ملف خاص "سينما الحواجز".. يوميات فلسطيني سعيد أبو معلا** |
17 فيلما فلسطينيا وثائقيا شاركت في مهرجان الجزيرة الأول للأفلام الوثائقية، ومن بينها 8أفلام على الأقل تتحدث عن الحواجز بمفهومها المادي والمعنوي. هذه المشاركة أنتجها جيل مغامر من المخرجين الفلسطينيين، معظمهم من جيل الشباب الذي استثمر "الثورة الرقمية" في سبيل إنتاج أفلامه التي تعبر عن أفكاره وخصوصيته بميزانيات قليلة، وفي ظروف عمل سهلة تقنيا وصعبة على أرض الواقع. وتخطت "الحواجز" من مجرد كونها فكرة، لتصبح عنصرا بصريا أو مكونا لازما في معظم الأفلام الفلسطينية، لا غنى عنه في المشهد السينمائي، وحتى الإسرائيلي؛ فهو مكون أساسي لحياة صعبة وقاتلة. بانوراما فلسطين صارت تلك الأفلام عديدة حتى يصعب إحصاؤها، وتحديدا تلك التي أنتجها شباب مؤمن بأن الفن البصري قادر على نقل ألمه ومعاناته أولا، وتحقيق حلمه ثانيا. ومن ضمن الأفلام الوثائقية التي شاركت في مهرجان الجزيرة كان فيلم ديمة أبو غوش "صباح الخير قلقيلية"؛ الذي عكس شريط التمييز العنصري، وجدار الفصل الذي يقتل مدينة قلقيلية وقراها المحيطة. وفيلم صبحي الزبيدي "عبور قلنديا"، وهو عبارة عن يوميات مشهدية للزبيدي وعائلته على "حاجز قلنديا"، الذي يعتبر الحاجز الأكثر شهرة؛ فهو يفصل المدن الفلسطينية عن القدس. كما شارك فيلم ناهد عواد "25 كيلومترا" وهو عبارة عن رحلة المخرجة بين الحواجز الإسرائيلية والطرق الوعرة من مدينة رام الله وصولا إلى منزل أهلها في بيت ساحور. كذلك فيلم عماد أحمد "قلقيلية في يوم ما" ويتناول فيه بوابة "شيران" العسكرية الإسرائيلية على أبواب المدينة وحياة "أبو عبد الله"، من حيث المسموح والممنوع في حياة الفلسطينيين البسطاء، ليكشف الشريط أن كل شيء ممنوع في هذه الحياة التي فصل فيها الوطن عن الوطن. كما شارك فيلم ليانة بدر "حصار مذكرات كاتبة"؛ وتعرض لما تفعله كاتبة وسط حرب هوجاء، وحصار قاتل في ضوء شوق للوصول للقدس؛ حيث العائلة والأهل. وفيلم غادة طيراوي "وماذا بعد؟" الذي يتحدث عن اجتياح رام الله، حيث ثلاثة شبان بعد الحصار والاجتياح يلتقون ويجدون فسحة للضحك والبحث عن نقطة للانطلاق من جديد. وفيلم علياء أرصعيلي "شهادة ميلاد"؛ ويسرد قصة الولادات القسرية على الحواجز الإسرائيلية، فيظهر بإنسانية كبيرة المعاناة والألم، ويمنح المشاهد قدرة على تخيل مقدار العذاب والموت الذي تسببه الحواجز. "ماركة مسجلة" حاول هؤلاء المخرجون الشباب بأساليبهم الفنية أن يعبروا عن الهم الفلسطيني ضمن ثلاثية الحاجز، والحصار، والجدار. وفي كل مهرجان أو احتفالية فنية، يلمح النقادُ الجديدَ من هذه الأفلام. ففي مهرجان الأفلام التسجيلية في سويسرا الأخير برز فيلم المخرجة إيناس مظفر "من الشرق إلى الغرب" حول اللحظة التي تغادر فيها أسرتها مضطرة بعد أن هدد بناء الجدار الفاصل سبل الحياة أمامها. وفيلم مازن سعادة، "فراغ" حيث يتجول المشاهد انطلاقا من المعابر إلى نقاط التفتيش بكل ما فيها من تفاصيل برفقة الموظف الذاهب إلى عمله، ليصل إلى مقر عمله منهكا، فلا يجد ما يقوم به، سوى الجلوس مع الآخرين، ويأتي حضورهم في حد ذاته مقاومة