المخرج العراقي عدي رشيد: اردت ركل المثقف خارج المجتمع ليترك الحياة للساسة والمجرمين! مأخوذٌ بالفن الشعبي، وبألوان البساط الذي تصنعه جداتنا باريس ـ من صلاح سرميني |
· في نهاية السبعينيات، وبداية الثمانينيات، بدأت هجرة العراقيين الي المنافي، بحثاً عن الحرية، وبعيداً عن الحرب العراقية/الايرانية، ومع استمرار الأوضاع في العراق، وبداية حرب الخليج أول التسعينيات، توطدت اقامتهم، وعلاقتهم بكل مجالات الفن، والأدب، لماذا تخير (عدي رشيد) البقاء في بغداد؟ في زمن الهجرة القسرية التي اختارها المُثقف العراقي فترة التسعينيات، كنتُ دون العشرين من عمري، وكان بي عطش محموم لبناء معرفة تتوغل في عمق وعي الانسان لذاته، وجغرافيا بغداد، بعد أن كبرتُ قليلاً، وتجاوزتُ الخامسة والعشرين، بدأت بغداد تضيق بي، كما حال كل أصدقائي الذين هاجروا، أو من كانوا علي وشك الهجرة، وكل علي طريقته، وامكانياته المادية، كنتُ أصحو كل يوم، وفي رأسي فكرة المُغادرة، لأجدني أتسكع من جديد في المدينة، والقراءة، والعبث مع الأصدقاء، ودائماً كانت لدي صديقة تستحق الانتظار، وقبل الحرب الأخيرة، كنتُ قد بلغت الثلاثين، وأدركتُ بأنني موجوعٌ بالمدينة، وبالانسان فيها، بدون وعي مُسبق بهذا الوجع، ولم يكن لشرطة صدام، وأجهزته من سلطة علي تحديداً، فقد حافظتُ علي استقلاليتي، ولم أعمل في دائرة ثقافية رسمية. · ولكن يا (عدي)، كانت سلطة شرطة صدام، وأجهزته تنطبق علي الجميع، وتحديداً، من حافظ علي استقلاليته، ولم يكن موالياً للنظام السابق؟ بالفعل، ولكنها سلطةٌ غبية، من السهل تجنبها، وتحديداً، اذا لم تعلن موقفاً سياسياً مغايراً، كان هناك الكثير من مثقفينا الذين استمروا في انتاجهم الأدبي الخالص، والحر داخل العراق، وحافظوا علي استقلالية كاملة، وأبرز هؤلاء، الشاعر الفقيد (رعد عبد القادر)، الذي فتح مديات خاصة للتجريب في القصيدة، بدون أن يمدح، أو يغني لأحد، وكانت زاويته (أضواء) في مجلة (آفاق عربية) من أهم الزوايا الثقافية في العراق، والوطن العربي، عموماً، (صلاح) أيها الصديق، أنت تعلم، كما كل مثقفينا الذين هاجروا، ولأسباب مختلفة، بأن سلطة صدام الثقافية كانت بلهاء، وأكرر، تحديداً اذا ما تجنبت الاحتكاك بمؤسساتها لأسباب تخص جني المال، والنجومية، كما تورط الكثير من مثقفينا الذين بقوا، وبعض الذين هاجروا. · دعنا من النظام السابق يا (عدي)... من هو البطل الحقيقي في فيلمك (غير صالح): المُصور (زياد)، المخرج (حسن)، الزوجة (ميسون)، الشخصيات/الشهادات.. الكاميرا داخل الفيلم، الشريط الخام المُنتهية صلاحياته منذ أكثر من عشرين عاماً، المونتاج المُتشظي، الحارة التي صورتَ فيها، أم (بغداد) التي شقها النهر نصفين؟ أعتقد بأنها المدينة (بغداد)، لستُ متأكداً..وحدات القياس عندي مضطربة، وربما كل ما ذكرت في سؤالك يتحالف من أجل هذه المدينة: الجرح. · في المشهد الأول من الفيلم، كانت ضربات البيانو الحادة، تمتزج وزقزقة عصافير، مع ضجة الشارع، والجيران.. هل أضفتَ عمداً زقزقة عصافير الي شريط الصوت، أم كانت موجودة أصلاً في الفضاء الصوتي للمشهد؟. ومن ثم، ألم يتضمن ذلك الاستخدام خطورةً لبداية فيلم يتحدث عن سقوط نظام، وحرب، وقوات تحالف...؟ طبعاً، لقد تمت اضافة هذا المُؤثر أثناء تصميم البناء الصوتي للفيلم، انه ـ من وجهة نظري ـ شكلٌ من أشكال الديالكتيك الفيلمي، البحث عن المُضاد من أجل هارموني خاص، وهي معادلةٌ غاية في الخطورة، تنجح مرة، وتفشل مرات. · مع شريط خام انتهت صلاحياته منذ أكثر من عشرين عاماً، ألم تتوقع بأن تكون النتيجة تتابعات شاشة سوداء، اضاءة برقية متلاحقة، خطوطا، وأطياف أشخاص..؟ لا، والسبب يعود الي ذكاء، وموهبة مدير التصوير (زياد تركي)، هذا الفنان القادم من عدسة الفوتوغراف، وعشق الضوء أينما كان، بدأ (زياد) تجاربه علي الخام بقطع عدة أقدام من الفيلم ووضعها في كاميرا فوتوغراف، وعرض الفيلم للضوء ضمن تدرجات لونية معينة، وبعدة فتحات للعدسة، بعدها، حمض الفيلم، وطبعه بنفسه، وسجل ملاحظات، كان وحده يعرف أسرارها، ومن ثم وضع 400 قدم في الكاميرا السينمائية، وجرب التعريض علي ضوء النتائج التي حصل عليها من تجربة الفوتوغراف، وأرسلناها الي المعمل في بيروت، فجاءت النتائج مثلما توقع (زياد) بالضبط، وبدأنا العمل. · فرضت حالة الشريط جماليات سينمائية معينة، هل حصلتَ عليها باختيارك، أم وجدتها بمحض الصدفة؟ بالنسبة للصورة، الجماليات الموجودة في الفيلم هي نتاج حتمي، ومدروس لنقاشات استمرت لأشهر مع مدير التصوير (زياد تركي)، كنت أحياناً أتطاول علي اختصاصه، وبدوره كان يتطاول أحياناً علي اختصاصي للحصول علي تلك الجماليات. · هل اعتمدتَ علي سيناريو جاهز قبل التصوير، وهل ارتكزت (الشهادات) علي نصوص مكتوبة، أم مُرتجلة؟ لم نعمل علي سيناريو متكامل، كان موقع التصوير الرافد الأول بالنسبة لنا، كانت لدينا شخصيات بنيناها بدقة، أنا، والشاعر (فارس حرام)، والسينمائي الشاب (حيدر حلو)، كانت هذه الشخصيات تتحرك في فضاء ضيق جغرافياً (محدودية الامكانية الانتاجية)، لكنها، وفي نفس الوقت، تحركت في فضاء روحي لامتناه، وهو حبنا، واخلاصنا لها، بالنسبة للشهادات، كتبت بعضها، ودرستها جيداً، وتركت البعض الآخر للشخصية المُتحدثة. · ما هي الأسباب الدرامية في اختيار شخصيات بعينها دون غيرها من خلق بغداد؟ بدءاً من شخصية (حسن) ـ مركز الحكاية ـ كنا نحاول تلمس أبعاد الشخصيات كي نعرفها جيداً، ولا نبتعد داخل مُغريات الدراما، كنا نبحث عن الصدق في كل مفصل من مفاصل حركة الشخصية، وكان لا بد لهذه الشخصيات بأن تُمثل الجغرافيا التي تعيش فيها، والتي انطلقنا منها صورياً، لقد أردنا التحدث عما نعرفه جيداً. · لقد ساهم المونولوغ (المُناجاة) باضفاء مسحة أدبية، شعرية، وأحياناً مسرحية تُذكرنا خاصة بأفلام الموجة الفرنسية الجديدة، وفيها تتجلي بوضوح (سينما مؤلف) تصلح للقراءة، والمُشاهدة، وأنت الذي تخيرت البقاء في بغداد سنوات الحرب، والحصار، كيف تشكلت ثقافتك السينمائية، ومخزونك البصري؟ شخصياً، أنا ابنٌ شرعي للحركة الأدبية في بغداد التسعينيات، والتي يعترض البعض عليها، لقد تعلمنا من أدبيات السينما أكثر من المُشاهدة، لعدم توفر الأفلام، وكانت الرواية، والنقد الحديث، والفن التشكيلي الروافد الحقيقية لثقافتنا السينمائية، شاهدنا بعض أفلام الموجة الفرنسية الجديدة، ولكننا لم نُكمل درس المُشاهدة، بل واصلنا القراءة، والتأمل. بصرياً، أنا مأخوذٌ بالفن الشعبي، وبغض النظر عن مصدره، بالنسبة لي، هذا الفن هو المصدر الأول، مثلاً، حرارة ألوان البساط الذي تصنعه جداتنا هو من الغني بحيث يمنح عينيك تهذيباً من نوع خاص، تحديداً في مدينة أحالَ الصيف المُرعب كل ألوانها الي الكاكي المُصفر، كنا نفتش عن اللون، حتي في تشكلات القمامة، ونحن نعود الي منازلنا بعد يوم من التسكع في مقاهي شارع الرشيد، والباب المُعظم. · الفيلم من أوله الي آخره اختطافٌ للتسجيلي لجعله روائياً، والتفافٌ علي الروائي لجعله تسجيلياً، ألم تخش بأن تصبح تلك اللعبة مكشوفة، ومبالغٌ بها الي حد اقترابها من المسرح؟ كان ذلك رعباً مونتاجياً، وعلي طاولة المونتاج يبدو كل شيء مرعباً، لقد صورت أحلامك، والمونتاج هو جغرافياً السرد، لذا كنت كالممسوس، وانا أقطع، وأرمي أجزاء من الفيلم، كان كل شيء بالنسبة لي تسجيلياً، وبذات الوقت، كل شيء متخيلاً، انه مطب روحي أكثر منه تقني، وأنا غض أمام قسوة دقة انجاز فيلم طويل، كنت أربط أجزاء من الفيلم، وأشاهدها مجرداً من أي شيء ـ غالباً كنت أفشل ـ لكنني أتقنت تلك اللعبة في الوقت المناسب، وهنا، علي بأن أذكر دور حبيبتي (فرات الجميل)، والصديق المخرج الألماني (توم نكفر)، وهما يمارسان دور الركائز النفسية، والروحية لامساكي بمفاتيح اللعبة، كنت أريد استغلال التسجيلي كأداة طيعة من أدوات سرد المُتخيل، وكنت أرغب الامساك بالمُتخيل، وتشكيله كحادثة وقعت في ذاكرتي التسجيلية، كان ذلك أعظم ما تعلمته من تلك التجربة السينمائية. · سينمائياً، هل اعتمدتَ علي حركات كاميرا مدروسة مُسبقاً، أم استلهمتها في لحظات الانجاز مباشرةً؟ وأياً كانت الطريقة، كانت تلك الدقة بحاجة الي اعادات كثيرة لتصوير لقطة ما، فكيف أنجزتها مع كمية قليلة من الخام الفاقد الصلاحية؟ كانت استراتيجية متبادلة مع مدير التصوير، والمُنتج (ماجد رشيد)، فقد قسمنا العمل علي ضوء الخام المُتوفر (9000 متر)، وهي كمية محدودة لانجاز فيلم روائي. لذا، ففي بعض المشاهد كنت محاصراً من قبل (ماجد)، و(زياد) بكمية محدودة من الخام، وحسما التصوير باعادة واحدة لا أكثر، وذلك لكي يوفرا لي حرية الاعادة في اللقطات التي أحرك فيها الكاميرا، ووفق البنية الحسية للوعي باللقطة، لقد كان توفيراً حسابياً منهما لتحقيق طموحات صغيرة في الاحساس المُكثف بالحركة داخل مجال اللقطة لدي. لم يتورط المونتاج كثيراً بالتزام قواعد مونتاجية حكائية، حيث يُظهر لنا ـ في بعض الأحيان ـ القطع نفسه، تلك الومضات التي نشاهدها كثيراً في أفلام السوبر 8، والمُستخدمة سابقاً في الأفلام العائلية، وحالياً في السينما التجريبية. · هل صورتَ سابقاً بكاميرا سوبر 8، أو هل شاهدتَ بعض الأفلام منها، وأكثر من ذلك، هل تميل بشكل، أو بآخر للسينما التجريبية، وهل شاهدتَ أفلاماً منها خلال (سنوات حصارك) في بغداد، وكيف؟ لم أشاهد أيا من تجارب التجريبيين، ولكنني تعرفتُ عليها من خلال أدبيات السينما التي كانت تصلنا بين الحين، والآخر، لكن أسلوب القطع الذي اعتمدته في الكثير من مفاصل الفيلم، يخرج عن دائرة التوغل بالشكلانية في السينما، ويدخل عندي كوحدة أساسية من وحدات الربط المتين لمفاهيم أدوات الربط المثالية للسرد في تجربة حكائية خاصة، مثل تجربة هذا الفيلم، كنت أريد سحب المُتلقي من وعيه المُجهز بأنه يشاهد فيلماً، أو ما يُطلق عليه ستانسلافسكي (النشاط الاسقاطي)، أو (التماهي) كما عند (أرسطو)، وهي صيغةٌ تلقي الحدث بصيغة (المضارع)، الي الاحساس بأن ما يشاهده حقيقةً وقعت في صيغة (الماضي)، وقد ساعدني هذا الأسلوب كثيرا ً. · في (غير صالح)، ساهمت العناوين الداخلية بتقسيم الفيلم الي مَشاهد (كحال المسرح)، وبالآن، أصبحت جزءاً من الصياغة الدرامية، والسينمائية للفيلم، وكانت مثل الفواصل، النقاط، علامات الاستفهام، والتعجب في نص أدبي، ولكن، ألم تستخدمها أيضاً كـ(حيلة) ابداعية مونتاجية للربط ما بين الأحداث المُتشظية؟ كمتلق مجرد للفيلم، أجدني أتعامل مع تلك اللوحات الكتابية كوحدات تشظي (مُضافة) للتشظي المُعلن عنه كبناء، وكصانع للفيلم، كنتُ أكتبها كما لو كانت عناوين فرعية لذات الحكاية، أحيانا كنت أرفعها، وأشاهد الفيلم بدونها، فأشعر بأنه كان (الوزن) بالمعني الفيزيائي للكلمة، تلك اللوحات أكسبته الوزن، والسكينة كما أعتقد. كان (الشاهد رقم 1) شخصاً حقيقياً، و(الشاهد رقم 2) ممثلاً يقف أمام الكاميرا يلقي نصاً تضمنه السيناريو، كما استعنت بأشخاص عاديين يمثلون أدوارهم متذرعاً باللقاءات، والشهادات معهم، وكما توضحت المُبالغة في أداء البعض، قدم الفيلم بشكل عام أداءً ـ غير معهود في السينما العراقية ـ هادئاً، تلقائياً، يتــضافر مع حضور ممثلين محترفين. فيما يخص التمثيل، لا أجدني راضياً عما أنجزته، أشعر بالممثل (سمر قحطان) في دور المخرج (حسن) يمتلك أكثر، لكني كنت بعيداً عن لحظة استنفاره بالشكل اللازم، والسبب نقص خبرتي في ادارة الممثل، والظرف الانتاجي المُرعب، مع (باسم الحجاز) الذي مثل شخصية (الموسيقي المريض)، فشلتُ بالكامل، وفشل هو من بعدي، باقي الشخصيات تحركت بحرية، لاحساسها بأنها بعيدة عن المركز، وهذا ما حدث مع (ماجد رشيد) الذي مثل شخصية (زياد)، و(حيدر حلو) في شخصية (المعتوه)، كانا حرين، وتلقائيين الي درجة فاجأتني، وأدركتُ الدرس جيداً، بأن أخطر ما في ادارة الممثل، هو سلبه لحريته. · ولكنك لم تحدثني عن (مريم عباس) في دور الزوجة (ميسون)، والتي شدت انتباهي، هل تخشي بأن تُثير غيرة حبيبتك (فرات)؟ بل العكس، (فرات) سوف تغضب اذا لم أتحدث عن (مريم)، لأنها هي التي اختارتها لهذا الدور، وقد اختارتها مسبقاً لتنفيذ فيلم قصير من اخراجها، لم يُنجز لأسباب انتاجية، (مريم عباس) ممثلةُ ممتازة، حساسة، ومتمكنة من أدواتها، وتنشد البحث، والتطور دائماً، أتمني العمل معها مرة أخري. · لم ترغب بأن تتكلم شخصياتك كثيراً، أو أن تصنع فيلماً ثرثاراً، ولهذا، نشاهد (الشاهد رقم 3)، الجندي الذي التقطه (المعتوه) بداية الفيلم في لقطة متوسطة لا يتكلم فيها، زخات رصاص، هدير مروحيات، وموسيقي.. فقط، بينما تترك (الشاهد رقم 4) لتُدخلنا الي وجدان (حسن) المجروح من خلال أغنية عراقية مُوجعة، كما تترك (المعتوه) في (الشهادة رقم 5) يتحدث بمفرده، لتُغرقنا من جديد في شجون الأغنية.. لماذا (الشهادات) اذاً؟ (الشهادات) هي هذيان المرعوب، كانت تحدثُ المُتلقي قبل أن تتحدثَ الي الكاميرا، انها صيغة المُواجهة البدائية، والاستجابة غير الواعية عند الاحساس بالخطر، وهكذا كان حال الشخصيات، ولهذا السبب، الجندي لا يتكلم، هو يلقي شهادته بنظرة لا أكثر، أو فلنقل، يواجه رعبه. · لم تكن الكاميرا شاهداً مُحايداً، انها ذاتية الي حد (لا أخلاقي)، هل يمكن أن نتحدث عن (موضوعية) ما في تصوير ما حدثَ، ويحدثُ في العراق؟ كما الحرب، السينما ليست (أخلاقية) بالمرة، ضمن مفهوم التدنيس، وقدسية مداعبة المُحرم، الصورة هي الزمن برمته، أو كما يقول (جودار): السينما هي 24 صورة للحقيقة في الثانية. لقد تحطم المفهوم الأخلاقي علي يد الانطباعيين، والسينما هي الوجه الأكثر قسوة للسخرية من هذه البني، أن تكون موضوعياً في زمن كهذا، وفي ظرف كالذي عشناه في العراق، معناه بأن تغرقَ في ذاتيتك، ويا حبذا أن تكون داعراً. · قبل أن نتوقع (الشهادة رقم 5)، تُفاجئنا بشهادة المخرج (حسن)، هل جاءت صدفةُ لتخفف من حدة التشابه الشكلي مع ما سبقها؟ ولماذا لم تحتل المشهد الأخير من الفيلم؟ لا شيء في هذا الفيلم صدفة، لقد جاءت شهادة المخرج (حسن) في مكانها الذي احتاجه ايقاع الفيلم، لا يوجد مكان محدد لأي شيء، حتي عند (أرسطو) الموقع هو في مكان الضرورة لوجوده، وغالباً ما يعتمد علي ايقاع الصانع، ووعيه، بدون شك، هنالك الكليشيهات السينمائية، والسردية التي ترسخت عبر آلاف الأفلام، والكتب، ولكن، لكل عمل قانونه الداخلي، حتي وان كان غاية في الأرسطية، والمنطقية السردية، في هذا الموقع أردت (حسن) بأن يلقي كلمته، ويمضي...وقد فعل. عندما توجه (حسن) مباشرةً الي المتفرج في شهادة (مسرحية)، تخير بأن يتخلي عن مونولوغه الداخلي (مناجاته) ليتوجه الي الكاميرا/المتفرج، ويقول: لماذا أصنع الفيلم، ولمن، هذا الفيلم يؤرقني، علي أن أتوقف، لن أكمله، لن أكمله،.. · بدورك، لقد كنتَ تفكر مسبقاُ بمتفرج مُتخيل، مُضمر، أو مُرتقب؟ كنتُ أفكر بمتلق (مثلك) أعلن شراكته، ووعيه بجرح الانسان، وموته، كنتُ أفكر بأن أحتضن أصدقائي، وأعترف لهم بأني أضعف من الوقوف وراء كاميرا في ظرف كهــــذا، ولقد نجحت في الاعتراف عبر صمودي قربها . خلال الفترة الزمنية للفيلم، هناك استدراجٌ متواصل للمتفرج الي لعبة (الفيلم داخل الفيلم)، أو (الوهم، والايهام)، وهو المبدأ الذي انطلــــقت منه فكرة (السينماتوغراف) نفسها. · وهنا، أرغب باستدراجك أيضاً الي كشف الحقيقة، ألم تكن اشكالية الشريط الخام الفاقد الصلاحية من نسج خيالك، وكانت من تركيبة السيناريو نفسه، كما الحال عندما أوهمت المتفرج بأنك لن تكمل الفيلم، ولكننا شاهدناه متحققاً؟ اعترف يا (عدي) أرجوك. أين الوهم، وأين الحقيقة، لقد شاهدتُ جثةً لمواطن عراقي في يوم 13/4/2003، احترق نصفها، ونبشت كلابٌ سائبة النصف الآخر، وعلي مقربة منها طفلٌ يتغوط، وجنديٌ أمريكي يسأل عن معني كلمة (أشطح)، بينما عاهرةٌ قبيحة جداً تقول له: (نيكة) بخمسة دولار. فيزيائياً، شاهدتُ ذلك المشهد، ولكني أرفض تصديقه حتي هذه اللحظة، هل كان وهماً؟ أم حقيقة؟ كلاهما؟ لا يهمني، عنق الفيلم كان حقيقة، لكن هل تعتقد بأنني أكملتُه فعلاً؟ · ولماذا لم تُعد تجسيد ذلك المشهد، خسارة، يُذكرني بأفلام المخرج الايطالي (فلليني)، وأكثر من ذلك أول فيلم سوريالي (كلبٌ أندلسي) لمخرجه (لوي بونويل)،. ....؟ صلاح.. لو حدثتكَ عن كل تفاصيل ذاكرة الحرب، والحياة في بغداد، لقلتَ لي اجمعها في فيلم، وستتخلق (سورياليتك) الخاصة، وهذا ما أفعله الآن، أكتب، ولنقل (أتقيأ) كل تلك الذاكرة علي ورق محموم، سري حتي هذه اللحظة، ولا أدري هل سيكون سيناريو فيلم، أم مسودة لرواية، أم يوميات،. .. لا أدري فعلاً، اني أكتب لأتخلص من كوابيسي، لكن فعل الكتابة نفسه كابوسٌ مهلك، صحتي ليست علي ما يرام بسبب ذلك. · بعد (42 دقيقة) من المدة الزمنية للفيلم، يُركز (حسن) عدسة الكاميرا الفوتوغرافية علي الشارع المُطل من شباك منزله، لنشاهد من بعيد عربات عسكرية أمريكية، ومن ثم يعود صوتياً الي (مونولوجه) الداخلي في مناجاة شعرية، هل تأخر الفيلم بالكشف عن قوات التحالف؟ أولئك (الممسوخين) الذين يرتدون الكاكي المُرقط، هم وجهٌ من أوجه المأساة، وليس كلها، أردت العبث بالقبح الذي بداخلنا أولاً، قبل التوجه الي الخارج، هم سيخرجون حتماً، ولكن، هل تنتهي أزمتنا بخروجهم؟ · هل صورتَ الفيلم علي مراحل متعاقبة بعد الانتهاء من كتابة كل مشهد، وهل كان الفــــيلم يتحقق في لحظات تأليفه؟. لقد استغرق تصوير الفيلم ( 32 يوماً) توزعت علي سبعة أشهر، كنا نخططُ لمجموعة مشاهد، ولكن لحظة الكتابة الفعلية تمت في موقع التصوير، وهنا يبرز دور كل من (فارس حرام) و(حيدر حلو)، كنا نتلمس الضرورة فيما يجب أن يُقال، نجحنا كثيراً، وفشلنا أكثر. · يستمر(حسن) بتصوير شوارع بغداد، وحاراتها، وأبنيتها المُهدمة، بدون مونتاج، أو بطريقة توحي لنا اختفاءه، كما حالة التصوير بكاميرا سوبر 8، حيث لا تقف الكاميرا أمام موضوعها كثيراً خشية انتهاء شريط الفيلم في البكرة، وبدون مؤثرات خارجية غير صوت الكاميرا، دوران الشريط في علبته، أو دورانه في جهاز العرض، مرة أخري أعيدك الي أسلوب التصوير بكاميرا ســــوبر 8 لتحدثني عن ذلك الاختيار؟ وأعود اليك باجابتي عن الفعلين (المضارع) و(الماضي) في السينما، لحظة التلقي التقليدي هي محاولة لاقناع المُشاهد بأن ما يشاهده يحدث الآن، بمعني ما يقدم له هو في صيغة الفعل المُضارع، لكني أردت ممارسة نوع من الـ (البرشتية)، لأبقي المتفرج جالساً في كرسيه، وهو يعي هذا، لكنك تشاهد فيلماً حدث الحدث فيه بعيداً عن ـ الآن ـ وهذا الأسلوب في القطع ساعدني كثيراً لتحقيق تلك الرغبة. · وهل من قبيل الصدفة يا (عدي) بأن يكون المشهد (ما قبل الأخير) أمام منزل عربي يفصل بين شارعين، حيث يمضي (حسن) في الشارع الأيسر باتجاه عمق الصورة، ومن الشارع الأيمن يتقدم (المعتوه) نحو مقدمتها؟ هل هو انحسار لدور المُثقف، وتزايد لدور المعتوهين؟ أغلب أزقة بغداد القديمة تتشابه، كنا نبحث عن منظور أركلُ فيه (حسن) من الفيلم، وفجأة، وجدت ذلك الركن، وقد كتب عليه (دار للبيع)، ما أثارني فعلاً بأنك لا تستطيع تمييز أي دار، كون المنظور مثلثا بالكامل، وبسرعة نصبنا الكاميرا، وصورنا اللقـــــطة كما شاهدتها في الفيلم، وهي ليست تهميشاً لدور المثقف في المجتمع، بل (ركله بالكامل)، ليبتعد عن الحياة، ويتركها للساسة، وأشباه الساسة، ولمجرمي الماضي، ولصوص الحاضر، لقد أضعت وطناً، فلا تحدثني عن دور المُثقف يا (صلاح). بعد أن يستمع (حسن) الي (الشاهد رقم 6) ـ (فُضة) زوجة الشيخ ـ تتعب الشخصيات، وينهك المخرج (حسن)، ويصل الي درجة عالية من الاحباط، والانهيار، يتكور في زاوية منزله، أو مكان خرب، تماماً مثل أي شخصية أخري، ويكشف (مسرحياً) عما في داخله: هذه ليست سينما، هذا ليس فيلماً، لقد خدعتك الحربُ مرة أخري، هذا ما يخلفه الحلم، والذكريات. · ما هي السينما، وما هو الفيلم، ألم يتخلقَ فيلمك من الحلم، والذكريات؟ نعم، هذا ما يُخلفه الحلم، والذكريات، شريطٌ (غير صالح) للعرض بالمرة، انه ليس فيلماً، وما يقدمه ليس سينما، فشل بأن يكون أي شيء، سوي حجز لذاكرة مغتصبة من قبل ذكور العالم، وأشباههم. في المشهد الأخير، المخرج (حسن) متكورٌ في غرفة يتحدث الي الكاميرا، ويقول: أكرهكم، أنتم السبب، أنتم السبب لكل ما وصلنا اليه، حقيقة أكرهكم، من أنتم، آه، من، من أنتم، من؟ · بكل صراحة يا (عدي)، من هؤلاء الذين تكرههم الي هذا الحد، وكانوا السبب لكل ما وصلتم اليه؟ وهل فيلم يحب شخصياته، يمكن أن يكره؟ صلاح، سؤالك غريب بصيغة (كل ما وصلتم اليه)، من تقصد بـ (أنتم) ؟ وهل (أنتم) المُعاكسة بمعزل عن هذا الخراب؟ ألا تكرههم مثلما أفعل؟ كلهم؟ وبدون استثناء؟ هؤلاء صيغة (المُفترس) في ذات الانسان، أكرهه فيكَ، وفيّ، وفيه. · (عدي رشيد)، مخرج فيلم (غير صالح)، لقد تبقي في ذهني سؤال واحد، هل لك أن تتخيله...........؟ نعم، من أين لكَ يا (عدي) كل هذه القدرة علي الأمل؟ أتشاقي معك (أبو الصلح).. · وداعتك، هلكتني.
