواقع الرهيب الذي يعيشه الشعب الايطالي». وللتعبير عن ذلك كان لا بد للكاميرا من ان تصور حركة هذا الشعب وحياته على الطبيعة. وهكذا انتقلت الكاميرا الى الشارع لتعيد بناء الحدث الواقعي. وكان لا بد، من اجل هذا، من الامعان في الاستغناء عن الممثلين والديكورات الفخمة، واللجوء الى وسائل تقنية بسيطة. وهكذا اذا كان سابقو روسليني قد خلفوا التيار عفوياً، فإنه هو الذي حدد له معالمه في ثلاث قواعد مستنتجة من تلك الممارسة: 1- التصوير في الأماكن الطبيعية وفي اوساط الناس، انطلاقاً من مواضيع مرتبطة بحياة الناس. 2- الاستغناء عن القسم الاكبر من الممثلين المحترفين، لتصوير الاشخاص والجماعات وهم يؤدون ادوارهم الطبيعية في الحياة، وربما غير تلك الادوار ايضاً. 3- الاستغناء عن الديكورات واللهجات الفخمة وعن الحكايات غير الواقعية. وعلى ضوء هذه المبادئ – تنقص هنا او تزيد هناك – راحت تحقق الافلام، ولا سيما تحت رعاية الكاتب تشيزار زافاتيني، الذي اقترن اسمه بالواقعية الجديدة، طوال سنوات وجودها. وتتالت تلك الافلام وتتالى مخرجوها طوال ما تبقى من الاربعينات... غير ان ما حدث هنا هو انه، بعدما كان كل واحد من أولئك المخرجين – راجع مكان آخر في هذه الصفحة – يبدأ بفيلم ينتظم توجهه مع القواعد المرسومة، كان سرعان ما يتحول بعد ذلك في وجهات اخرى. وهكذا ما إن انفضت سنوات الفورة الاولى حتى بدأت «الواقعية الجديدة» تعيش انحدارها، بحيث لم يعد في إمكان احد انقاذها. ولسوف يقول الناقد غويد وآرستوركو لاحقاً، في معرض تأريخه للتيار، ان انتهاءه لم يكن صدفة، بل يرتبط بالواقع التاريخي نفسه، حيث – بالنسبة اليه -، حدث على التوالي ان عادت القوى الشعبية التي ساندت التيار ورأته معبراً عنها الى «الاندماج الوطني، طارحة جانباً الصراع الاجتماعي، الذي كان ركيزة اساسية من ركائز الواقعية الجديدة» كما ان «المقاومة أبعدت عن السلطة بالتدريج، ابتداء من عام التحرير نفسه»، في وقت «قبلت فيه احزاب اليسار سياسة تحالف وتعاون مع احزاب الوسط»، وخصوصاً بعد ان «حققت الديموقراطية المسيحية في نيسان (ابريل) 1948، انتصارات تاريخية انتخابية اطلقت يدها في التصرف، فزادت من هيمنة الرقابة وراحت تشن الحملات على التقدميين» واذ تزامن هذا «مع انخفاض مداخيل صالات السينما» راح بعض المخرجين «من ذوي الانتماءات الطبقية المبهمة يلجأون الى نوع متجدد من الواقعية الروحية». قد يكون في كلام ارستوركو هذا شيء من المغالاة والاختزال، لكن الواقع يقول لنا انه ما ان حل العام 1954، حتى كانت «الواقعية الجديدة، قد انتهت رسمياً، ولكن ليخلفها في ايطاليا توجهات سينمائية اكثر قوة وانسانية، من نجومها فسكونتي نفسه وفيلليني وأنطونيوني وبازوليني... اما خارج ايطاليا فإن هذه «الواقعية الجديدة» سجلت مرحلة العبور الحتمية بين السينما على النمط الهوليوودي، وبين كل تلك التيارات الواقعية والوطنية البعيدة من هوليوود... (الحلقة المقبلة: «الموجة الجديدة في فرنسا».) الحياة اللبنانية في 5 أغسطس 2005 |
