الذاكرة المعتقلة للمخرج المغربي جيلالي فرحاتي: من يرّد للسجين السياسي اعتباره وللوطن ذاكرته المفقودة؟ روتردام ـ عدنان حسين أحمد |
في أوائل السبعينات من القرن الماضي احتدم الصراع في المغرب بين السلطة والمعارضة اليسارية علي وجه التحديد. وبالرغم من أن أساليب الخطف، والتعذيب، والقتل كانت سائدة ومعروفة قبل هذا التاريخ، أي منذ الحقبة التي اعقبت الاستقلال من الاحتلال الفرنسي في 2 آذار (مارس) عام 1956، ولم تنتهِ هذه الأساليب أو تخف وطأتها في الأقل الا في عام 2004 عندما طويت مرحلة الخطف لأسباب سياسية نتيجة لضغوط عالمية ومحلية فأوعز الملك محمد السادس بتشكيل هيئة الانصاف والمصالحة ، وكلفها بمتابعة ملف انتهاك حقوق الانسان في المغرب. لا شك في أن تاريخ المملكة المغربية منذ الاستقلال وحتي وصول المعارضة الي السلطة عام 1998 مكتنز بكثير من الخروقات الفظيعة لحقوق الانسان، ولعل أبرزها، وأكثرها رسوخاً في الذاكرة الجمعية المغربية هي قضية اختطاف الزعيم المعارض المهدي بن بركة من منفاه الباريسي، حيث مورست ضده أصناف التعذيب كلها الي أن مات من جرائها، ثم طُمست أثار جثته بواسطة تذويبها بحامض الأسيد كما جاء علي لسان أحمد البخاري، رجل المخابرات المغربي السابق الذي صحا ضميره بعد ثلاثة عقود ونيّف. وكل الذي فعلته حكومة المملكة المغربية أنها أدانت محمد أوفقير الذي كان وزيراً للداخلية آنذاك! وبعد أن باشرت هيئة الانصاف والمصالحة أعمالها في مستهل عام 2004، وبتوجيه شخصي من جلالة الملك محمد السادس الذي أعلن سلسلة طويلة من الاصلاحات في المجتمع المغربي، وأطلق سراح الآلاف من سجناء الرأي والكلمة، بدأ العديد من الكتاب المغاربة بنشر ما يسمي بـ أدب السجون والمعتقلات والتي تضمنت كل ما عاناه السجين أو المختطف السياسي من تعذيب، وتحقير، وسوء معاملة. وبالرغم من أن الأدب كان أسبق من الأجناس الابداعية الأخري في معالجة هذه الظاهرة الخطيرة والشاذة، الا أن السينما المغربية تلقفت هذا الموضوع أيضاً وأنجزت عدداً من الأفلام الروائية الطويلة التي وضعت تحت عناوين متقاربة في الدلالة وهي أفلام سنوات الرصاص ، أو سنوات الجمر أو أفلام غسيل الوطن أو بتعبير توفيقي أفلام المصالحة . وقد اتسمت هذه الأفلام بالجرأة، لأنها صرّحت بالمسكوت عنه، وكشفته أول مرة، بحيث ذهب مخرجو هذه الأفلام الي السجون الحقيقية وصوروا أحداث الأفلام هناك. قد يقول قائل: أين كان المخرجون المغاربة قبل صدور قرار العفو عن السجناء السياسيين، وتعويض بعضهم أو ذويهم عن الأضرار الجسيمة التي لحقت بهم؟ والجواب، أنهم كانوا موجودين هناك دونما شك، غير أن شجاعتهم تكمن في أنهم تصدوا لهذا التابو في ظرف قلق، فالأنظمة العربية لا تعطيك ضمانات محددة، والمخرج الذي يجازف بتعرية هذه المناطق المحجوبة انما يضع روحه علي راحة يده، فلا الملك يتقبل انتقاد سياسة أبيه، ولا الحكومة الحالية تتمني مزيداً من التعرية، وكشف الفضائح، ونشر غسيل آلاف القضايا دفعة واحدة. ويمكننا الاشارة الي أربعة أفلام روائية طوال عالجت موضوعة الخطف، والاعتقال، والتعذيب، وهي مني صابر لعبد الحي العراقي، و درب مولاي الشريف لحسن بن جلون، و جوهرة بنت الحبس لسعد شرايبي، و ذاكرة معتقلة لجيلالي فرحاتي. وتكاد تشترك هذه الأفلام الأربعة في ثيمات متقاربة، فمني في فيلم مني صابر هي فتاة مغربية مقيمة في باريس، تعود الي المغرب لتبحث عن مصيرها والدها المُختفي أو المُختطَف. وفي فيلم درب مولاي الشريف لحسن بن جلون المستوحي من السيرة الذاتية الغرفة السوداء والتي كتبها جواد مديديش الذي قضي خمسة عشر عاماً في السجن لأنه وزّع منشوراً قيل أنه يمس بالأمن العام. بطل هذا الفيلم يودع السجن بالرغم من أنه تخلي عن العمل السياسي