سعود مهنا: عن الحاجز والتصوير برفقة الألم* أجرى اللقاء: سعيد أبو معلا |
للفيلم الفلسطيني همومه ونكهته، فهو "أداة للدفاع عن المضطهدين"، وتفوق فكرته من خلال الجهود المبذولة في محاولة بناء الذاكرة، ذاكرة الحقيقة المرة والمأساوية لهذا الشعب. والحاجز بمفهمومة العريض هو أحد مكونات الحزن الفلسطيني عبر عقود تسعة لم تكتب نهايتها بعد، وبمفهومة المحدد هو ثمر "إبداع" المحتل في التحول إلى "قاتل" يومي وفي كل لحظة خلال سنوات الانتفاضة الحالية. و"سينما الحواجز".. ذلك المصطلح الجديد الذي حاول توثيق الذاكرة ونقل جزء من الصورة. وفي اللقاء مع المخرج الفلسطيني سعود مهنا نحاول أن نغوص في عمق الظاهرة، وهو صاحب أفلام عدة كانت الحواجز أبطالها بما تضم من عذاب وقهر وصبر، ومنها فيلمه الروائي "رغم الحصار" وفيلمه الوثائقي "معبر الموت". · بداية؛ ما هو تقييمك العام للسينما الفلسطينية؛ أكانت توثيقية أم روائية، هل قامت بدورها في نقل الألم الفلسطيني من قتل، ودمار، وتشريد، وقصف، واستيلاء على كل مقومات الحياة؟ - الفيلم الفلسطيني كالواقع لما يعكسه، ولما يعترضه من مشاكل. لكن وبإجمال إنتاجنا السينمائي التوثيقي والروائي هناك رضا عام لم يصل لما نطمح إليه، لأن الألم الفلسطيني وما يجري على الأرض أكبر من أي شريط. وهنا يجدر بنا الحديث عن كل نوع سينمائي على حدة، فالإنتاج التسجيلي شكل إنجازا كبيرا يضاف للذاكرة الفلسطينية، وهو أضعاف الإنتاج الروائي، وذلك لظروف عدة نعيشها كمخرجين وطواقم عمل، فالأحداث وتداعيات ما يجري على الأرض كلها عوامل لا تعتبر مشجعة للعمل الروائي؛ ليقوم العمل التسجيلي انطلاقا من أهمية تشكيل الذاكرة، وتوثيق كل ما يحدث حتى يبقى تاريخا راسخا. لذا نلحظ أن هناك أرشفة للانتفاضة وأحداثها سواء من خلال التصوير الإخباري أو الإنتاج السينمائي، فالتسجيل لعب الدور الأكثر حيوية وقدرة على الإبراز والإخراج، ومستقبلا سيكون أكبر وثيقة للتاريخ. أما ما يتعلق بالأفلام الروائية فهي قليلة، لأسباب معروفة من مادية وكوادر، كان الوقت اللاعب الأبرز في عدم خروجها بكثرة، فالوقت لم يكن في صالحنا في ضوء تسارع الأحداث. · ماذا عن مضمون هذه الأفلام؛ أي ما هو الشيء الذي تم التركيز عليه في هذا التوثيق، وأين توجه هذا المضمون؟ - المضمون الوثائقي كان واسعا؛ فقد تناول مختلف جوانب الحياة، وصلت الكاميرات للحدث وسجلته، كل عمل بطريقته، ومن زاويته التي رغب فيها. وبرأيي أن المشكلة الخطيرة تتمثل في أن معظم الأفلام لم تصل للغرب؛ لأنها غير مترجمة، وهذا يتعلق بالتسجيلي منها والمنتج بجهود مخرجين صغار مغمورين، أو جهات فلسطينية محلية رسمية، أو مؤسسات أهلية لا تمتلك مقومات الإنتاج الضخم المكلف. المختلف هنا هو الأفلام الروائية والتسجيلية التي