وإثباتا للوجود. وهنا لسنا بصدد إحصاء الأفلام بمقدار ما هي محاولة للتعرض إلى الظاهرة، فكما يقول المخرج الفلسطيني هاني أبو أسعد: أصبح الحاجز "ماركة مسجلة" للعشرات من أفلامنا، وأصبحنا نتميز بهذا النوع منها، فهي ظاهرة ملفتة، وحية، ورائعة. وبمقدار ما تتشابه هذه الأفلام من حيث المضمون فهي أيضا إنتاج شبابي وبكاميرات رقمية. وهذا ليس غريبا؛ فالسينما الرقمية هي سينما القرن الحادي والعشرين بجدارة، وذلك بتجاوزها لمتطلبات الإنتاج ومطباته في السينما التقليدية، لأن الميزانيات والتكاليف الباهظة أمر يحبط الكثير من المنتجين الشباب. وبفضلها أصبح بإمكان هؤلاء الشباب أن يصرفوا طاقاتهم في تجسيد القصة بدلا من مصارعة التكاليف العالية؛ وهذا دفعهم للمغامرة ولتحويل إبداعهم إلى صور وشرائط. وفي واقع الأرض المحتلة الفقيرة سينمائيا جاء التطور التكنولوجي لمصلحة حاجاتنا، فكانت النتائج لصالح الإنتاج السينمائي الفلسطيني خلال سنوات الانتفاضة الخمس بظهور عشرات الأفلام الوثائقية والروائية القصيرة، وبالتالي تحققت أحلام الكثير من المخرجين الشباب، وتحقق لنا نقل قضيتنا بصور كبيرة عبر الضوء وسحره. سينما الممكن وكما يقول مؤسس جماعة السينما الفلسطينية مصطفى أبو علي: "بواسطة هذه الوسيلة أصبح من الممكن الاختصار في النفقات والوقت بشكل كبير جدا؛ فلم يعد ضروريا التصوير بفيلم سينمائي 35 ملم أو 16 ملم، كما كان متبعا، وهي عملية مكلفة جدا، أصبح بالإمكان التصوير بالفيديو الرقمي، وتحويل المادة المصورة إلى فيلم سينمائي وبكفاءة عالية". وكما يرى أبو علي فإنه "بفضل الديجيتال استغنينا عن عملية التحويل إلى فيلم سينمائي، إذ أصبح ما يعرف بـ(Digital Video Disk) بديلا للفيلم السينمائي كوسيلة للعرض في دور السينما، وحتى في المكتب أو البيت". المخرج سعود مهنا يصف هذا النوع من السينما قائلا: "إنها سينما تناسب حالتنا، هي سينما الممكن في الظرف الفلسطيني، لكنها ضرورية وحتمية، وتبشر بالخير مستقبلا". وبرأي المخرج تيسير مشارقة فيما أحدثته ثورة الديجيتال رقميا؛ فإنها أدخلت الفلسطينيين عصر "الديمقراطية السينمائية"، وساعدت على إنتاج أفلام مميزة بأفكار عكست واقعنا الصعب، كان من بينها ظاهرة "سينما الحواجز" التي تعد تعبيرا أصيلا لانخراط المخرجين الشباب في همهم العام. وباعتراف السينمائيين الشباب أنه لولا ثورة هذا التطور لما تحققت لهم إمكانية إنجاز مشاريعهم وأهدافهم السينمائية القصيرة والمتوسطة، ولما استطاعوا الوصول إلى الجمهور العريض. وقد أفادت هذه الثورة الفلسطينيين في ظل حصارهم، حيث تم تصوير مقاطع من الأفلام من نوافذ البيوت، ومن السيارات، وأثناء منع التجول، دون أن يكون هناك تقنيات التصوير السينمائي العادي وشروطه لتكون سجلا يوثق حياة الفلسطيني وتفاصيلها، مما عكس مقدار الظلم الذي يتعرضون له، وعبر أكثر من لغة سينمائية، تم التجريب في بعضها، وصياغة مشهدية فلسطينية تثير التعاطف والتأييد في بعضها الآخر. فقر السينما وبالطبع لا يمكننا أن نغفل عن وجود إشكالات معينة في هذه الأفلام؛ حيث يعتبر بعضها فقيرا من الناحية الفنية، وكما يصفها المخرج صبحي