إبراهيم العريس |
لم يكن في إمكان أحد أن يضيعه، فهو، بقامته المرتفعة، وشعره الأبيض المنتفخ الى أعلى، ونظرته التي تتفرس في كل كائن وفي كل شيء، يبدو نسيج وحده. لذا كان من الصعب على أحد ألا يراه كل يوم تقريباً خلال أيام «كان». فهو، دون غيره من النجوم ومن كبار المخرجين، يحب أن يتنزه على الكورنيش مرات عدة في اليوم. اسمه: جيم جارموش. مكانته: في الصف الأول من بين المخرجين الطليعيين الأميركيين، منذ ما يقرب من ربع قرن، الآن، وجمهور أفلامه يزداد عدداً باضطراد، وهو جمهور معجب به من دون قيد أو شرط، يكاد يحفظ عن ظهر قلب مشاهد بعض أجمل أفلامه من «أغرب من الجنة» (1984) الى «قهوة وسجائر» (2003)، ومن «القطار الغامض» (1989) الى «الكلب الشبح» (1999)... وغيرها. لغته مميزة، تكاد تكون هندسية. مواضيعه غريبة، تكاد تكون سوريالية، واشتغاله على الممثلين يتسم بأعلى درجات الحرفية. لغة مختلفة ومع هذا فإن الذين دخلوا صالات «كان» متلهفين لمشاهدة فيلمه الأخير «زهور محطمة»، خرجوا منه مستغربين مندهشين. ولكن من دون أن يشعر أي منهم بخيبة أمل. فقط كان لسان حالهم يقول: من أين أتى جيم جارموش بكل هذا التجديد؟ كيف انتقل بهذا الحذق من سينما الى أخرى؟ فهم بالكاد تعرفوا على لغة أو مواضيع هذا السينمائي الذي يحبون في فيلم بالكاد شعروا انه ينتمي اليه. لكنهم بعد «الصدمة» الأولى تذكروا انهم، في أية حال، أحبوا «زهور محطمة» كثيراً، وبدأوا ينتظرون حصوله على ما لا يقل عن «السعفة الذهبية» في الحفل الختامي، ناهيك بأنهم كانوا واثقين من أن الفيلم سيعود على ممثله الرئيس، بيل موراي، بجائزة التمثيل الكبرى. بيد أن الفيلم لم يحصل لا على تلك الجائزة ولا على هذه: كان عليه أن يكتفي بجائزة لجنة التحكيم الكبرى (ثاني جوائز «كان» من حيث التراتبية) كما كان على الجمهور ان يكتفي بالسعادة والأناقة اللتين نقلهما الفيلم اليه وهو يشاهده. ذلك ان «زهور محطمة» فيلم رائع وكبير، حتى من دون أن نبحث فيه عن سمات السينما الجارموشية. وهو ينتمي الى ما يمكن تسميته تياراً جديداً في السينما الأميركية من زعمائه اليوم الكسندر باين («عن شميت» و»طرق جانبية») وصوفيا كوبولا («العذراء تنتحر» و»ضاع في الترجمة») بين آخرين. غير ان هذا يجب ألا يدفعنا الى الاعتقاد بأن جارموش غيّر سينماه ليلحق تياراً ما. كل ما في الأمر أن فيلمه يذكر بسينما هذين، لأسباب قد تتعلق بالقواسم المشتركة: فهو يشاطر «صناع في الترجمة» وصفه بيل موراي في بطولة الفيلم وتأدية هذا الأخير دوره على الموجة نفسها التي أدى بها دوره في فيلم صوفيا كوبولا. ويشاطر «طرق جانبية» كونه فيلم طريق، واحتفاله بالعواطف. أما ما عدا هذا فإنه يشاطر عدداً كبيراً من الأفلام التي عرضت في الدورة الأخيرة لـ «كان» كونه فيلماً يبحث عن ماض ما. ومن يبحث عن هذا الماضي في «زهور محطمة» هو دون جونستون (بيل موراي) الدون جوان (باقتراح من اسمه نفسه) شبه المتقاعد الذي أربى على الخمسين، ويعيش هادئاً متأملاً لا يكاد يطلب الآن من الدنيا شيئاً بعدما جمع ثروة من عمله في أجهزة الكومبيوتر، تعطيه