أنتجت بتمويل من شركات إنتاج أجنبية أو رعاية غربية. وبالتالي تصبح القضية الأساس هي أن أفلامنا لم تصل للمشاهد الغربي، في حين وصلت للعربي، وفشلت في الوصول للمشاهد الفلسطيني أيضا، فهو أكثر المظلومين في هذا الإطار، وهذا يعود إلى الجو الاحتلالي العام، حيث يحرم المواطن من الحياة بإنسانية فكيف الحال مع مشاهدة السينما. وهذا يقود إلى إحباط الجمهور، وتحديدا، عندما يصل لقناعة أنه لا يوجد من يعكس ألمه.. سيصل إلى درجة من الإحباط العام تفوق تلك المتولدة بفعل الإحباط ذاته. · ماذا عن نقل الأفلام للحاجز الذي يعد وبحق كابوسا يوميا يعيشه الجميع من الوزير إلى المخرج إلى المواطن العادي الفقير؟ - الحاجز هو من أشد ما واجهه الإنسان الفلسطيني، وهو ألم تاريخي بالمناسبة، سواء أكان حاجزا على مداخل مدينة، أو معبرا يوصل حيث الأرض الفلسطينية، أو جسرا على مداخل فلسطين التاريخية، فهي تشترك في ألمها وكابوسيتها. وهو في ضوء ذلك خلق ثقافة جديدة، وأفكارا جديدة؛ لأنه شكل حياة جديدة، كتبت عنه القصص والأشعار والأغاني. وأهم ما أنتج عن الحواجز تمثل في الشريط السينمائي سواء كان توثيقيًّا أو روائيًّا، فقد سجلت الأفلام التسجيلية الموت على الحاجز، والعذاب، ومقدار الألم، الحقيقة كانت أمام الكاميرا والضوء، وتم تصويرها وعكسها، لم تبحث الكاميرا عن الحقيقة بمقدار ما سجلتها، وفي الأفلام الروائية كان هناك حاجة لمحاولة عكس مدى قبح الحاجز، ووقوفه عائقا أمام حياتنا البسيطة والمتقشفة، أمام حبنا ورزقنا، وكل إنساني فينا. الحاجز هو بمثابة "إبداع" شيطاني من قبل المحتل، وقد حاول الفلسطيني أن يبدع في تعامله معه، وفي نقل هذا التعامل المؤلم قدر ما يستطيع عبر هذه الثقافة التي أجبرنا عليها.. تجاوزت السينما نقل الحاجز إلى تشكيله وفضح مكنوناته. كما أن المخرج ذاته كان يعيش المأساة والحالة المميتة أحيانا، وبالتالي كان جزءا من الحدث، فأنا شخصيا جسدت أفلامي ما عانيته عبر الحواجز الإسرائيلية المختلفة، والمعابر.. نمتُ على الحاجز في البرد ليلا بكامله كالبقية، لتأتي أفلامي كغيرها معبرة عن معاناتي ومعاناة شعبي، أنا أتابع المشهد بدقة، وأحاول أن أغوص في ألم نعيشه وأصبح جزءا منا في محاولة نقل ما هو محسوس وغير مادي، وهذه معادلتنا الصعبة. · حتما عند تصوير أي عمل وتحديدا على الحواجز هناك مشكلة تتمثل في الخطر الذي يترتب عليك كمخرج تتحمل مسئولية طاقم عمل متكامل، كيف يكون تفاعلك وعملك مع هذا الواقع الصعب؟ - يجب أن نميز أولا بين أفلام تقوم على منتج غربي أو تحصل على مساعدة من منتج إسرائيلي يقدم دعما لوجستيا، وفي الحالتين يمكن لطواقم العمل التصوير على الحاجز بعد الحصول على إذن خاص. أيضا هناك أفلام شكلتها كاميرات مخرجين وصحفيين غربيين وهي كثيرة، هؤلاء يتحركون بحرية على الحاجز، ويتفاعلون مع الجنود، وحتى يحاورونهم، وقد يخيمون على الحاجز في سبيل لقطة معينة، إضافة إلى وجود أفلام من إنتاج إسرائيلي بحت أيضا. لكن نحن الفلسطينيين في عملنا لا نحصل على تصريح للتصوير على الحاجز هذا أولا، وهذا يقود إلى حدوث خطر فعلي على حياتنا أثناء العمل، وحتى لو حصلنا على تصريح، وهذا مستحيل، تبقى نظرة الجنود لنا مختلفة، وهذا جزء من عقلية عنصرية يعيشها المجتمع الإسرائيلي. ولذلك نحن حاولنا سرقة المشهد، صورنا عن بعد، أو من سيارات من خلف زجاج، أو بكاميرات صغيرة نسبيا لا يمكن اكتشافها، أو باستخدام عدسات مكبرة، وأحيانا استعنا بلقطات من وكالات أجنبية، وفي أحيان أخرى صنعنا الحاجز وقمنا بدور الجنود وجلبنا المواطنين؛ هذه خيارات متاحة وقد أفادتنا، لكن يجب أن نعترف أن هناك خللا في الصورة، لم نتعمق في الحاجز كثيرا، لم ننقل كفلسطينيين تكدس البشر كأنهم قطيع، لم ننقل لحظات التماس الخطر مع الجنود المدججين بالسلاح بشكل كما لو أنه حقيقي. · ألمس من كلامك أن هناك أهمية وحاجة ما لأن يكون في بعض أفلامنا على الأقل منتج أجنبي أو دعم من منتج إسرائيلي أو حتى رعاية من مؤسسات غربية؟ - نعم، وليس بسبب تسهيل إجراءات التصوير فقط، هذا السبب أقل أهمية من غيره، السبب الأكثر أهمية يتمثل في أن مصلحتنا تقتضي تسويق أفكارنا، وتعميم صورنا من خلال إنتاج جيد، وهذا يوفره الممول الأوربي أو أي عمل قائم على الإنتاج المشترك. فالمنتج يهمه الربح أولا، وهذا لا بأس به، ما دام هذا الربح سيقدم لنا جمهورا عريضا يصعب علينا الوصول إليه في ظروفنا من خلال عروض، وترشيحات في مهرجات دولية لها مقاييس إنتاجية معينة، الممول يرفع الفيلم، ويمتلك ماكينة دعاية ضخمة، طبعا دون أن نغفل قضية المضمون الجيد الذي لا يتعارض مع قضيتنا. · غالبا ما يوجه لوما لأعمالنا المحلية بأنها تغرق في إظهار ألم الفلسطيني لدرجة الدعاية، وهذا يجعلها تغفل عن أشياء أخرى، أفلام الحواجز ما الذي ركزت عليه من خلال مشاهداتك المتنوعة؟ - يمكننا إن جاز لي ذلك تقسيم الأفلام إلى أقسام عدة، وكل قسم له اعتباراته؛ القسم الأول ركز على الفلسطيني الضحية من خلال تركيزه على الظلم الذي يتعرض له فقط، والحالة الصعبة التي يتواجد فيها الفلسطيني، في حين نرى أن هناك أفلاما ركزت على الشخصية الصابرة المرابطة المقبلة على الحياة، وأحيانا الرومانسية، وهناك قسم ثالث دمج الحالتين معا، أي جمع أطراف المعادلة ومنها الجندي الإسرائيلي القاتل والحاقد غير الإنساني في تعامله، وبعضها القليل عكس الجندي الإسرائيلي الخائف المتوجس من الموت، وهناك أفلام عكست صورة مميزة وفريدة من خلال تقديمها لحالات إنسانية أعجبت النقاد والمشاهدين لدقتها وروعتها. وفيما يتعلق بالأفلام