حوار مع المخرج نواف الجناحي "الوعي تطور بأهمية اللغة البصرية المهملة" حوار / منى وفيق |
نواف الجناحي .. مخرج إماراتي شاب وطموح برز مؤخرا في مجال الصناعة السينمائية الإماراتية. نواف انتقل للولايات المتحدة الأمريكية وهو ابن التاسعة عشرة ليدرس السينما قبل أن يعود لوطنه ويسعى جاهدا لدفع السينما المحلية خطوات للأمام. حصل هذا المخرج الشاب على العديد من الجوائز عربيا وعالميا. ويدير الجناحي منتدى سينمائيا على شبكة المعلومات الدولية باسم "أفلام الإمارات". بدءا .. سألته أن يعرّف عن نفسه كمخرج إماراتي شاب .. قال: نواف الجناحي .. ممثل ومخرج سينمائي .. مواليد أبوظبي 1977. · ما من مخرج لا يطمح أن يصبح عالميّا .. في أيّ إطار تعمل لتحقّق هذا؟ الأمر بالنسبة لي هو الرغبة في وصول فكرة الفيلم لأكبر عدد ممكن من الناس، وهذا يحتم الدقة في اختيار المواضيع والأسلوب البصري الذي يتم معالجتها به. إن جمالية السينما تكمن في الصورة، وهذا أمر مهم عند العمل على قضايا خالصة في محليتها، لأن الآخر قد لا يفهمها وربما لا يستوعب المضامين التي يتحدث عنها الفيلم، لذا يجب أن يتم التعامل هنا بشكل مختلف، يدعم الفكرة ويساهم في الوقت ذاته في وصولها إلى الآخر بصورة سلسة مفهومة. إن تماسك اللغة السينمائية المستخدمة هو ما يساعد المشاهد على فهم فيلم من دولة أجنبية، حتى وإن لم يكن مترجما. · ما تصوّرك عن الصناعة السينمائية العربية؟ إن الشكل الإنتاجي العربي الوحيد في الوقت الحالي الذي يمكن أن يعتبر صناعة سينمائية متكاملة موجود في جمهورية مصر العربية. وعند التحدث عن صناعة فإننا نتحدث كذلك عن وجود الدعم المالي، ووجود الدعم المالي يجب أن يرافقه فهما خاصا ووعيا كبيرا في كيفية إدارته وتوجيهه. ربما هذا ما تعانيه الصناعة السينمائية العربية حاليا، والتي لا تهتم كثيرا في معظم أعمالها بأي جوانب واعتبارات فنية أو فكرية للصناعة المتكاملة، وتصب جل اهتمامها على أولويات وعناصر الربح المادي، قبل أي شيء آخر. · كيف تجد المهرجانات السينمائيّة العربيّة؟ وجود المهرجانات السينمائية يعزز الوجود السينمائي نفسه، وطالما أن أي مهرجان يتيح فرصة مشاهدة الأفلام السينمائية من دول مختلفة فهو يساهم في تطوير الثقافة البصرية عموما، وهو أمر ضروري في الوطن العربي الذي يعانى ضعفا عاما في هذا الجانب. بالنسبة للسينمائيين أنفسهم فإن المهرجانات تعتبر فرصة رائعة لعرض أفلامهم، لمشاهدة أفلام غيرهم، كما أن التواجد في المهرجان يعني فرصة الاحتكاك والتواصل مع سينمائيين آخرين أيضا، وهو أمر مهم جدا. · زيارتك للمغرب كانت للمشاركة في مهرجان أصيلة .. كيف تقيّم مشاركتك بفيلمك القصير "أرواح"؟ لقد تم اختيار "أرواح" وفيلم "طوي عشبة" (إخراج وليد الشحي) للمشاركة في الدورة الأولى لهذا الحدث المتميز، وسررت كثيرا بوجود العديد من السينمائيين من نقاد ومخرجين وممثلين من مختلف أرجاء الوطن العربي، بالإضافة إلى عدد كبير من المهتمين بالحقل السينمائي، الأمر الذي عنى لي عدد كبير من المشاهدين لعملي، ولقد لاحظت تميز أهالي مدينة "أصيلة" بحبهم للسينما والثقافة والفنون عموما، لقد كان هناك تواجد كبير للجمهور العادي من غير السينمائيين في صالات العروض. لقد كان مبعث سعادة حقا أن يكون فيلمي جزء من حدث رائع كهذا. · مهرجان دبي السّينمائي الأوّل .. ماذا عنى لك؟ رغم وجود بعض المآخذ المهمة على تنظيم الدورة الأولى، كأن يكون أغلب طاقم العمل إضافة إلى مدير المهرجان من الأجانب، إلا أن أغلب السينمائيين في الدولة سعدوا بهذا الحدث الهام، لا سيما أن أحد أهدافه في النهاية الترويج للإمارات كموقع مهم لإنتاج الصناعة السينمائية دوليا، وهذا يعني جذب الشركات الكبرى في هذا المجال إلى الدولة لتنفيذ أفلامها، الأمر الذي سيسهم في تحريك العجلة الإنتاجية وجذب رؤوس الأموال نحو هذا المجال المهم. وقتها ستكون هناك فرصة لخلق جوا مناسبا لانطلاق صناعة سينمائية محلية. هذه هي رؤيتنا للأمر، قد يأخذ الأمر بعض الوقت ولكن في ظل غياب دعم الدولة هذا هو ما نتمنى أن يحدث. · ما رأيك في السّينما المغربيّة وكذا صناعتها؟ تتميز الأفلام المغربية بلغة بصرية جميلة وجذابة جدا، وعندما نتحدث عن فيلم مثل "فوق الدار البيضاء الملائكة لا تحلق" الذي أخرجه محمد عسلي، فإننا نتحدث عن درس قوي جدا في السينما، وبغض النظر عن كل الجوائز التي حصدها في المهرجانات السينمائية على المستوى الدولي، فإن الفيلم يعتبر بحق واحدا من أفضل الأفلام في تاريخ السينما العربية. تملك السينما المغربية برأيي عناصر رائعة وخلاقة جدا، ولكن أعتقد أنها تمر بمشاكل تشبه في المجمل ما تعانيه السينما الإماراتية حاليا من عدم اهتمام الدولة بها وعدم وجود الدعم المالي المناسب. في حين أن نهضة الصناعة السينمائية المتداخلة مع الأعمال الأجنبية تزدهر وفي تطور مستمر، وأصبح المغرب اليوم، بمواقعه المتميزة وطبيعته الخلابة، واحدا من أهم مناطق صناعة الإنتاج السينمائي دوليا. أعتقد أنه يتوجب استغلال ذلك لصالح السينما المغربية والسينمائيين الشباب بالمغرب. · كيف نشأت علاقتك بالسينما؟ لقد بدأت التمثيل في سن السابعة تقريبا، كانت مجرد أدوارا بسيطة، ولكن مع مرور السنوات بدأ لدي اهتمام خاص بالأفلام والسينما، وعندما كنت في المدرسة الإعدادية كنت أشاهد أفلاما كثيرة جدا، كان لدي شغف كبير لمعرفة أساليب التصوير وكيفية العمل على صناعة الأفلام، كانت الصورة تجذبني، ووجدت متعة كبيرة في فكرة خلق عالم خاص للتعبير عن الأفكار وحكي القصص، كنت أعرف أنني أرغب في أن أكون سينمائيا وهذا سيطر على قرارات كثيرة اتخذتها منذ أن كنت في الرابعة عشرة، عندما قررت أن دراسة الإخراج السينمائي هي ما أريد. · ما هو الفيلم الّذي تحلم بإخراجه؟ لا أحبذ وضع الأمور بشكل مؤطر، فليس لدي فيلم واحد أحلم بإخراجه، إن الحياة مليئة بالنماذج والقصص والأفكار، والخيال ليس له حدود. ربما الأمر بالنسبة لي يعتمد على القيام بما أعرفه وهو صناعة الأفلام، لذا فإن الإخراج بالنسبة لي عملية مستمرة وليس محددا بحلم أو قضية معينة، طالما هناك سيناريو جيد سيكون هناك دائما فيلم جديد. إن طموحاتي وأفكاري كثيرة جدا، ولكن للأسف يصطدم أغلبها دائما بعوائق مادية.. ربما هذا هو ما أحلم به، توفر المادة لتحقيق أفلامي. · إلى أيّ مجموعة سينمائيّة في الإمارات تنتمي؟ وما مدى أهميّة تعدّد هذه المجموعات السينمائيّة؟ لا أنتمي إلى أي مجموعة، ربما لأنني لا أحب فكرة وضع نفسي داخل إطار قيود معينة أو لا أود الخوض في حسابات أو معايير خاصة قد تفرضها المجموعة لأنها تتخذ توجها ما مثلا، أعتقد أن الأفضل بالنسبة لي ولأفلامي هو أن أكون حرا تماما، رغم أنني لا أعارض تكوين وتعدد المجموعات الفنية بشكل عام، فهي تساهم بشكل ايجابي في صناعة وإنتاج الأفلام بلا شك. ولكن، أعتقد أن تكوين أي مجموعة فنية لا يجب أن يكون معتمدا بشكل رئيسي على فكرة الصداقة والصحبة كأولوية لتأسيسها بدلا من التكامل الفني والتقني، هذه سلبية كبيرة أعتقد أن بعض المجموعات تقع فيها بقصد أو بدون، لأنها تقتصر العمل على أعضاء المجموعة فقط، ما يعني تقليص الخيارات وتكرر الأدوار. · كيف ترى مستقبل السينما في الإمارات و العالم العربي؟ أعتقد أن الوطن العربي عموما مقبل على نقلة مهمة في تاريخه السينمائي، فالتحركات الفعالة في الإمارات ولبنان ومصر مثلا على صعيد الإنتاج المستقل تشير إلى تطور الوعي العام بأهمية السينما واللغة البصرية المهملة إجمالا في هموم المجتمعات العربية. والأمر المثير حقا هو بدء عدد كبير من الطلبة الصغار في الاهتمام بهذا المجال. بل أن بعضهم يصنع أفلاما مميزة فعلا. وهذا يلاحظه أي متابع لمهرجان "أفلام من الإمارات" مثلا، حيث هناك تطور مستمر في نوعية وأفكار الأفلام من عام لآخر، كما أن تطور مستوى الطلبة في ازدياد دائم كذلك. لقد أسس المهرجان ونشر وعيا كبيرا بالسينما في الإمارات، وهذا يعني أفلاما جيدة كل عام. لقد ساهمت التقنية الرقمية إلى حد كبير في هذا التطور في العالم كله، ورغم سلبياتها الواضحة في بعض النماذج من استسهال في العملية البصرية ككل لصناعة فيلم سينمائي جيد، إلا أنني أعتقد أن ذلك أمر طبيعي، وموجود ليس فقط في وطننا العربي بل في دول أخرى كثيرة حول العالم. إن التقنية الرقمية بصورتها الطاغية اليوم حديثة نسبيا في عالم السينما، وطبيعي جدا أن تحدث ارتباكات من قبل الراغبين الجدد في الدخول إلى هذا العالم، لا سيما أن رخص ثمن المعدات اللازمة لصنع فيلم أغرت كثيرين ممن ليس لديهم خلفية سينمائية أو حتى فنية، ولكن مع انتشار الوعي السينمائي والاهتمام بتطوير الذات سوف يتم تقديم أعمال جيدة دائما. · ماذا عن استخدامك لتقنيّة الكاميرا الرّقميّة لإنجاز مجموعة من الأفلام القصيرة؟ إنها مجرد أداة أعبر بها بصريا عمّا أريد، وطالما يمكن التحكم بها لايصال الأفكار بصريا كما يخطط لها فلا أعتقد أن هناك أي سبب يمنع استخدامها. إن النتائج النهائية هي التي تحدد خيارات المخرج – أو أي فنان آخر – في اختيار أدواته، تماما كالرسام الذي يمكن أن يرسم بعض لوحاته بالقلم الرصاص كما يمكن أن يستخدم في أخرى أصباغا وألوانا مختلفة .. إن النتيجة النهائية هي الأهم. لقد صنعت 3 أفلام بكاميرات سوبر 8مم عندما كنت في الولايات المتحدة أثناء الدراسة، ولكن الوضع الحالي في الإمارات لا يتيح سوى خيار الكاميرا الرقمية، ولكن أتمنى قريبا أن تكون الفرصة مواتية لصنع أفلام بالكاميرا السينمائية مرة أخرى. · درست فنون السينما في الولايات المتحدة .. فماذا منحتك هذه التجربة؟ وهل أثرت فيك اتّجاهات سينمائيّة معيّنة؟ بالتأكيد الدراسة أتاحت فرصة عظيمة للتعرف على المدارس السينمائية كافة، كما أن التعرف على أهم المخرجين ودراسة أعمالهم تفصيليا كان أمرا رائعا، لقد كان ذلك مفيدا جدا، وأمر طبيعي أن يؤثر في المرء عملا ما أو يجد أنه قريب من مدرسة معينة، إلا أنني بشكل عام لا أحبذ اتباع مدرسة أو نموذج بعينه لأنني أعتقد أن ذلك يجعل أفق الإبداع أضيق. لقد تخيرت قبل ذهابي التركيز على الدراسة العملية قبل أي شيء آخر، وإضافة إلى برنامج الكلية اتخذت خطا آخر على الصعيد الشخصي، وذلك بالبحث المستمر في الحقل السينمائي، إن كان بحثا في الكتب ومشاهدة الأفلام أو عملا في أفلام الطلبة من الزملاء. ربما المثير في هذه النقطة أنني من الأساس لم أكن راغبا في الذهاب إلى الولايات المتحدة الأميركية، ربما لاعتبارات الحساسيات الموجودة بين الثقافتين. ولكن بغض النظر عن ذلك، ذهبت .. ولا أعتقد أن الفائدة الكبيرة جدا التي حصلت عليها هناك كان يمكن أن أحصل عليها في مكان آخر، فمنذ أول إجازة عدت فيها إلى الإمارات بدأت أرى الأفلام القديمة (عربية أو أجنبية) التي كنت أعتبرها عالية التميز بشكل آخر، وبدأت أدرك السلبيات والايجابيات في كل عمل بشكل أفضل. · تدير منتدى سينمائي على شبكة المعلومات الدوليّة باسم أفلام الإمارات تحت عنوان عام "حركة السينمائيّين الجدد" .. ما هدفك من هذا؟ عندما أسست هذا المنتدى في البداية كان الهدف منه البحث عن المواهب السينمائية والمهتمين بالسينما داخل دولة الإمارات، كانت الخطة جمعهم داخل إطار واحد يمكنهم من التواصل بشكل أقرب ويتيح فرصة تكامل العناصر المختلفة لإنتاج الأفلام، ولكن اليوم تطورت الفكرة كثيرا .. أصبح موقع "أفلام الإمارات" واجهة تعريفية رئيسية على الشبكة للمهتمين بالسينما الإماراتية، ومصدر رئيسي لتقديم المعلومات عنها والتعرف إلى العاملين فيها، كما أن هناك اهتمام خاص يتبناه الموقع بنشر الوعي الفني والفكري تجاه السينما والفنون عموما، وذلك بتقديم مقالات ومعلومات مختلفة في السينما، إضافة إلى مراجعات الأعضاء الشخصية عن الأفلام، وطرح الموضوعات السينما والفنية الجادة للحوار بين الأعضاء، وهو ما يستفيد منه الأعضاء والزوار على حد سواء. لقد نمت الفكرة الأساسية نفسها وأصبحت تستوعب السينمائيين والمهتمين بالسينما من الوطن العربي والعالم عموما، وتحقق بالفعل الهدف الرئيسي من الموقع حيث باتت التعاونات في إنتاج بعض الأفلام – بسبب الموقع – أمرا واقعا بين السينمائيين، ليس فقط في الإمارات، ولكن أيضا في دول أخرى. ثقافة فراديس الإماراتية في يوليو 2005 |