الزبيدي بأنها "ذات لغة فيلمية متدنية"، لكنه لا ينسى أن يذكر أن الكثير منها أثبت جدارته وقوته في العروض الدولية وأمام أعين النقاد، وتمكنت من نقل المشهد الفلسطيني عالميا. ويمكن تفهم هذا بمعرفتنا أن الجوهري في إنتاج الفيلم الرقمي ليس الكاميرا، والحاسب، وبرنامج التحرير، فحسب، بل هناك ثلاثة متطلبات ضرورية أكثر أهمية، تتمثل في التخطيط الجيد، والطـُموح، وإدراك اللغة السينمائية يرافقها عنصر الإمكانيات الإنتاجية. وفي مواجهة هذا الجدل هناك من دعا إلى الاحتكام لمبدأ "الانتخاب الطبيعي"؛ حيث يرى الناقد السينمائي إبراهيم العريس أن الأعمال الفنية الراقية والجيدة ستحفظ قوتها، والأفلام قليلة الجودة سيتطور مخرجوها وستصقل شخصيتهم السينمائية. ورغم أن هذا الجدل في جزء صغير منه غير مبرر كما يرى المخرج تيسير مشارقة، لأن طبيعة الأعمال الشبابية الجديدة تحاكي أسلوب مدرسة "الدوغما الاسكندنافي" في تجربتها السينمائية، فهي تقوم أساسا على أفلام مذكرات ويوميات شخصية، حيث لا إنارة صناعية، ولا ديكورات معمولة ومكلفة، بل كاميرا رقمية متحركة رخيصة تسجل التفاصيل كلها، وهذا يجعل البعض منها فقيرا إلا من أفكارها. ويضيف العريس: "المحصلة أن التجارب إن لم تجعل من الممارسين للسينما مخرجين كبارا، فإنها على الأقل ستجعل منهم متفرجين متميزين؛ ونحن نحتاج إلى هؤلاء". بشكل عام، هناك الكثير من الأمور الداعية للحماس والباعثة على الأمل في مستقبل سينمائي يعتد به، رغم بعض التحفظات التي تعترى القائمين على هذا الفن، لكن السينما اليوم ملك وحق للجميع، بفضل التقنية الرقمية، وستكون لمخرجنا الشاب والمخرج العالمي "ستيفن سبيلبرغ" الفرص ذاتها في الإخراج والإنتاج. ولقد أصبح بإمكان ذوي الدخول البسيطة والمحدودة من المبدعين السينمائيين إنجاز أفلام وثائقية ودرامية، شاهدها الشارع الفلسطيني، وعرضت عبر وسائل إعلامنا، وتفاعلت مع المهرجانات العالمية والعربية وحصدت الجوائز، والأهم نقلت الحاجز كمشهد بصري "لعين". ** ناقد سينمائي موقع "إسلام أنلاين" في 29 يونيو 2005 |
"المحسوم" في السينما الفلسطينية بشار إبراهيم** "المحسوم".. تلك المفردة التي أضحت على شيوع يومي في حياة الفلسطيني، إلى الدرجة التي جعلت الفلسطيني لا يكلف نفسه عناء ترجمتها إلى العربية، على هيئة "الحاجز" أو "المعبر" مثلا!.. بل ينطقها بعبرية، ضاجة المعنى والدلالة، باسمها: "المحسوم". و"المحسوم"، كما يقول عزمي بشارة، مصدرها "حسام": أي سد الشارع، قطع الطريق، وقف الحركة، وهي تعني "الحاجز"، ومنها "الحواجز" التي تقيمها قوات الاحتلال، فتسد على الناس في فلسطين المحتلة دروب الحياة، وتكاد تريد التقاط الأنفاس، وقبضات الهواء من الصدور، قبل أن تنوي القبض على آخر حلم بالتنقل، أو طيف فكرة في مخيلة من يريد في نفسه شيئا. المحسوم عنوان رحلة العذاب و"المحسوم"، كما يراه بشارة في روايته، يغدو هو الفاصل، وهو الواصل، بين عالمين، هو الحدود، وهو المعبر، هو الألم، وهو الأمل بالخروج. عند حافته تتكثف المأساة الفلسطينية اليومية، بعيدا عن الشعارات والتنظيرات، وبعيدا عن التوعدات. إنه عنوان التفصيل اليومي، سواء