ابراهيم العريس |
«اردت في هذا الفيلم ان يكون العنف واقعياً، ضارياً. بحثت عن الضراوة ونوع العنف اللذين نراهما في معارك الشارع حقاً: عنف اخرق، لا كوريغرافيا فيه، عنف يبحث في كل لحظة عن فاعليته – ما اردته هو النقيض المباشر لمشاهد العنف المفعمة بالابعاد الجمالية والتي غالباً ما نراها على الشاشة». لو كان سام بكنباه، مخرج العنف الاكبر في سينما الستينات والسبعينات الاميركية، قائل هذا الكلام، لبدا طبيعياً. اما ان يكون قائله الكندي دافيد كروننبرغ فأمر يثير الدهشة. ليس لأن افلام كروننبرغ السابقة كانت بعيدة من العنف او خالية منه. بل على العكس لأن العنف في افلامه، اذا كان شكل دائماً موضوعاً اثيراً لديه، فانما كان على شكل عنف داخلي، عقلاني. اما هنا في فيلمه الجديد الذي يتحدث عنه على هذا النحو «تاريخ من العنف» فان العنف خارجي جسدي في عمل بالكاد يمكن احداً ان يخمن انه لكروننبرغ. «تاريخ من العنف» هو اقرب الى ان يكون فيلم رعاة بقر، من دون قطيع او احصنة. فيلم غرب اميركي من دون بحث عن الذهب او مجازر للهنود الحمر. لعبة التحولات في هذا المعنى ينتمي «تاريخ من العنف» الى سلسلة افلام التبدلات التي عرضت هذا العام في دورة مهرجان «كان»، في لعبة سميناها سابقاً لعبة الكراسي الموسيقية، حيث بدا كل مخرج – مؤلف وكأنه يستخدم اسلوب زميله وهكذا. غير ان هذا التأكيد اذ ينطبق على فيلم كروننبرغ، فانه انما ينطبق عليه برانياً فقط. اما في عمقه فاننا لن نعدم ان نجد الموضوعات نفسها التي شغلت دائماً افكاره: من لعبة التحولات، الى الجنس كفعل عنف بدوره، الى الماضي الذي لا ينسانا وان كنا نسيناه، الى الخلية العائلية كمكان للتعبير عن التناقضات، وصولاً الى الجسد نفسه، في عودة اليه، كمكان يتلقى كل انواع التأثيرات. ومن يتابع سينما كروننبرغ – على الاقل منذ «الذبابة» وحتى «سبايدر» مروراً بـ»اكزستنز» – يمكنه ان يتذكر كيف يستخدم كروننبرغ الجسد في امساخه، كمسرح للحدث. غير ان هذا ليس كل شيء في «تاريخ من العنف»، ذلك ان كروننبرغ اضاف هنا ما عنده، الى بعض ما عند انواع معينة من السينما الاميركية: حروب العصابات، النميمة، المدينة الهادئة البعيدة عن الحضارة المدنية والتي تتحول الى ميدان للعنف، ناهيك بالحدود المنطقية لفعل التوبة عن ماضٍ ما. وفي هذا على الاقل، يبدو كروننبرغ هنا اقرب الى جون فورد، منه الى عنف بكنباه المطلق. ومع هذا، نعود الى الاساس: انه فيلم لكروننبرغ في عمق اعماقه، ينضوى بعد صدمة الوهلة الاولى في خطه السينمائي. فعمّ يحدثنا هذا الفيلم؟ عن رجل هادئ ورب عائلة، سوف نكتشف في نهاية الامر، انه كان ذات لحظة من حياته قد قرر ان ينسى ماضيه المريب والعنيف، ليسلك درباً آخر في حياته. وهذا الدرب قاده الى مدينة صغيرة افتتح لنفسه فيها مطعماً، واسس عائلة وبيتاً، وصار في نعيم مع زوجة حسناء محبة. يتلقفه الاعلام ولكن يحدث ذات يوم ان «يغزو» المدينة لصان عنيفان يقترفان سرقات وجرائم، حتى يصل الامر بهما الى مطعم صاحبنا توم ستال (فيغو مورتنسن) ويتحرشان بالمطعم وزبائنه، بشكل يبدو ان فيه وقد سيطرا على الامر تماماً، خصوصاً ان توم نفسه، يتردد في التصدي لهما، بشكل يخيل الينا معه انه حقاً جبان مسالم. لكن توم سيتحرك، بشجاعة وقوة، ويقضي على اللصين امام مرأى الحاضرين. وبسرعة سيتلقفه الاعلام الاميركي في طول البلاد وعرضها مكرساً اياه بطلاً اميركياً حقيقياً. حتى هنا يبدو كل شيء طبيعياً ربما في ذلك كمّ العنف الذي لجأ اليه توم حين قضى على