ناقدان يقيمان مهرجان الفيلم العربي في روتردام (صلاح هاشم وقيس قاسم) مهرجان الفيلم العربي في روتردام .. ما له وما عليه! (1/2) قيس قاسم |
يشي شعار الدورة الخامسة لمهرجان الفيلم العربي في روتردام بفرحة خفية، فالأصابع الخمسة التي رسمت تعلن عن أكتمال كف أشتغلت، ومرحلة من القلق قد توقفت، ودورة من العد التصاعدي لأصابع الكف الأخرى قد بدأت. عدوى هذة الفرحة تسربت الى ضيوف المهرجان، حيث الأحساس بالهدوء التنظيمي وقلة التوتر ويسر التعامل. ولكن هل أنعكس هذا الأحساس على المستوى الفني أو على مستوى العلاقة بين المهرجان والجمهور الموجه اليه أساسا؟ ثمة علاقة ملتبسة في هذة الجوانب دون شك! وثمة أساب موضوعية لا يتحملها المهرجان نفسه بالكامل، فمثلا العلاقة بين الحضور العربي للمهرجان ومتابعته، تدخل ضمن ظاهرة يعرفها كل المهاجرين العاملين في المجالات الأبداعية في الدول الغربية. ضعف حضور ومتابعة الجالية العربية للفعاليات الثقافية هي علامة بارزة مشتركة. ومهما سعى المنظمون وأجتهدوا فأن الشكوى من غياب أبناء جلدتهم تتكرر وتملأ أفواههم مرارة. والأمر هنا متشابه. لكن الخشية الحقيقة أن يفتر حماس المهرجان في البحث عن سبل أخرى لجذبهم والأكتفاء بالجمهور الهولندي، فالمهرجان يريد، وهذا سر فرحتنا به، أن ينسج علاقات ثقافية بين العرب والهولنديين ويساهم في خلق مناخ جيد لفهم بعضهم البعض، وأن أي خلل في هذا المسار سوف يزيل السبب الحقيقي لأقامته. أما على مستوى حضور السينما العربية فالأمر لا يخلو من ألتباس أيضا. المعروف بديهيا أن المهرجات لا تنتج أفلاما، بل تختار وتعرض. ومهرجان روتردام للفيلم العربي ليس بأستثناء، غير ان مستوى السينما العربية المختارة والمعروضة فيه تؤثر، دون أرادة منه، عليه وبالتالي على مستواه وسمعته، وهذة أشكالية يتحملها المنتج السينمائي العربي نفسه بالدرجة الأولى، وأوضح تجلياته هنا السينما التسجيلية، حيث جاءت أغلب العروض تلفزيونية (ريبورتاجات) وبعيدة عن أنتماءات الفن السابع، ساهمت أحداث العراق في تكاثرها. وعلى مستوى الأنتاج الروائي فالمعروض قد يشكل القسط الأكبر وحتى الأهم تقريبا ولكن شحة المنتج كما والتركيز على النوع القليل الذي يفرض تكرار عرضه في مهرجانت تسبق مهرجان الفيلم العربي في روتردام يولد شعورا عند المختصين بتقادم هذة العروض، متناسين حقيقة أن الجمهور العربي في هولندا أنما يشاهدها لأول مرة، ومن هنا يكتسب التوجه الى العرب أهمية كبيرة كما ذكرنا. وما الأفلام الجيدة مثل " الرحلة الكبرى" و"غير صالح للعرض" و"بحب السيما" سوى أفلام عرضت في مهرجانات عربية وعالمية مثل روتردام وغوتبنورغ وغيرها لكن هل شاهدها العرب؟ طبعا هذا الجزء من العلاقة غير المتكافئة لا يعفي المهرجان من مسؤليته في خلق توازن بين المعروض والمجلوب، مع معرفتنا للمزاج الشخصي للمنتجين والمخرجين الذين يريدون لأفلامهم المشاركة في مهرجانات "كبيرة" فيعتذرون لأسباب واهية، تضيع أحيانا عليهم " المشيتين" أي لا عروض في مهرجانات دولية ولا مشاركة في مهرجانات جدية بحاجة الى دعمهم وحماستهم! ما دمنا جميعا نتحدث عن أهمية تقديم ثقافتنا الى الأخر. قد يطول الجدل هنا ولكن لنعد لمسح تحليلي مكثف لبعض الأفلام المعروضة ولنرى الى أي قدر تتقارب حسابات الحقل مع حسابات البيدر! "الذاكرة المعتقلة" فاز بجائزة الصقر الذهبية للأفلام الروائية الطويلة، فهل أستحقها؟ للحكم نقديا على الفيلم لابد من التنويه الى موضوعه الخطير المتعلق بمصير المعارضين السياسيين في المغرب، وحرية تعبيرمواطنيه عن أرائهم، وتوقيت أنجازه، لأنه صار من المعروف أن سياسه جديدة أنتهجتها المملكة المغربية أعلنت فيها الكشف عن المفقودين السياسيين وأعادة الأعتبار لهم، ولأن الفيلم أنجز قبل هذا الأعلان فأنه يكتسب طليعية وشجاعة كالتي كسبها فيلم " الف شهر" لفوزي بن سعيدي. فالموقف الفكري والسياسي من هذة القضية تمنح الفيلم قيمة مضاعفة، هذا إذا ما أستوفى شروطه الفنية طبعا. ولأن المخرج والممثل جيلالي فرحاتي ركز جهده على تقديم شغل سينمائي جيد فأن الأجابة ستكون بنعم، أنه يستحق الجائزة. على مستوى المعالجة أرادها أن تكون بمستوى الأفراد، فهم المتضررون من العسف السلطوي دائما، ولكن هذا التصغير جاء على حساب حجم المشكلة السياسية المطروحة، أي أن حالة من "التحجيم" برزت فيها الفردية على حساب سعة الموضوع. بالمقابل لم يلتفت فرحاتي الى هذة الزاوية ، أي لم يريد محاكمة تاريخ بأكمله، انما أرادها حالة وجودية تمس كائنات مازالت تعاني من القهر ومازالت ذاكرتها معتقلة بفضل قساوة العنف. ولأن الموضوع يتعلق بفقدان ذاكرة السجين، فسينحصر بعلاقة جسدية ونفسية، ولهذا فثمة بطيء سيتسرب الى حركة الفيلم، يعادله حركة مكانية ترصد تنقلات ثلاث ذاكرات تبحث عن معنى الكائنات التي فقدتها، المختار، الرجل الكهل الذي يريد الهروب الى الحاضر عبر نسيان قساوة الماضي وذاكرة الشاب زبير الباحث عن أبيه، عن جذر ومعنى الماضي لأنه يريد الحاضر وذاكرة اللاجئة السياسية زهرة التي تعود للبحث عن حبيبها المختار. بين هذة الذاكرات يتنقل الفيلم بحركة كاميرا مدروسة ساعدها السيناريو المحكم في التقاط هواجس الخوف من السجن ومن السلطة عند تلك الكائنات وأيضا ساعد التمثيل، الذي قدمة فرحاتي عبر شخصية المختار ومحمد مروازي الذي مثل الشاب المتلهف لمعرفة الحقيقة، في التعبير عنها. الفيلم رصد حقيقي لحقبة السبعينات المغربية وشهادة لماضي لا أحد يريد تكراره. ولكن هل سيحصل هذا؟ فرحاتي لا يقدم في فيلمه أجوبة أنما يطرح أسئلة من بينها هذا السؤال.. هل سيتكرر هذا ثانية؟ هل ستتحرر الذاكرة؟ واحد من الأفلام العربية المهمة التي عرضها المهرجان "الرحلة الكبرى"، والذي تناول الأسلام بأعتباره واحدا من أكثر الموضوعات آنية وأشكالا. فالأسلام المتهم بالتطرف والعنف يقابله أسلام أخر ورع ومتسامح وغالبية المسلمين في العالم يأمون به وبقيمه. لقد مس أسماعيل فروخي أشد الأوتار حساسية وأنطلق في معالجته من قاعدة مثيرة للجدل هي الأخرى، ألا وهي العلاقة بين الآباء والأبناء المهاجرين. فالأب العربي المسلم يقرر حج بيت الله، ويقرر بطريقة فيها هيمنة أبوية أن يصطحبه في رحلته الطويلة أبنه، الصغير، الشاب الذي ترعرع في فرنسا ويجد نفسه منتميا لها وليس به