سبيلبرغ بعد ١١/٩ ليس قبله ... الا قليلاً: الأرض «حرب العوالم» او جحيم دانتي على وجه البسيطة هوليوود - محمد رضا |
في اليوم الذي بوشر عرض «حرب العوالم» داخل أميركا ومعظم أنحاء العالم، بدأ المخرج ستيفن سبيلبرغ، تصوير فيلمه الجديد الذي لا يزال بلا عنوان والذي كان يعاينه منذ بضع سنوات حول عملية الموساد انتقاماً من العرب الذين قاموا بعملية ميونيخ سنة 1972 التي نتج منها قتل 11 رياضياً إسرائيلياً. ولدى سبيلبرغ أكثر من دافع لأن يحصّن موضوعه ويردأ عنه المعلومات الا تلك التي يقرّها بنفسه قبل أن يبّثها مكتبه في لوس أنجليس. فالموضوع الفلسطيني - الإسرائيلي ساخن جداً والماضي لم يمت والحاضر تكملة لما سبق. بكلمات وودي ألن مؤخراً: «هذا يقتل ذاك فينبري ذاك ليقتل هذا. إنه تاريخ العالم». طبعاً بين هذا وذاك هناك حقوق عربية مهضومة. هل يكون ستيفن سبيلبرغ أفضل من يضع نفسه بين الجانبين ليقرأ في التاريخ والواقع على نحو عادل؟ أم هل تشغله مسألة العدالة أساساً؟ ستتكاثر التأويلات حتى نهاية العام حين يتم إخراج الفيلم على عجلة لإلحاقه بعجلة الأوسكارات، لكن حتى ذلك الحين سبيلبرغ اليوم ليس سبيلبرغ السبعينات والثمانينات. إنه إنسان مسيّس. هذا ينطبق تماماً على فيلمه الجديد «حرب العوالم»: خيالي - علمي آخر حول كارثة تضرب الأرض بغية تدميرها وقتل من عليها إنما الجديد فيه أن سبيلبرغ لم يسبق له أن نظر الى الفضاء كمصدر للخطر: «إي تي» و«لقاءات قريبة من النوع الثالث» (كلاهما في الثمانينات) نظرا الى العالم الآخر الكبير المحيط بهذا الكوكب نظرة الملهم. من فيه من مخلوقات غريبة ليست هناك بدافع قتل أحد. إنها تبغي التواصل لأجل إقامة عالم أفضل وإنقاذ أهل الأرض من بعض من هم فيه. المركبة الكبيرة التي تحط بأضواء ساطعة محاطة بموسيقى من جون ويليامز وبتصاميم فريق إنتاجي مكلف، عكست تلك الغاية. الكاميرا من موقع منخفض والمركبة الضخمة ذات الشكل المستدير تحط على الأرض كما لو أنه إيذان بتاريخ ميلادي جديد. لكن هذا قبل ١١/٩. سبيلبرغ الجديد يحمل، كمعظمنا، نظرة داكنة لعالم متعثّر. واللقطة المشار إليها من «لقاءات قريبة...» مكررة في «حرب العوالم» معكوسة: الكاميرا من موقع تحتي تصوّر مركبة تخرج من تحت الأرض وتعلو. مركبة بلا أضواء في لقطة بلا تمجيد. «يحفرون داخل الأرض عميقاً منتظرين اللحظة الحاسمة للخروج والضرب» يقول أحدهم وهو يرقب بهلع ما يحدث. وبعد دقائق هناك تأكيد: هذه المخلوقات المدمّرة التي تمص دم البشر وتلفظه او - إذا لم يكن لديها وقت - نسفت الناس هباباً، لا بد من أنها عاشت تحت الأرض دهراً طويلاً قبل أن تخرج الى العلن لتدمّر. حسناً، ألم نسمع ذلك من ديك تشيني او جورج و. بوش في وصفهما لخلايا الإرهاب التي عصفت بالولايات المتحدة؟ ربما. لكن إبنة بطل الفيلم المواطن العادي راي (توم كروز)، تسأل في ذعرها المتواصل مما يحدث، «هل هم الإرهابيون؟» - مثل الفيلم - يقول لا ونعم. بعد قليل يسأله إبنه روبي (تشاتوين) السؤال ذاته فيهرب أيضاً من إجابة كاملة. إما أن راي لم يكن متأكداً بعد، أو أن سبيلبرغ يريد أن يدلو في السياسة. لكنه لا يريد أن يتكلم كثيراً. واحدٌ من مشكلاته المتوالية هي أنه حين يريد إبداء رأي سياسي فإن ما يخرج منه أحياناً، كما في «لائحة شيندلر»، قد يؤدي، كما لاحظ الراحل ستانلي كوبريك، عكس وجهته: «لم أشاهد فيلماً عن الهولوكوست، شاهدت فيلماً عن كيف استطاع بضع مئات النجاة منه»، قال كوبريك لكاتب سيناريو فيلمه الأخير «عينان مغلقتان باتساع». الخطر اختلف رواية هـ. ج. ويلز المنشورة عام 1898 كانت أوّل رواية تحدّثت عن دمار الأرض بفعل الهجوم عليها. ولو أن ويلز لم يكتب شيئاً عن خروج آلات عملاقة من تحت الأسفلت تنتصب على علو 50 متراً بل عن صحون طائرة (كما كنّا نسمّيها صغاراً) وهي تنقض على الأرض لتدميرها. سنة 1935 قدّم أورسن ويلز إداء أفضل من أداء توم كروز ولو من خلف المذياع إذ كان يقرأ في رواية ويلز والناس مذعورة تعتقد أن الأرض فعلاً تحت هجمة المرّيخ. وفي العام 1953 تمّت المحاولة السينمائية الأولى بفيلم حمل العنوان نفسه وأخرجه بايرون هاسكين وقام ببطولته جين باري الذي يلعب دور الجد في نسخة اليوم. آنذاك لامس الفيلم السياسة، فالخطر حينها لم يكن آتياً من «القاعدة» او سواها من منظّمات القتل بإسم الأديان، بل كان قادماً، حسب وضع سياسي مختلف، من الشيوعية. «حرب العوالم» نسخة 1953 شاركت أفلاماً أخرى من الخيال - العلمي في التحذير من الشيوعية المرموز إليها بمخلوقات السماء القادمة لتدمير الحرية والديموقراطية وإحلال الحزب الواحد. وأين الخلاص؟ جين باري يقود قبيلته الصغيرة من الناس الى الكنيسة التي تصمد في وجه الاعتداءات وتحمي من فيها. في «حرب العوالم» الحالي، لا كنيسة ولا شيوعية لأن الخطر إختلف. لكن سبيلبرغ لا يريد تحديد بديل ثابت. هناك فقط الإيحاء المفتوح بأن دمار الأرض على أيدي مخلوقات العالم الآخر ناتج من كره شديد لمخلوقات تبدو، هنا، فاقدة الغاية من وراء ما تقوم به. شعور المشاهد الأميركي الذي عايش ١١/٩ ليس سوى ما يستوحيه من عجز تجاه ما قد يحدث له في مثل هذه الحالات. «الثورجي» بحسب القصة هنا، جاءت المخلوقات من العالم البعيد ودفنت نفسها في الأرض صغيرة ثم - بعد مئات السنين - بعث المريخ بصواعق قوية تضرب الأرض في أماكن محددة فتخرج منها تلك الآلات العملاقة وما في داخلها من وحوش. راي، كما يؤديه توم كروز، تؤول له مسؤولية رعاية ولديه (الفتاة راشل وتؤديها داكوتا فانينغ والشاب روبي ويؤديه جستين شاتوين) وهو الذي طلّقته زوجته (ميراندا أوتو) لأنها وجدته غير قادر على حملها. طوال الفيلم نراه يجهد في سبيل حماية ولديه ضد ظروف قاهرة وفي عالم تحوّل في ساعات الى جهنم. في لحظات تضرب تلك الصواعق الغريبة الأرض وتخرج تلك الآلات العملاقة لتذيق الأميركيين الأمرّين. راي يخطف ولديه ويركب في السيارة الوحيدة التي لا تزال تعمل (الصواعق عطّلت كل الالكترونيات) وينطلق مبتعداً من المدينة قدر استطاعته. الملجأ اللاحق بيت خاوٍ في الضواحي لكن المنطقة تتعرّض الى دمار في تلك الليلة فتهرب العائلة مجدداً الى حيث حشد كبير من الناس كما يوم الحشر متوجهين الى سفينة نهرية كبيرة للهرب بها. القبطان يطلب من الجميع ركوب السفينة «هناك