ولادة .. صياغة حديثة لأسطورة العودة الأبدية بقلم / إبراهيم الملا |
بعد فيلمه الأول وحش جذّاب الذي رٌشح لجائزة ألكسندر كودرا كأفضل فيلم بريطاني، ها هو المخرج "جوناثان جليزر" يكشف في فيلمه الثاني ولادة عن أسلوب إخراجي خاص وعن موهبة متفرِّدة، كما أن الفيلم نفسه يكشف عن حساسية بصرية عالية في اقتناص اللحظات الإنسانية المعبِّرة عن الدواخل وما يعتمل فيها من عواطف متناحرة وهواجس تتصادم فيها الغرابة القصوى للظواهر الميتافيزيقية مع الواقعية الباردة لحياة تمضي بلطف على مستوى أفقي واعتيادي. تبدأ المشاهد التأسيسية في الفيلم بلقطة علوية ممتدة وطويلة لشخص يمارس رياضة الجري وسط غابة شتوية كئيبة وخالية تقريباً من أية بهجة، تنسحب الألوان تدريجياً من هذه اللقطة المستمرة بحيث يتحول الرجل الراكض إلى جسد داكن ووحيد وسط أشجار سوداء وطقس رمادي قاحل، يسقط الرجل ميتاً فجأة تحت جسر معتم، وتغزو الشاشة ظلمة كاملة ثم تظهر عبارة: "بعد سنتين"، يفتتح المشهد التالي على لقطة لامرأة في أواسط العمر "آنا" الدور الذي تلعبه "نيكول كيدمان" وهي تنظر بانكسار لشاهد قبر مطمور حتى وسطه في الثلوج، تتحرك المرأة باتجاه سيارة بداخلها رجل، تمسح دموعها وتقول للرجل وهي شبه مبتسمة: "أعتقد أنني انتهيت من الماضي".. نكتشف أن الرجل هو خطيبها الجديد جوزيف - "داني هيوستن" - الذي حاول كثيراً انتشالها من ثقل الذكريات الأليمة التي لم تستطع تجاوزها بعد رحيل زوجها "شون". إيحاءات داكنة بهذه المشاهد التأسيسية يبدأ المخرج بإقحامنا منذ البداية في مناخات شبيهة بما تعكسه اللوحات الانطباعية والتي توحي عادة بالكثير من المعاني المطمورة خلف اللوحة وخلف المشهد، وبالكثير أيضاً من الإيحاءات الداكنة التي تنتظرها الأحداث القادمة في الفيلم. فالمشهد التالي كان يمهد ببطء للتوليفات الغرائبية المحتملة، حيث نرى صبياً صغيراً بملامح حادة وجامدة "شون" – "كاميرون برايت" - وهو يلهو بصمت كبير قرب أحد المصاعد، يدخل بعض الأشخاص في الكادر وهناك امرأة تحمل في يدها هدية ولكنها تبدو متوترة وقلقة جداً بحيث تنسحب من المكان وتجري إلى الخارج ثم تقوم بدفن الهدية تحت أحد الأشجار وتعود بهدية أخرى جديدة، يصعد الطفل المصعد ويرافق أشخاصاً لا يعرفهم ونجده فجأة وسط حفل عائلي يخصّ أسرة "آنا" - يظهر الطفل الغريب وسط المحتفلين وينادي على "آنا" كي يخبرها بأنه يجسِّد روح زوجها الراحل شون - وان الاسم المتشابه الذي يجمعهما ليس مجرّد صدفة ثم يحذرها من الزواج من خطيبها الجديد! تتعامل "آنا" وأسرتها مع الموضوع وكأنه مزحة، ولكن مع مرور الوقت يقوم الطفل بكشف تفاصيل خاصة وسرّية بين آنا وزوجها الراحل ما يدُخل الفيلم في منعطفات ذاتية خطرة تمسّ الجميع ابتداء من "آنا" نفسها والتي تصاب بنوع من الشرخ الذاتي والانفصال المربك بين واقعها الجديد وبين ماضيها المكدّس في النسيان. وكذلك من خطيبها الذي تنتابه مشاعر الغيرة الغامضة، وانتهاء بوالدة "آنا" - قامت بدورها الممثلة المخضرمة "لورين باكال" والتي تشعر بدورها أن هذا الطفل سيتحول إلى مصدر شؤم وسيقوم بتقويض كل الترميمات النفسية التي قامت بها العائلة من أجل لمّ الشمل وعودة الروح