القاهرة ـ جميل حسن |
مات فوق فراشه كما تمنى، ولم تزل احلامه المدونة في قصاصات ورق صغيرة مبعثرة في جنبات منزله، مات فتى السينما الأسمر عبدالله محمود ليلحق بأستاذه ووالده الروحي أحمد زكي الذي سار على دربه في الكفاح والمرض والموت، ثلاثة رسائل تلقاها عبدالله محمود من أحمد زكي في اثناء صراعهما لمرض السرطان اللعين مضمونها الصبر والتوكل على الله أما التوقيع فهو من الأب لابنه ومن الصديق لصديقه، تأثير الرسائل الثلاث على عبدالله محمود كان صعبا، حتى انه طلب من زوجته وابنه مساعدته للوصول الى احمد زكي في المستشفى الا ان الاطباء نصحوه بإلتزام الفراش حتى لا يتعرض لانتكاسة، ومات احمد زكي فبكاه عبدالله محمود ثم داهمته الغيبوبة أكثر من مرة كان آخرها منذ اسبوع، وكانت الأشد عليه فاستسلم لها واستسلمت روحه لبارئها قبيل منتصف ليلة الخميس الماضي ليلقى وجه ربه عن عمر يناهز السادسة والأربعين· بدأت رحلة عبدالله محمود مع المرض في شهر رمضان الماضي حيث شعر بحالة دوار وقيء الا انه اصر على استكمال تصوير فيلمه ''واحد كابتشينو'' الذي تحمس لانتاجه على نفقته الخاصة، وفي البلاتوه·· سقط الشاب المليء بالحيوية على الأرض فنقله زملاؤه الى المستشفى ليكتشف الطبيب انه ورم على المخ وليست الأذن الوسطى التي دأب عبدالله على الشكوى منها، تم استئصال الورم من المخ لكن عبدالله ظل يعاني حتى وفاته لأن المرض كان قد تسلل الى انحاء جسده النحيل، ورغم صراعه الطويل مع المرض الا انه تحلى بالصبر والأمل كان يداعب خياله والرغبة في الشفاء كانت تملأه· كان عبدالله محمود يفتش في أوراقه القديمة والجديدة ويؤكد لزوجته وابنيه ان هذه الاوراق مليئة بأفكار أفلام يرغب في تقديمها، كان الممثل الراحل يتخذ من الفنان احمد زكي قدوة له، فسار على دربه الفني وعانى في بداية الطريق مثلما عانى من مرض البلهارسيا الذي عولج منه·· بدأ حب عبدالله محمود للتمثيل من خلال مشاركته في العروض المدرسية، ثم التحق بالعمل في البرامج التليفزيونية الخاصة بالأطفال مع المخرجين انعام الجريلي ونبيل عبدالعظيم، وبعد تخرجه من معهد التعاون الزراعي التحق بمعهد الفنون المسرحية وحصل عام 1974 على أول فرصه له من خلال مسلسل ''البوسطجي'' مع المخرج فخر الدين صلاح الذي اعجب بأدائه وقدمه في اعمال تليفزيونية أخرى مثل أبواب المدينة والأبرياء وسلمى، وسرعان ما لمع اسم عبدالله محمود في مسلسل ''عصفور النار'' بطولة الراحل محمود مرسي والفنانة فردوس عبدالحميد واخراج محمد فاضل، ثم قدمه محمد فاضل كبطل لأول مرة في فيلم ''طالع النخل'' الذي قدم فيه عبدالله محمود واحدا من أهم ادواره حيث جسد شخصية شاب ريفي مصاب بمرض البلهارسيا ولأنه كان يعاني من هذا المرض·· ظهر أداءه صادقا ليختاره العديد من المخرجين في أدوار الشاب الريفي· وجه مصري كان عبدالله محمود يرى ان اختيار المخرجين له لتجسيد شخصية الشاب الريفي يرجع الى وجهه المصري وملامحه الريفية وبشرته السمراء التي تميز ابناء الريف، وبعد ''طالع النخل'' قدم عبدالله ادوارا مهمة في مسلسلات ''مكان في الأرض والفلهوي ولا شيء يهم وكعب داير ورجل طموح والطريق الى الحقيقة وقدم ثلاثة مسلسلات تاريخية مهمة هي الفرسان والأبطال وسيف الدولة الحمداني، كما