أماكن لكم جميعاً»، لكن حين تصل آلات الدمار يغيّر رأيه. على السفينة أن تبحر بمن عليها وتترك الباقين. مشهد فيه حس مؤلم لرجل يحاول تأمين ولديه ونفسه في اللحظة الأخيرة. لكن سريعاً ما يتبيّن أن مصير من على السفينة لا يختلف عن مصير عمن بقي على الأرض. وحوش الفضاء مبرمجة لقتل كل نفس بلا استثناء. لكن راي ينجو (عليه أن ينجو لأنه بطل الفيلم) ويتجه بولديه الى حيث تقع معركة كبيرة بين الجيش الأميركي والمخلوقات وولده روبي يصر على ترك أبيه ليشاهد المعارك او يشترك بها. راي وإبنته يقبلان دعوة رجل يعيش تحت الأرض للإختباء في منزله المؤمن بالماء والطعام. لكن الرجل (تيم روبينز) نموذج لـ «ثورجي» قديم. تعلم، إذا ما شاهدت نماذجه السابقة في فيلمي سبيلبرغ «الفك المفترس» و«جيروسيك بارك» بأنه سيموت بسبب منواله وقضاياه. وهذا يحدث لاحقاً، ليس على أيدي المخلوقات، بل بيدي راي الساعي لإسكاته قبل أن يفضح بأفعاله مكان وجوده. ذلك لا يمنع الوحوش من اكتشاف موقع راي وإبنته ونقلهما مع مجموعة بشرية متلاطمة في بطن تلك المخلوقات. هذه تسحب كل آدمي على حدة لتمص دمه ولولا أن توم كروز بطل الفيلم لانتهى على هذا النحو. لكنه ينجو وإبنته والحرب تنتهي بتصدّع تلك الروبوتس وموت وحوشها على نحو هو - في الوقت ذاته - ليس مفسّراً ولا مُمهّداً. وفي النهاية ها هو راي يعود بإبنته الى زوجته ووالدها (جين باري نفسه) ليكتشف أن ابنه أيضاً لا يزال على قيد الحياة. نهاية تحاول الحفاظ على حس يسير عكس اتجاه ما سبق من دون تبرير فعلي. علاقات عائلية سينما سبيلبرغ تقوم على البارانويا. في «مبارزة» (1971) أول فيلم عُرض له سينمائياً، ولو كان انتاجاً تلفزيونياً، روى قصّة موظف بسيط (دنيس ويفر) قاد سيارته الحمراء الصغيرة ذات مرة مختاراً طريقاً جبلية عوض الطريق السريع وما كاد يفعل حتى وجد نفسه مطارداً من شاحنة كبيرة لا تخفي رغبتها في دهسه وسيارته. الفكرة خلقت وحدها فيلماً مشوّقاً لكن سبيلبرغ من وقتها صاغ لنفسه هوى التعامل مع شخصيات عادية تجد نفسها عرضة الخوف المطلق مما لا تفهمه، تماماً كما الحال هنا. هذا لاحقاً ما تكرّر في «فكّان». ومن دون تقليب أفلامه، يمكن للمرء متابعة ذلك الخيال الجانح عملاً وراء عمل. في هذا الفيلم تبلغ الباراونويا أقصاها كون المخرج ينتقل من براءة الترفيه الذي مارسه في أفلامه الفضائية والخيال العلمي السابقة الى دكانته. على هذا التناقض المذكور هناك أمر واحد لا يزال على ما هو من بدايات سبيلبرغ الى اليوم وهو نظرة المخرج للتفكك العائلي. دنيس ويفر في «مبارزة» يترك زوجة غير سعيدة. رتشارد درايفوس في «لقاءات قريبة من النوع الثالث» هو الزوج المضطهد والمتهم من زوجته بالهوس. الخلفية العائلية لليوناردو دي كابريو في «أقبض عليّ إن استطعت» ليست أفضل حالاً بعدما تركت أمه أبيه بهمومه وفقره. توم كروز في «حرب العوالم» هو الزوج غير السعيد المتهم - في بعض المشاهد المبكرة - من زوجته بأنه ليس من يستطيع حمل مسؤولية. وبنظرة بانورامية تستطيع أن ترى الشرخ العائلي ممتداً في صلب معظم ما قدّمه من أفلام. فقط لو أنه يستطيع تجسيد ما يطرحه في