والاستقرار لأفرادها. مزج الغرابة بالواقع منذ تلك اللحظة العاصفة والرهيبة لدخول هذا الطفل في حبكة الفيلم يبدأ المخرج بالتقاط كل القفازات الجمالية والبصرية التي لا يمكن تخيلها، يبتعد المخرج أولاً عن أية معالجة أسلوبية يمكن لها أن تقحم الفيلم في مناخات مرعبة، رغم أن الثيمة الأساسية للفيلم "طفل تتقمصه روح شخص غائب" قد تحيل مباشرة لفكرة فيلم رعب تجاري ورخيص عن تناسخ الأرواح! وإمعاناً في إنقاذ الفيلم من أية تأثيرات تقليدية ومكررة يلجأ المخرج - اعتماداً على السيناريو المتقن والمُفارق - إلى أسلوب التذويب الساحر والمزج العفوي وغير المُلاحظ بين الغرابة وبين الواقع، بحيث لا يشعر المتفرج باستقلالية أي منهما عن الآخر، وسيكون وجود الطفل الذي تتقمصه روح إنسان غائب هو أقل الظواهر غرابة مقارنة بما يحفل به الواقع الملموس وما تحفل به الشخوص الحقيقية من جراحات وآثام وتقلبات وشرور وظلال داخلية مهشّمة ومفتتة لا تعكس أبداً المظهر المتماسك والوقود والصلب الذي يمثله هذا الواقع وهؤلاء الشخوص. الحرب اللامرئية ولترجمة هذا الجوّ العام من الحرب اللامرئية بين الداخل والخارج يلجأ المخرج - وبتمكّن واعٍ وبحساسية فنية وإبداعية واضحة - إلى استخدام اللقطات المٌقربة والطويلة زمنياً، خصوصاً على الوجوه التي تعيش حالة صراع داخلي عميق ومدمّر بحيث تتحول كل لقطة إلى درس جمالي وتعبيري يحيلك مباشرة إلى اللوحات الانطباعية التي أنتجها فنانون كبار مثل رافاييل وفان جوخ والفنان السويسري "مونش" المحتشدة لوحاته بالصراخ المنكتم والذعر المحفور في الداخل والمنعكس على ملامح بشرية ذائبة ومسلوبة. يذكّرنا هذا الفيلم أيضاً بالأساليب الفنية للسينما الروسية القديمة التي تعطي اللقطة حقها وتشبعها بالدلالات وبعمر كامل وتفاصيل جارفة بحيث تتحول بعض اللقطات إلى أفلام مستقلة في نسيج الفيلم الأصلي، يمكنك في فيلم "ولادة" أن تستشعر أيضاً أسلوب المخرج الروسي "الكسندر سوخوروف" صاحب الفيلم التحفة "الأم والإبن" وصاحب الفيلم الإعجازي "قوس روسي" الذي خلا من أي قطع في اللقطة طوال ساعة ونصف هي مدة الفيلم! خفايا وتفاصيل قبل أن يبدأ فيلم "ولادة" نستمع لعبارات صادرة من صوت مجهول على شاشة داكنة يقول هذا الصوت: "لو ماتت زوجتي، وبعد فترة من الزمن حطّ طائر على نافذتي وقال لي: "أنا روح زوجتك" لصدقته وعشت معه..!" ثم تصدر قهقهة من صاحب الصوت ذاته ويعقِّب: "لا.. لا يمكن أن يحدث ذلك، وأنا كمحاضر في علوم الفيزياء لا يمكن أن اصدق هذه المزحة!".. ثم نسمع صوت الطلبة وهم يضحكون، وكل ذلك على خلفية سوداء تهبط عليها تترات وعناوين البداية. نكتشف في سياق الأحداث اللاحقة أن هذا الصوت هو لـ (شون) زوج (آنا) قبل أن يموت وحيداً تحت جسر معتم في غابة سوداء وباردة. مثل هذه المداخل التمهيدية المبهجة لابد وأن يسيطر عليها سيناريو قادر على الموازنة بين الخيال المطلق وبين الواقعية القصوى، في هذا الفيلم يحدث ذلك وبشكل ناجح ومتماسك ومتقن، لأنه لو تم إتباع الخطوط العامة للقصة بحذافيرها وبمعطياتها الظاهرية فإن مصير الفيلم سيذهب بالتأكيد نحو الفشل، ولكن عندما يوجد كاتب مثل "جان كلود كارييه" من ضمن المشاركين في صياغة