إمكان فعل لا شيء. دون العصور الحديثة هذا، يحدث له، منذ بداية الفيلم ان تتركه صديقته الشابة لأنه يرفض منحها ولداً تريد انجابه منه... فلا يبدو عليه أنه مبال بذلك. وهو يبالي أكثر قليلاً حين تصله في اليوم نفسه رسالة من امرأة لم توقعها، تخبرها فيها ان له منها ولداً في نحو العشرين الآن، انطلق ليبحث عن أبيه... أي عنه. وحين يستشير دون جاره ونستون (الذي هو مزيج من شرلوك هولمز والدكتور واطسون) في الامر، يبدأ هذا تحرياته الاستعلاماتية على الكومبيوتر، وينصحه بأن ينطلق ليبحث عن أربع نساء كان يقيم معهن علاقات قبل عشرين سنة كي يكتشف من هي، منهن، كاتبة الرسالة وأم الولد. وبعد تردد يقرر دون القيام بالرحلة، إذ رتب له ونستون كل شيء. ينطلق وليس لديه من المؤشرات سوى عناوين «نسائه»، واللون الزهري، وان الرسالة طبعت على الآلة الكاتبة. وعلى هذا النحو يتحول الفيلم من رحلة بحث عن ولد وامرأة، الى رحلة يقوم بها دون جونستون للبحث عن ماضيه. رحلة يقوم بها الذكر الأميركي المعاصر، للبحث عن زمن ما. ثم، وهذا أمر شديد الأهمية في الفيلم: رحلة تغري المتفرج بأن يواصل طوال الطريق تعامله مع المفاتيح التي يزرعها جيم جارموش طوال الرحلات الأربع التي يقوم بها دون من مدينة الى أخرى. الأسماء – المفاتيح والمفاتيح هذه، لها علاقة بالأسماء في جانب أساس منها. وخصوصاً أسماء النساء اللواتي يلتقيهن دون ليحاول أن يستعيد معهن حوار ماضيه وذكرياته ساعياً الى إدراك أي منهن هي أم الولد المزعوم: فالأولى لورا (شارون ستون)، لها ابنة تدعى لوليتا (ما يحيلنا مباشرة الى رواية فلاديمير نابوكوف وفيلم ستانلي كوبريك المأخوذ عنها)، والثانية تدعى دورا (وهي هستيرية التصرف تماماً على شاكلة دورا التي يتحدث عنها فرويد في كتاب له عن الهستيريا)، والثالثة هي كارمن (على اسم بطلة الأوبرا الشهيرة). أما الرابعة فهي بيني، الهيبية العنيفة الباقية من سنوات الستين كأنها طالعة من أغنية «بيني ليك» لفريق البيتلز. في لحظة من اللحظات، قد يبدو زرع هذه «المفاتيح» عبر الأسماء، عشوائياً غايته اضفاء بعد ثقافي مرجعي ما على موضوعه، غير ان هذا الانطباع سرعان ما سيبدو مخطئاً... لأن الحقيقة هي ان هذه المرجعيات، ومن دون ان تثقل على المتفرج متابعته لـ «أحداث» الفيلم، تعتبر أساسية فيه... بل لعلها هي الموضوع، انطلاقاً من سؤال أساس قد يطرحه انسان ما على نفسه، ذات لحظة خمسينية من عمره: أين ذهب ماضيّ وأحلامه؟ أين صارت كل النساء والأحلام والأفكار التي صنعت لي تاريخي؟ من هنا سيبدو الفيلم على الفور، وبعد مرور أول عشر دقائق منه، فيلم حنين وأحاسيس مفعمة، لا فيلماً هدفه حل لغز ما... ولا بد من أن ندرك هنا ان جيم جارموش لا يحل اللغز، بل ينهي فيلمه على بطله دون، وقد عاد خائب المسعى الى بلدته الصغيرة، ينتظر «ابنه» وقد أخفق هو في معرفة من هي الأم. ذلك ان الاشارات التي كان يمكن أن تساعده على الوصول الى حل، ستبدو حاضرة لدى كل واحدة... ناهيك بأن كل امرأة من نساء ماضيه، ستبعث في نفسه الخيبة ومزيداً من الحزن. وحدها ميشال (على اسم اغنية أخرى