«كريستوف كولومبوس» لداريوس ميلو: ألم الذكريات ابراهيم العريس |
جرت العادة أن يعلن الروائي عدم رضاه بعدما ينجز مخرج سينمائي فيلماً مقتبساً من رواية له (حتى الكاتب الشعبي ستيفن كينغ أبدى غضبه من المخرج الكبير ستانلي كوبريك حين أنجز هذا فيلمه «شايننغ» المقتبس من رواية لكينغ، على رغم اجماع النقاد والمهتمين على أن كوبريك أعطى الرواية أبعاداً وقيمة لم تكن لها من الأصل كنص مكتوب). كذلك جرت العادة أن يعلن الشعراء عدم رضاهم عن الموسيقيين حين ينجزون وضع الموسيقى لقصائد أو أعمال أخرى لهم. غير ان لهذه القاعدة استثناءات لعل أهمها وأجملها رضى بول كلوديل، الشاعر الفرنسي الكبير، عن مواطنه داريوس ميلو، حين أنجز هذا الأخير موسيقى «أوبرا» «كريستوف كولومبوس» انطلاقاً من نص شعري طويل لكلوديل. بل ان كلوديل أعلن بوضوح ان ميلو أضفى بعداً روحياً اضافياً، وبعداً انسانياً مدهشاً، على نصه الأصلي. والحقيقة أن شهادة كلوديل هذه أضافت الى أوبرا ميلو قيمة زائدة، ولا سيما منذ عرض هذا العمل للمرة الأولى، ليس في باريس، بل في برلين في العام 1930، وأجمع النقاد على أن الموسيقي الفرنسي قد «استجاب في موسيقاه لكل المتطلبات الدرامية التي تطبع قصيدة كلوديل الطويلة». > و»كريستوف كولومبوس» هي مزيج من الأوبرا والاوراتوريو، وتتألف من قسمين، محورها شخصية «مكتشف» القارة الأميركية. غير ان موضوعها ليس ذلك الاكتشاف الذي بدّل وجه العالم والتاريخ، في حد ذاته، بل الأزمة الروحية التي عصفت بكولومبوس في آخر أيامه. والحقيقة أن المتآلفين مع كتابات بول كلوديل كان في وسعهم منذ البداية أن يتوقعوا أن يطل الشاعر على حياة كولومبوس، في هذه الزاوية: زاوية أسئلة الروح، وهذه الأزمة تحكي لنا هنا عبر حلقات كتاب مغامرات كولومبوس في هذه الحياة الدنيا، وانطلاقاً منه شخصياً. ذلك ان العمل يبدأ وكريستوف كولومبوس يحتضر في «بلد الوليد» في إسبانيا يتأمل حياته وما فعل، تحت وطأة أزمته الروحية العاصفة وقد دنا، جدياً هذه المرة، من ملاقاة وجه ربه. انه هنا، في موقعه هذا، شاهد على ما عاش من أحداث ومغامرات، لكنه، في الوقت نفسه قاض يحاكم نفسه، وراو يحدثنا عن المصير الغريب الاستثنائي الذي عاشه، وجعل لحياته كل ذلك المعنى الذي كان لها. > غير ان كريستوف كولومبوس ليس وحيداً هنا يروي لنا ذكرياته في عزلته التامة، بل انه محاط بكورس، يعلق على الأحداث، ويروي دواخل روح كولومبوس... لكنه لا يكتفي بهذا – اذ انه ليس كورساً راوياً جامداً، كما حال الكورس في التراجيديات الاغريقية القديمة -، انه يشارك حتى في الأحداث ويحركها، ويحرك ذكريات كولومبوس وينعش ذاكرته، متوقفاً عند تفاصيل يبدو كولومبوس، غير قادر، أو غير راغب في التوقف عندها. ومن هنا يصبح المحتضر والكورس شريكين في الحكاية. والعمل كله ليس، على أية حال، عملاً جامداً، بل انه عمل متموج، يسير صعوداً وهبوطاً، بحسب التفاصيل المروية، وبحسب تقلبات حال المحتضر نفسه، وأحياناً بحسب ما تمليه تدخلات الكورس، الذي قد يقلب في لحظات تفسير الأحداث كلها والموقف منها. والحال أن هذا الطابع المتأرجح للعمل هو الذي جعل داريوس ميلو، قادراً على تنويع موسيقي مدهش متأقلم تماماً مع تضاريس النص، وجعله يمعن في التغيير والتجديد فصلاً بعد فصل وحالاً بعد حال، ما أضفى على العمل كله طابعاً تنويعياً يفصله الباحثون والنقاد على الشكل التالي، اذ يرون ان المخطط الدرامي والتأريخي للعمل، تضافر مع تنوع