قدم للسينما العديد من الأفلام مثل·· اسكندرية ليه وحدوته مصرية والطوق والاسورة وسواق الاتوبيس والحريف والاوغاد والمواطن مصري وشمس الزناتي والاحتياط واجب والامبراطور والطريق الى ايلات وهو فيلم تليفزيوني قدم فيه عبدالله محمود واحدا من أهم أدواره والمصير ديسكو وشباب على كف عفريت وسنوات الخطر· كما كان الفنان الراحل بطلا لسهرتين تليفزيونيتين هما حفل الزفاف والمخلوع· عبدالله محمود كان فخورا بمشواره الفني وكان دائم التأكيد على أن الفنان لابد ان يشعر بمن حوله وان يناقش قضايا البسطاء بأعمال مهمة، وردد عبدالله محمود قبل وفاته أنه لم يخجل من عمل قدمه ولن يخجل ابنيه من شخصية جسدها، وعندما كانت تصله رسائل من الفنان الراحل احمد زكي كان يقول عفاريت التمثيل مثلنا بينهم مشاعر جميلة، وعندما اتصل به الرئيس حسني مبارك قال·· لم اكن اصدق انه الرئيس، لقد رفع اتصاله معنوياتي وجعلني قادر على الحديث مع المحيطين بي بل انني ادركت ان الفن لا ينفصل عن السياسة وشعرت بالفخر لأن الرئيس قال لي·· أنت بطل ايلات وكان يقصد انني بطل فيلم الطريق الى ايلات، وكانت آخر اطلالة لعبدالله محمود على الجمهور منذ ثلاثة اشهر عندما اصطحبه ابنيه وزوجته وبعض زملائه الفنانين وأمه وأبيه الى نقابة الصحفيين حيث حفل ختام مهرجان جمعية الفيلم الذي كرم عبدالله محمود بعرضه فيلم ''واحد كابتشينو'' على النقاد والصحفيين، يومها·· أصر على الصعود الى المسرح ليعانق المخرج يوسف شاهين الذي تفتقت موهبة عبدالله من خلال افلامه وآخرها ''المصير'' ثم تحدث عبدالله محمود عن صراعه مع المرض وكيف انه يشعر بأنه متعافي تماما عندما يستمع لدعوات الناس له، وقبل وفاته بثلاثة اسابيع تحدث عبدالله محمود عن اسباب خوضه تجربة الانتاج لأول مرة فأكد ان سيناريو فيلم ''واحد كابتشينو'' أعجبه لأنه يناقش قضية البطالة وهي من أهم القضايا التي تعرقل مسيرة التنمية في المجتمع وأضاف·· أشعر بالضيق عندما أجد شبابا في نفس سني يهدرون أجمل سنوات عمرهم دون عمل، وعلى الرغم من انني لم اعاني من البطالة الا انني اشعر جيدا بالناس ومهمة الفنان قاصرة على تقديم اعمال تعبر عن نبض المجتمع لذلك جمعت كل ما املك وانتجت ''واحد كابتشينو''· شقاوة كان عبدالله محمود ينتظر اليوم الذي يعود فيه الى الوقوف امام الكاميرا· قبل وفاته وقال قبل وفاته: أدعو الله ان يبارك في عمري حتى أعرف رد فعل الجمهور على فيلم ''واحد كابتشينو'' الذي بذلت فيه مجهودا وأخذ مني صحتي وكل ما أملك، وعندما اعرف رد فعل الجمهور سوف ابدأ في انتاج فيلم بعنوان ''ش ش ش'' وهو اختصار لمقولة يرددها أهالي حي شبرا وهي ''شقاوة شباب شبرا'' لم يشعر عبدالله محمود باليأس وكان يقول: أنا اغنى ممثل بين ابناء جيلي لأنني عملت مع مخرجين كبار يحلم كل الفنانين بالعمل معهم كما وقفت امام عباقرة التمثيل في مصر وأعتز كثيرا بعملي مع احمد زكي وعادل امام· ولم يدرك عبدالله محمود قيمة الكوميديا إلا عندما أقعده المرض، فكان يطلب من زوجته وابنه ان يتصلا بصديقه محمد سعد لأن إفيهاته تضحكه، كما طلب من زوجته ان تحضر له شرائط فيديو عليها مسرحيات للفنان فؤاد المهندس وعبدالمنعم مدبولي، وبالفعل كان يجلس لمشاهدتها، وقبل وفاته بأسبوع زاره بعض