من أغاني «البيتلز») ستظل لها مكانة في نفسه تتجدد اليوم. وفقط لأنها ماتت منذ زمن، وهو في نهاية رحلته يزور قبرها. وفي هذا ما فيه من دلالة... ولكن ثمة أيضاً دلالة أخرى تكمن في هروب دون من المرأة اليوم، في كل مرة تلوح له فيها فرصة «تجديد» ما... انطلاقاً من لا مبالاته تجاه صديقته التي تتركه في البداية، وصولاً الى بائعة الزهور الصبية، مروراً بـ «لوليتا» العارية الحسناء، ابنة لورا... طبعاً، كل هذا قد يوحي، بأن الفيلم، في جوهره، فيلم ضد النساء... لكن هذا غير دقيق... لأن ما قد يقترحه علينا جيم جارموش فيه إدانة لدون جونستون – ربما يكون انتقام الفن من دون جوان، بعد كل هذا الزمن الذي مرّ على ولادة اسطورته -. فالواقع ان كل واحدة من النساء الأربع اللواتي يزورهن، تعيش حياتها من دون أي انتباه الى ماضيها... وتبدو مالئة لتلك الحياة مطمئنة اليها، على عكسه هو. حكاية جيل ما وهذا كله يجعل من «زهور محطمة» فيلماً عن جيل ما، عن الذكر الأميركي، وبالتالي فيلم شخصيات، أكثر منه فيلم حكاية أو فيلم مواقف. وبالتالي لن يكون صدفة أن يترك جارموش بطله في اللقطة الأخيرة حائراً – عند مفترق طريق بالمعنى الحرفي للكلمة -، إذ ما ان يخيل اليه انه عثر على الابن وقد وصل بلدته، ويحاوره ويبدي به إعجاباً، حتى يهرب الفتى مرتعباً، فيما تقترب – في لقطة أخيرة – سيارة فيها فتى آخر أبله النظرات، ينظر بأمل الى دون... غير ان هذه السيارة بدورها تتخطى بطلنا، من دون أن تتوقف، فيما يظل هو زائغ النظرة حائراً، له سمات من فقد كل شيء... ولا سيما ماض كان، كما يبدو، يحتفظ به كخزان أخير يبرر حاضره. بيل موراي: بعد سنوات الانتظار كما يحدث عادة في أفلام يقوم ببطولتها ممثلون من طينة الراحل مارلون براندو أو جاك نيكلسون، يصعب على متفرج «زهور محطمة» تصور انه كان في إمكان أي ممثل آخر غير بيل موراي، لعب دور دون جونستون في هذا الفيلم. فالدور هنا يبدو وكأنه، أصلاً، قد فصّل على قياسه تماماً. انه يحمل عين الفيلم كله، يهيمن عليه تماماً، بكلامه القليل، ولكن حتى بصمته المدهش ونظراته المحملة بالمعاني. نظرة منه، أو تعلق بسيط، كان يكفي لإشعال الصالة كلها... ضحكاً أو تأثراً، ومن دون أن يبدو عليه هو أي تأثر بالموقف. من هنا لم يكن بعيداً من الصواب تشبيهه بباستر كيتون، هزلي السينما الصامتة. في «زهور محطمة»، أكد بيل موراي، ابن شيكاغو، والذي يزيد حضوره السينمائي اليوم عن ثلاثة عقود، ان السينما ظلمته كثيراً. إذ انه لم يبدأ بلعب الأدوار التي أوصلته الى «الأوسكار» والى الجمهور العريض وجمهور النخبة سواء بسواء، إلا بعدما تجاوز الخمسين، حيث ان «بداياته» الكبرى، لا يزيد عمرها الآن على بضع سنوات: من «عائلة تنينباوم» الى «الحياة المائية» ومن «ضاع في الترجمة» الى «زهور محطمة»... ومع هذا ثمة عشرات الأدوار لعبها من قبل، وعشرات الأفلام حضر فيها، لكنه أبداً لم يتمكن يومها من أن يلفت الأنظار. واليوم، وخصوصاً بعد «زهور محطمة» بات على السينما أن تحسب حساب هذا الفنان المتمرس، في شكل جدي. الحياة اللبنانية في 15 يوليو 2005 |
