السندريلا في أحضان اليسار السينمائي المصري |
· تأسس التيار اليساري في استوديو مصر وتحول إلي شلة تتخذ من مطعم «الجمال» مقرًا لها.. وكان من نجومها صلاح أبو سيف الذي أسند لـ «سعاد» دورًا في «البنات والصيف» ليجذبها إلي الشلة · أراد الخميسي أن ينتقم منها بعد زواجها من علي بدرخان فكتب حلقات عن قصة اكتشافه لها مليئة بالإساءات.. فأوقف يوسف السباعي نشرها من المؤكد أن انطلاقة سعاد حسني في دور «نعيمة» في فيلم بركات «حسن ونعيمة» قد أحدثت هزة في الأوساط السينمائية، كانت بمثابة حجر ألقي في بركة من المياه الراكدة. وصنع دوامة من الأمواج، وبصرف النظر عن التقييم الفني النقدي للفيلم، وكان تصنيفه عندي أنه دراما غنائية ريفية، لم تخرج كثيرا عن المسلسل الإذاعي المسموع وأنه ترجمة حرفية للمسلسل الإذاعي وأحداثه.. وكان واضحا منذ أول لقطة أنه فقير في ميزانيته، فقير في ثرائه الريفي وأزيائه الفلاحية، ونجومه ذوي الشهرة الإذاعية الأكبر من شهرتهم علي الشاشة مثل محمود السباع ومحمد توفيق وحسن البارودي وغيرهم، وكانت الإضافة السينمائية الوحيدة في «حسن ونعيمة» أنه قدم للشاشة وجها جديدا فيه إمكانية التحول إلي نجمة هي سعاد حسني ومطربا جديدا، مصري الملامح، يختلف كثيرا عن مواصفات المطرب السينمائي هو محرم فؤاد.. مانت سعاد حسني كـ «نعيمة» كما رآها بركات، أشبه بأوفيليا في «هاملت» شكسبير، تلك الفلاحة الساذجة، أو بتصوير أدق تلك الفراشة الحائرة في دائرة اللهب الذي يوشك أن يحرقها، وأبرز بركات هذا جيدا في حركة «نعيمة» كطيف ونبرة صوتها الطفولي المذهول من الحقائق التي تكتشفها الشخصية واحدة بعد أخري وارتجافة الحب وهي تلتقي لأول مرة بصوت المغني المتجول بين القري «حسن» بكل ما فيه من حنان ووعد بدفء الحب، ثم «اندهاشه» لحظة اكتشاف الحب والغرق في ثناياه، وفي رأيي أنه لا مجال علي الإطلاق للمقارنة بين «حسن ونعيمة» وتحفتي هنري بركات «دعاء الكروان» و«الحرام» ذوي الطابع الريفي الفلاحي أيضا، ولا مجال للمقارنة علي نفس المستوي بين دوري سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة.. «آمنة» و«عزيزة» وبين بداية سعاد حسني وانطلاقتها السينمائية في دور «نعيمة» رغم أن المنفذ واحد هو هنري بركات.. وكما قلت، كان ظهور سعاد حسني، حدثا علي الساحة السينمائية، ويختلف كثيرا عن ظهور وجوه نسائية عديدة لم تحرك موجا ولم تصنع دوائر في وجه البركة الراكدة مثل آمال فريد ومني جبر وزيزي البدراوي، وحتي إيمان التي اعتبرت نجمة فلم تلبث أن تركت زوجها فؤاد الأطرش وتزوجت من رجل أعمال ألماني واعتزلت، وإن كان هناك عامل مشترك في كل هذه الوجوه فهو أنهن شاركن عبدالحليم حافظ بعضا من أفلامه الغنائية، وهذا قد فعلته أيضا سعاد حسني في مرحلة تالية بظهورها في إحدي قصص فيلم «البنات والصيف» التي اشترك في إخراجها ثلاثة من المخرجين هم فطين عبدالوهاب وصلاح أبو سيف وكمال الشيخ. اليسار.. السينمائي المصري كيف نشأ ما يمكن أن يسمي «اليسار السينمائي المصري» أو بمعني أبسط وأوضح أصحاب الفكر الذي نقل السينما المصرية من قصور «الباشوات» وقصص