هذا الشأن تجسيداً ذا معنى. هناك لقطة تصوّر الأم وهي تنحني فوق ابنها الشاب (تشاتوين) لتطبع قبلة على خدّه. في خانة الحسنات هناك القدرة الفائقة على صهر كل شيء في صياغة سبيلبرغ التي لا تعرف التردد او السقوط في المضجر. إذ يمنح المخرج ومدير تصويره كامينسكي (تاسع تعاون بينهما) الفيلم حسّا مناسباً جداً وألواناً داكنة حتى في وضح النهار، يديران فصلاً آخر بمهارة كبيرة. إنه حين يهرب راي وولداه في السيارة. الكاميرا منفصلة عن مقدّمة السيارة المنطلقة ثم تقترب منها، من دون مونتاج، لتلتصق على الزجاج الأمامي للسيارة لتقدّم ما يدور خلف المقود. مع نهاية دورها هذا، تنطلق الكاميرا مبتعدة في تحليق آخر مشابه للأول ومن دون قطع أيضاً. لا أعرف تماماً كيف صوّر سبيلبرغ هذا المشهد لكنه من تلك القليلة المشاهد التي تؤكد إمتلاكه لحرفة ماهرة ولحس إحداث ما هو مفاجئ من دون دعاية مسبقة كمشهد الجموع عند خط قطار. فجأة يسقط الحاجز لمنع الناس من التقدم فوق سكة الحديد ثم يمر قطار،لم نسمع له حفيفاً ولا سبقته لقطة له وهو يقترب من بعيد. قطار مسرع تخرج من نوافذه ألسنة النيران. الحياة اللبنانية في 15 يوليو 2005 |
د. رفيق الصبان يكتب بانبهار عن «حرب العوالم»: سبيلبرج يقدم أعظم مشاهد الخيال العلمي في السينما العالمية * المخرج يقدم شهادة ناصعة علي تفوقه التكنيكي.. وعلي ما وصل إليه مستوي الإبهار في السينما الهوليوودية في استفتاء أخير أجرته مجلة «امباير» الإنجليزية وهي واحدة من أكثر المجلات السينمائية شهرة في بريطانيا.. وأكثرها مبيعا.. حول أهم عشرة مخرجين طبعوا القرن العشرين بسينماهم وتركوا علي صفحاتها أثرا لا ينسي. وجاءت النتيجة حاملة اسم ستفن سبيلبرج الذي حصل علي أكبر نسبة من الأصوات متقدما علي هيتشكوك ساحر السينما الذي جاء بعده.. وعلي كثير من الأسماء اللامعة الأخري.. التي حصلت علي درجات متفاوتة كـ «ستانلي كوبريك» و«مارتن سكورسيس» و«اكيرا كيروسانا» (المخرج الأجنبي الوحيد بين مجموعة المخرجين الأمريكيين الذين فازوا بمجمع الأصوات) وبيتر جاكسون وسواهم. أعترف أني لم أكن في يوم من الأيام شديد الحماس لسينما سبيلبرج رغم اعترافي بتقنيته المتمكنة وقدرته علي التنوع.. واعترافي السافر بأنه واحد من قلائل المخرجين في العالم الذي حققت أفلامه أكبر أرقام عرفتها السينما في إيراداتها.. دون أن يتنازل لحظة واحدة عن رؤيته السينمائية البارعة التي تجعل من أفلامه كلها مدارس حقيقية للإخراج.. تجمع بين المتعة والالتزام الفني. كما يعجبني في هذا المخرج الذي استطاع أن يصل إلي القمة قدرته علي التنوع المدهش.. فهو مثلا قد قدم في فيلمه الأول الصغير «صراع» الذي يدور حول مطاردة سيارة شحن لا تري طوال الفيلم وجه سائقها.. سيارة صغيرة لا يعرف صاحبها لماذا تطارده هذه السيارة اللعينة بلا ذنب اقترفه حتي تحاول جاهدة قتله. هذا الفيلم الذي يحمل خلفية ميتافزيقية متمكنة وقدرة تقنية تقطع الأنفاس.. جعلتني اتتبع باتنباه وشغف مسيرة هذا الفنان الشاب.. وأعترف رغم النجاحات الهائلة التي حققتها أفلامه الأخري.. فإنني مازلت مسحورا مشدوها بهذا الفيلم الصغير