جين فوندا تعود الى السينما.. شرسة لكنها غير شريرة رمضان سليم فى الملصق التجارى الاعلامى لشريط "الحماة الشرسة" إنتاج 2005 نجد امامنا خلفية صفراء تغطى كل مساحة البوستر لتأكيد مزاج التنافس والغيرة وربما الكدر والإزعاج، وقد كتب عليها باللونين الأسود والأحمر المعلومات الأساسية للشريط، والأهم طبعا تلك الصورة التى تعبر عن التحدى بنفس المقاس والأبعاد والتى تشمل كلا من الممثلتين جنيفر لوبيز وجين فوندا وكل منهما تواجه الأخري، وفى حالة استنفار كامل لا يخفف منه الا لون الملابس البيضاء لكل منهما والذى ربما يشير الى أنه تحد صاف ونبيل ونهايته بيضاء اللون. هذا ما عبر عنه الملصق الفرعى والذى لم يوزع كثيرا مقارنة بالملصق الرئيسى للشريط.ان التحدى وانقسام الملصق الى جزئين متماثلين والنظرة القائمة على نفس المستوى من أبعاد البوستر، كل ذلك لا يعنى ان الممثلتين متشابهتان فى مقدار الحصة الناتجة والمكسب النهائى الآن جنيفر لوبيز تبقى الأولى فى ترتيب الأسماء، يلى ذلك بالطبع جين فوندا، تم تجتمع باقى الأسماء فى ذيل الشريط بما فى ذلك العنوان الذى يزحف قليلا الى الأسفل ليعطى مساحة لا بأس بها لإبراز الوجهين ونوعية الملابس التى ترتديهما كل امرأة، ملابس تدل على روح الشباب لأنها تكشف عن جزء كبير من الجسد، بينما الملابس المغايرة لجين فوندا تعبر عن جيل آخر قديم فوق الستين بكثير أو قليل. ان الصراع يتجاوز ما جسده البوستر من تحدى ليشمل أيضا الكثير من الجزئيات والتفاصيل بين غريمتين تقليديتين: الأولى زوجة الابن المنتظرة تشارلى او شارلوت "جنيفر لوبيز" والثانية الحماة فيولا "جين فوندا"، وإذا قلنا أيضا بان السيناريو قد أعدته مؤلفه هى انيا كاتشيف فقد عرفنا بأن السباق الذى يدور فيه الشريط هو نسائى الإخراج والاتجاه والاختيار، بدون أن يعنى ذلك ضعفا أو تقليلا من شأن الشريط بالاعتماد على جنس مؤلفه. تفرض عليك الممثلة جين فوندا حضورها، ليس بسبب تمثيلها بالطبع، ولكن لانها تمثل جزءا من الماضى القريب فهى تحضر بتاريخها السينمائى ــ حوالى 44 شريط أولها "القصة الطويلة" 1960 وآخر شريط كان بعنوان "ستانلى وايرس" إنتاج 1990 ــ وبداخل التجربة تسلمت جائزتين لأوسكار التمثيل "عامى 1971 ـ 1978" هذا بالإضافة الى العمل السياسى الاحادى الجانب المرتبط بعائلة فوندا والعلاقات الفنية الإعلامية السياسية المتشابكة التى تسهم فى صنعها هوليوود السياسة. انها ممثلة من النوع المتوسط فنيا، لكنها اعلاميا اكتسبت شهرة واسعة، ولذلك فرضت حضورا متميز على هذا الشريط حتى يمكن القول بأن الأمور قد تداخلت بين جين فوندا الممثلة و"فيولا" الشخصية الرئيسية فى شريط الحماة المستبدة أو الشرسة. ان أول مشهد لجين فنوندا فى الشريط، يظهرها وهى تدفع الباب المتحرك الى الامام وبشكل مفاجئ لتبدأ تصوير إحدى حلقاتها التلفزيونية، وذلك بعد التمهيد بالحديث عنها وحولها من قبل ابنها الدكتور كيفن أثناء لقائه بالفتاة تشارلى أو اعتراضها له فى موقف عاطفى بدا مصطنعا وسريعا على الشاشة. تستحق جين فوندا ان تكون مقدمة برامج تدعى "فيولا"، مشهورة