ثلاثة أفلام وثائقية في إطار الشعر "طارق هاشم" يوثق التشكيل دراميا بقلم / باسم الأنصار تتميز الرؤى الإبداعية للمخرج السينمائي "طارق هاشم" باقترابها الشديد من رؤى الشاعر، لحظة تمركزه على حافة العالم في خلواته التأملية له، لبناء عوالم مستجدة لأحداث منقرضة بين فكي الزمن. وستستفز رؤى كهذه ذائقة المتلقي من دون انقطاع، وتدعوه إلى طرد الجاهز من البنى الفنية، ونبذ المألوف من الطروحات الإبداعية، وهكذا تتميز لمسات طارق هاشم بالحرية المطلقة في تعامله مع مفرداته، وبإعطاء القيمة الفنية، والمكانة الواسعة لكل البنى الزمكانية في أعماله السينمائية، باستثناء تهميشه الجلي للغة الصوتية لشخصياته، وذلك لإيمانه بأن الكلمة على الرغم من أهميتها وضرورتها أحيانا، إلا أنها ليست قادرة دوما على الإفصاح عما يختلج في بواطن الشخصيات، فضلا عن تعثرها أحيانا في إسكان أسرار الحدث المخبوءة فيه. وأفلامه الوثائقية الثلاثة التي كان فيها كالعادة (مخرجا، ومونتيرا، ومصورا، ومنفذا موسيقيا) أنجزها مؤخرا لمجموعة من الفنانين التشكيليين العراقيين: "عماد منصور" - فرنسا، "صادق كويش" - هولندا، "جلال علوان" - هولندا، تنحو هذا المنحى الجمالي المميز، وسيضيف المخرج لمسته المستجدة لمثل هذا النوع من الأفلام، والمتمثلة في خلق الإحساس لدى المتلقي بأنه يرى فيلما واحدا، مكونا من سلسلة أفلام مترابطة بلغتها الإفصاحية. ثم أن المخرج عمد بعد الانتهاء من عرض الأفلام الوثائقية، تباعا إلى عرضها سوية في آن واحد، وفي شاشة واحدة، محاولا في ذلك إبراز العلائق المتشابكة بين رؤاه المختلفة لهذه الأفلام تارة، وتارة أخرى إبراز الترابط بين مفردات الفنانين الثلاثة. وكذلك مبتغيا خلق فضاءات شعرية مغايرة على هيئة (الصورة والصوت) السينمائية. وفي فلمه عن التشكيلي "عماد منصور" لجأ "طارق هاشم" إلى استحداث احتمالات مكانية قريبة من الجذر الأول للإنسان، ألا وهو الأرض، وذلك من خلال سحب منصور من مكانه المعلب الحاوي لأدواته الإنجازية، والمسمى (الورشة) إلى العراء، حيث الغابة بتفاصيلها الثرية (التراب، الأشجار، السماء، والمناخ السحري المحيط بها). وسيصنع المخرج من أعمال الفنان النحتية واللوحاتية، مساحة عرض مسرحي مفتوح الفضاء، يجسد فيه منصور عدة ايماءات تمثيلية مختلفة تتناغم مع موسيقى تصويرية تثير اللذة في الأعماق كما تستفز الدهشة لدى المتلقي، لأن البنية الموسيقية لأفلام هذا المخرج هي من إعداده وتوليفه، بحيث يشعر السامع لها بوجود لمسة "طارق هاشم" عليها. ومع بداية التشكيل