الذي مازلت أعتبره حتي اليوم خير أفلامه وأكثرها عمقا ونضجا وكثافة. وجاءت أفلام سبيلبرج بعد ذلك.. تتوالي كالصفعات المدوية.. تفيقنا من سباتنا وتنبهنا بقصد أو غير مقصد عن الأخطار التي يمكن أن تحيط بنا أخطار خارجية وليدة مجتمع يتحلل وأخطار طبيعية تمثل هجوم الطبيعة الشرسة أو الحيوانات التي أطلقت من عقالها.. وأخطار خيالية تأتينا من عالم آخر لا نعرفه.. ولكن يمكن لخيالنا أن يتخيله وأن يضع حوله ما شاء من أوهام ونتائج. وجاء فيلم «الفك المفترس» ليكتب شهادة جماهيرية لا يمكن مجادلتها حول فن سبيلبرج السينمائي وقدرته علي جذب الجماهير وإخافتهم وتحذيرهم من خطر داهم قد يفتك بهم علي حين غرة.. إذا لم تتضافر القوي علي قهره. وقد اتبع سبيلبرج تصويره لهذا الخطر الطبيعي بأفلام أثارت الرعب والإعجاب وتعتمد علي الوحوش العملاقة التي انطلقت من عقالها لتهدد الإنسان والإنسانية كلها.. كما في «حديقة الديناصورات» بجزئيها.. والتي تعتمد علي فكرة صغيرة يقبلها المنطق سرعان ما تنقلب إلي كابوس مرعب يهدد حياتنا بل وجود الإنسانية كلها. في هذه الأفلام اعتمد سبيلبرج.. علي ذكاء حاد في السرد وعلي تقنية مشهودة لا يختلف عليها أحد. ولكن حس سبيلبرج السينمائي كان يدفعه لأن يخوض غمار تجارب سينمائية أخري أكثر إنسانية وذات أفق أكثر رحابة.. رغم النجاح المادي الهائل الذي حققته أفلامه عن وحوش الطبيعة.. وهكذا جاء فيلمه الملحمي «اللون القرمزي».. وهو من أكثر أفلامه جمالا وتأثيرا حول تاريخ الزنوج ومعاناتهم في أمريكا. كما جاءت نظرته السياسية المليئة بالفوضي في فيلم «مملكة الشمس» والتي توضحت بشكل سافر في قائمة شندلر» الذي توضحت فيه أيضا قدرته التكنيكية وإدارته للمجاميع بصورة لا تقبل الجدل. بل إنه استطاع أن يخلق لنفسه أسلوبا سينمائيا خاصا به في أفلام مغامرات قادتها شخصيتة ابتكرها بحذق وذكاء وضمنها بعض أفكاره السياسية والعامة وهي شخصية «انديانا جونز». ولكن قدرة سبيلبرج الحقيقية تجلت أخيرا في فيلمه الرائع الأخير «حرب العوالم» الذي حقق فيه البعد الإنساني المدهش الذي جعل من فيلميه «لقاء مع النوع الثالث» و«آي ـ تي» تحفتين لا تنسيان في تاريخ السينما. في «حرب العوالم» المأخوذ عن قصة للإنجليزي «هـ. ج. ويلز» سبق أن قدمت للسينما قبل ثلاثين عاما أو يزيد.. وقدمت في الإذاعة بشكل مبهر من خلال العبقري «أورسن ويلز». وها هو سبيلبرج.. يضع يده ولمساته عليها ليقدمها لنا في إطار يجعلنا نفتح أفواهنا دهشة وإعجابا واستمتاعا. القصة كما كتبها «ويلز» تروي بشكل خيالي هجوما منظما تقوم به كائنات فضائية أتت من مجرات أخري لسحق العالم الأرضي وسكانه.. من خلال وصف دقيق ومرعب أفاض مع المؤلف الإنجليزي ونقله المخرج الأمريكي الموهوب بشكل لم تعهده السينما.. رغم ما قدمته من أفلام كثيرة حول هذا الموضوع كيوم الاستقلال وسواه. الفيلم يبدأ.. بتصوير حياة البطل توم كروز الذي أثبت في هذا الفيلم نضجا فنيا غير معتاد.. والذي أضفي علي الشخصية رغم أنها ذات بعد واحد.. مدي إنسانيا وعاطفيا يهز المشاعر. توم كروز يعيش وحيدا بعيدا عن طليقته وولديه الذي يكتفي برؤياهم