سيناريو هذا الفيلم، فإن هذا الاسم بحدّ ذاته سوف يغويك بشدة للبحث عن الفيلم، فـ "كارييه" هو كاتب سيناريو عريق وصاحب السيناريوهات الهامة التي رافقت أفلام الراحل الكبير "لويس بونويل" وعلى مدى عقدين من الزمان. الغموض الهادئ أما وجود "نيكول كيدمان" ضمن طاقم التمثيل فلابد أنه أضفى على الفيلم مسحة من الغموض الهاديء والمتوازن الذي يشرح الانفعالات الداخلية دون تصنع في الأداء ودون مبالغة في ردّات الفعل، تثبت "نيكول" فيلماً بعد آخر أنها بلغت مرحلة عالية من النضج الفني والمهني، سواء فيما يخصّ اختياراتها النوعية لأفلام مستقلة وذات ميزانيات منخفضة، وثانياً لقدرتها الكبيرة في الاستحواذ على خفايا وتفاصيل الشخصية المكتوبة على الورق وتمكنها من ضخّ شحنات تعبيرية إضافية للشخصية وبشكل ارتجالي وعفوي وعميق أيضاً. نتذكر هنا أفلام "كيدمان" الأخيرة مثل "الآخرون" و"جبل بارد" وفيلم "ساعات" الذي أدت فيه دوراً مذهلاً بتجسيدها شخصية الروائية البريطانية "فيرجينيا وولف" في الساعات الأخيرة قبيل انتحارها. فيلم "ولادة" هو عموماً فيلم يتناول الأسئلة الحائرة في الوجود وتلك العواطف الغامضة والأحاسيس غير المفسرة التي يمكن أن تضع المرء على حافة الانهيار الكلِّي كما يمكنها في المقابل أن تمنحه الإيمان المُطلق بالخلاص. الإتحاد الإماراتية في 4 يوليو 2005 |
فرانسوا «حسن» غيرار: رجل الظل الذي يطلبه النجوم باريس - نبيل مسعد يلقبونه في الوسط السينمائي الفرنسي بالرجل ذي الطاقية الحمراء بسبب إرتدائه هذه العلامة المميزة في شكل دائم وأينما تردد، وإسمه في الواقع حسن غيرار أو فرانسوا «حسن» غيرار بحسب الحالة، وهو جزائري مقيم في باريس منذ طفولته وبدأ نشاطه المهني ممثلاً في أفلام خفيفة من نوع المغامرات قبل أن يشعر بأن لديه موهبة ثانية غير التمثيل وهي ممارسة العلاقات العامة فبدأ يمارس هذا النشاط لحساب شركات توزيع الأفلام. بمعنى أنه أصبح بمثابة همزة الوصل بين الفيلم الواحد وأجهزة الإعلام التي ترغب في مشاهدته قبل نزوله إلى الأسواق، ثم إجراء الأحاديث مع أبطاله أو مخرجه. عندما كوّن غيرار لنفسه سمعة طيبة في الوسط السينمائي قرر اضافة نقطة جديدة إلى عمله وهي تسخيرها في خدمة الأفلام المصنوعة من مغتربين وبخاصة العرب منهم في فرنسا، والتي لا تتمتع بإمكانات مادية تسمح لها بمس الإعلام وبالتالي الجمهور العريض مثلما يقدر على فعله أي فيلم في الظروف العادية. فكم من فيلم جيد ولكن «فقير» نزل إلى صالات العرض من دون أي حملة دعائية تسبقه واختفى في ما بعد بسرعة البرق بسبب قلة المتفرجين. والذي فعله حسن هو بذل الجهود المضاعفة بصرف النظر عن الأجر الذي يتقاضاه حتى يلفت أهل الإعلام الذين يعرفهم جيداً إلى وجود هذا الفيلم أو ذاك. ومع مرور الزمن نجحت خطته الإعلامية وأصبحت الأفلام التي يخرجها مالك شيبان ورشيد بوشارب ومالك بن سعيد ورشيدة كريم وغيرهم تعثر على أعمدة فوق الصفحات المخصصة للسينما في الصحف والمجلات، وحتى البرامج التلفزيونية الفرنسية استقطبت بالتالي فئة جماهيرية لا بأس بها صارت تتردد إلى السينما لتكتشف ثقافة ثانية وثرية وإن كانت مصنوعة فوق الأرض الفرنسية. وفي منتصف التسعينات