في التنظيم الماركسي. أما الفيلم الثالث جوهرة بنت الحبس فيسرد من خلال ذكريات جوهرة حكاية أمها التي تعرضت للسجن، ثم التعذيب لاحقاً، والاغتصاب في نهاية المطاف. وقبل أن نتناول الفيلم الرابع مناط بحثنا ودراستنا لا بد من الاشارة الي أن المخرج نبيل الحلو كان يستعد لاخراج فيلم عميد الشرطة محمد ثابت وقد أعلن في حينه أن هذا العنوان مؤقت، وتدور قصة الفيلم حول عميد في المخابرات المغربية كان يستغل منصبه الوظيفي لاشباع نزواته الجنسية من خلال استدراج فتيات قاصرات الي شقته، ثم يقوم بتصويرهن بالفيديو، وابتزازهن للحيلولة دون رفع شكاوي ضده. ان سينما السجون والمعتقلات لا تقتصر علي المغرب حسب، لأن هذه الظاهرة موجودة في أغلب البلدان العربية. ففي تونس عالج موضوع الاعتقال السياسي والتعذيب في السجون المخرج نوري بو زيد من خلال فيلمه صفائح من ذهب والمخرج ابراهيم باباي في ليلة السنوات العشر . وفي العراق تناول المخرج محمد شكري جميل موضوعة السجن من خلال فيلمه المعنون الأسوار والمأخوذ من رواية تحمل ذات الاسم للروائي عبد الرحمن مجيد الربيعي. وفي سورية هناك فيلم القلعة الخامسة للمخرج بلال الصابوني، والذي استوحاه من رواية للكاتب العراقي المعروف فاضل العزاوي الذي عاش تجربة مريرة في السجن. كما قدّمت السينما المصرية العديد من الأفلام التي تتعاطي مع فكرة الاعتقال السياسي، وما يرافقها من تعذيب، ومصادرة لانسانية السياسي المعارض للسلطة الحاكمة، ومن بينها فيلم الكرنك لعلي بدر خان، و وراء الشمس لمحمد راضي، و المزاج لعلي عبد الخالق، و الأفوكاتو لرأفت الميهي، و حلاوة الروح لأحمد فؤاد درويش، و احنا بتوع الأتوبيس لحسين كمال، و التحويلة لأمالي بهنسي، و زائر الفجر لممدوح شكري، و أسياد وعبيد لعلي رضا، و البريء و الهروب و العرّافة لعاطف الطيب وأفلام أخري لا يمكن حصرها في هذا المجال الضيق. وعوداً علي الأفلام المغربية فان أغلبها سقط في خانة المباشرة والتقريرية كفيلم جوهرة الذي صوّر في داخل السجن، و درب مولاي الشريف حيث هيمن الحوار، وتسيدت اللقطات الداخلية التي حددت من حركة الكاميرا. أما فيلم ذاكرة معتقلة لجيلالي فرحاتي فقد نجا من هذه الأخطاء، وتفادي الهنّات الفنية من خلال اعتماده علي لغة سينمائية تتوفر علي جماليات في المؤثرات الصوتية والبصرية، بما فيه التشكيل اللوني، والتشكيل الرمزي، اللذان كانا حاضرين في الفيلم بقوة، وربما كانت هذه المواصفات الفنية هي السبب وراء فوزه بجوائز متتالية مثل الجائزة الكبري في مهرجان تطوان السينمائي، وجائزة السيناريو في مهرجان القاهرة السينمائي، وجائزة الصقر الذهبي في مهرجان الفيلم العربي في روتردام. هل ستعتق الذاكرة الجمعية المغربية من كوابيسها؟ أثار فيلم الذاكرة المعتقلة لجيلالي فرحاتي العديد من الأسئلة التي ارتدت لبوس المخاوف والشكوك، لأن ضمانات الأنظمة العربية ضعيفة دائمة، ومصداقيتها شبه معدومة. ومع ذلك فقد جازف عدد من المخرجين المغاربة بخوض هذه التجربة غير مأمونة العواقب، قبل قرار العفو عن السجناء السياسيين كما فعل الجيلالي، وبعده كما فعل عبد الحي العراقي، وحسن بن جلون، وسعد الشرايبي وآخرون. ومما يحسب للجيلالي فرحاتي أنه تجنب التعاطي مع هذه الموضوعة الحساسة بلغة مباشرة، أو شعاراتية لا تخرج عن اطار الخطابات السياسية الزاعقة التي لا تستطيع أن تقول شيئاً، وانما لجأ الي لغة سينمائية رقيقة خرجت من اطار العنف الصارخ، وحمامات الدم، وسنوات الرصاص التي يعرفها الجميع في عالمنا العربي، أي أنه تفادي التورط في التجارب السهلة التي تستدرج العواطف، أو تتوسلها علي الأصح. وتأسيساً علي هذا التصور الصعب والمحكم كان علي جيلالي فرحاتي أن يعتمد علي نص متماسك، لا يشوبه ضعف أو خلل