مرة واحدة في الشهر.. ويوضح الفيلم منذ بدايته عدم تعلق الأولاد بأبيهم وعدم تعلقه الشديد بهم.. توحي لنا بداية الفيلم أننا أمام فيلم اجتماعي.. يدور حول علاقة الأبناء بأهلهم في حالة وقوقع الطلاق والمصاعب التي تواجههم لكي يتلاءموا.. مع حياتين أصبحتا مختلفتين تماما.. حياة الأب والأم. ولكن سبيلبرج سرعان ما يوقظنا من وهمنا الصغير.. ليضعنا مرة واحدة أمام الكارثة الآتية من السماء.. والتي تظهر في البداية علي شكل برق ورعد وإعصار.. لم تعهده المدينة من قبل أن يصل إلي واحد من أخطر وأعظم مشاهد الخيال العلمي في السينما.. وهو تشقق الأرض عن فجوة هائلة.. لتظهر علي السطح.. مركبة فضائية تصب نيرانها علي الجميع وتسبب الدمار والموت.. لا يمكن وصف هذا المشهد الذي لا يمكن لمن رآه أن ينساه والذي سيظل منقوشا في ذاكرة رواد السينما لسنين طويلة. وتبدأ المعركة النارية غير المتكافئة.. بين مركبات ووحوش فضائية تهاجم البشر بلا رحمة وتحاول إبادتهم وامتصاص دمائهم.. بطريقة لا يمكن لأحد الإفلات منها أو مقاومتها.. مخالب حديدية متحركة.. نيران مشتعلة.. كائنات عملاقة تسير علي أرجل ثلاثة وتنفث الموت في كل خطوة.. وبشر لا يعرف كيف يدافع عن نفسه بعد أن عجزت كل أسلحته وكل أدوات دفاعه عن صد هذا الهجوم الكاسح. وتتوالي مشاهد الهرب والنجاة بالنفس.. والبيوت المدمرة.. والنيران التي تأكل كل شيء. ويقدم سبيلبرج في هذه المشاهد شهادة ناصعة علي تفوقه التكنيكي العالي.. وقدرته علي تحريك المجاميع بصورة قل أن شاهدناها في السينما. وأذكر علي سبيل المثال الهرب الجماعي من المدينة.. ومحاولة اللحاق بالحركة للهرب إلي الجهة الأخري من النهر.. ثم انهيار المركب بركابه إثر هجوم بحري غير متوقع. أو اللجوء إلي كهف يقبع فيه إنسان حكيم نصف مجنون يتكلم بوحي غريب يضفي علي الموقف كله بعدا شعريا مأسويا مختلطا بالدم والموت والدمار. في كل هذا السيل من المشاهد المدهشة التي تقطع الأنفاس ينجح سبيلبرج بتفوق بالإمساك بالخط الإنساني الرفيع الذي انبثق من علاقة الأب بأبنائه (وهما طفلة في العاشرة تؤدي دورها بإبهار طفلة صغيرة ينتظرها مستقبل كبير.. وممثل مراهق تتلألأ موهبته بوضوح) واكتشاف كل منهما أن الرابطة القوية التي تربطهما مازالت كامنة في الأعماق. وإن كانت الظواهر تدل علي غير ذلك.. ولكن الخطر المحدق جعل الأب يحس بمدي حبه لأبنائه والأبناء يحسون بمدي حاجتهم لأبيهم. هذا التوازن بين العاطفي وبين المبهر.. وبين الخيال العلمي والواقع الاجتماعي.. والذي كان السبب الأكبر بنجاح «آي ـ تي».. استطاع سبيلبرج بفيلمه الجديد أن يعمقه وأن يزيده اشتعالا.. وأن يبرهن أن التكنيك العالي الذي توصل إليه في «قائمة شندلر» قد زاد عمقا وفعالية وتأثيرا.. كالخمر المعتقة. الحديث عن «حرب العوالم» لا يفيد.. مهما كان خيال الكاتب.. فهذا فيلم خلق لكي يشاهد والمشاهدة وحدها هي المحك الحقيقي للحكم علي الفيلم أكثر من مئات الكلمات المرصوفة.. ولعل هذا الدرس الجديد الذي يقدمه لنا سبيلبرج يؤكد إلي أي مدي وإلي أي حد.. وصلنا في «زمن الصورة» الذي نحياه. جريدة القاهرة في 19 يوليو 2005 |