القدس العربي في 13 أغسطس 2005 |
ذكرياتٌ عن مدينة عتيقة.. بغداد فكرةٌ شقّها النهرُ نصفيّن
باريس ـ من صلاح سرميني في نهاية السبعينيّات، وبداية الثمانينيّات، بدأت هجرة العراقيين الي المنافي، بحثاً عن الحرية، وبعيداً عن الحرب العراقية/الايرانية، ومع استمرار الأوضاع في العراق، وبداية حرب الخليج أول التسعينيّات، توطّدت اقامتهم، وعلاقتهم بكلّ مجالات الفنّ، والأدبّ. وقد جمعت فرنسا وحدها عشرات الطامحين لدخول العمل السينمائيّ، بينما توزّع عدد أخر في بلدان أخري. وبعد أن اعتمدت انتاجاتهم علي الجهود الفردية، والتمويل الذاتيّ، بدأت المؤسّسات الأوروبية تهتم بمشاريع أفلامهم التسجيلية، والروائية، حال معظم أفلام (سعد سلمان)، الذي تمكن من توزيع فيلمه (بغداد On/Off)، وعرضه جماهيرياً في الصالات الفرنسية. ولم يتأخر (عامر علوان) عنه كثيراً كي يُنجز، ويعرض في عام 2004 فيلمه الروائي (زمان، رجل القصب) علي شاشة قناة Arte التي ساهمت بانتاجه، ومن ثمّ في الصالات الفرنسية، والأوروبية. وأخيرأً، اختار المخرج العراقيّ (عدي رشيد) عنوان (غير صالح) لأول فيلمٍ روائيٍّ عراقيٍّ يتحدث عن الأيام الثلاثة الأولي لسقوط (بغداد) بيد قوات التحالف الأمريكي ـ البريطاني، وصوره بأشرطةٍ سينمائيّة توقفت شركة (كوداك) عن انتاجها منذ عشرين عاما. الفيلم داخل الفيلم البداية، لقطاتٌ متبادلة مع العناوين الأولي، في شرفة منزل تطلّ علي حارة شعبية، يقف (زياد) مدير التصوير في مواجهة الكاميرا، والمتفرج ـ بطبيعة الحال ـ الجالس في صالة العرض، يتحدث عن(غير صالح)، الفيلم المُزمع تصويره مع المخرج (حسن)، ومنذ تلك اللحظة، نفهم بأننا سوف نتابع فيلماً مُغايراً في بنائه السينمائيّ، ونستعدّ لتفكيك، وربط علاقة متداخلة بين المُصور، والمخرج(في الفيلم، والحياة)، ولن يكون عسيراً فهم الفعل، وردّ الفعل بين الشخصيتيّن، وفي نفس الوقت، سوف نفهم أيضاً، بأنّ الكاميرا التي يتبادلا لعبة الوقوف خلفها، وأمامها، قد أصبحت ـ بفعل الأمر الواقع ـ شخصيةً أساسيةً منذ اللحظة التي أطلّ علينا المصور (زياد، حتي وصول المخرج (حسن) الي ذروة معاناته، وهو يطلب منه بأن يتوقف عن التصوير. ما بين المشهد الأول (شرفة المنزل)، والأخير (غرفة، تتجسّد تيمةٌ داخليةٌ( للفيلم، وللمخرج معاً)، تلك الرغبة العارمة لانجاز فيلم، متضافرة ًمع تيمة خارجية عن (بغداد) شهوراً قليلةً بعد سقوطها. منذ البداية اذاً، وبدون مقدمات تمهيدية، يضعنا (عدي رشيد) في قلب الحدث، التيمتيّن، ويستعدّ المتفرج لمُشاهدة (فيلم داخل الفيلم)، أو بالأحري، تكثيفاً في (70 دقيقة) لمراحل انجاز الفيلم الذي نشـــــاهده، ويتحول الي موضوع بحدّ ذاته، وهكذا أيضاً، يصبح مقبولاً بأن تحوم حول الشخصيتيّن الأســـــاسيتيّن (وهــــما بالأحري شخصيةُ مزدوجة) أطياف شخصيات أخري، حقيقية، أو مُتخيلة. في ذلك المشهد الافتتاحي، والمصور (نزار) يمهدّ لنا ما سوف نراه، ويُطلعنا علي حقيقة الشريط الخامّ الذي سوف يستخدمه، بأنه مُنتهي الصلاحية منذ أكثر من عشرين عاماً، كان شريط الصوت يستدرجنا لأجواء الفيلم، وكما حال الصورة، المُتحايلة علي الواقع التسجيلي لجعله روائياً، أو تلك التي اختطفت ما هو روائيّ لجعله تسجيلياً، كان الصوت في تركيباته الجمالية يتضافر وهذه التعشيقات المُتشابكة، حيث تمتزج ضربات البيانو الحادّة، وزقزقة عصافير، مع ضجة الشارع، والجيران. كلّ شئ يبدو هادئاً، وطبيعياً، الاً تلك الاشكالية التقنية التي يُثيرها مدير التصوير(نزار)، وتخوفاته من استخدام شريط خامّ يمكن أن يخذله، وفي الحال، يتورط المتفرج في تلك التساؤلات التي يطرحها الثنائيّ (نزار)، و(حسن): كيف يمكن أن يكون شكل الفيلم، ونتائجه؟ وحال بغداد، والعراق مع شريط خامّ انتهت صلاحياته؟ هل نتوقع بأن تكون النتيجة تتابعات شاشة سوداء، اضاءة برقية متلاحقة، خطوطا، وأطياف أشخاص، ولكن، ألا تتفق هذه النتيجة الشكلية المُحتملة مع الواقع الفعليّ للمدينة، وناسها؟ وأصبح من الضروري بأن تستعيد صورتها الحقيقية القابعة في خيالاتنا عنها، بعد ديكتاتورية، وحروب، وحصار، واحتلال ؟ لقد فقدت بغداد أيضاً صلاحيّاتها المُتخيلة في أذهاننا منذ سنوات طويلة. ولكن، ما هو مستحيلٌ تقنياً، ولاعقلانيّ فنياً، أصبح ممكناً، وتحول الي أسلوبّ جماليّ تعتمد نتائجه علي الخطأ، والصواب، التجربة، والمغامرة، الخيبة، والبهجة، الاكتشاف، والتحقق، وهو ما جعل (غير صالح) فيلماً مختلفاً، ومُغايراً. وكما فرضت حالة الشريط جماليات سينمائية منحها باختيار، أو بمحضّ الصدفة، فقد كشف أيضاً عن بناء دراميّ يتفق وحالته. في وضع كهذا، يصبح مخيباً للآمال أن يرتكز الفيلم علي سيناريو تقليديّ، يحكي قصةً متماسكة البنيان، تحوم فيها شخصيات مدروسة، وحدثاً تتجاذبه قوانين السردّ الأرسطية. كان من الطبيعي أن يُحيلنا العنوان، وحالة