رغبه لمشاركة والده رحلته ولا يفهم دوافعها. مبدأ "الأجرعلى قدر المشقة" سيأخذ به الأب ويبدأ زيارته لمكة بواسطة سيارة، وبها يدخل الفيلم الى ما يسمى بسينما الطريق. فروخي يعرف ماذا يريد أن يقول ويعرف بنفس القدر أدواته السينمائية، فيمزجهما في شريط ممتع نقصه الوحيد بعض الإيطالات خاصة تفاصيل دخوله الأراضي الأوربية. وضعف مشاهد الحج التي صورها خارج السعودية. " الرحلة الكبرى" تجربة فروخي الأولى وبها يكشف عن مخرج واعد، ساعده في مهمته الممثلان نيكولا كازالي ومحمد مجد. عدي رشيد ينجز فيلمه الروائي الطويل الأول "غير صالح للعرض" أيضا، و لكن مع فارق أنه الفيلم العراقي الأول بعد سقوط صدام حسين. شارك عدي فروخي جائزة المحطة التلفزيونية الفضائية "راديو وتلفزيون العرب" المستحدثة خلال هذا العام، وأثار فيلمه جدلا حول واقع السينما العراقية اليوم وآفاق تطورها، خاصة وأن الأنظار كلها متجه الى هذا البلد المنكوب بالحروب والويلات والتي لا يمكننا النظر الى منجز عدي دون أخذها بنظر الأعتبار. (الجزء الثاني من هذا المقال سيختص بالسينما العراقية) في تناقض كامل مع الرحلة الكبرى يأتي فيلم " الباحثات عن الحرية" لايناس الدغيدي. فالسطحية والخواء الفكري يطغيان على الموضوع التي تحمست لعرضه الدغيدي، أي المرأة العربية المهاجرة ومشاكلها. الجهل واللاعمق في تناول هذا الموضوع الشائك يظهران بشكل جلي، عبر النماذج التي قدمتها، بكليشهات مكرورة لا جيد ولا أستثنائي يوصمها. هذا المستوى الخارجي واللاعميق سينعكس أيضا في الشغل السينمائي. فالتمثيل يسوده البرود والسيناريو مكتوب بعجالة، الوحدة الداخلية تبدو مفككة على الرغم من محاولة المخرجة ربط حيوات النساء العربيات الثلاثة بوشائج درامية تخفف من تفكك الموضوع والشخصيات. هنا قد يطرح السؤال.. ما جدوى أختيار هذا الفيلم! هل لأنه مصري الأنتاج وأثار جدلا فيها وخارجها وشارك في مهرجانات أخرى؟ هذا ليس كافيا على الأطلاق لأننا وتقريبا لنفس الأسباب سنجد أنفسنا امام فيلم مصري أثار جدلا ولكنه يملك مواصفات سينمائية جيدة وهنا نتحدث عن "بحب السيما" لأسامة فوزي. لأن موضوعه شائك ويمس قضية التعصب الديني المسيحي في مصر، فقد أنعكس التذبذب في شكل الفيلم نفسه، فتارة نجد أنفسنا أمام أسلوب الواقعية الأيطالية وتارة أخرى أمام سريالية وأخرى تقليدية ذات طابع جد مصري. لقد أراد أسامة تمرير أفكار جريئة مسكوت عنها ولكنه كان حذرا في مسها، وما تعكزه على الطفل نعيم سوى محاولة لأضفاء طابعا من البراءة على الطرح وأيضا تهربا من الجدية والمباشرة لو نسبت الى رجل بالغ السن. فالطفل وببراءته قادر على طرح أخطر الأسئلة دون وجل وقادر على الولوج الى عوالم الكبار إذا تمتع بالقدرة "الخارقة" التي أمتلكها نعيم. بحب السيما ووفق المعايير الفنية فيلما جيدا فيه حلاوة التصوير، طيلة زمن الفيلم يبقى المشاهد مشدودا ومنتبها، حتى الأنتقالات الدرامية السريعة، كومديا أو جدية، لا تقاطع حاد بينها والسبب قدرة أسامة على أدارة فريق عمله بشكل محسوب وأيضا أداء ممثليه المتميز. هل الحاجة لعكس الواقع وآنية أحداثه يكفيان أن يكونا سببا لأنتاج فيلم؟ هذا السؤال يقفز سريعا الى ذهن مشاهد فيلم "تحيا الجزائر". ماذا يريد أن يقول نادر مكناش، هل الجزائر اليوم هي غير التي عرفناها قبل عقد أو أكثر، بمعنى دخول عناصر جديدة على مشهدها السياسي والأجتماعي. أيريدنا أن نعرف أن دور الأصوليين الدينين قد أنحسر وأن الحرية الشخصية قد أخذت مكانها الأن. وأن دور الدولة في حماية الأفراد وخاصة النساء ما زال ضعيفا. ربما الأشارة الأخيرة قد وصلت ولكن دون شك على حساب المستوى الفني والفكري للفيلم، فالمشاهد الجنسية طويلة وغير مبرر عرض تفاصيلها، ودور الأم/ المغنية والراقصة مكرر في أفلام كثيرة، والتحول البوليسي في الجزء الأخير من الشريط جاء متأخرا، فبدا مقطوعا عن السياق. يأسف المرء أحيانا على هدر موارد مادية وفنية ( ليست سهلة المنال) على أعمال سينمائية لا تلتفت الى قيمتها. "تحيا الجزائر" بدا دعائيا وأراد أخذ المرأة العربية كقميص عثمان! وربما كمنبع لرأسمال يصرف في غير مكانه. على مستوى الأفلام الروائية القصيرة أمتعنا فيلم التونسي ابراهيم اللطيف "تأشيرة". حكايته المحبوكة بأسلوب تشيخوفي تنقل عدوى سخريتها المرة الى المشاهد بيسر، وبدون حاجة الى معرفة لغة الحوار ذات الغلبة الفرنسية. الأداء التمثيلي جيد جدا والتصوير جميل وقدرة اللطيف على توصيل فكرته مدهشة، حتى معالجته لموضوع الهجرة، المطروح بكثرة في السينما المغاربية مختلفة هنا، لأنه يمنحها بعدا عربيا أخر يثير قضية الهوية والانتماء. فحلم الذهاب والسفر الى الغرب تعادله خسارة معرفة الثقافة الأم وخسارة بلدان عربية قد يحسب المغترب أنها قريبة المنال! شهد مهرجان هذا العام حضورا مكثفا للفيلم التسجيلي وكما أشرنا فأن أغلبيتها يدرج ضمن الشغل التلفزيوني (فيديو) الى جانب أفلام شكلت بدرجة ما مؤشرا على أهتمام عربي بهذا النوع من السينما، خاصة وأن ميلا عالميا يدفع بهذا الاتجاه. مادة فيلم "غير خذوني" ذكية ومثيرة، وتأتي ضمن سياق الكشف عن الأعتقال السياسي، الذي يعاني منه المواطن العربي من غربه الى مشرقه. "عندما تغني المرأة" قدم مادة توثيقية مشوقة بطبيعتها الغنائية تشد المشاهد وتجبره على المتابعة. وفق مصطفى الحسناوي في أعادة أحياء مادة خام وبعث فيها روحا سينمائية جديدة. على مستوى أشكالي مختلف جاء الفيلم السوري "أزرق رمادي" لمحمد الرومي، الذي رصد المتغيرات الجيوبشرية التي تركتها أثار المياه المغرقه لمناطق نهر الفرات نتيجة العمل على بناء السد بالقرب منها. فيلم قصير نادر يشير الى الخراب البيئي والسكاني الذي لحق ببعض المناطق الزراعية في سوريا. فيلم يفرض الاشادة به كعمل ينتقل بنجاح بينن اللحظة الزمنية الحالية والماضي غير الموثق فلميا، فيمزج الرومي بين حكاية صباه وحياة أهله في قريته وبين ما جرى لها في الزمن الحاضر. في حين نجد فيلما سوريا، وثائقيا قصيرا، أخر مثقل دعائيا ويحمل أهدافا سياحية وسياسية مباشرة، لم يقدم أي أضافة في هذا المجال، بل يوحي فيلم "جبال هولندية" لوسام كريم بأن الهدف من أنتاجه هو تأمين سفرة الى سوريا يرافقه فيها هولنديون يستمتعون بأجواء شرقية مع محاولة شكلانية لقراءة الواقع