نجومها مخرجون ومناضلون على الطريقة الايطالية اذا كان لوكينو فسكونتي (1906 – 1976) هو الذي اطلق تيار الواقعية الجديدة، بمشروع تأخر تحقيقه، وفيلم على الطريقة الاميركية حققه باكراً، فان روبرتو روسليني ( 1906- 1977) كان هو واضع الحجر الصحيح في صرح بناء هذا التيار، لكن روسليني، الذي سينصرف آخر حياته الى العمل للتلفزة والى المزج بين السينما والتاريخ والفلسفة، لم يتمكن – على رغم كل نياته المعلنة – من مواصلة نهجه، بعد «روما مدينة مفتوحة»، الا في فيلمين كبيرين آخرين هما «باييزا» (1946) و»المانيا العام صفر» (1947). الاول يضم ست حكايات عن المقاومة الايطالية، ودخول الجيش الاميركي لتحرير ايطاليا، والثاني تحقيق شاعري عن المانيا نفسها. والحال ان الفيلمين لم يحققا نجاحاً تجارياً، وان كان ساهما في وضع الاسس الحقيقية للسينما التي كان روسليني يريدها. من ناحية تلقف كاتب السيناريو تشيزار زافاتيني الكرة... ليقترن اسمه، بعد ذلك، اكثر من أي اسم آخر بـ «الواقعية الجديدة»، طوال سنوات وجودها. وخصوصاً من خلال اعمال كتبها هو، ليحققها فيتوريو دي سيكا، مقدمين من خلالها صورة مدهشة للواقع الايطالي. ومن هذه الافلام ثلاثة اساسية هي «شوشيا» و»اومبرتو د.».. وبخاصة «سارق الدراجة» الذي يظل الاشهر وربما الاقوى والاجمل من بين كل افلام «الواقعية الجديدة». واذا كان دي سيكا قدم دائماً كمخرج متميز لهذه الافلام، فان الانصاف يدفع الى القول ان قامة زافاتيني هي التي تطل شامخة منها. اذ انه هو الذي وضع أسس ذلك الاسلوب الذي يقوم على تحقيق سينمائي يرتكز على عقدة روائية، منادياً بـ «سينما مفيدة للانسان» يمكن الشخص العادي ان يفهمها ويستوعبها. غير ان زافاتيني، ومنذ «معجزة في ميلانو» و»ذهب نابولي» (1955) راح يتخلى عن توجهاته ليركز على العقدة الروائية اكثر من تركيزه على البيئة الشعبية. واذا كان اسم دي سيكا ارتبط باسم زافاتيني الذي كتب له معظم سيناريوات افلامه، فان زافاتيني كتب لآخرين ايضاً، ومنهم بلازيتي ورينيه كليمان وفسكونتي ودي سانتيس. اما دي سيكا، فانه يعتبر بدوره من اقطاب الواقعية الجديدة، وان غلب على شهرته الشعبية كونه ممثلاً كوميدياً. لوكينو فسكونتي، اذاً، كان هو المؤسس، كما سيكون لاحقاً متعهد الدفن لذلك التيار.. ومع هذا فإن اسهام فسكونتي الكبير في «الواقعية الجديدة» لم يكن في «وسواس» – فيلمها الاول – بل في «الارض تهتز» الذي حققه في جزيرة صقلية في العام 1948، ورسم فيه – من وجهة نظر ماركسية معينة – صورة لصراع صيادي السمك البائسين، علماً أن ثورة الصيادين تنتهي هنا الى الفشل، مع ان فسكونتي طبق فيه كل الأسس القديمة للواقعية الجديدة، بما في ذلك استخدام اللهجة المحلية للسكان. مهما يكن فــإن فسكونتــــي سيدنـــو من هذه الواقعيـــة الجديدة، مرة اخـــرى في واحد من افضـــل افلامه لتلك المرحلة وهو «الاجمل» عن سيناريو لزافاتيني نفسه... لكنه لاحقاًُ سيسير في طرق اكثر تشعباً وعمقاً وارتباطاً بمفاهيم الجمال المطلق... وهذه حكاية اخرى. لقد اشرنا في سياق هذه الملف الى ان بدايات فللينــــي وانطونيونــــي كانــــت بدورها «واقعيـــــة جديدة» لكنهــــا كانـــــت ذات خصوصية ستتضح لاحقاً. اما المخرج الذي يمكننا ان نضيفـــــه حقاً الى ذلك التيار فهو المنســـي الى حد كبير اليــــوم جوزيبي دي سانتيس، الذي كان الاكثــــر وضوحــــاً في تقسيمــــه الطبقي للعالم، وفي تناوله لمواضيعــــه... فكان بالتالي مفهوماً اكثــــر، من جانب المتفرجين، ما ابقى لفيلمه الاجمل «الرز المرّ» مكانة كبرى في تاريخ السينما الايطالية، حتى وان كان كثر يرون ان افلاماً اخرى لدي سانتيــــس، مثل «المطاردة المأسويــــة» و«دقت الساعة»، تفوقه جمالاً. روسليني وفسكونتي ودي سيكا وزافاتيني ودي سانتيس، كانوا البناة الحقيقيين للواقعية الجديدة، وكانوا نجومها ايضاً... كانوا هم الذين اقاموا صرحها اذ نهلوا من سقوط الفاشية ومن الواقع الاجتماعي، ومن جان رينوار والمدرسة الروسية والادب الايطالي الكبير... اضافة الى رغبتهم العارمة في التحديث. غير ان هؤلاء، لم يكونوا وحدهم، بل كان هناك آخرون ايضاً، وان كانوا اعتبروا دائماً اقل قيمة ونفوذاً. ومن هؤلاء البرتو لاتوادا (من اهم افلامه «اللص» – 1946، و»بدون رحمة» – 1948) الذي سيعود بسرعة الى السينما التجارية التي بدأ بها، ليقدم في فترة لاحقة افلاماً لا بأس بها وليشترك مع فلليني في أول افلام هذا الاخير «اضواء المسرح» (1951). وهناك ايضاً لويجي زامبا الذي ساهم في الواقعية الجديدة بافلام بدت ملتبسة، بل «مترددة في التعبير عن موقف اجتماعي واضح» بحسب تعبير اريستوركو (من افلامه «العيش بسلام» – 1946 – الذي اتى اقرب الى الحس الوجودي، و»النائب انجلينا» و»السنوات الصعبة» – 1947). اما الدو فارغانو، فانه قدم فيلماً واحداً فقط ينتمي الى الواقعية الجديدة، وهو «الشمس تشرق من جديد» (1946) كان همه فيه ان يلقي اضواء ماركسية واضحة على مسألة الصراع الطبقي في ايطاليا ما بعد الحرب، وذلك في مناخ مستعار من جان رينوار، ومن كبار المخرجين الروس في آن معاً. ومات فرغانو في العام 1957 من دون ان يتمكن من تقديم فيلم ثان جيد. وفي النهاية يمكننا ايضــــاً ان نضيف اسم ريناتو كاستيلاني («تحت شمس روما» – 1947 -، و»حل الربيع» – 1949-، و»أمل زهيـد الثمن» – 1951). كما يمكننــــا ان نضيــــف بيتـــــرو جيرمــــي، الذي سيصبــــح لاحقاً احد كبار اقطــــاب الكوميديــــا الايطالية الجديـــــدة، لكنـــــه بدأ منتميــــاً الى الواقعية الجديدة بفيلمه الاول «باسم القانون» (1948). وطبعاً لا يمكننا اخيراً ان نختم هذا الكلام من دون ان نشير الى انه اذا كانت الواقعية الجديدة الايطالية قد نعيت في بداية خمسينات القرن الفائت، فان ملامح اساسية منها بقيت حية وفاعلة في كل السينما الايطالية الكبيرة، لاحقاً ولدى كل السينمائيين، ما يقول لنا ان النعي ربما جاء قسرياً... حتى في ايطاليا.