التسجيلية فقد ركزت على صورة الظلم والعذاب والألم والحزن بنسبة كبيرة، لدرجة أنها طغت على العناصر الأخرى التي تشكل لوحة حياة الفلسطيني. وأرى أننا بحاجة إلى أفلام تبرز قوة الفلسطيني، وليس ما أقصده هنا قوة صارخة ساذجة خطابية، بل الأمل الحقيقي، والانتماء للحياة، والنضال من أجلها، يخرج المشاهد منها متحمسا للحياة، مندفعا صوب حلمه بروح الفرح والرغبة. · ماذا عن خطاب الحواجز إذا؟ - تحدثت أفلام الحواجز عنها كنقطة إذلال للفلسطيني، وطريقة لموته البطيء، نقطة صغيرة لها مفعول كبير لا إنساني ووحشي، ونقطة رمزية هدفها أن يشعر الفلسطيني بأنه ذليل، ومتحكم به بهدف استسلامه، وقتل إبداعه، وحرمانه من رزقه، فلم يظهر الحاجز مثلا على أنه مطلب أمني إسرائيلي؛ بالعكس تم تفنيد ذلك، فالأمن يعني أن يرحلوا من غزة والضفة وحتى من فلسطين كلها. · من خلال متابعاتي هناك الكثير من الأفلام الفلسطينية التي عكست الحاجز منها: أفلامك "كمعبر الموت"، "وحالة حصار"، وأفلام لمخرجين مثل "إيليا سليمان"، وهاني أبو أسعد"، و"رشيد مشهراوي"، ومخرجين صغار وهواة، إضافة لانتاجات عالمية ووثائقية، ومخرجين تسجيليين أجانب ومتضامنين، بمعنى أن هناك ظاهرة أرى أن أهميتها في تجميعها وتشكيل مهرجان لها، ما رأيك؟ - الأفلام عبارة عن تسجيل، نقل الواقع، توثيقه ليبق شاهدا حيا للأجيال القادمة. وظاهرة سينما الحواجز عمليا لا تزول بزوالها ورحيل المحتل، فأثرها باقي في الذاكرة والأشرطة، الفلسطيني لن ينسى ما عاناه خلال سنوات خمس، والأفلام بأنواعها تبقى ذاكرة لا تشيخ ولا تموت، شاهدة على صمود شعب، وإجرام آخر، هذه المعادلة الحقيقية لما تشكله هذه الظاهرة، وفكرة المهرجان أو التظاهرة السينمائية يمكن أن تقدم للفلسطينيين الكثير، وأنا أضم صوتي لصوتك. وأنا موقن أن هناك آلاف القصص لم تصلها عين الكاميرا، وهي أهم مما تم تصويره، أنا أجزم بذلك، ويجب أن نسعى لتوثيق كل شيء، حربنا المقبلة هي حرب توثيقية تقوم على الذاكرة، وهي ستجعلنا أقوى مستقبلا في مواجهة أي محنة ___________________________ * سعود مهنا، مخرج فلسطيني، يعمل مديرا لدائرة الأفلام الوثائقية والخاصة في قناة فلسطين الفضائية، رئيس جمعية "سواليف" للأعمال الفنية، خرّيج جامعة بيروت عام 1981، حيث حصل على بكالوريوس في علم النفس، ثم حصل على بكالوريوس في السينما من بغداد عام 1991. حازت أفلامه على جوائز عربية ودولية عدة، من خلال مشاركاتها في المهرجانات الفنية، في القاهرة، واليابان، وقبرص. تنتقل أعماله ما بين أفلام روائية، منها: "عندما ينطق الحجر"، و"صرخة أمل"، و"شاطئ الرعب"، و"الكرمل"، و"رغم الحصار"، و"عائد من جنين". وأفلام وثائقية، منها: "معبر الموت"، "أطفال ولكن"، و"نورا". موقع "إيلاف" في 4 يوليو 2005 |