العناصر السيكولوجية للشخصية الرئيسة، ناهيك بالعناصر المادية أو الكونية التي تعبر حالته عنها، كل هذا دفع ميلو الى أن يتعاطى مع كل فصل، في تعبير موسيقي يتفاعل مع شتى العناصر، الجوانية – الروحية – والبرانية – التي تهيمن على كل فصل، بل على كل موقف. وهكذا مثلاً تطالعنا مشاهد محكية يهيمن عليها طابع موسيقي ايقاعي، خصوصاً في ردود الفعل الجماعية للكورس في مشاهد كثيرة، ثم تطالعنا مشاهد سردية وصفية تستند الى استخدام أمثل للألحان ذات الطابع الشعبي متضافرة مع أقصى درجات البساطة الشكلية معكوسة في توزيع اوركسترالي خاص، ويتقاطع هذا كله مع مراحل ذات بعد روحي خالص، تمحور هنا حول تقلبات كريستوف كولومبوس بالارتباط مع فصول معينة من ذكرياته – ولا بأس أن نذكر هنا ان الاخراج يستخدم في مثل تلك الوقفات، عرضاً لمشاهد سينمائية على شاشة تتصدر المكان، وكان هذا نوعاً من التجديد المدهش في حينه -. وبالتزامن مع هذا كله اشتغل ميلو باستفاضة على مشاهد ولحظات تظهر قوى العناية الالهية والقوى الكونية، حيث تم التركيز هنا على كتابة موسيقية بوليتونال، أو تنتمي الى أسلوب «الغوغا» (ويتجلى هذا في شكل خاص، كما يقول مؤرخو سيرة ميلو في مشهد اليمامة، وفي المشهد الذي تظهر فيه ايزابيلا وسانتياغو، ثم خصوصاً في مشهد العاصفة التي تأتي بعد أن يستثير اندلاعها آلهة الهنود وآلهة أفريقيا على التوالي)... وأخيراً هناك العناصر الأكثر شكلية التي وضعها ميلو لكي تتلاءم مع المشاهد الاحتفالية، أو اللحظات التي يتم فيها الاعلان عن حدوث شيء ما. > الحال أن كل هذا التلاؤم، الجواني والبراني – لكي نستخدم تعبيرين فلسفيين – جعل من عمل داريوس ميلو هذا، عملاً استثنائياً يجمع بين حداثة القرن العشرين، واحتفالية الأعمال الكلاسيكية الكبرى... تلك الاحتفالية التي كشفت عن قدرة الموسيقي الفرنسي على رسم صورة موسيقية، ليس للأحداث الكبيرة فقط، بل للعواطف الداخلية، ناهيك بتصويره الصاخب للصراعات الداخلية والخارجية، التي اذ يستعيد كريستوف كولومبوس، وهو على فراش الموت، مجرياتها وتأثيرها في حياة البشر وحياة الروح، تنعكس عليه أشجاناً... بل حتى صحوة ضمير سنلاحظ كم انها تحطم هذا الضمير وتدفعه – وتدفع المشاهدين معه – الى ألف سؤال وسؤال. وهنا اذ نتحدث عن التمزق الروحي، لا نشير الى يقين ما، سواء أكان سلبياً أو ايجابياً. ومن الواضح هنا أن ميلو عكس في موسيقاه، ذلك التمزق الأوروبي الروحي – الذي عبر عنه بول كلوديل بقوة – ازاء أميركا والفكرة الأميركية نفسها. > وداريوس ميلو (1892 – 1974) هو في الموسيقى الفرنسية خلال النصف الأول من القرن العشرين، أحد كبار المؤلفين الذين انهمكوا دائماً في التعبير عن جوانية الروح. ولعل خير شاهد على هذا، اضافة الى «كريستوف كولومبوس» عمله الكبير «باسيم ان تيريس» (على الأرض السلام) الذي لحنه انطلاقاً من كلمات أحد كبار بابوات صفاء الروح في فاتيكان القرن العشرين «يوحنا 23». لكن ميلو، الذي اكتشف أهله بداية ولعه بالموسيقى ورغبته في أن يكون موسيقياً منذ سن الثالثة، لم يكتف بالسمو الأوروبي في موسيقاه، بل لجأ الى استخدام موتيفات برازيلية وأفريقية في أعمال كثيرة له، ومنها باليه «الانسان ورغبته». ونعرف أنه كان تعرف الى الموسيقى البرازيلية عن كثب حين كان سكرتيراً لبول كلوديل، اذ كان هذا سفيراً لبلاده في البرازيل... وقد عاش ميلو طويلاً، على رغم تدهور صحته منذ سنوات العشرين، وكتب كثيراً من الأوبرات والأعمال الافرادية والأوركسترالية، كما كان محور الحياة الاجتماعية والموسيقية في فرنسا، كعضو في فريق الموسيقيين «الستة»، الذي كان جان كوكتو ناطقاً باســـمه. كريستوف كولومبوس: أشجان رجل وحيد. الحياة اللبنانية في 26 يونيو 2005 |