العربي عبر تجربة فيها من الطابع السياحي الصرف أكثر من معرفة بثقافة المنطقة وتاريخها. في مبادرة ملفتة للأهتمام كرم المهرجان ثلاث مونتيرات عربيات، وهي التفاتة ذكية تريد تقديم كل عناصر الفن السينمائي الى المشاهد بأعتبار المونتير مساهم مهم في الأبداع وفنان لا يقل دوره عن بقية الفنانين، ما ينقص هذة المبادرة هو حصرها فقط بالتكريم وهداياه، دون توفير فرصة لهن لمقابلة الجمهور والمختصين للحديث عن تجاربهن وعرض بعض جوانب عملهن التطبيقي والمعرفي. مسألة أخرى لا بد من التنبيه لها، وهي عدد أيام المهرجان، بالرغم من علمنا بصعوبة الحصول على الدعم والجهد المبذول من قبل منظميه لتأمين أستمراره، تبرز الحاجة الى تمديد أيام المهرجان كضرورة وليس ترفا. كثافة عرض الأفلام أي عرض فيلمين في آن تضيع دون تعويض فرصة مشاهدة أحدهما، وهذا الأمر يصعب مهمة الصحفيين والنقاد الذين يريدون مشاهدة أغلب الأفلام والكتابة عنها، ناهيك عن الجمهور. كما أن مواعيد الغداء تسهم في خسارة مشاهدة أفلام أخرى. نعتقد أن الوقت الصباحي غير مستثمر كاملا ، وأدى الى حصر العروض في فترة زمنية محددة تبدأ ظهرا وتنتهي ليلا. الكاتالوغ وكثرة النشريات تدعو الى الدهشة، وأعلام المهرجان المرفوعة في المدينة لا تعطي أي عذر وحجة غياب لمن يريد حقا مشاهدة سينما عربية في مدينة غربية! موقع "إيلاف" في 15 يونيو 2005 |
"عراقيون وسينما" (2 ـ 2) قيس قاسم يمكن أعتبار فيلم خالد زهراو "عراقيون وسينما" مدخلا جيدا للتعرف على واقع السينما العراقية. مادتة التوثيقية/ المعلوماتية الجديدة تعطي المتلقي سواء كان مختصا أو متابعا مهتما فكرة واضحة عن مشاكل السينما العراقية اليوم وتصور بعض المشتغلين بها والمهتمين بصناعتها لمستقبلها، ومن هنا يكتسب الفيلم معناه. لم يلجأ خالد الى أي نوع من الحذلقة الشكلية لتغير طابعه البصري القريب من الريبورتاج التلفزيوني، بل حافظ عليه وبسطه. والحقيقة أن الأمساك بالموضوع والحفاظ على وحدته جعل منه فيلما مريحا للبصر والذهن، وأيضا جعل من هذا الشكل مادة بصرية نقلت رؤى أشخاص متباينة لواقع السينما وآفاقها، وفق في جمعها في وحدة تسجيلية، نقلت ما أرادوا قوله بيسر وبتوازن حصص معقول، لهذا جاء الفيلم متوازنا وبسيطا ومفيدا. "بغداد بلوغر" ".. يعمل سلام باكس مترجما في بغداد في العراق. ولد في بغداد، ظهر أسمه في الصحافة لأول مرة بأعتباره أول من أنجز ويب بلوغ في بغداد في الفترة التي سبقت عملية التغيير في العراق، وسقوط نظام صدام حسين، كلف لاحقا من الغارديان لإنجاز مجموعة من اليوميات على شكل حلقات تلفزيونية. مهنته الأصلية مهندس معماري. ..عرضت عليه الغارديان مكانة وموقعا، بعد غزو العراق عرضت عليه آلة تصوير ليتابع يومياته على الفيديو. هذا الفيلم سلسلة من يوميات الفيديو.. أرسلته الغارديان في عطلة أسبوعية. وكمراسل موسمي أنطلق يبحث عن الأخبار. ذهب مثلا الى كربلاء عندما كان يقام أحتفال الشيعة في عاشوراء، حيث كان الحجاج يلطمون أنفسهم حتى تنزف دماؤهم..