«روما مدينة مفتوحة» مقاومة بلا اساطير «روما... مدينة مفتوحة» هو كما اشرنا الفيلم الأساس في تيار «الواقعية الجديدة» ولعل اغرب ما في شأن «روما... مدينة مفتوحة» هو ذلك القدر من النزعة السلمية الذي يسيطر عليه، مع ان هذا الفيلم حين حقق اواخر العام 1944 وبدايات العام 1945، كانت الحرب العالمية الثانية لا تزال مستعرة. كما ان ميدانه، وهو ايطاليا وعاصمتها روما، كان خاضعاً للمد والجزر بين القوات الألمانية وقوات الحلفاء. وفي شكل اكثر تحديداً، كانت روما وحدها قد حررت، فيما بقية اجزاء ايطالية اما محتلة كلياً من الألمان وهم في انفاسهم الأخيرة، وإما تدور فيها رحى معارك عنيفة. بيد ان هذا كله لم يمنع روبرتو روسليني مخرج الفيلم من ان يحقق عملاً لا يزال يعتبر حتى الآن واحداً من اكثر الأفلام سلمية في تاريخ السينما، وهو الأشهر والأجمل، وربما الأكثر معاصرة حتى يومنا هذا. ومع ذلك يروي روسليني، مخرجه، انه حين شاهد عرض الفيلم، خلال الدورة الأولى لمهرجان «كان» السينمائي، وكان موعد العرض الثالثة بعد الظهر، كان هو المتفرج الوحيد في الصالة. اما النجاح والتكريس فقد جاءا بعد ذلك «انطلاقاً من باريس»، كما اكد روسليني بنفسه، مضيفاً: «ثم حقق نجاحاً معقولاً في ايطاليا نفسها. اما عروضه الأميركية فقد اسفرت عن نجاح ما بعده نجاح». وروسليني نفسه قال دائماً ان الفكرة الأساس التي كمنت خلف رغبته في تحقيق الفيلم كانت الحديث عن المقاومة ضد النازيين في ايطاليا: «اجل. اعتقد بأن الفكرة كانت تقوم خصوصاً على رواية الأمور كما حدثت بالضبط. ومن هنا اتت ضرورة لجوئنا الى ذلك الأسلوب الذي سمي بالواقعية الجديدة: كنا قد عشنا كوارث الحرب ومررنا بها، لذلك لم يكن في وسعنا ان نسمح لأنفسنا بترف اختراع حكايات خيالية. كان المهم، بالنسبة إلينا، ان نلقي نظرة جادة وصارمة على الأمور التي تحيط بنا». هذا الفيلم الذي صور بأقل قدر ممكن من الإمكانات، في بلد ادمته حرب بالكاد بدأ يخرج منها، كان مجرد تعبير عن موقف اخلاقي اكثر منه انعكاساً لمنظومة جمالية. وما يمكن قوله عن «روما... مدينة مفتوحة» يمكن قوله في الوقت نفسه – وبحسب تأكيد روسليني – عن افلام سينما الواقعية الجديد كلها. فالفيلم، وذلك التيار كله، «انما كانا وسيلة للتعبير عن معاناة العالم وآلامه، بكل ما يمكن من تواضع وامحاء»... ولئن كان من الصعب ملاحظة هذا الواقع البسيط يوم كانت «الواقعية الجديدة» في ذروة تألقها، فإن الفاصل الزمني الآن يسمح لنا برصد هذا وإدراك كم كان روسليني محقاً في فرضيته. تدور الأحداث التي يصفها لنا الفيلم في روما، شتاء العام 1944. وفي ذلك الحين كانت روما ميداناً لصراعات هائلة بين الغستابو (البوليس السياسي الألماني) وخلايا المقاومة الإيطالية. ومن بين مناضلي هذه الخلايا كان هناك الشيوعي المقاوم مانفريدي. الذي كان الألمان يبحثون عنه بشراسة وعنف. وهو كان عثر على ملجأ له لدى رفيقه عامل الطباعة فرانشيسكو، الذي كان في سبيله لأن يقترن خلال ايام من خطيبته وجارته الأرملة بينا (وقامت بالدور الفنانة الكبيرة آنا مانياني في ظهر لها لا ينسى على الشاشة الكبيرة). ومع وجود مانفريدي في شقة فرانشسكو تتحول البناية التي توجد فيها الشقة الى وكر يعج بالمقاومين... وينضم الصغار والكبار الى القتال ضد الألمان، من ابن بينا، الى اطفال صاحب البناية الى