"سينما الحواجز": اختراع إسرائيلي.. واحتكار فلسطيني نائلة خليل** وجد المخرجون الفلسطينيون في الحواجز مادة سينمائية مختمرة، فالإسرائيليون يوفرون الديكور والبطولة الشريرة، والفلسطينيون "ضحايا" جاهزون للتصوير على مدار الساعة. فأنت، كفلسطيني، تتحول إلى ضحية عندما تنتظر على مدار ساعات أن يسمح لك جنود الحاجز أن تصل إلى عملك، أو بيتك، أو مدرستك، أو لمن تحب، ولا أفضل من كاميرا تصطاد لحظات انفعالك.. انتظارك.. عجزك.. وأحيانا كثيرة فشلك في اجتياز الحاجز. وبين هذا كله تعلن عدسة الكاميرا عن رغبة لا تؤجل في توثيق "الهوس الإسرائيلي في خنق الفلسطيني" دوما، خاصة أنه يوجد في الضفة الغربية وقطاع غزة أكثر من 600 طريق مغلق بحواجز ثابتة تصل إلى 150 حاجزا ثابتا، بالإضافة إلى الحواجز الطيارة، كما يحب الفلسطينيون تسميتها، فعلت ما فعلته بحياة الفلسطيني البسيط، المهمش، القابض على الجمر في سبيل بحثه عن حريته. هوس في السيطرة وللمخرج الفلسطيني صبحي الزبيدي تجربة مع سينما الحواجز، حيث أخرج فيلمي: "عبور قلنديا" في 2001، و"أغنية طائر سجين" 2004. يقول الزبيدي: "أكثر ما يميز الحياة خلال الانتفاضة الثانية في الضفة الغربية وقطاع غزة هو تقطيع الأوصال جغرافيا واجتماعيا حيث برعت إسرائيل في اختراع تكنولوجيا السيطرة التي يعتبر الحاجز أحد أشكالها، والجدار أبوها بامتياز". ويضيف: "تهدف هندسة الحواجز الإسرائيلية لجعل الفلسطيني فاقدا للسيطرة على نفسه من جانب، وعلى علاقته بالمكان من جانب آخر، وهذا ما يميز الاحتلال الإسرائيلي عن الاحتلال الكلاسيكي الذي قرأنا عنه.. إنها "الوقاحة ليس أكثر". ويرجع الزبيدي سبب كثرة الأفلام الفلسطينية التي تتناول الحاجز إلى أنها تعبير عن ما يعيشه الفلسطيني من انتهاك لأبسط حقوقه، وتدمير لعلاقته بالمدرسة، والعمل، والعائلة، كل هذه العلاقات دخل فيها طرف ثالث هو الحاجز العسكري الذي يجعل الفلسطيني، الذي ينتظر لساعات طويلة تحت الشمس أو المطر، يشعر بالعجز... وهذا ليس سهلا". وبحسب رؤية الزبيدي فإن "وظيفة السينما بشكل عام والوثائقية بشكل خاص هي قراءة واقع الناس، وعكسه في السينما بصفتها الوسيلة المثلى لذلك". ويقول: "كثرة أفلام الحواجز بمثابة تعبير عن الوضع اللاصحي الذي نعيش فيه يوميا، ونسعى للتخلص منه". علاقة خارج السيطرة يعد فيلم "عبور قلنديا" للزبيدي من أوائل الأفلام التي تناولت الحواجز، حيث يعرض الزبيدي في هذا الفيلم تجربته الشخصية التي يمكن أن تنسحب جيدا على آلاف التجارب الشخصية للفلسطينيين. فبعد ولادة طفلته الأولى "كنزى" عام 2001 أصبح وجود حواجز الرام وضاحية البريد تتدخل في العلاقة الشخصية للعائلة بصوت عال، خاصة أن زوجته من القدس، وتنتقل يوميا بين القدس ورام الله. يقول الزبيدي: "واقع جديد فرضته هذه الحواجز، فعلى ضوئها أصبحنا نتساءل: كيف نرتب وقتنا؟ في أي حضانة سنضع طفلتنا؟ وإلى أي دكتور سنذهب؟ باختصار أصبحت الحواجز تأخذ بعين الاعتبار عن التخطيط اليومي لحياتنا". فقرر الزبيدي أن ينجز الفيلم يوم ولادة طفلته "كنزى"، ويعلق: "يعكس الفيلم خوفي من أن هناك ما يقف بيني وبين طفلتي، فبمجرد أن تقطع زوجتي وطفلتي حاجز قلنديا إلى القدس، تبدأ علاقتنا خارج السيطرة، أحيانا كان من المخطط له أن تذهب زوجتي وطفلتي ليوم واحد إلى القدس، عادة ما كان يغلق الحاجز ويبقيان بعيدين عني لأيام، أنا في رام الله وهما في القدس، ولا أحد يستطيع أن يصل إلى الآخر لأن هناك حاجزا مغلقا!!". ومن أبرز مشاهد فيلم "عبور قلنديا" مشهد يظهر جندي يقف على الحاجز، ويحرك إصبعه في حركة فوقية يسمح لرجل أن يدخل، ويمنع آخر، بمنتهى البساطة.. إصبع جندي يتحكم بإرادة وأحلام مئات المواطنين الذين يزدحم بهم حاجز قلنديا يوميا. "من أي علبة زبالة؟" وللمخرج الإسرائيلي تجربته أيضا داخل سينما الحواجز، لكن أين تقف عدسة المخرج الإسرائيلي؟ وهل يتمتع كل من المخرج الإسرائيلي والفلسطيني بذات المزايا؟ يقول الزبيدي: "يتمتع المخرج الإسرائيلي بمزايا يفتقدها المخرجون الفلسطينيون لأنهم ببساطة "ضحايا"، وهذا يكفي لأن يعذبوا نهارا كاملا دون أدنى مبرر"، أما المخرج الإسرائيلي "فيسمح له بالتصوير وكذلك الدخول في نقاش ندي مع الجندي الإسرائيلي، وإذا استدعى الأمر يصرخ عليه ويشتمه، وهذا من المستحيل أن يفعله المخرج الفلسطيني". ويعطي الزبيدي مثالا على ذلك، قائلا: "في فيلم المخرج الإسرائيلي أفي مغربي مسعداة، في مشهد على حاجز إسرائيلي قرب قلقيلية، يعود طلاب مدرسة وينتظرون من الجندي أن يفتح لهم الباب، والجندي لا يأبه بهم، ويدخن، ينتظر الأولاد والمخرج ويطول انتظارهم، لكن المخرج الإسرائيلي يفقد سيطرته، ويصرخ على الجندي بأن يفتح لهم الباب، ومع ذك لا يأبه الجندي، عندها يفقد المخرج أعصابه، ويصرخ بالجندي: من أي علبة زبالة أنت طالع؟!، ويجيبه الجندي: من نفس العلبة اللي طلعت أنت منها.. ويرد عليه المخرج: قلتها بفمك". 90 في المائة أما الدكتور تيسير مشارقة رئيس دائرة الإعلام والتلفزة في جامعة القدس في أبو ديس، عضو الهيئة التنفيذية في جماعة السينما، فيقول: "ربما المقصود بسينما حواجز بعض الأفلام التي كان موضوعها الرئيسي هو الحاجز ومن هنا فالمفهوم صحيح، لكن هذا المفهوم يجب ألا يعمم، حيث يوجد لدينا سينما عائلية، وسينما حب، وغيرها". ويضيف: "أنا أختلف مع إطلاق سينما الحواجز على كل السينما الفلسطينية؛ لأن السينما الفلسطينية هي سينما شعب ومواطن يعيش على أرضه، له همومه، ومشاكله الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، والأمنية والعسكرية مع