أو ارتباك، الأمر الذي دفعه لأن يكتب السيناريو بنفسه. وقد جاء بالفعل رصيناً، ومحكماً، وقوياً، وشديد الدلالة والتكثيف. ولم يسِرْ السيناريو علي نسق سردي واحد، بل تداخل فيه الماضي، والحاضر، والمستقبل، وهذا سر من أسرار نجاح اللعبة النصية التي لا تدع المتفرج أن يكون مراقباً فقط لما يحدث أمامه علي الشاشة، وانما أراد له كاتب النص ومخرجه أن يكون مشاركاً في صنع الحدث، ومتماهياً فيه. وأعتقد أن فرحاتي قد نجح في نقل الفيلم من اطاره الذاتي الي الموضوعي بحيث أصبح بامكان المتلقي أن يعتقد بأن الذاكرة المعتقلة التي يجب أن تتحرر هي ليست فقط الذاكرات الثلاث لمختار، المعلّم الطاعن في السن، ولزبير، ابن السجين السياسي الذي مات في المعتقل، ولزهرة، اللاجئة السياسية التي عادت من الخارج لتبحث عن حبيبها المختار، وانما ذاكرة جيل بأكمله، هو جيل السبعينات علي وجه التحديد والذي شهد محاولتي انقلاب للاطاحة بالنظام الملكي الذي يحكم المغرب منذ 439 سنة. يتسم هذا الفيلم بطابع رمزي لتكثيف الدلالة، وليس للتستر، أو الحذر، أو المواربة، لأن المخرج نفسه أراد أن يعتمد علي اللغة المجازية التي تصيب هدفها دائماً، فقطعة الطباشير تذكرنا مباشرة بأنه كان معلماً، يعلّم التلاميذ، وينوّر أذهانهم، ولهذا السبب ما انفك يخط علي الحجر في رحلته الممضة للتحرر من ذاكرته المحبوسة، ويتمني لو يعود معلماً من جديد. وبالرغم من كون هذا الفيلم نخبوياً، ويتعاطي مع شخصيات مثقفة حسمت أمرها منذ البدء كالمعلم المختار جيلالي فرحاتي والابن المتمرد، زبير محمد مروازي وزهرة فاطمة لدوقي المرأة المتعلمة التي نجت بجلدها وهربت الي المنفي، الا أن الفيلم جماهيري النزعة في الوقت ذاته، لأن عامة الناس تتعاطف مع فيلم محرّك للعواطف من هذا النوع. وعلي الصعيد التقني فقد توفر الفيلم علي مواصفات فنية عالية تدلل علي تمكّن المخرج من أدواته التقنية، فحركة الكاميرا كانت مدروسة، ودقيقة بحيث ألمّت بمختلف جوانب الأحداث التي تعاطي معها المخرج، كما ساعدت المؤثرات الصوتية في تجسيد أجواء السجن بما يعتريها من خوف وفزع ومفاجآت غير مرتقبة سواء في تصوير أجواء السجن الحقيقية التي عاش فيها المختار وزبير، أو في بعض السجون التي هدمت علي ما يبدو بعد قرار العفو عن السياسيين، وانتفاء الحاجة الي هذه المعتقلات الكثيرة. لا بد من الاشارة الي أن أداء جيلالي، وهو الممثل الناجح، قد أسهم في منح الفيلم روحية خاصة، فقد كان هذا الممثل يتكلم حتي في صمته المعبّر، وكانت ملامحه كلها تشير الي أنه قد فقد ذاكرته بالفعل. وربما يذكرنا جيلالي فرحاتي بصديقه يوسف شاهين الذي أدي دور البطولة في فيلمه ذائع الصيت باب الحديد حيث نسي المشاهدون أنهم أمام مخرج الفيلم، وانما هم أمام ممثل متمكن من دوره، ومتألق فيه. وباستثناء مشهد التعذيب الرئيسي الذي شاهدنا فيه سجيناً سياسياً يخضع للتعذيب البدني وهو مقيد اليدين بالقدمين، وثمة جلاد يفرك أو يدوّر حجراً في فم الضحية، كان الفيلم برمته أقرب الي القصة التأملية التي يجهد صاحبها في الوصول الي ملامسة شيء ضائع، ومنسي، وراكس في الأعماق. السؤال المهم هو: هل تحررت هذه الذاكرات الثلاث من سجونها الذاتية التي هي امتداد طبيعي للسجن الجماعي لذاكرة جيل بأكمله يستحق ليس فقط التعويض أو رد الاعتبار، وانما أن نقف أمامه بقبعات مرفوعة وبرؤوس محنية بجلال كبير؟ هذا السؤال لم يجب عليه الفيلم، وانما ظل مفتوحاً علي احتمالين لا ثالث لهما قد نستطيع أن نتأكد منهما في السنوات القليلة القادمة. وفي الختام تقتضي الاشارة الي ان فرحاتي قد أنجز أفلاماً مهمة تفخر بها السينما المغربية ومن بينها شرخ في الجدار وعرائس من قصب و شاطئ الأطفال الضائعين . القدس العربي في 22 يونيو 2005 |