الحب والحياة في هذه القصور في أحياء القاهرة الراقية إلي أزقة وحواري الأحياء الشعبية.. واختاروا نماذجهم وأنماطهم من الفقراء البسطاء في الحارة المصرية، وجعلوا منهم نجوما وأبطالا علي الشاشة، وجعلوا الفيلم السينمائي يتجاوز مراحل ميلاده الأولي، و«ابن الباشا» الذي يحب فتاة من بيئة فقيرة ويهدده أبوه بحرمانه من الثروة والجاه والقصور إذا لم يرجع عن هذا الحب، أو «بنت الباشا» التي تقع في غرام شاب من بيئة فقيرة وتلاقي نفس التهديد من أبيها الباشا إذا تمادت في حبها.. لكن الأمور بكل بساطة كانت تصل في ختام الفيلم إلي نهاية سعيدة يتزوج فيها البطل البطلة. هذه المجموعة التي حملت صفة «اليسار» كانت واحدة من مكاسب ستوديو مصر، بعد أن أنشأ طلعت حرب «شركة مصر للتمثيل والسينما» في بداية الثلاثينيات، وبعد إنشاء الاستوديو اختار شابا حمل صفة المغامر، إذ عاد يقود طائرة من العاصمة الإنجليزية لندن إلي مصر، و«ابن ذوات» تحيطه الشهرة هو أحمد سالم مديرا للاستوديو، وعلي الرغم من أن كثيرا من الأمور الرئيسية كانت في أيدي الأجانب أغلبهم من الألمان مثل المخرج فريتز كرامب الذي أخرج أول أفلام كوكب الشرق أم كلثوم «وداد» بعد أن كان المخرج المصري أحمد بدرخان هو المخرج المختار من الاستوديو وبدأ بالفعل في إخراج مشاهده الأولي، رغم هذا فقد حرص طلعت حرب وأحمد سالم علي اختيار مجموعة من الشبان المثقفين ليكونوا نواة للقادة في الاستوديو، فعين المخرج العائد من دراسة في ألمانيا نيازي مصطفي رئيسا لقسم «المونتاج» وضم إليه كمال الشيخ وصلاح أبو سيف، ووفيقة أبو جبل والنجمة كوكا التي تزوجها نيازي وأصبحت بطلة في أفلامه، وفي إدارة الإنتاج عمل محمد رفعة ومحمد رجائي وحلمي حليم وأنيس حامد، وكان قسم الإخراج يضم كلاً من كمال سليم وأحمد بدخان وكامل التلمساني.. وعندما بدأ كمال سليم مشروعه الإخراجي الأول وكان فيلم «العزيمة» الذي اعتبر الميلاد الحقيقي للسينما المصرية، تجمع حوله هؤلاء المثقفون المصريون فيما يشبه النبرة القومية العالية.. ساعدوا في كتابة وبلورة السيناريو لكي يأخذ شكله النهائي وساعدوا كمال سليم كمساعدي إخراج، ورفعوا شعار «الفكر في السينما والواقعية في التناول»، وأجمعوا علي أن تكون «الحارة المصرية» هي البلاتوه الحقيقي لفيلم «العزيمة» وجسدوا «الحارة» في ديكور لحارة شعبية واقعية. ولا مجال الآن للاستفاضة في تفاصيل وأحداث تنفيذ فيلم «العزيمة»، لكن هذه المجموعة نجحت حول كمال سليم في فرض واقع مصري علي الشاشة المصرية، وعندما انفرد كل منهم بالعمل علي امتداد السنين بعد رحيل كمال سليم وهو يستعد لإخراج فيلم «ليلي بنت الفقراء» حلم فكره اليساري الاجتماعي فيما قدمه.. وأصبحوا روادا لما نسميه «السينما الاجتماعية الواقعية». السندريللا.. وشلة الجمال مجموعة استوديو مصر هذه ـ وقد كنت واحدا منها في منتصف الخمسينيات ـ عندما ظهرت سعاد حسني في «حسن ونعيمة» كانت دائما علي لقاء يومي في مشرب جانبي ملحق بمطعم «الجمال» أسفل البناية التي تحتل نقابة السينمائيين الطابق الثاني منها في شارع عدلي، وكان الوسط السينمائي يطلق