من القرن العشرين اهتم فرانسوا «حسن» بفيلم عنوانه «الكراهية» أخرجه الفرنسي ماتيو كاسوفيتز ودارت أحداثه في ضاحية باريسية يسكنها العرب أساساً وحاز الشريط أكبر الجوائز في المهرجانات الدولية وحقق في فرنسا أعلى الإيرادات. وبين الأشياء التي فعلها حسن لمصلحة الفيلم دعوة النجوم الأجانب الذين يعرفهم من خلال علاقاته في مهرجان «كان» إلى مشاهدته في عرض خاص، ما جعل بعضهم يقع في غرامه وفي مقدم هؤلاء شارون ستون التي روجت له في الولايات المتحدة إلى أن عثرت له على موزع هناك. ولا مبرر لذكر الشعبية التي نالها فرانسوا حسن غيرار في الوسط السينمائي الفرنسي منذ هذه اللحظة، إذ تحول في غمضة عين إلى الشخص الذي لا غنى عنه بالنسبة الى الموزعين ولكن أيضاً الى المنتجين والمخرجين والممثلين الذين يرغبون في توصيل أفلامهم الصغيرة الحجم من الناحية المادية إلى الجمهور العريض. وأحدث مثال على أعمال رجل الظل الذي لا يدري المتفرج لحظة واحدة بوجوده أو بهويته وإن كان اسمه يذكر في ختام الأفلام فوق لائحة الفريق المساهم في الإنتاج والتوزيع والترويج، هو فيلم «التفادي» من إخراج عبداللطيف كشيش والحاصد من الجوائز في مسابقة «سيزار» 2005 وهي المرادفة في فرنسا للأوسكار في هوليوود. والذي حدث هو تحول أبطال هذا العمل بين يوم وليلة إلى نجوم، ولو كانت الممثلة الشابة سارا فورستييه الوحيدة غير العربية في الشريط قد نالت على الفور عشرات العروض للمشاركة في أعمال جديدة، فالوضع اختلف بالنسبة الى كل من صابرينا وزاني ونانو بن عمو وعثمان الخراز وحافظ بن أحمد الذين تلقوا أيضاً بعض السيناريوات المغرية، إلا أنهم وعلى عكس فورستييه ليسوا من أهل مهنة التمثيل واختارهم عبداللطيف كشيش في إحدى الضواحي لأنهم يعيشون في الحقيقة الظروف التي دونت في السيناريو وبالتالي لا يعرفون إذا كان التمثيل هاجسهم الحقيقي وإذا كانوا على استعداد لخوض تجارب فنية جديدة. وهناك بعضهم مثل عثمان الخراز يعتقد أنه قد وصل إلى مرحلة مهمة جداً من حياته وأنه الآن من نجوم السينما، بينما قررت صابرينا وزاني متابعة الدروس التي يقررها أحد أفضل معاهد التمثيل في باريس ووافقت على الظهور في أفلام جديدة في شكل مواز لتعلمها أصول هذه المهنة في الوقت الذي لا يعرف حافظ بن أحمد كيف يواجه شهرته الحديثة العهد وأي قرار يتخذ في شأن مستقبله. والحقيقة أن فرانسوا حسن تحول منذ سهرة توزيع الجوائز إلى طبيب نفساني بالنسبة الى كل هؤلاء الشبان، علماً أن عمر الواحد منهم لا يزيد على عشرين سنة، فهو يستقبلهم يومياً في مكتبه في جادة الشانزليزيه ويقضي معهم ساعات طويلة أو ينصرف الى أعماله الأخرى سامحاً لهم باصطحابه أو بالبقاء في مكتبه للتفكير في الأمر ومفاتحته بخصوص رغباتهم فور عودته. وهو الذي نصح صابرينا وزاني مثلاً بعدما تأكد من موهبتها الحقيقية ومن استعدادها لاقتحام ميدان الفن عن دراية تامة بصعوباته بمتابعة الدراسة في أحد المعاهد ووجهها إلى شخص يعرفه في هذا المكان مثلما نصح حافظ بن عثمان بالتفكير طويلاً في المسألة وبعدم التردد في مغادرة دنيا السينما نهائياً إذا شعر بأن مستقبله يكمن في إطار مهني مختلف. الحياة اللبنانية في 9 يوليو 2005 |