الشريط الي كلّ ما شاهدناه في الفيلم، وما لم نشاهده، وبدل أن تكون نتائج التصوير أشكالاً تجريدية، وأطيافاً شكلية، فتحوله الي فيلم تجريبيّ خالص (يسعي الكثير من السينمائييّن التجريبيّين عمداً للحصول علي نتيجة مماثلة)، جاء الفيلم قريباً من الأحلام، الهواجس، والأفكار الداخلية، انّ (غير صالح) هو الفيلم في مراحل انجازه، وهذه حيلةٌ دراميةٌ مدبّرة، ومبررّة، كي تتحول الشخصيات التي تدور حول المخرج (حسن) الي أطياف مشروع فيلم، هو في الحقيقة الفيلم نفسه، ومشروع شخصيات، هي شخصيات الفيلم، مُتشظيةً، مبعثرةً، منفلتةً من المكان، والزمان، هاربةً من تاريخها، ومستقبلها، جمعها المخرج حسن (عدي رشيد) من الشارع، البيت، الحارة، المدينة، وحتي من الذكريات، لتُسجل عبورها اللحظيّ، أو الدائم أمام الكاميرا، والقليل من الكلام عن الأحداث التي تعيشها بغداد، جلبها المخرج (لا فرق بين حسن، أو عديّ)، مسرحها، وتركها ما بين النصّ المكتوب، والمُرتجل (ربما)، كي تؤدي دوراً صغيراً أمام الكاميرا، وتمضي في حالها.
ولهذا، ليس هناك من سببّ دراميّ مقنع باختيار شخصيات بعينها دون غيرها من
خلق بغداد، غير أنها تُعيد تجسيد أدوارها الحقيقية في الواقع الذي تعيشه،
أو أدواراً لأشخاص آخرين عرفهم، أو يعرفهم (حسن)، تلك الشخصيات المُؤقتة
(الجندي)، العابرة (بائع الصحف)، أو الدائمة (ميسون زوجة المخرج) يجمعها
حدثٌ واحد، الحبّ كما يقول (حسن) في الفيلم، حبّه لهم، ولكن أيضاً، الفيلم
كما تخيّر أن يكون، والحياة المُجتزأة منهم في مدينة، هي موضوع الفيلم
نفسه، وركيزة أحداثه المُتشظيّة مثلها. تلك المُناجاة المسموعة، تختفي، وتعود ما بين مشهد، وآخر، تشوبها الأحزان، والمواجع، هي أجزاء من سيناريو يجعل فعل الكتابة مكشوفاً للمتفرج، كي يتورط في العملية الابداعية نفسها، فيصبح من الطبيعي الاعتقاد بأنّ الملاحظات التي يكتبها (حسن) عما يجري حوله، وما نشاهده، هي حقيقة، وليست من نسج الخيال، ونفهم بأنه استدرج ما هو تسجيلي، وحوله الي مشاهد روائية، واستخدم الروائيّ في شهاداته ليُوهمنا بتسجيليّتها. وفي الحالتيّن، عندما اختطف التسجيليّ لصالح الروائيّ، أو بالعكس، كانت مفرداته السينمائية (زوايا التصوير، حركات الكاميرا، شريط الصوت) علي قدرّ من الوعيّ، وهنا، لا أستطيع التنجيم فيما اذا كانت مكتوبة مسبقاً في سيناريو ما قبل التصوير، أو استلهمها في لحظات الانجاز مباشرةً، ولكن، أياً كانت طريقة الانجاز، فانّ هذه الدّقة بحاجة الي اعادات كثيرة لتصوير لقطة ما، فكيف أنجزها الثنائيّ، المخرج، والمصور مع كمية قليلة من الخام الفاقد الصلاحية ؟ بغداد ربيع 2003 في الأزقة الجانبية المُتهدّمة، والوسخة، والشخصيات المُبعثرة فيها، أصوات طلقات رصاص بعيدة، وهدير مروحيات محلّقة في سماء بغداد، لم تكن تلك المؤثرات تُعبّر عن حقيقتها، بقدر ما كانت مفردة صوتية تعبيرية مهدّت للموسيقي، وأصبحت جزءاً منها. تتابعٌ مونتاجيّ صارم يُقصي اللحظات الميتة، ويُلملم حالة تشظيّ الصياغة السينمائية، يتوافق ومسحة تجريبية للفيلم (في السينما)، وتغريبية (في المسرح)، ولم يتورط كثيراً بالالتزام بقواعد مونتاجية حكائية، حيث يظهر لنا المونتاج ـ في بعض الأحيان ـ القطع نفسه، تلك الومضات التي نشاهدها كثيراً في أفلام السوبر 8 ، والمُستخدمة سابقاً في الأفلام العائلية، وحالياً في السينما التجريبية. وكما كانت بعض المفردات السينمائية مُسبقة التفكير، جاءت أخري محضّ صدفة، وخاصةً الألوان التي اكتسبها الفيلم غصباً عنه، نتيجة عوامل الزمن التي أفقدت الشريط الخامّ بعض عناصره الكيماوية، وحتي، وانّ أرجعت التقنيات الرقمية الجديدة بعض هذا الغياب القسريّ، ولكنها أضفت مسحةً غريبةً علي أجواء الفيلم، تعمد الكثير من الأفلام اكتسابها طواعيةً للحصول علي تأثيرات خاصّة بالزمان، والمكان، ولكن، في (غير صالح)، جاءت تلك الاشكالية التقنية عوناً مجانياً، توافقت مع فكرة المخرج نفسه (المخرج في الفيلم، أو مخرج الفيلم) مع فقدان اللون في الشارع. التفسيرات، والشهادات العناوين الداخلية في الفيلم، صلة الوصل ما بين المَشاهد، هي مفردةٌ سينمائيةٌ استخدمت في عصر (السينما الصامتة) لشرح ما لم تتمكن الصورة من شرحه، أو تقديم الحوار لقراءته علي الشاشة، ذاك الاستخدام (التفسيريّ) تحول فيما بعد الي (تعبيريّ) يُضفي مسحةً أدبيةً علي الأحداث، وشعريةً أحياناً. وفي (غير صالح)، ساهمت العناوين الداخلية بتقسيم الفيلم الي مَشاهد (كحال المسرح)، وبالآن، أصبحت جزءاً من الصياغة الدرامية، والسينمائية للفيلم، وكانت مثل الفواصل، النقاط، علامات الاستفهام، والتعجب في نصّ أدبيّ، ولكن أيضاً، استيحاء (حيلة) ابداعية مونتاجية للربط ما بين الأحداث المُبعثرة، والشخصيات المُتشظية، وبافتراض غياب هذه العناوين، سوف يفقد النصّ الأدبيّ تشكيلاته