جيهان نجيم: رحلة في كواليس الاعلام الأميركي خلال حرب العراق رام الله - يوسف الشايب أثارت جيهان نجيم جدلاً واسعاً في أميركا، من خلال فيلمها الأخير «غرفة التحكّم». ترصد المخرجة مجموعة من المحاور الحساسة، من خلال ست شخصيات إعلامية مهمة، ثلاث منها عربية: سمير خضر، ديما الخطيب وحسن إبراهيم، والأخرى أميركية: توم منتير، جوش راشينغ وديفيد شستر. وجيهان نجيم (30 عاماً)، ولدت في واشنطن لأب مصري وأم أميركية، ونشأت وترعرعت في مصر والكويت، قبل أن تعود ثانية إلى بوسطن في العام 1990 لتكمل دراستها في جامعة هارفارد، في قسم الفنون البصرية والفلسفة، حيث تخرجت العام 1996. ثم حصلت على جائزة عن إخراجها لفيلم «المقطّم» الوثائقي الذي يتناول جبل المقطّم في العاصمة المصريّة. والتحقت بعد ذلك بالقسم الوثائقي، لقناة «أم تي في» الإخبارية، كمنتجة لسلسلة أفلام تنتمي الى «سينما الحقيقة». بعد مغادرتها قناة «أم تي في»، أخرجت فيلمها الأول (startup.com)، بالاشتراك مع شركة أفلام «بنيبيكر هيغدس»، وعلى إثره فازت بالعديد من الجوائز من بينها جائزة DGA وIDA لأفضل فيلم وثائقي. ومنذ ذلك الوقت، تعمل جيهان نجيم متنقلة بين الشرق الأوسط والولايات المتحدة كمخرجة ومصورة في عدد من الأفلام الوثائقية، من بينها «البقاء للأقوى» من إنتاج «ميراماكس فيلم»، و»نزولاً من الجبل» للأخوين كوهين. وفيلمها الأخير «غرفة التحكم» الذي يعتبر معالجة تفكيكية لـ «نظرة الغرب إلى الفرد العربي»، حصل على الجائزة الكبرى لأفضل فيلم سينمائي في مهرجان الأفلام الوثائقية في نورث كارولينا في الولايات المتحدة الأميركية، كما نال جائزة أفضل فيلم وثائقي في مهرجان سيدني، وجائزة أفضل فيلم لمركز دراسات الأفلام الوثائقية في نيويورك. وتفتخر نجيم بأن الفيلم التسجيلي الذي يصور كواليس الإعلام خلال احتلال العراق، والأسلوب الذي تناولت فيه فضائية الجزيرة القطرية الحدث، أسهم في «استقالة الملازم جوش راشينغ، المسؤول عن العلاقة مع الصحافة العالمية في الجيش الأميركي». زارت جيهان نجيم عدداً من المدن الفلسطينية، خلال مشاركتها في فعاليات مهرجان الفيلم العربي الذي تنظمه مؤسسة «يبوس» للإنتاج الفني في القدس. بين الشخصيات المحوريّة في الفيلم منتج اخبار عراقي، انتقل من «الجزيرة» إلى الـ «فوكس نيوز»، وعسكري أميركي كان ضابط الارتباط مع قنوات الأخبار العربية في العراق، يقول إنه عندما ينهي الخدمة العسكرية، يريد أن يعمل من أجل القضية الفلسطينية. كان يؤمن بقوّة بصواب القرار الأميركي... ومن جرّاء الاحتكاك مع الصحافيين العرب، غيّر العديد من مواقفه. وعن تجربتها تقول نجيم: «توصلت إلى قناعة بضرورة النظر بشكل أعمق وتفحّص كل الأشياء النمطية المطروحة أمامنا. وأتمنى أن يخرج الناس من الفيلم، بقناعة تؤهلهم لأن يأخذوا على محمل الجد كل ما يشاهدونه على شاشة التلفزيون». أرادت جيهان التي تعيش بين الولايات والشرق الأوسط أن تجد أفراداً منشغلين بفهم الحقيقة من وجهة نظر الطرف الآخر. وقعت على شخصيات معقدة، أو مختلطة المشاعر والأفكار: «أعتقد أن انتقاء هذه الشخصيات الذكية يشكّل المقاربة الأفضل. الحياة اللبنانية في 26 يونيو 2005 |