،" هذة فقرة منقولة من المعلومات التي وردت عن الفيلم في الكاتالوغ الخاص بالمهرجان، بدونها يتعذر علينا فهم الفيلم، ويسقطنا في موقع الحكم المنقوص. فالمعلومات تفسر لنا أرتباك حركة الكاميرا وضعف تصويرها، ألقريب من تصوير الهواة أو التصوير المنزلي. كما يفسر لنا لماذا أخذ جزءا واحدا من المشهد العراقي الراهن، أي أحتفالات الشيعة في عاشوراء، دون غيرها من التفاصيل اليومية، ويفسر لنا أيضا لماذا أنحرف الفيلم من مساره الشخصي والجميل في بدايته الى مسار أنحصر بشعائر عاشوراء. فالأمر مبرر مادام هو حلقة من مسلسل يوميات فيديو!. ولأنه مشغول للغارديان فهذا يوضح طبيعته الدرامالوغية ولغته. فباكس يتحدث الأنكليزية بطلاقة ويعرف هو من يخاطب! لغته التهكمية مقبولة بالكامل عند المواطن الغربي، وملائمة لذهنيته، ولكن ماذا عنا. نحن المشاهدين العرب؟ ما الذي يفسر حضورنا لمشاهدته وهو يحكي لغة تخاطب غيرنا ولماذا نتحمل سخريتها اللاذعة على مشاهد يومية تدمي القلوب وعلى بلد يذبح. سخرية باكس مكانها في الغرب وليس لجريح أقرب هو الى الموت منه الى بطر المتلقي الحريص على متابعة ما يجري في العالم الأخر. مكان عرض هذا الجزء من اليوميات غير مناسب، ولأنه جزء من مجموعة وعرض ككل، ولد شعورا بأنه فيلما مبتورا وناقصا، والمعلومات الواردة عنه لم يعرفها أغلبية مشاهديه، وإذا عرفها فسوف لن يفهم لغته. أي حيرة هذة! "العراق موطني" أنقسم العالم والعراقيون في النظر والموقف من الدخول الأمريكي للعراق، وما زال الأنقسام يشتد، ويظهر بشكل جلي في وسائل الأعلام وأيضا في بقية الفنون. ووسط مناخ مشدود ومتحيز كهذا يصعب العثور على نظرة متوازنة وموضوعية بل وحتى معتدلة الميلان. لكن المفاجئات لن تتوقف، فتقدم لنا بين فينة وأخرى أستثناءات عن القاعدة، وفيلم " العراق موطني" هو واحد منها. يقدم فيه هادي ماهود رؤية متوازنة الى الواقع العراقي بعد التدخل الأمريكي. توازن نابع من رؤية واضحة لتاريخ العراق القريب، فهو يجمع بين عرض ما جنته جمهورية الخوف والرعب، جمهورية صدام حسين، بحق الأنسان العراقي وما جناه الأمريكان به وبوطنه. يدخل ماهود الى هذا الفيلم من نظرة الى ماضي قريب فيزور السجون ويعرض آلام البشر وما عانوه في هذا الوطن. ثم يبقي عدسة كامرته مفتوحة على مشهد الخراب الآني، لروح وجسد العراقي. كامرته رصدت نبض مدينة السماوة فأنفرد هو بالأبتعاد عن بغداد التي صورها جل من صور في العراق بعد سقوط صدام، فمنحنا فرصة التعرف على مدينة فقيرة وبائسة ليس فيها من ملامح بلد نفطي سوى الطمع في سلبه. وأعطانا جزءا من صورة العراقي الطموح في العيش بسلام مخلولة بعض الشيء. ما أخل بتوازنها الجيد هو ماهود نفسه، عندما وضع نفسه بطلا، يتقدم الجموع الى المشرحة ويتزوج ليمنحنا به أملا لمستقبلنا. وكأن نشيد موطني الذي ينشده الأطفال غير كاف لتوصيله. لقد أرغم ماهود نفسه على الشكل الذي أنهى به فيلمه عندما جعل من نفسه بداية له ومن مغادرته سيدني مدخلا لرحلة العودة المكرورة في أغلب الأفلام التسجيلية الأخيرة، وأقمحه بشخصية حكيم المدينة المجنون، وأيضا مشاهد المشرحة. الشغل السينمائي ل" العراق موطني" جيد بعمومة وخاصة تصويره. أعتقد أن لجنة التحكيم ظلمت الفيلم عندما لم