للطفل الذاهب للمدرسة، والرجل الباحث عن ساعة عمل، أو زاد من الطعام، يفي حاجة الأفواه التي خلفها طي البيت، هو عنوان التفصيل اليومي للفتى الذاهب للجامعة، والفتاة وعريسها، وللمرأة التي تحاول الوصول إلى سوق، أو مشفى، أو يد قابلة تنجيها من رفسات جنين يصر على الخروج للحياة. هكذا يريد "المحسوم" قهر الفلسطيني وطرده، أو التهام وقته وجهده، وإتلاف أعصابه وقدرته على الصبر وطاقته على التحمل، يريد منه أن يزهق روحه، وأن "يكفر" بالوطن عندما يغدو سجنا، لا يترك المحسوم صغيرا ولا كبيرا، لا رجلا ولا امرأة، إنه يحاول التقاطهم جميعا، وكسرهم. والجندي الإسرائيلي المنحوت، كأنما من قطع أسمنت "المحسوم" ذاته، والمدجج بقسوته، يحرص على أن يكون سريع الانفعال، لا يحتمل الشكوى، لا يسمعها، ولا يتقبلها، ستراه دائما يده على الزناد، وصوته يلعلع صارخا بالأوامر: "إنتَ.. رُوح من هون!.. ارجع!.. ممنوع...". وقد يكل ويمل الزمن، ويبقى الفلسطيني على عناده، أو ما تبقى له منه، فيأتي كل يوم، يعاود الكرة، ليصر الصغير على الوصول إلى المدرسة، والشاب إلى الجامعة، والرجل إلى العمل، والمرأة إلى السوق، أو لتضع مولودا فلسطينيا جديدا، يثير الرعب في جداول الديموغرافيا، وقنابلها المزعومة، آخر أسلحة التدمير الشاملة التي يستحق عليها الفلسطينيون العقاب! هل من السهل المرور على تلك المعلومة التي تقول: إن "52 امرأة فلسطينية أنجبن على الحواجز.. وإن 19 امرأة، و29 طفلا حديث الولادة، توفوا عندها"! الحاجز والسينما ألم تنتبهوا إلى الشاعر محمود درويش، وهو يتوقف أمامه في فيلم "الأرض تورث كاللغة" للمخرجة سيمون بيتون، عام 1998، قائلا: "هنا ينتهي كل شيء..!" عنده تنبني الحدود، وتنهض الموانع، والعوائق!.. كأنما الأفق ذاته ينغلق، ومساحات الوطن تنتهي.. فمن تراه يمر دون رغبة، أو موافقة، أو سماح متلكئ...؟ أي عودة تلك التي يمكن أن تتأنق احتفالا بالوطن، إذا كان الفلسطيني لا يستطيع المرور من بين أصابع "المحسوم"؟.. من تراه يمر؟.. من يعبر؟.. بل من تراه يقدر أن يكفي نفسه مئونة الذل والقهر والانتظار الممل...؟ قبل ذلك بسنوات، كانت المخرجة مي المصري تحاول ابتداع كل السبل للمرور من بين الأصابع ذاتها.. كان ذلك في فيلمها "أطفال جبل النار" عام 1991، فعودتها إلى مدينتها نابلس بعد سنوات طويلة من البعد القسري، جعلها تكتشف كيف تنتشر "المحاسيم" في المدينة، مداخلها ومخارجها، وتفاصيلها، كالفطر السام. وفي فيلم المخرج رشيد مشهراوي "توتر" 1998، يقوم بمحاولة بصرية جريئة للنظر إلى ذلك القلق والذل والقهر الذي يعيشه الفلسطيني في تفاصيل يومه! من المعابر التي تطوق قطاع غزة. هناك حيث مئات الآلاف من العمال الفلسطينيين ينسلون من بيوتهم، تحت جنح الظلام، وقبل أن ينقشع الليل بتباشير ضوء الفجر، ليصرفوا ساعات النهار الأولى في الانتظار، وحيث أصابع الجنود تمر بنذالة على تفاصيل الأجساد، وتتغلغل بوقاحة في ثنايا الثياب، وتفض بكارات العلب الكرتونية، والصرر القماشية، التي انطوت على هدية لقريب، أو لزوم زيارة مريض، وينتقل الفيلم إلى المعابر التي تطوق الضفة الغربية، والقدس، حيث الأمر