اللغوية، وربما يفقد الفيلم بعضاً من شعريته. وبينما كان (الشاهد رقم 1) حقيقيّاً (لقاء مع أحد السكان)، يأتي (الشاهد رقم 2) ممثلاً يقف أمام الكاميرا، ويلقي نصّاً تضمّنه السيناريو، واستعان المخرج بأشخاص عاديين يمثلون أدوارهم متذرعاً باللقاءات، والشهادات معهم، وكما توضحت المبالغة في أداء البعض(المتشرّد المعتوه)، قدم الفيلم بشكلّ عامّ أداءً ـ غير معهود في السينما العراقية ـ هادئاً، تلقائياً، يتضافر مع حضور ممثلين محترفين، وعلي رأسهم (يوسف العاني)، و(عواطــف السلمان). وفي هذا الاطراء المُتعجّل، لن أنسي (مريم عباس)، تلك التي أدّت دور (ميسون) ـ زوجة المخرج في الفيلم ـ، والانفعالات التي نضحت بها عيناها، كانت تدّق علي أعصاب زوجها المُنشغل عنها بانجاز فيلمه مثل ضربات البيانو الحادّة التي تكررت كتيمةً موسيقيةً رئيسية، ممتزجةً مع زخات رصاص. هذا التعشيق يطال شريط الصوت أيضاً، هناك زقزقزة العصافير من طرف، وطلقات الرصاص من طرف آخر، تتخلل ذكريات (يوسف العاني) المحكية كشهادة، مع اللقطات التسجيلية لجدارية (نصب الحرية) لصاحبها (جواد سليم). (عدي رشيد) لا يريد لشخصياته أن تتكلم كثيراً، ولا يرغب أن يصنع فيلماً ثرثاراً، ولهذا، نشاهد (الشاهد رقم 3)، الجنديّ الذي التقطه المعتوه بداية الفيلم، في لقطةُ متوسطة لا يتكلم فيها، زخات رصاص، هدير مروحيّات، وموسيقي، فقط. بينما يترك حسن (الشاهد رقم 4)، ليُدخلنا الي وجدانه المجروح من خلال أغنية عراقية مُوجعة، وكما يترك المعتوه في (الشهادة رقم 5) يتحدث بمفرده، ليُغرقنا في شجون الأغنية، ونشاهد من بعيد جنود الاحتلال في الشوارع مُرتجلين، أو راكبين. ودائماً تلك الأصوات التي تُذكرنا بالكاميرا، وجهاز العرض، والومضات التي نعهدها ما بين اللقطات في أفلام سوبر 8، وهي تشير الي نهاية لقطة، وبداية أخري، لأنّ الكثير من هذه الأفلام لا تخضــع لمونتاج بعد التصوير. حالاتٌ متواصلة، مستمرّة، ومتداخلة لذكريات مُبعثرة، وهل يمكن أن تكون منضدّة، ومرتبة في سردّ مُسترسل؟ هي أيضاً تحوم حول الشخصيات المعتوهة، المتشردة، الجريحة، المريضة، القلقة، المُكتئبة، في الحارة، الحيّ، المدينة، والبلد كله، ولا تمتلك الكاميرا هنا جرأة استعادة كلّ التفاصيل، تجميعها، ونسجها من جديد لاعادة صورتها القديمة، وهي التي تُذكرنا دائماً بالفيلم الذي يُنجزه (حسن)، وهي ليست شاهداً مُحايداً، انها ذاتية الي حدّ (لا أخلاقيّ)، عندما تقتحم حزن عائلة تبكي واحداً من أفرادها المقتولين، فيتذكر أحد الشباب المُتحلّقين حول الجثة حرمة الموتي، ويتصدّي للكاميرا غاضباً : ـ لا تصوّر، لا تصوّر,.. وبافتراض زيادة حدة الغضب، كان يمكن للكاميرا أن تلقي حتفها، ويتحول الشريط المُنتهي الصلاحية الي شريط تالف، ولكنها لم تخش هذا المصير، لأنها علي دراية مُسبقة بأن ما يجري أمامها هو اعادة تجسيد لمشهد حياتيّ يومي، حــدث، ويحدث في أماكن كثيرة. والحقيقة، تكشف لنا الصياغة السينمائية عن حضور دائم لكاميرتين، واحدةُ (افتراضية) داخل الفيلم (تظهر علي الشاشة أحياناً) يصور بها المخرج (حسن) شخصيات فيلمه، والأخري (حقيقية) لا نراها أبداً، لأنها تُصور الفيلم نفسه كما نراه مُنجزاً نهائياً. وقبل أن نتوقع (الشهادة رقم 5)، يُفاجئنا المخرج (حسن) بشهادته، هل جاءت صدفةُ لتكسر من حدّة التشابه الشكليّ مع ما سبقها؟ ولماذا لم تحتلّ المشهد الأخير من الفيلم، هل يحافظ المخــــرج علي اخلاصه لسرده المُتشظيّ ؟ الكاميرا (الافتراضية) تصور (حسن) وهو يدلي بشهادته، والكاميرا (الحقيقية) تصور الكاميرا (الافتراضية)، و(حسن)، لعبة مرايا تماماً، تصبح فيها الكاميرا (الافتراضـــية) داخل الفــــيلم شخصيةُ تعلن عن حضورهـــــا في كلّ لقطة، كي لا ننساها، انها العين الثالثة، تُدلي بشهادتها أيضاً، ثابتةٌ أحياناً، ومضطربة هائجةُ في مرات أخري. هنا، يتوجه (حسن) مباشرةً الي المتفرج في شهادة (مسرحية) تصورها الكاميرا، تختلط وعواء كلب شارد في الأزقة. لقد تخيّر (حسن) هذه المرة بأن يتخلي عن مونولوغه الداخلي (مناجــاته) ليتوجه الي الكاميرا/المتفرج : ـ لماذا أصنع الفيلم، ولمن، هذا الفيلم يؤرقني، عليّ أن أتوقف، لن أكمله، لن أكمله,.. استدراجٌ آخرٌ الي لعبة (الفيلم داخل الفيلم)، وبالأحري حيلةُ ابداعيةٌ تمهدّ لتحوّل مفاجئ، دراميّ، وسينمائيّ، (حسن) لن يكمل الفيلم، هكذا يقول، يُوهمنا، ويجعلنا نستعد لنهايةً مُفاجئة، مُبتســرة، ولكننا شاهدنا الفيلم مُتحققاً، حتي ذلك المشهد الختاميّ، ما كان (غير صالح) تقنياً للتصوير، أصبح (صالحاً)، وما لم يرغب (حسن) باكماله، هو في طريقه للتحقق. لم يتوقف (حسن) عن انجاز فيلمه، كما أوهمنا منذ لحظات، ولم يقدم لنا نهاية، مهما كان الاحباط علي أشدّه، ولم يفعل مثلما فعل السينمائيّ التجريبيّ الأمريكيّ (ناتانيّيل دورسكي) عندما يبحث عمداً عن أفلام