زملائه ومنهم محمد منير ومدحت صالح وشريف منير والفنان المعتزل محسن محيي الدين، افاق عبدالله من غيبوبته فوجدهم حوله فإبتسم وقال: أحمد الله أنني راعيته في كل شيء، في بيتي واسرتي وعملي، إدعو لي ان يهون الله عليّ، فأنا أشعر باقتراب موعد الرحيل ، أحمد الابن الاكبر لعبدالله محمود وهو طالب في كلية الاعلام اكد ان والده كان يسعد بدعاء الناس له، وكان يقرأ القرآن في كل وقت، وعندما يفيق من الغيبوبة ينظر الينا، ويقول الحمد لله، وكان يقيم الصلاة بعد كل آذان، كنا نبكي بجواره فيطلب منا ان نكف عن البكاء وندعو له بالشفاء، وحتى أرفع من معنويات أبي سجلت أغنية بعنوان ''ربنا معاك'' كتبها صديق لي ولحنها ابن خالتي وصورتها للتليفزيون وعرضتها بعض القنوات وعندما شاهدها والدي بكى من شدة الفرحة، كنت وأمي وكل من حوله نبحث عن الشيء الذي يسعده خاصة في أيامه الأخيرة· ''واحد كابتشينو'' قالت حنان زوجة عبدالله محمود·· لم اعرف عنه سوى الجدية والسعي لتحقيق احلامه قبل ان اتزوجه وعندما تزوجته عرفته عن قرب، كان انسانا مهموما بكل من حوله، يتفاني في خدمة الناس وكان بارا بوالديه ويتقي الله في أسرته، كان عندما يتحدث عن الموت يبتسم، فأقول له بعد الشر عليك فيرد·· الموت ليس شرا، وربما يكون راحة من شدة الألم، وتضيف حنان·· كانت آخر وصية لزوجي هي ان يعرض فيلمه ''واحد كابتشينو'' للجمهور وسوف اسعى لتنفيذ وصيته· وقال الفنان شريف منير لقد فقدت اخا وصديقا، حزنت لمرضه وبكيت لفراقه، عبدالله محمود كان انسانا قبل ان يكون فنانا، كنت ابكي بجواره وهو مريض فيصر على ان يضحكني، رحمه الله· وقال محمد هنيدي·· كنت ادعو له مع الملايين بالشفاء، لكنها ارادة الله، سنموت جميعا، لكن لحظات الفراق صعبة، وعبدالله محمود الذي قدم ادوارا يفخر بها ابناء جيله·· سيظل موجودا بيننا، وعلينا فقط ان ندعو له بالرحمة، وقال المطرب مدحت صالح·· لم يعرف عبدالله الهزيمة طوال حياته، فقد هزم البلهارسيا في بداية مشواره الفني، وهزم اليأس بالبحث عن اعمال متميزة، وعندما شعر ان السينما تقدم لونا واحدا·· أصر على انتاج فيلم ويعلم الله ماذا باع عبدالله حتى يوفر ميزانية للفيلم، وقالت فرح التي شاركته بطولة ''واحد كابتشينو'' بدأت صداقتي به عندما طلب مني مشاركته بطولة فيلم ''واحد كابتشينو'' فزاد اعجابي به وتحول الى صديق أهرب اليه عندما أمر بأزمة، زرته اكثر من مرة ثم امتنعت عن زيارته لأنني لم اتحمل رؤيته في فراش المرض، وكنت اتصل يوميا بزوجته حنان حتى أعرف منها اخبار صحته، وعندما علمت بوفاته، شعرت بأنني منهارة، رحمه الله· الإتحاد الإماراتية في 12 يونيو 2005 |
عبد الله محمود بعد25 عاما من العطاء الفني طالع النخل يهبط إلي المحطة الأخيرة أحمد السماحي هناك من الممثلين من يقدمون أدوارا ثانية أو صغيرة في السينما أو التليفزيون أو المسرح لكنهم في الأغلب يتسللون بأدائهم الساحر إلي ذكراة الناس وقلوبهم أكثر من نجوم العمل نفسه, من هؤلاء عرفنا عبد الفتاح القصري ـ زينات صدقي ـ استيفان روستي ـ عبد المنعم إبراهيم ـ رياض القصبجي ـ شفيق نور الدين ـ حسن البارودي ـ سعيد أبو بكر ـ عبد الغني قمر وأخيرا الفنان عبد الله محمود الذي اختطفه الموت يوم الجمعة الماضي وهو في عنفوان