أدهى وأمر. وترى حالات إغماء، أو ارتفاع ضغط، أو انخفاض سكر، واختناق قاتل من شدة التعب، ووطء الانتظارات التي يتعرض لها الفلسطينيون على حافته!.. وقد رصد المخرج رشيد مشهراوي هذه المأساة في فيلمه الأول "جواز سفر" 1987، وهو فيلم روائي قصير (20 دقيقة) للحديث عن مأساة شاب فلسطيني يريد المرور بين معبرين يحددان حياته، معبر إسرائيلي ومعبر عربي..! فيضيع بينهما، وتتصاعد مأساته إلى حد الموت.. كما أنه جعل حكاية آخر أفلامه الروائية الطويلة "تذكرة إلى القدس" 2002، تدور حول تلك المحاولة الدائمة والدائبة لبطله (جبر) في المرور من الخرم ذاته. يرى عزمي بشارة، أن وجود "المحسوم" يطغى في حياة الفلسطيني، على كل شيء.. إنه يتخلل كل تفاصيل الحياة، حتى إن نفسية الناس مرتبطة بالخبر الوارد عنه، وبه يتعلق كل شيء، خططهم، مشاريعهم، لقمة العيش، مكان العمل، صف المدرسة، وقاعة الجامعة، كل التفاصيل تبدأ من حيث موقعها: أهي أمامه، أم خلفه؟.. هل من الممكن المرور، أم لا..؟ كل الاعتبارات تبدأ بـ "المحسوم"، وربما كل شيء ينتهي عنده. الحاجز غزا "كان" يعلو "المحسوم" فوق رؤوس الجميع، فقد حاز فيلم "يد إلهية" للمخرج إيليا سليمان على جائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان كان السينمائي الدولي عام 2002. ينبني فيلم "يد إلهية" على وجود "المحسوم" المرتفع ببنائه المعدني، وقطعه الإسمنتية.. جنده وأسلحتهم.. أدوات الرصد والمراقبة.. والأوامر بالتوقف، أو المنع من المرور، أو العودة من حيث أتيت. يمرون أو لا يمرون!.. ذلك هو جوهر حكاية الفلسطيني اليومية.. ولا يجد الفلسطينيان، أقصد بطل الفيلم وبطلته، سوى اللقاء عند حافة "المحسوم".. في الفناء الملحق به.. واللقاءات المتتالية ستسمح لنا من خلال عيني بطلي الفيلم أن نرى تلك الممارسات الوقحة.. ومنها ذلك الجندي الثمل الذي يتصرف بالفلسطينيين المتوقفين في طابور انتظار المرور، كما يريد. حتى أنه يجعل منهم من يرقص معه وينشد لـ "حياة إسرائيل وشعبها...!"، وسنرى تفاصيل أخرى، في فيلم "عرس رنا" للمخرج هاني أبو أسعد، 2002، حيث يؤشر الفيلم إلى وقوف الحاجز بين الفلسطيني ونفسه، ويقوم بعقد القران بين العروس وعريسها على حافته، رغم كل شيء. المحاسيم "الإنسانية"!! "لا تفكر إسرائيل في إزالة "المحاسيم" الحواجز، أبدا.. أو حتى التقليل من عددها.. بل إنها تفكر، رحمة منها بالفلسطينيين، أن تدججها بالمرافق الملحقة، وأن تجعلها أكثر (إنسانية).. ستوزع الحلوى، وكؤوس الشاي الساخنة، على المنتظرين، ولن تجعلهم ينتظرون أكثر من ست ساعات، مثلا...! ابتهجوا.. سيحصل الفلسطينيون على "محاسيم" أكثر إنسانية!.. وربما سيقوم الفلسطينيون بدعوة الأصدقاء، لقضاء وقت جميل.. ربما، التمتع بالوقوف قرب قطعها الإسمنتية، وتحت أبراجها المعدنية، وفي المدى المجدي لأسلحة جندها.. تماما كما يحتفلون، الآن، عند حافة الجدار الفاصل، الجد الأعظم لكل المحاسيم...!! فمن تراه قال: إن الدولة الفلسطينية ليست قاب قوسين أو أدنى (من محسوم، وحاجز، ومعبر، وجدار فصل)...؟ ** ناقد سينمائي فلسطيني مقيم في سوريا موقع "إسلام أنلاين" في 29 يونيو 2005 |