ولها خبرتها العملية لأكثر من ثلاثين عاما ولكن الزمن يتغير، وها هى تسير نحو التقاعد الاجبارى لأن هناك فتاة شابة ومن الجيل الجديد "شبيهة بيرتينى سبيرز" ينتظر ان تحل محلها، بل وعليها ان تقدمها فى حلقتها الأخيرة للتعريف بها. يبدو الشريط وكأنه يعتمد على هذه "التيمة" الصراع بين الأجيال أو ما شابه ذلك، فقد جاء الجيل الذى لا يقرأ حتى الصحيفة ليحل محل الجيل القديم الذى له خبرته الكبيرة وقراءاته الواسعة واهتماماته غير السطحية. بهذه الصورة التى تطرح عبر الميديا، تجد فيولا المذيعة المتألقة نفسها خارج الساحة، بعيدة عن الأضواء، بل انها تهجم على ضيفتها الجميلة أثناء التسجيل لتعتدى عليها بكل إحباط كامن فى النفس وضيق وتبرم. يستفيد الشريط من علاقات الممثلة جين فوندا فعليا، ويوظف مجموعة من الصور فى منزلها معلقة، تمنحها شهرة، ومن ذلك صور تجمعها مع الداى لاما ومانديلا ومقدمة برنامج أوبرا، وذلك لتأكيد حضور "فيولا" عالميا، ولكن تتم إزاحتها رغم ذلك بسبب فتاة عمرها سبع عشرة سنة لا تعرف كيف تنطق الحروف بشكل جيد. تدخل "فيولا" مصحة عقلية لمدة قصيرة وتخرج منها لتواجه نفس المشكلة تقريبا من جديد. ان بداية الشريط موفقة تماما حيث يتم استعراض مشاهد لأحد الشواطئ والشوارع الجانبية مع أغنية مصاحبة وباستخدام آلة تصوير من أعلي، وكأنها تبحث عن صيد معين، سرعان ما تجده، ويتمثل فى الفتاة تشارلى التى تعمل فى عمل غريب وهو الإشراف على الكلاب على الشواطئ، كما أن لها ميولاً فى تصميم الملابس، ويبدو ان السيناريو قد اختار هذه المهنة ليسمح لتشارلى "جنيفر لوبيز" بالتواجد على الشاطئ وكذلك استخدام الكلاب فى بعض المشاهد بعد ذلك. لكننا نقول بأن العناية برسم شخصية "تشارلي" لم تكن موفقة، بدءا من اختيار الممثلة والتى بدت كبيرة نسبيا فى السن، أى انها لا تقابل شخصية الفتاة المذيعة الجديدة التى توجست "فيولا" منها ان "تشارلي" هذه لم تصلح أن تكون غريما متجددا، وهذا الأمر ينطبق على اختيار ملابس الممثلة الغريبة، والى حد كبير وهناك تصنع فى رسم علاقتها مع رفاقها فى المنزل الذى تعيش فيه وهما الصديقان اللذان ليس لديهما أى عمل الا متابعة "تشارلي" والاهتمام بها. أما انطلاق مشروع العلاقة العاطفية، فقد بدأ من قراءة الأبراج، حيث تقود هذه الأبراج "تشارلي" الى البحث حولها لمعرفة أيهما يمكن أن تتعلق به، وتجد ذلك بسرعة فى الدكتور "كيفن" "مايكل فارتن" الذى تظهره آلة التصوير فى لقطات بطيئة ومن خلال عين "تشارلي" نفسها التى تندفع لإقامة علاقة مع ما رسمه القدر وخطته الأبراج، وبسرعة قبل فوات الأوان. لسنا ندرى لماذا اختار السيناريو هذا الأسلوب فى تركيب علاقة عاطفية سريعة أضعفت نسبيا من الشريط، لكننا نعترف بأن هناك رشاقة فى التناول والمعالجة، وان الشريط بدأ سلسا فى تدفقه وإيقاعه الرشيق. رغم ان المقدمة توحى بأن ما هو قادم ليس الا تحصيل حاصل وأن الشريط هو من النوع الخفيف الذى يقبل على علاقة وبدون طرح الكثير من الأسئلة. أى اننا أمام شريط كوميدى رومانسى يقترب من "الفارس" أحيانا، والمسألة إذن تختصر فى تساؤلنا هل هو شريط مقبول أو غير مقبول؟ وفى قولنا هل مستوى الشريط الفنى يقترب أو يبتعد عن غيره من الأشرطة المتشابهة؟ يقول الشريط الكثير وليست لديه مقولة كبيرة، انما هو شريط من النوع الخفيف وبموضوع متكرر، يعتمد أساسا على عودة الممثلة جين فوندا بعد غياب دام خمس عشرة سنة. اما غير ذلك فلا يكاد يبرز أى جديد، وخصوصا وأن اختيار المغنية جنيفر لوبيز لم يكن موفقا بالقدر الكبير، حتى بالنسبة للممثلة نفسها، والتى كررت ما قامت به فى السابق من أدوار، مثل "خادمة من مانهاتن"، "فتاة الجر". وبالطبع لا يتوقف الشريط على دور لممثلة معينة، فالقصة المختارة سبق ان عولجت بأكثر من طريقة، لذلك تشعر بأنك قد شاهدت هذا الشريط فى السابق، ويكفى أن الأشرطة الكوميدية الكثيرة المنتجة فى السنوات الأخيرة، هى فى تقارب مع هذا الشريط، حيث يقوم شاب معين بتقديم الخطيبة الى أسرته أو بالعكس، ويكفى أن نذكر أشرطة مثل: هيتش ـ حزر من ـ مقابلة الآباء ـ كل شيء حول ايف ـ مقابلة العائلة فوكر. أما الخط العام الساخر فهو متكرر أيضا فى أشرطة الكوميديا المتتالية والتى تحاول أن تبتعد عن الموضوعات الساخنة لتقترب أكثر من الموضوعات الاجتماعية العائلية البسيطة وغير المعقدة. من منطلق البحث عن كبش فداء تبدأ الأم "فيولا" فى ارتكاب الحماقات المتتالية لكى تبعد "تشارلي" عن ابنها، فى محاولة منها لتحطيم مشروع الزواج المقترح، وبكل الدوافع السابقة تجاه الجيل الجديد الذى حرمها من وظيفتها، لتصبح مجرد إضافة هامشية تتراشق بالكلمات مع الموظفة التى تعمل عندها "روبي" وتقيم الحفلات لتعيد لنفسها شيئا من الماضي. وبدون تحديد السبب الحقيقي، فإن محاولات الأم والتى اعتبرها الشريط "حماة" قبل تنفيذ الزواج، لعرقلة زواج ابنها الدكتور انما هو بسبب التفاوت الاجتماعي، فالخطيبة مجرد فتاة بلا عمل وليس لها أهل تقريبا وهى لا ترقى الى مستوى الابن الناجح طبقيا حسب الادعاء. وفى الحقيقة أجاد الشريط فى تقديم عدد من الخزعبلات الحقيقية النسائية التى توضح وتكشف عن التنافس بين المرأتين على الرجل الوحيد، بل كاد الشريط ان يسير بنا نحو تبنى فكرة تعلق الأم بابنها "عقدة أوديب معكوسة" وخصوصا عندما لمح الى شذوذ الابن "كيفين" والذى تبين انه مجرد كذبة من غريمة أخرى لـ "تشارلي" تحاول ان تتقرب منه. فى الشريط موقف واحد غير مسار الشريط، فقد كانت الام هى صاحبة الهجوم المباشر والشراسة التى تظهرها بالغضب والصياح وتكسير الكثير من الأشياء والمواد المنزلية، ولكن أتضح بأن الدكتور "لوكتيك" الذى ادعى مرض "فيولا" هو مجرد نادل "بول" فى مطعم استعملته الحماة لتنفيذ خطتها ضد غريمتها "تشارلي". كان دافعا للأخيرة، بأن ترد وتهاجم وتظهر شراستها وتستخدم كل ما عندها من حيل نسائية، بما فى ذلك الضرب والصفع، لكى تثبت بأنها صاحبة حق فى التأسيس لحياة خارج نطاق سيطرة الحماة المتسلطة. إن الشريط مليء بالتفاصيل الصغيرة والمواقف الساذجة، المقبولة أحيانا من قبل رواد السينما إذا أرادوا شريطا خفيفا للتسلية. ولكن هناك أيضا تكرار نمطى واضح، ومن ذلك مثلا دور "روبي" الفتاة الزنجية