شبابه ـ49 ـ عاما حيث إن الراحل من مواليد12/1956/.6 غاب عبد الله الذي كان يشاغب الدنيا بهدوء ويقفز فوق الإحباط بجرأة ويهزم اكتئاب الحياة بلامبالاة, وعلي الرغم من الآلام الفظيعة التي كانت تسكنه بسبب مرض السرطان اللعين الذي أصيب به قبل عامين خلال عمله في فيلم واحد كابتشينو الذي أنتجه وتولي بطولته إلي جانب الفنان حسن حسني والفنانة نشوي مصطفي إلا أنه لم يشك لحظة واحدة, لم يبك ولم يعلن عن يأسه من الحياة بل علي العكس كان متفائلا وفي آخر مكالمة هاتفية جمعت بيننا قبل رحيله بأسابيع عندما كلفني مدير التحرير محمد حبوشة بإجراء حوار معه ـ لكن تدهور صحته وعدم رغبتي الشخصية في إجراء الحوار حتي لا أراه في الحالة الصحية الصعبة التي كان عليها ـ قال لي: إنه لم ييأس من بلوغ الشفاء وأنه سيستمر في العمل, وبعد عرض واحد كابتشينو هناك فيلم آخر جديد اسمه ش.ش.ش ويعني شقاوة شباب شبرا سيقوم ببطولته وأنه سينتظر بفارغ الصبر ليرصد أصداء تجربته في الإنتاج بنفسه ويري رد فعل الجمهور الذي طالما تقاسم معه عبر أدواره مشاهد من الحياة بحلوها ومرها. كان عبد الله يحلم بأن تصل رسالة الفيلم الذي يعالج مشكلة البطالة إلي الناس وتحرك الساكن من أجل إيجاد حل لهذه المشكلة كما حدث من قبل في فيلمه التليفزيوني طالع النخل الذي كان يمثل له مرحلة مهمة في حياته ففور عرضه تحركت الدنيا في مصر ولم تهدأ حتي قامت حملات دعائية كبيرة ضد مرض البلهارسيا اللعين والتوعية به. وكم تمني أن يشارك الراحل في أي حملة دعائية وقائية ضد مرض السرطان اللعين الذي أصابه وكان يردد دائما:الذي يشعر بالألم يريد أن يخفف عن الناس ويريد الجميع ألا يتألمون مثله. البداية قد لا يعلم الكثيرون أن عبد الله محمود بدأ حياته الفنية طفلا في برامج الأطفال في التليفزيون المصري مع زميليه أحمد سلامة والفنان المعتزل محسن محيي الدين, وبعد أن لفت الأنظار إليه في برامج الأطفال اختفي فترة لاستكمال دراسته في معهد التعاون الزراعي ثم المعهد العالي للفنون المسرحية, وأثناء الدراسة وفي عام1977 وبعد أن أصبح شابا شارك في مسلسل البوسطجي قصة يحيي حقي وبطولة حمدي أحمد, وتوالت أعماله التليفزيونية منها: أبواب المدينة ـ الأبرياء ـ مكان في الأرض ـ لا شيء يهم ـ كعب داير ـ الفراشات يحترقن دائما ـ رجل طموح ـ الحقيقة دائما ـ الفرسان ـ الأبطال ـ سيف الدولة الحمداني ـ وعصفور النار. وفي السينما كانت بوصلة موهبته تتجه دائما نحو القيم والجميل فلم يسقط في أفلام مقاولات وقدم عبر مشواره الفني القصير مجموعة من الأفلام التي اعتبرت علامات بارزة في تاريخ السينما المصرية منها:إسكندرية ليه ـ حدوتة مصرية ـ سواق الأتوبيس ـ الطوق والأسورة ـ الحريف ـ عرق البلح ـ المواطن مصري وعفاريت الأسفلت. وكان الراحل يعتبر نفسه أغني واحد في جيله لأنه عمل مع معظم المخرجين الكبار في السينما مثل:يوسف شاهين ـ صلاح أبو سيف ـ حسين كمال ـ محمد خان ـ خيري بشارة ـ سمير سيف وفي التليفزيون عمل مع محمد فاضل وإسماعيل عبد الحافظ ـ ويحيي العلمي. النهاية رحل عبد الله بأحلامه العريضة وبراءته الكبيرة وعذابه الخفي وإنسانيته الدافئة, رحل بعد أن ترك ثروة من المشاعر الجميلة داخل كل منا* الأهرام العربي في 18 يونيو 2005 |