تمنحه أي جائزة من جوائز المهرجان ولم تنبه اليه أنتباهة خاصة. "العراق الى أين؟" بغض النظر عن طبيعة الأسباب التي منعت باز البازي من دخوله العراق، فأنها منحت فيلمه "العراق الى أين" تميزا، عندما وضعته خارج أفلام (رحلة العودة). أضطرار باز وفريقه الى تصوير العراق من خارجه، جغرافيا، عبر أحاديث مجموعة من مواطنيه أجبرتهم الظروف أن يقيموا في الأردن، أعطت صورة أخرى لتشابك وتعقيد القضية العراقية وقدم معاناة تختلف بعض الشيء عن معاناة العراقي في الداخل. فأبناء البلد المضيف وسلطاته تدخل طرفا جديدا في حياة هؤلاء. ثم أن تجمعهم لا يعكس وحدة وأنسجام قدر ما يكشف تناقضا في رؤية الواقع العراقي. ربما يكون باز من القلة التي سلطت الضوء على جانب من رؤية اليسار العراقي لمحنة بلاده، حاولت وسائل أعلامية كثيرة طمره أو خلق أنطباع بأنها مقيدة بالمشروع الأمريكي. قد يسجل الأنحياز الظاهر لهذة الكتلة مثلبة في الفيلم، وسببت في أبعاده عن الحيادية. صحيح أن باز أراد خلق توازن كما فعل ماهود في فيلمة وذلك عبر أشراك رجل أردني في نقاشات العراقيين وأظهار حماسته للنظام الصدامي، غير أن هذا القدر جاء مبتسرا بالمقارنة مع حديث الرجل الكهل المعذب هو وعائلته من قبل أجهزة صدام القمعية. على مستوى الشغل الفني ثمة مهارة واضحة في التصوير ولكن أيضا ثمة تكرار يقرب الشغل كله الى الفيديو. ربما يستثنى منها المشهد الأخير لحركة الشاحنات الداخلة للعراق والمليئة ببضائع تصدر الى هناك، أي محاولة كشف العلاقات الأقتصادية وتشابكاتها بالسياسية بعين سينمائية. "غير صالح للعرض" بسبب ظروف أنتاجه الأستثنائية وموضوعه وزمن عرضه، تضاربت الأراء فيه وتباينت التقيمات النقدية له، كما ساهمت المشاركات الدولية والجوائز التي حصل عليها في تكوين فكرة مسبقة أثرت على الأحكام التي تلت عرضه. وحتى لايؤثر النقد على حماسة وأندفاع المشاركين في الفيلم تريث الكثيرون في الكتابة عنه. كل هذة الاشياء ولدت حراكا لمناقشة السينما العراقية، ولعدي فضل في هذا. ولأن الفيلم قد عرض على جمهوره وتحول الى منجر عام صار خاضعا للحكم بأعتباره فنا خالصا. ما أن تخرج من الصالة حتى تشعر ان ثمة شيء ناقص في الفيلم، يدفعك لأستراجعه في ذهنك أكثر من مرة. أول هذة الأشياء: وقت الفيلم (67 دقيقة) وقت خارج المعدل المألوف، وثانيا نوع الفيلم الذي يجانس بين الوثائقي والروائي، وأيضا نوعية الشريط الخام الذي أعطى لونا "مضروبا" لا يشبه بقية الأفلام. لعدي رشيد حساسية بصرية ممتازة، وبدرايته لما يملك لجأ الى موضوع يعتمد على المشاهدة، على العين. لقد حول عينه الى شاهد نبه على ما يجري في مدينته، زمن الأحتلال. وبمهارة أيضا طوع السيناريو لهذة الحساسية (كتبه المخرج مع حيدر الحلو) لكن شيئا ما يوحي أن قدرة عدي على الأمساك بموضوعة كانت ضعيفة، وهذا يتضح بشكل جلي في حركة الممثلين وأيضا في الريبورتاجات داخل الفيلم، تحس عبرها أن هناك أكثر من مخرج وأكثر من سيناريست. ضعف بارز في أدارة فريق العمل و"أنفلات" ينقل عداوه الى المشاهد، الذي يجد نفسه موزعا بين أكثر من شكل تعبيري ومسار في حركة الفيلم. مشكلة