الصوري الأول لهذا الفيلم تتدفق الموسيقى بإيقاع هاديء يناسب حركة الكاميرا البطيئة، السلئرة صوب الشخصية "عماد منصور" الذي يظهر مستلقيا على الأرض بين أعماله الفنية، وملطخا بالطين من قمة رأسه حتى أخمص قدميه. ومن هذا المزج بين البنية الموسيقية، والشكل الصوري، سيشعر المتلقي بأنه يقوم بقراءة قصيدة حداثوية غير ملتزمة بالقيود الآنية أو المحددات القابلة للزوال ولكن مع الاحتفاظ بالقوانين الأساسية لآصول الإخراج السينمائي. ومن أجل تجسيد الروابط الأساسية بين المادة الخام للفنان (الخشب) وبين مكان العمل (الغابة)، ظهر الفنان في إحدى التشكيلات الصورية يتلمس إحدى جذوع الشجر الملقاة على الأرض بعد قطعها، ببواطن كفيه، وكأنه يتلمس جسدا مبهما يستلهم منه الطاقة الخلاقة لأعماله. وفي نهاية الفيلم يطفو على سطح الشاشة التوافق الهارموني بين مواد الفنان التشكيلي وبين رؤية المخرج، من خلال قيام الأول بالهرولة وسط الغابة، محتضنا بكفيه حفنة تراب مصبوغ باللون الأحمر، بعد أحد مفرداته الإنجازية لأعماله التشكيلية، ثم يتسمر في مكان ما ليتأمل الفضاء وتفاصيل المكان للحظات، بعد ذلك يقوم برمي حفنة التراب إلى الفراغ لتسقط ذراتها على وجهه، معلنة عن حالة إشارية متعددة الدلالات. وفي فلمه عن التشكيلي "صادق كويش" تتجلى براعة المخرج طارق هاشم في مزج الوثائقي بالروائي، وما تمتاز به الموسيقى التصويرية في هذا الفيلم، إنها تشي باختلاجات صادق كويش المبهمة، غير واضحة الملامح، إنها تسحب المتلقي إلى أجواء غرائبية وتدفعه للتفاعل معها. وكما هي عادة رؤى طارق هاشم الموسومة بالحرية المطلقة في عمله الإبداعي، يظهر لنا "صادق كويش" كمن يحاول غسل أوراق اللحظات المارة عليه، وكمن يأهل بنفض همومه الاغترابية المستبدة به. وبالرغم من طلوع صوت الطرقات على الباب، المرافقة لصوت المنادي على صادق مرة أخرى قبل نهاية الفيلم، إلا أنه يبقى غاطا في بحار نومه المستطالة حتى انتهاء الفيلم، الذي تعود كاميرته إلى هيئة صادق المستلقي في فراشه، كأنه يدل على استمرار الطقوس الحلمية لهذا الفنان. وفي فيلمه عن التشكيلي "جلال علوان" ينحو "طارق هاشم" منحى غرائبيا بعض الشيء، يتمثل في الارتطام المعاكس بين حركة الشخصية الرئيسة والإيقاع الموسيقي للفيلم، الذي تكون فيه حركة النحات إلى الخلف، حتى في لحظة قيادته لسيارته في إحدى الشوارع الرئيسية فإن الأشياء كلها تظهر سائرة إلى الوراء سيرا مرتطما بجسد لا مرئي، لكنه مسموع من خلال الموسيقى التصويرية التي تتسابق إلى الفضاء مع الأشياء المتحركة. إن هذا السير الخارج عن اعتياد الحال لهذا النحات، محاولة للبوح بعوالم الشخصية غير البائنة للمتلقي. والمدهش في الفيلم، ذلك التوافق الكبير بين المنحوتات وإيقاع الفيلم، لتأتي حركة الكاميرا والفنان، والإيقاع الموسيقي ثوبا مناسبا يقوم بإبراز جماليات المنجز النحتي لـ "جلال علوان". ثقافة فراديس الإماراتية في يوليو 2005 |