عليها اسم «شلة الجمال».. أعضاء الشلة حلمي حليم وعلي الزرقاني صاحبا فكرة فيلم «صراع في الوادي» الذي أخرجه يوسف شاهين.. والثنائي الذي أعاد تقديم الحارة الشعبية بصورة واقعية رومانسية في فيلم «أيامنا الحلوة» وكمال الشيخ الذي نجح في أن يقدم أول أفلامه المتميزة علي الشاشة وهو فيلم «المنزل رقم 13» وفطين عبدالوهاب الذي كان مساعدا لـ«أحمد سالم» في فيلم «الماضي المجهول» ثم تشارك هو وكمال الشيخ في إخراج فيلم درامي ثقيل اسمه «عبيد المال» لكنه لم ينجح، وعندما تحول إلي الكوميديا السينمائية أصبح فارسها الأول وبالطبع هنري بركات صاحب «حسن ونعيمة» والتاريخ الطويل الحافل وصلاح أبو سيف الذي حمل لقب «أبو الواقعية في السينما».. وكان من الطبيعي أن تصبح سعاد حسني هي الحدث الرئيسي الذي يدور حوله النقاش.. كانت رؤية بركات هي الأساس المحوري، لكن حلمي حليم كان الأكثر حماسا وترجم هذا الحماس بإشراكها مع سميرة أحمد وصباح في فيلم «3 نساء».. بينما تحمس صلاح أبو سيف لإعطائها البطولة أمام عبدالحليم حافظ في واحدة من ثلاث قصص بعنوان «البنات والصيف» كتبها إحسان عبدالقدوس وأخرج القصتين الثانية والثالثة فطين عبدالوهاب وكمال الشيخ. وبهذين الفيلمين دخلت سعاد حسني دائرة الضوء إلي أن قذف بها علي الشاشة فطين عبدالوهاب. في فيلم «إشاعة حب» وسط عمر الشريف ويوسف وهبي وهند رسم وعبدالمنعم إبراهيم في خطوة إلي النجومية الحقيقية. وبدأت أفكارها تتشكل وسمات الثقافة تتكون عند سعاد حسني كحصيلة للتجربة مع أسميناهم أصحاب اليسار السينمائي المصري. يوسف السباعي والسندريلا والقديس قلت فيما أسلفت أن «القديس» عبدالرحمن الخميسي كان ظاهرة متفردة في حياتنا الأدبية والفنية والصحفية والسياسية أيضا، بصوته الجهوري الذي يذكرني دائما وأبدا بشاعر الربابة في شادر ريفي وهو يتغني بقصائد عنترة العبسي، ورومانسيته التي تصل أحيانا إلي أن يضع صورة آخر حبيباته من الصبايا اليافعات في ميدالية تتدلي من صدره، وقد احتلت صورة السندريللا فترة هذه الميدالية علي صدر القديس، وكان في آخر لقاء لي معه في مؤتمر الأدباء العرب في بيروت عام 1972 ـ وكان يعيش وقتها في بغداد ـ يضع في الميدالية صورة حبيبة عراقية جميلة يافعة. طيب الله ذكري الصديق الراحل عبدالرحمن الخميسي، عندما عُين الكاتب الكبير يوسف السباعي رئيساً لمجلس إدارة مؤسسة دار الهلال ورئيسا لتحرير «المصور» كنت نائب رئيس تحرير مجلة «الكواكب» ولم يضيع القديس وقتا.. كانت سعاد حسني علي القمة وقتها وتزوجت المخرج الشاب علي بدرخان بعد قصة حب مشهورة في زفاف تحدث عنه الوسط السينمائي في شهور، وجاء الخميسي لمكتب السباعي مهنئا وعارضا أن تنشر له «الكواكب» في عشرين حلقة قصة اكتشافه وتقديمه لـ«سعاد حسني» وإطلاقها علي الشاشة.. وكانت في تلك الفترة قد قدمت بنجاح قصة السباعي الشهيرة «نادية» من إخراج أحمد بدرخان وكتبت شهادة نجوميتها كنجمة تتركز حولها الآمال، وفوجئت بما كتبه الخميسي محولا إلي من السباعي للنشر في «الكواكب» وهو خالص الثمن ومدفوع قيمته مقدما قبل النشر لـ«عبدالرحمن الخميسي».. وأقول