اللصين. وهو عنف يتناقض تماماً مع ما كنا نعهده عنه، واحياناً في مواقف كان يضحي فيها بكرامته وكرامة عائلته على مذبح نزعاته السلمية. وسوف نكتشف بعد قليل سر هذا. اذ في مكان ما ثمة عصابة ورجالها وزعيمها... وهذا الزعيم فيما كان يشاهد الاحتفال بالبطل الاميركي على الشاشة الصغيرة، يخيل اليه اولاً، ثم يتأكد بعد ذلك، ان هذا البطل الجديد المفاجئ، ليس سوى واحد من افراد عصابته السابقين. بل واحد من اعنفهم، وسبق له ان تسبب في الاذى للعصابة. وهكذا، يصل رجال الزعيم الى المدينة ويبدأون بمطاردة توم الذي ينفي تماماً ان يكون هو الشخص نفسه الذي يعتقدون. غير ان نفيه لا يفيد لأنه هو، في حقيقة الامر، وكما سنكتشف نحن ايضاً لاحقاً، جوي، عضو العصابة السابق الذي غدر بزعيمها موصلاً اياه الى ما يقرب من العمى. ومنذ تلك اللحظة لا يعود الفيلم بحثاً عن حقيقة توم، بل صراعاً بين توم والعصابة. صراع حياة او موت... لكن الاهم من هذا، صراع آخر ينشب، بشكل اقل عنفاً من الناحية الجسدية، انما اكثر عنفاً من الناحية الاخلاقية والجوانية، بين توم واسرته الصغيرة، ولا سيما زوجته المحامية ادى ستال (ماريا بيلو) التي ابداً ما كان في امكانها ان تصدق ان توم يمكن ان يكون له ذلك الماضي. بل ان الصراع بين توم وزوجته، سوف يتخذ ذات لحظة ابعاداً مزدوجة: جوانية وبرانية، اخلاقية وجسدية، حين يتجابهان غداة تأكدها من هويته الحقيقية، وتتحول المجابهة بينهما الى مزيج من العنف الجسدي والجنسي، في مشهد لعله وحده يكفي لتبرير عنوان الفيلم. ذلك ان توم يستعيد ذلك المشهد، وعلى ضوء رغبته في زوجته على درج البيت الداخلي، كل تاريخه العنيف، لتتحول المجابهة – الحب، الى فعل تفريغ لكل العنف القديم... الحلم الاميركي من جديد طبعاً لن ينتهي الفيلم – وعلى غير العادة في سينما دافيد كروننبرغ – الا على خير تستعيد فيه الاسرة حياتها ويهزم فيه الشر. ولكن هل حقاً سيعود، كل شيء الى ما كان عليه؟ لقد ترك المخرج النهاية مفتوحة الى حد ما، حتى وان كان المشهد الختامي يشهد عودة توم الى عائلته وانضمامه اليها في وجبة العشاء، بعدما قضى على العصابة وكأنه، هذه المرة وعن حق، الغى ماضيه. وواضح هنا ان ما يقوله لنا الفيلم بسيط للغاية وواضح للغاية: لا يكفي تناسي الماضي لكي يختفي. يتعين مجابهته بوضوح، فإما ان يقضي علينا او نقضي عليه. ومع هذا، على رغم وضوح الرسالة، من المؤكد ان دافيد كروننبرغ لم يشأ أصلاً ان يحول فيلمه الى موعظة او الى درس. كل ما في الامر انه عرض موضوعه امامنا، وعرضه بشكل قوي ومبتكر تاركاً لنا استخلاص النتائج. فقط، كان اهتمامه منصباً، منذ البداية على ان يرينا كيف ان فصل العنف القاتل الاولي الذي دار داخل المطعم، سيكون له أثر عنيف على كل الذين يحيطون بعالمه. ولكنه سيكون اكثر من هذا ذا اثر خاص، وجواني على توم نفسه. والى هذا يمكننا ان نضيف فكرة اساسية من افكار الفيلم – اساسية على رغم انها تبدو بالنسبة الى البعض ثانوية -، وهي فكرة عبر عنها بطل الفيلم فيغو مورتنسن، حين قال اذ سئل عن الفيلم وعن دوره فيه: «في اعتقادي ان هذا الفيلم لا يتحدث فقط عن العنف او عن الارتباك، او حتى عن مسألة الهوية داخل عائلته ما او مجتمع ما، بل انه يتحدث كذلك عن عبارة الشهرة. فتوم ستال يجد نفسه وسط موقف مهدد، يتصرف حياله بشكل غريزي... ويكون التصرف عنيفاً. وكان يمكن للامور ان تقف عند هذا الحد. ولكن ما يحدث هنا هو ان توم يهنّأ على ما فعل.. وبخاصة على العنف الذي ابداه وراح الاعلام يمجده... ما