قديمة، غير صالحة، ويصور منها بعض الدقائق، ويترك باقي الشريط في العلبة، ويرسلها الي المعمل لتحميضها، ومن ثمّ يُعيد أفلمة النتيجة. لا، لم يرغب (عدي رشيد) بأن ينحو الي غايات شكلية (جوهر السينما التجريبية)، بل يستمر في نثر مقتطفات من يومياته، عندما يقدم لنا درساً في المونتاج: لقطةُ عامة، (حسن) وزوجته (ميسون) في الفراش، وقطعٌ مفاجئ الي لقطة متوسطة يجلسان فيها متواجهيّن، شبه عارييّن، يُكملان حواراً بدآه في اللقطة السابقة، وهكذا تخيّر المونتاج أن يختصر الزمن، ويبتعد عن الترّهل. ومن خلال لقطة كبيرة لوجهيّن مُتقابليّن، ومن ثم لقطة كبيرة لكلّ واحد منهما علي حدّة، يشارك المونتاج (وأحجام اللقطات) بالكشف بصرياً عن الوضع النفسيّ الذي وصلا اليه، وعن علاقتهما التي تزداد توتراً يوماً بعد يوم، ويصل تذمر الزوجة الي مداه، لقد أصبح كلّ منهما يعيش وحدته. 6 شهور فيما بعد... في هذا الجزء من الفيلم، نتعرّف علي شخصية جديدة، (خالد) بائع الجرائد، يقترح أفكاره الهزلية عن فيلم يمكن أن ينجزه (حسن). في لقطة متوسطة، نلاحظ حركةً خفيفةً جداً للكاميرا، يكاد المتفرج العادي لا يشعر بها، لتؤكد لنا من جديد بأنها حاضرة، ولا تعرف الاستسهال، أو الكسل. وفي مشهد لاحق، الكاميرا من جديد لا توفر علي نفسها مشقة الحركة من الأسفل الي الأعلي، وبالعكس، عندما يحضّر (حسن) لنفسه فنجان قهوة، ويتخيّرها المخرج (داخل الفيلم، وخارجه)، كي لا تكون اللقطة خاملة، وجامدة. بعد (42دقيقة) من المدة الزمنية للفيلم، يُركز (حسن) عدسة الكاميرا الفوتوغرافية علي الشارع المُطلّ من شباك منزله، لنشاهد من بعيد عربات عسكرية أمريكية، ويعود صوتياً الي مونولوجه الداخلي في مناجـــاة شعرية : بغدادٌ، فكرةٌ شقها النهر نصفيّن بغدادٌ قطارٌ تائهٌ في بغداد أبداً ليست مدينة ....... لقد وصلت تمزقاته الي مداها، تكاد زوجته تخذله، وبدأت كاميرا مدير التصوير تترنح، لقد فقد الجميع صبرهم، وقدرتهم علي التحمّل، والانتظار، وحتي الشريط الخام يوشك علي الانتهاء, وهنا يخطر ببالي فكرة، هل صور (عدي رشيد) الفيلم علي مراحل متعاقبة، مع الانتهاء من كتابة كل مشهد، وباعتقادي، لم يكن هناك سيناريو جاهز مُسبقاً، كان الفيلم يتحقق فعلاً في لحظات تأليفه، أو مباشرةً بعد كتابة المشهد، وهذا ما يفسّر حالة التشظيّ التي تخيّرها البناء الدرامي، والسينمائي للفيلم. حيرة (حسن) بأن هناك شيئا ما يتغير في بغداد لا تلخصها أيّ عدسة، وحتي الدقيقة الـ((48 من الفيلم، لم يحدّد (حسن) موضوعه بعد، لقد صوّر كلّ شئ قبل 6 أشهر، ماذا يصور بعد؟ ومن جديد، يجد المتفرج نفسه متورطاً في حيلة، وراء حيلة، هي استيحاءات ابداعية، تتحول فيها الهفوات، والنواقص الي مفردات ابداعية لصياغة سينمائية مُتعمدة فرضها البناء الدرامي للفكرة، والمعالجة، كي يصبح من الطبيعي أن تلاحق الكاميرا (حسن) في تجوال دائمّ في شوارع بغداد يبحث عن موضوعه، حيث لم يبقَ الاّ الفراغ، هل يصوّر الفراغ ؟ منزلٌ للبيع وفعلاً، يستمر (حسن) بتصوير شوارع بغداد، وحاراتها، وأبنيّتها المهدّمة، بدون مونتاج، أو بطريقة توحي لنا اختفاءه، كما حالة التصوير بكاميرا سوبر 8، حيث لا تقف الكاميرا أمام موضوعها كثيراً خشية انتهاء شريط الفيلم في البكرة (الطول الزمنيّ 3 دقائق تقريباً للبكرة الواحدة)، وبدون مؤثرات خارجية، غير صوت الكاميرا، دوران الشريط في علبته، أو دورانه في جهاز العرض، شخصية أخري نسيناها، وكانت حاضرةً علي استحياء. وهل من قبيّل الصدفة أن يكون المشهد ما قبل الأخير أمام منزل عربيّ يفصل بين شارعيّن، حيث يمضي (حسن) في الشارع الأيسر باتجاه عمق الصورة، ومن الشارع الأيمن يتقدم المعتوه نحو مقدمة الصورة، بينما لا تخفي علي المتفرج مغزي عبارة مكتوبةُ علي الجدار: (منزلٌ للبيع) وبعد أن يستمع حسن الي (الشاهد رقم 6)، (فضة) زوجة الشيخ، تتعب الشخصيات، وينهك المخرج، ويصل الي درجة عالية من الاحباط، والانهيار، يتكوّر في زاوية منزله، أو مكان خرب، تماماً مثل أيّ شخصية أخري، ويكشف (مسرحياً) عما في داخله : ـ هذه ليست سينما، هذا ليس فيلماً، لقد خدعتك الحربُ مرةً أخري، هذا ما يخلقه الحلم، والذكريات. رماد فيلمي يوحي هذا العنوان المكتوب علي الشاشة، الأخير في قائمة العناوين الفرعية، برماد فيلم (عدي رشيد)، أو الرماد الفيلمي بعد احتراقه، أو تلفه كلياً. ـ الآن لديك فيلمان، واحدٌ أحرقته الحرب، والآخر أحرقته الأحداث المُحيطة بك، وآلامك الداخلية,.... أكرهكم، أنتم السبب، أنتم السبب لكلّ ما وصلنا اليه، حقيقةً أكرهكم، من أنتم، آه، من، من أنتم، من ؟ اقطع يا (زياد). لقد بدأ الفيلم من شريط خامّ تالف، يمكن أن يفني، ويتحول الي رماد، وانتهي فيلماً مُنجزاً يــــدعو الي الحياة. ضربات البيانو من جديد، مثل قطرات ماء تتساقط برتابة. القدس العربي في 29 يوليو 2005 |