صديقة الأم "فيولا" "وانداسايكس" فقد وجدناها أقرب الى الخادمة منها الى الموظفة، انها تابعة مدفوعة لملاحقة الأم والدفاع عنها والاختلاف معها قليلا، وهذه الأدوار التى كان يقبع فيها بعض الممثلين السود كنا نظن انها قد انتهت بشكلها التقليدي، لكنها تعود من جديد بمواصفات غير مقبولة فنيا، حيث بدأ دور "روبي" مجرد إضافة لخلق عدد من الشخصيات المتحركة والتى تبدو أنها كرتونية مستمدة من أشرطة قديمة وليس من الواقع. لقد أنقذت جين فوندا نفسها من أن تكون أقرب الى الشخصية الكرتونية الشريرة بخلاف الكثير من الشخصيات الأخري، وبالتالى يمكن القول بأن الشريط جاء فى مصلحتها وكانت فيه المستفيدة الأولي. وبالطبع لا يمكن ان ننسى وجود إدارة تصوير جيدة، استطاعت نقل الأمكنة والمواقع البسيطة الى عالم احتفالى شاسع، كما فى تصوير الحفلة الأخيرة مثلا وكذلك الحركة على الشاطئ، رغم الملل المقترن بالتصوير الداخلي، وليس ذلك بغريب عن صاحب الاوسكار مدير التصوير رسل كاربنتر الذى اشتهر بشريط "تايتانك". اما المخرج روبرت لوكتيك فقد عرف بشريط "شقراء بالشرعية" وهو من الأشرطة الخفيفة، فضلا عن شريط "موعد مع تاد هاملوت" ومن الواضح هنا أن المخرج قد حافظ على محاسن ما هو موجود أمامه، من سيناريو يعتمد على التفاصيل، وتمثيل يميل الى الطبيعة، وموضوعه يطرح كما هو بدون مرجعيات نفسية وخلفيات اجتماعية ثقافية. فى المشهد الختامى وبموافقة الأم على زواج ابنها "كيفن" تطلب العروس "تشارلي" من الجميع البقاء خلف السيارة التى ستنطلق بها، على أن ترمى هى باقة الورد الكبيرة الخاصة بها من وراء ظهرها، وليكن من يستقبلها هو صاحب الحظ الوفير، وتقع باقة بين يدى الحماة. هناك إرسال وهناك استقبال، إذ أن الزواج ليس مشروعا بين شخصين، وكما يقول الشريط، هو أيضا تجميع لأواصر أوسع وأشمل وربط لعلاقات متجددة بين دوائر أقرب وأبعد، إنه حالة جماعية وليست فردية وثنائية. سيذكر الشريط متابعى السينما العربية، بالأشرطة التى تقدم فى إطار العلاقة بين الزوجة والحماة، وربما يعودون إليها بعد مشاهدة هذا الشريط، فهناك أوجه كثيرة للتشابه، إذ يمكن لجين فوندا ان تلبس اقنعة متعددة لمارى منيب وميمى شكيب ونعيمة الصغير ونبيلة السيد وغيرهن الكثير. وكما استقبلت تلك الأشرطة العربية المنتجة فى اطارها الاجتماعى فإن هذا الشريط يمكن ان يستقبل أيضا فى حدوده الفنية الدنيا وإطاره الاجتماعى المقبول. ويبدو تقريبا بأن الموضوعات تكاد تكون واحدة وان التنويعات هى دائما فى الشكل الفنى وطريقة تقديم الشخصيات وهذا يعنى أن علينا القول أن تكون جين فوندا حماة من نوع مختلف، مشكلتها ليس فى ابنها والمرأة التى تنافسها عليه، بل فى أن الابن هو آخر ما تبقى لها بعد أن انصرف عنها الجميع، أو انصرفت هى عن الجميع ان أهم ما يميز السينما العالمية يتمثل فى قدرتها على خلق الأدوار المناسبة لمن هم فى مرحلة عمرية كبيرة فى السن. ولهذا السبب تعود جين فوندا مثلما عادت فى السابق باربرا ستراينسد، وكانديس بيرجن، واليزبيت هومير، والبقية تأتي. الحياة اللبنانية في 15 يوليو 2005 |