القس الدون بياترو... بيد ان الألمان سرعان ما يعرفون بالأمر، لأن ثمة واشياً ينم عن المناضلين. وهكذا يحاصر جنود النازيين البناية ويعتقلون رجالها بعد ان يقتلوا بينا بدم بارد. وكان من بين المعتقلين الشيوعي مانفريدي الذي سرعان ما يقضي تحت التعذيب من دون ان يعترف بشيء. وكذلك يكون مصير القس الذي يعدم بالرصاص فوق تلال روما عند الفجر. ويكون من بين شهود الإعدام الفتيان الذين امام ما يحدث يجدون انفسهم تلقائياً يصفرون نشيد النصر والوحدة. صور روسليني هذا الفيلم، بعد اسابيع قليلة من جلاء الألمان عن روما. وهو، اضافة الى بعده السياسي، كان مطلوباً منه – أي من الفيلم – في ذهن صانعه، ان يكون شهادة آسرة ليس فقط على يقظة الشعب الإيطالي وبطولاته، بل ايضاً على يقظة السينما الإيطالية نفسها، بعدما كانت طوال العقد السابق اكتفت بإنتاج افلام ذات طابع فاشي. (من نص اطول نشر في زاوية «ألف وجه لألف عام») الحياة اللبنانية في 5 أغسطس 2005 |
حين ادهش فوز فيلم «فهرنهايت 11/9» الوثائقي – أي المنتزع مباشرة من صلب الواقع – بالسعفة الذهبية في الدورة السابقة – دورة العام 2004 – لمهرجان «كان» السينمائي، دهش كثر متسائلين، وحتى من دون استنكار عن اين هي السينما وأحلامها وخيالها من ذلك الفوز. بالنسبة الى هؤلاء كان فن السينما ولا يزال مرتبطاً بالحكايات الخيالية وبالحبكات التي توصل الى الشاشة حياة من الصعب ان نعثر على مثيل لها في الحياة نفسها. وكثر من هؤلاء ظنوا ان «العالم يتغير» وأن «في الأمر جديداً» غير ان الحقيقة تقول لنا طبعاً ان هذا ليس صحيحاً، ولا سيما بالنسبة الى الفن السابع. وليس فقط لأن السينما نفسها بدأت مع «مخترعيها» الأخوين لوميار، فناً مرتبطاً مباشرة بالواقع، بل خصوصاً لأن التيارات الواقعية – التي تكاد تشبه الحياة نفسها – لم تتوقف عن ملامسة السينما والتأثير فيها منذ زمن بعيد. ومع هذا حين يصل الأمر الى ان تغزو الواقعية ارض سينما الأحلام – هوليوود – يصبح من المفيد البحث عن جذور واضحة لهذا كله، عن جذور سينمائية لا تشكل ظواهر عابرة بقدر ما تشكل توجهات حاسمة على ارتباط واضح بما يدور في العالم. وإذا كان في وسعنا ان نرصد جذور هذه التوجهات في السينما الثورية الروسية، كما في التعبيرية الألمانية، بل حتى في اعمال اميركية كثيرة ظهرت مع غريفيث وغيره وصولاً الى الحس الواقعي الذي يكمن في خلفيات هزليات تشارلي شابلن، فإن الأسلم لتحري جذور الواقعية المتجددة في معظم سينمات العالم، بما فيها السينما الأميركية كما يحققها طليعيون لهم اليوم اسماء جيم جارموش وألكسندر باين وشين بن، ومن قبلهم جون كازافتس وغيره، من الأسلم الرجوع، زمنياً الى فترة معقولة للتوقف عند «تيارات» عدة قامت خصوصاً منذ الحرب العالمية الثانية، لتحدث تبديلاً اساسياً في فن السينما ونظرة الناس الى هذا الفن. فإذا فعلنا سنجد البداية مع تيار «الواقعية الجديدة» الإيطالية (نيوريالزم)، الذي نتوقف عنده هنا كتوجه مؤسس، على ان نتوقف في حلقات مقبلة، عند بعض التيارات الأخرى. إبراهيم العريس ـ الحياة اللبنانية |