اضفى عليه شهرة، كانت هي، لا العنف، السبب لما سوف يحصل بعد ذلك...». واضح من هذا الكلام لبطل الفيلم، ان «تاريخ من العنف» سيبدو في نهاية الامر مثل دمية روسية، يجد كل واحد في داخلها دمية اخرى تناسب افكاره وتوقعاته. ويؤكد هذا اد هاريس، احد ابطال الفيلم اذ يتساءل بدوره في معرض حديثه عنه: «لماذا ترانا نفتتن دائماً بالجانب المظلم من الامور؟». قبل ان يجيب: «ربما لأن تطهير انفسنا يبدأ عادة مع رصدنا للكيفية التي بها يتم الكشف عن الجانب المظلم لشخص ما، قبل ان نراه وهو موزع بين الشر والخير الموجودين اصلاً، في داخله». اما بالنسبة الى كروننبرغ، فان «تاريخ من العنف» يمثل حلقة جديدة في سلسلة افلامه الاستثنائية، ولكن ايضاً رؤية خاصة يعبر بها عن نظرته الى اميركا والحلم الاميركي... ويبدو هذا واضحاً في عالم الفيلم كله، ولكن ايضاً، وبخاصة، من خلال المشهد الذي يتجابه فيه توم/جوي مع زعيم العصابة قبل قضائه عليه، اذ ان هذا المشهد شكل واحدة من اقوى المرافعات التي شهدتها السينما خلال السنوات الاخيرة حول الحلم الاميركي وانهياره. الحياة اللبنانية في 17 يونيو 2005 |
هل تتجه السينما التسجيلية نحو مستقبل مغاير؟ هاشم النحاس الإبداع في الفن يتوق دائماً إلى الجديد، فالسينما تجد نفسها مدفوعة دفعاً إليه، وخصوصاً مع كل تطور في التقنية، حدث ذلك عندما أُكتشف استخدام الصوت مع شريط الصورة في الفيلم، وحدث عندما أضيفت الألوان إلى الصورة، والآن تقبل تقنيات الديجيتال والكومبيوتر، معلنة بداية ثورة جديدة في إنتاج الصورة. وفي اعتقادي أن السينما التسجيلية المصرية والعربية عامة، كانت على موعد مع التقنية الحديثة،. فبعد أن وصلت هذه السينما الى شبه طريق مسدود يكشف عنه تدني عدد الأفلام المنتجة بسبب ارتفاع أسعار المادة الخام (السيلولويد) من ناحية، وضيق الحركة من ناحية أخرى وهو ما تفرضه الكاميرا الثقيلة وآلة المفيولا العتيقة، فضلاً عن ضيق الحريات العامة طبعاً، أقول بعد أن وصلت هذه السينما التسجيلية إلى أدنى مستوياتها الفنية والكمية خلال العقد الأخير من القرن الماضي، حتى تصورت أنها على وشك أن تغلق أبوابها، إذ بها الآن تأخذ في استرداد أنفاسها على يد جيل جديد من الشباب يظهر فجأة مع ظهور التقنية الحديثة التي وفرتها كاميرات التصوير الديجيتال الخفيفة والصغيرة، وأجهزة الكومبيوتر التي تتيح للمبدع حرية حركة هائلة وبسرعة فائقة تبدو إلى جانبها الأجهزة القديمة بمثابة العربة الكارو إلى جانب الطائرة، ويمثل فيلم «تاكسي» إخراج ريم أبو عوف أحد نماذج هذه المقاربة الحداثية. نبض الشارع المصري ثلاث كاميرات صغيرة، مخفية داخل سيارة تاكسي، تقودها أمرأة تجاوزت منتصف العمر، تجوب بالتاكسي شوارع القاهرة وفق رغبات ركابها، والكاميرات الخفية تسجل ما يدور بينها والركاب، استخدام ذكي للكاميرات الصغيرة الخفية عالية الجودة لتسجيل نبض الشارع المصري في لحظة معينة بكل العفوية التي يحلم بها المخرج التسجيلي، وكان يجهد نفسه في الحصول عليه من دون أن يحققها إلا بصعوبة ومع قدر من التحايل، وذلك بسبب إدراك شخصياته لوجود الكاميرا وعدم تدربهم على مواجهتها. من خلال الدردشة التي تدور بين سائقة التاكسي والركاب الذين يتناوبون عليها، نلمس ما يشغل أذهان الناس: البطالة، والغلاء، وغُلب الموظف، والزحام، والدروس الخصوصية، وحاجة المرأة للعمل، وسوء الإدارة الحكومية. لا يقتصر الفيلم على تسجيل هذه اللقاءات العفوية، وإن كانت تمثل قلب أحداثه، ولكن الأهم من ذلك فنياً - في رأيي - أنه يقدم نموذجاً لشخصية امرأة مصرية عاملة، لا يمكن القول بأنه نموذج عام، وإن كان شائعاً، وهو نموذج مشبع بالدلالات. امرأة تتمتع بخفة ظل مصرية، على رغم أنها لم تذكُر نكتة واحدة، يكشف عن خفة ظلها سلاسة حوارها وتلقائيته مع ركاب التاكسي، وحكاياتها الطريفة، فهي بالإضافة إلى قدرتها على إدارة الحديث بلباقة امرأة حكّاءة تدخل القلب بحكاياتها. من حكاياتها التي تكشف عن ذكائها الفطري الذي يسعفها في الأزمات، حكاياتها مع اللص وزميله اللذين أرادا أن يسرقا حقيبة نقودها فتظاهرت بعدم رؤيتهما حتى وصلت إلى أقرب مكان تستطيع الاحتماء فيه بالجمهور، وأوقفت التاكسي فجأة، وصاحت باللص وزميله حتى تحلّق حولها الناس وأصروا على تسليم اللص وزميله إلى البوليس بعد إهانتهما، لكنها - مثل معظم المصريين - تطلب العفو عنهما، وتكتفي بما نالهما بعد أن تأخذ حقها من أجرة التاكسي. ومن حكاياتها التي تكشف عن ثبات قلبها عندما تعرّضت لها مجموعة من الشبان في مكان مقطوع عند أطراف القاهرة وكانت في طريقها لتوصيل بعض الزبائن، لكنها بدل أن تستجيب لطلبهم بالتوقف، أوهمتهم بذلك، ثم ضغطت على بدال البنزين لتقفز السيارة فجأة إلى الأمام ويقفز أعضاء العصابة بعيداً عن السيارة. كل ما تحكيه له دلالته الواضحة التي تتعلق بشخصيتها أو تتعلق بالمجتمع، ومنه السيدة التي أرادت أن تعمل - مثلها - سائقة تاكسي، فلجأت إليها ترافقها بعض الوقت في عملها، لتأخذ فكرة عن طبيعة العمل، وحدث بالصدفة - لسوء حظ السيدة - خلاف حاد بينها وأحد الركاب، واستطاعت في النهاية أن تنهي الخلاف لمصلحتها، لكن السيدة بعد أن شاهدت هذه المشادة قررت التراجع عن العمل سائقة تاكسي. معظم حكاياتها نسمعها منها عندما نزور بيتها الذي نعود إليه أكثر من مرة، ومن حكاياتها نعرف أنها عملت بالسواقة بعد موت زوجها، لمواجهة تكاليف المعيشة، وفي البيت نراها وهي تطبخ أو تلاعب أطفال أختها الذين تتكفل بتربيتهم، أو تقف أمام المرآة لتضع لمسة مكياج وتبدي رأيها في أهمية وضع المكياج ولكن «خفيف كده». أثناء وجودنا في البيت نلمح مع الكاميرا بعض الرموز القبطية مثل صليب صغير أو صورة للعذراء، ولولا هذه الرموز الصغيرة ما كان للمشاهد أن يدرك ديانة هذه السيدة، الأمر الذي يؤكد وحدة الثقافة الوطنية ويجعل منها نموذجاً للشخصية المصرية قريباً إلى قلب المشاهد، ويؤكد هذا الحب لهذه الشخصية أقوال جيرانها الذين يعبّرون عن احترامهم وتقديرهم لها عندما تلتقي بهم الكاميرا. البداية والنهاية الفيلم يبدأ بلقطات مع سائقي التاكسي من الرجال، يبدي كل منهم رأيه في عمل المرأة بقيادة التاكسي، يؤيد البعض عملها بشيء من التردد، ويعارض البعض بشيء من الحدة، غير أن تكرار هذه اللقاءات مع سائقي التاكسي، على النمط نفسه في نهاية الفيلم، لم يضف جديداً، وكان من الأجدر التخلص منه، وإن جاء باعتراض أحدهم بعض الطرافة التي تشير إلى الثقافة الذكورية المهووسة بالجنس، عندما يقيم اعتراضه على أساس عدم قدرة المرأة على النزول تحت السيارة لإصلاحها إذا أصابها عطل مفاجئ، وإلا كما يقول «ح يبان كل حاجة»، كما كان من الأفضل اختصار آراء الجيران، وعدم العودة إليها مرة ثانية. ولكن يبقى للفيلم قيمته الحداثية في تقديم نبض الشارع المصري وتقديم الشخصية المصرية اليوم، أو بالتحديد قطاع عريض منها، من منظور عام يتمثل في الشخصيات التي نلتقي بها داخل أو خارج التاكسي، ومن منظور قريب يتمثل في تقديم هذه السيدة النموذج. الحياة اللبنانية في 17 يونيو 2005 |