الفيلم الرئيسية برأي تمكن في وقتة. لو أختصره عدي الى 45 ـ 50 دقيقة لجاء فيلما مختلفا تماما، لأن الأختصار سيفرض عليه وقتها تحديدا كاملا وواضحا لشكل الفيلم الروائي، ولأزال الجانب التقريري الذي يميل الى شكل الأداء المسرحي أكثر منه الى السينمائي، كحركة يوسف العاني المسرحية في أول مشهد له في الفيلم عندما يفتح الباب ويقول بطريقة تقريرية " سرقوا المتحف" وأيضا نقله لنا ما يسمعه من أخبار عبر الراديو الذي يلتصق بأذنه طيلة الوقت. أن أدخال المشاهد التعبيرية ليس موفقا دائما في الشغل السينمائي وإذا كان يوسف شاهين قد لجأ اليه دوما، فهذا لايبرر للأخرين تقليدهم له. هنا لا بد من الأشارة الى وجود تأثير شاهيني واضح على شغل عدي، لا من بد الأنتباه اليه مبكرا. من غير شك أراد عدي لفيلمه أن يكون أغنية حزينة عن الخراب، وقد وفق في قسم من كتابتها، غير أن الأكثار من التعليق والحوار النثري/ الشعري جاء على حساب اللغة البصرية. اللغة الأنشائية المتثاقفة وحزن حسن (سمر قحطان) كرسا حالة من الفتور عند المشاهد على عكس ما أراد لهما المخرج من وظيفة. تبقى فائدة أخرى للأختصار كان سيكتسبها الفيلم، وهي التركيز على الشكل الروائي والأبتعاد عن المسح الوثائقي للمدينة. ولأكتفي بمشاهد قصيرة تنقل حالة الحرب والدمار في البلاد. وهنا نذكر أن محاولة المزج بين العين المحايدة التي ترى بغداد والعراك الروحي لحسن وبائع الصحف لم تفلح. حسن بدا لنا كائنا وجوديا قلقا وفيلسوفا، ينشد أغنيته الحزينة وحيدا وبائع الجرائد وكأنه مخرجا محترفا يعرف تقنيات العمل السينمائي! لا تخلو الحياة من وجود مثل هذة الشخصيات لكن علينا تبرير وجودها في الشريط السينمائي، ولا شك أن بعدا كبيرا يفصل بين القصيدة والسينما. في السينما فرصة التحليل واسعة و"غير صالح للعرض" ليس تحليليا، فيه الكثير من الجمال البصري وفيه تعرفنا على مصورا بارعا ومتمكنا من حرفته أنه زياد تركي، وحتى أصدق القول لم أكن أتوقع وجود مصور عراقي بهذا القدر من المهارة. ( أشتغل مع هادي ماهود في "العراق موطني") التمثيل لم يسهم في رفع مستوى الفيلم وجاء أداء معظمهم باهتا وبشكل خاص يوسف العاني الذي لم أفهم دوافع أختياره! حيدر حلو أدى دور المجنون بشكل جيد ولكن المشكلة أن هذا الدور يبدو زائدا سيما وأنه تكرر في أكثر من شريط. على كثرة الملاحظات يبقى الفيلم جيدا، وعدي مخرجا واعدا عندة الحساسية العالية والعين السينمائية النبهة. وجل ما أخشاه أن تغويه الجوائز التي حصدها وسيحصدها فيلمه. ومن باب الحرص أذكر ما قاله المخرج قيس الزبيدي في مقابلة أجريتها معه قبل عامين ( سيحصل أول فيلم سينمائي ينتج في العراق بعد نهاية نظام صدام على جوائز وأهتمام عالمي، بغض النظر عن أهميته) ولعدي حرية الأختيار بين أغواء المديح وشقاء العمل الفني الرصين. موقع "إيلاف" في 24 يونيو 2005 |
يمكنك قراءة مقال الناقد صلاح هاشم في "سينماتك".. على العنوان التالي: http://www.cinematechhaddad.com/Cinematech/Cinematech_Special/Cinematech_Special_54.HTM ...حيث بعثه إلينا للنشر في باب خاص بـ"سينماتك"، قبل نشره في إيلاف. |