الاحتلال". كما يختلف مشارقة مع رأي بعض المخرجين الذين رأوا أن الحاجز أصبح بطلا لعدد غير قليل من الأفلام منذ بداية الانتفاضة، ويقول: "لم يكن الحاجز في يوم من الأيام بطلا، بل هو أداة قمع وعنف، وجزء من الواقع الفلسطيني السيئ، وهناك مخرجون إسرائيليون وأجانب تناولوا موضوع الحاجز الإسرائيلي بأفلامهم، ومع ذلك لا يمكن أن نضع كل السينما الفلسطينية تحت مظلة تدعى سينما الحواجز، بالرغم من أن آخر 10 سنوات من السينما الفلسطينية شكل الحاجز ما يزيد عن 90% منها". ويؤكد مشارقة: "لا يجوز أن يهيمن الحاجز على الإبداع الفلسطيني أو يخنقه، فعقلية السينمائي الفلسطيني ليست عقلية حاجز أو جيتو، العقل الفلسطيني أبعد من الحاجز وفكرة الجيتوية، وخيال السينمائي قادر على تذليل الحاجز رغم قساوته". الهروب من العزلة لم يحصل المخرج الفلسطيني رائد الحلو صاحب فيلم "بائع الشاي" منذ سنوات على تصريح ليزور عائلته في غزة مسقط رأسه التي يفصلها عن الضفة الغربية حاجز أيضا. وفي فيلم "بائع الشاي" الذي أخرجه الحلو بمناسبة مرور 50 سنة على النكبة، هناك مشهد تدخل فيه الكاميرا إلى حاجز إيريز. عندما سأله الجندي هذا الفيلم بمناسبة شو؟ أجابه الحلو بسخرية: "بمناسبة خمسين سنة على تأسيس دولتكم!". يقول الحلو: "يعتمد الخط الرئيسي في أفلامي على الحياة العادية، لكن الحاجز دائما موجود". وحول فيلمه الأخير "لعله خير" يقول الحلو: "هذا الفيلم الذي أنجز عام 2004 كان محاولة للخروج من العزل والاختطاف التي شكلته إسرائيل على حياتي، فإسرائيل قامت باختطاف مستقبلي، وأحلامي، وعزلتني عن العالم في مدينة صغيرة هي رام الله". يحاول المخرج الشاب في هذا الفيلم أن يهرب من العزلة المفروضة عليه، عبر البحث عما تبقى من جمال وطيبة في نفوس الناس العاديين، لكنه مهما يهرب فالحاجز له بالمرصاد. عكس فيلم "لعله خير"، الذي أنجز في عام 2004 حياة الناس والعمال على حاجز قلنديا وسردا على مداخل مدينة رام الله، فيقول الحلو: "الفلسطيني يعيش تحت غطاء شكلته إسرائيل، أمام بيوتنا ومدننا وأخيرا أمام فلسطين والعالم". ويعلق: "للأسف تفتخر إسرائيل بهذا الاختراع السيئ فيعتقد الجندي الإسرائيلي أنه في وقوفه وراء الحاجز ملك للكون". وحول تناول المخرج الفلسطيني للحواجز في أفلامه يقول: "إنه من المستحيل التعبير عن الشعور الذي ينتاب الفلسطيني أمام هذا الجدار، وعندما تتعرض آدميته للسلب أمام عينيه، والأسوأ أمام عيون صغاره، وكاميرات العالم الصامت!". ويقول: "من المستحيل أن يتناول المخرج الفلسطيني الحاجز بحيادية، لا يمكن أن تطلب من أي إنسان تُنتهك إنسانيته وتسلب كرامته أن يكون حياديا أمام الحاجز الذي ينكل به يوميا". ** صحفية وناقدة فلسطينية تعمل في رام الله موقع "إيلاف" في 4 يوليو 2005 |