الحق، كانت سعاد في بؤرة الضوء، وكان عشاق السينما يتلقفون أخبارها وكل شيء ينشر عنها بحماس زائد ولهفة، واقتنعت بأن قصة اكتشافها وتقديمها للمسرح ثم للشاشة، ومراحل إعدادها يمكن أن تكون حدثا صحفيا متفردا، وبدأت حملة ترويجية لمسلسل «اكتشاف سندريلا الشاشة» علي صفحات «الكواكب» وصفحات مجلات الدار الأخري.. ثم بدأت النشر بعد عدة أسابيع. مرت الحلقة الأولي من مسلسل الخميسي بسلام علي صفحات «الكواكب»، فقد كانت في مجملها تتحدث عن طفولة سعاد وصداقة الخميسي بزوج أمها، واكتشافه أنها بنت موهوبة، لمعت في مدرسة «بابا شارو» الإذاعية وبرزت بأغنية مميزة هي «أنا سعاد أخت القمر» إلي أن اختارها الخميسي لمسرحيته «نجفة بولاق» وبدأ يصف الأحداث اليومية التي كانت تجمعه بـ«سعاد» خلال الإعداد لفترة المسرحية. لم أكن أتصور أن فيما يرويه الخميسي عن قصة اكتشاف سعاد حسني فيه مساس علي الإطلاق بـ «سعاد» كإنسانة وزوجة لمخرج شاب يوشك أن يبدأ رحلته السينمائية هو علي بدرخان.. إلي أن فوجئت بمكالمة تليفونية من يوسف السباعي، كنت بالفعل قد فرغت من «مونتاج» العدد الجديد من «الكواكب» وكانت صفحاتها في الطريق إلي المطبعة، وتأخذ مراحلها الأخيرة.. كان اليوم «جمعة» وكنت قد أزمعت الخروج من البيت، لكن السباعي قال لي: أستاذ عبدالنور.. من فضلك تنزل علي الدار الآن، ستحضر إليك سعاد حسني لأن الخميسي يبدو قد كتب عبارات تسيء إليها.. أوقف مونتاج المجلة، واقرأ معها ما كتبه الخميسي واشطب كل ما تراه هي أساءة إليها». أن تأتي سعاد إلي دار الهلال، لم يكن شيئا جديدا، فما أكثر ما جاءت إلينا في «الكواكب»، لكنها كانت كما قلت «عروسة» في بؤرة الضوء وكان يسندها إلي ذراعه «عريسها» الأكثر شبابا علي بدرخان.. واجتزت وهما معي الباب والسرداب الطويل الذي يفصل طوابق التحرير عن المطبعة، وعندما دخلنا صالة المونتاج استقبلتنا مظاهرة من كل عمال المطابع والفنيين في الدار.. وقدتها إلي صفحات المونتاج التي أعدت لصفحات «الكواكب»، وأضاء العمال موائدها لكي نتمكن، أنا وهي وعلي من قراءة صفحات حلقة الخميسي.. اكتشفنا فعلا أنه يذكر أنها كانت «أمية» لا تقرأ ولا تكتب، وأنه اضطر أن يوكل بتعليمها «فك الخط» إلي الممثل إبراهيم سعفان عضو فرقته المسرحية ومدرس اللغة العربية في أحد المعاهد الدينية، وكانت هذه «الواقعة» واحدة مما اعترضت علي نشره.. وبعض «الوقائع» الأخري اعتبرتها واعتبرها علي بدرخان لا يليق نشرها لأنها تتناول البيئة والوسط الاجتماعي الذي نشأت وتربت فيه.. نفذت تعليمات يوسف السباعي بالحرف، وحذفت كل ما اعترضت عليه سعاد حسني، ودبرت عدة لقاءات معها وزوجها علي بدرخان ليقرأ ثلاثتنا معا حلقات عبدالرحمن الخميسي ونحذف ما يسيء إلي سعاد منها. إلا أن عبدالرحمن الخميسي عندما ذهب يقيم في بغداد بدعوة من الرئيس المخلوع صدام حسين، ذهب يزور الكويت، وحمل المخطوط الأصلي الذي كتبه عن قصة اكتشاف سعاد حسني وباع حلقاته لتنشر في إحدي صحف الكويت اليومية ولم تملك سعاد وقتها، بل لم تجد وسيلة لحذف أو منع ما يسيء إليها من وقائع.
جريدة القاهرة في 12 يوليو 2005 |