أول فيلم عراقي بعد الحرب "غير صالــح" للعرض المخرج عدي رشيد: قضية الاحتلال هي شغلي الشاغل بغداد - ندى عمران |
كل شيء في العراق غير صالح للتعريض الضوئي.. هذا هو المصطلح الوحيد الذي يتطابق مع الوضع النفسي للعراقيين ومع صورة بغداد في الأيام الأولي للاحتلال, وهو المحفز الحقيقي لمجموعة من الشباب المتحمسين لصناعة السينما في البحث عن فرصة لصناعة فيلم عراقي يحاول أن يوثق المآسي والكوارث والنكبات والتناقضات والسرقات والحرائق والضياعات.. و..و..و..و وكل ما يصعب تصديقه أو مجرد تصوره إلا من خلال فيلم سينمائي,( غير صالح للعرض) هو الفيلم العراقي الأول والوحيد الذي أنتج بعد الحرب علي العراق.. وهو الفيلم رقم واحد بعد المائة بعد توقف صناعة السينما العراقية عند الرقم مائة.. فكرته هي الرابط الفلسفي ما بين شكل حياة العراقيين أثناء الحرب وما تلاها من أحداث, وهو تكثيف لفكرة الموت, الحياة, الحرية, المدينة, وكل المفردات الأخري التي شكلت منعطفات مهمة وخطيرة ومازالت في حياة العراقيين. غير صالح للعرض تجربة سينمائية شبابية عراقية هي أشبه بردة فعل علي ما تعرض له البلد من احداث جسيمة تصدي لها مخرج عراقي شاب يدعي رشيد يبلغ من العمر ثلاثين عاما, كانت بالنسبة له أشبه بمجموعة تحديات شخصية وتحديات فنية ليس أولها تحدي أزمة الفيلم الخام وتحدي ظروف الوطن الممزق الذي كان المحفز الأول لإنتاج هذه التجربة. · في البداية ماذا يعني غير صالح للعرض وما هي فكرته ؟ تسمية الفيلم بنيويا مشتقة من وضع الفيلم كخامة ومن أيامنا أثناء التصوير أو وضع بغداد أثناء التصوير, تسمية(UNDEREXPOSURE) وترجمتها غير صالح للتعريض الضوئي واكتفينا بمفردة غير صالح, كون الخامة التي اشتغلنا عليها هي خامة سينمائية توقف العمل عليها سنة1982 وهي خامة غير صالحة للعمل. · كيف حصلتم عليها؟ هي كانت أصلا تابعة لدائرة السينما والمسرح وقد سرقت أيام السلب والنهب الذي تعرضت له دوائر الدولة, وحصلنا علي بعضها من السراق وبعضها ممن اشتراها من السراق وهم صانعو الفضة لأن الفيلم يمكن استخراج مادة الفضة منه, واستطعنا تجميع كمية لا بأس بها من الفيلم الخام.. العنوان هنا كون الخامة توافقت مع وضعنا النفسي في تلك الفترة فقد كانت الكثير من الأشياء غير صالحة للتعريض الضوئي في بغداد في ذاك الوقت وفي هذه اللحظة أيضا, من هاتين اللحظتين اللتين امتزجتا وأصبحتا حالة واحدة في داخلنا نحن كادر العمل نعمل في خامة غير صالحة للعمل في ظرف غير صالح للعمل.. في ظرف إنتاجي كان من الصعب أن تمشي علي أرصفة بغداد لا أن تصنع فيلما, كل هذه العوامل اجتمعت لاختيار هذا العنوان. · السيناريو هل كان معدا قبل الحرب؟ لا, أبدا السيناريو لم يكتب إلا بعد أن أنهيت المونتاج بمعني أنه وضعنا بعض الخطوط الأساسية وعملت بالطريقة التي كان يتبعها الفنان الفرنسي جان لوك غودار أثناء فترة الستينيات وهي دفتر ملاحظات وبعض الأفكار الرئيسية ومن ثم تتم كتابة المشهد ودراسته أثناء التصوير, لم يكن هنالك سيناريو معد مسبقا.. كان هناك تحضير فكري ونفسي للممثلين, وما ساعدني كون الذين اشتغلوا معي كانوا متلهفين لهذا النوع من العمل وهي تجربة أولي في البلد وربما في الوطن العربي أن تدخل فيلما سينمائيا روائيا بدون سيناريو, تحالفت طموح الممثلين الشباب وخبرات الممثلين الكبار مثل يوسف العاني وأنتجت نوعا من التلاحم أثناء تصوير الفيلم. هل هذا يعني أنه ليست هناك وحدة فكرة أو وحدة موضوع ؟ هناك وحدة فكرية, وهناك خطوط عامة رئيسية وكنا نعرف ما نريد أن نقول, ولكن أيضا هناك مجموعة المتغيرات التي كانت تحدث في بغداد في تلك الفترة كان كل يوم يأتي بجديد فكانت أي كتابة مسبقة للمشهد هي نوع من أنواع النبوءة أكثر منها نوعا من أنواع القراءة, نحن لم نتنبأ بشي بل كنا نحاول أن نقرأ الواقع ولذلك استمر تصوير الفيلم ستة أشهر وكانت فترة مضنية للممثلين والتقنيين والفنيين وكنا أحيانا كثيرة نخرج بالكاميرا والكادر ونعود دون أن نصور شيئا لأنه لا شيء يحدث لنا نفسيا.. وقد أنجزنا الفيلم بهذه الطريقة. · هذا يعني أن الفيلم هو مجموعة انفعالاتكم أنتم كادر العمل والانعكاسات النفسية وما إلي ذلك ؟ الفكرة هي كيف أنت كإنسان تمتلك منظمومة حسية معينة كيف تتعامل مع المفترق المرعب الذي مررنا به وهو مفترق التعامل مع مفردتين مفردة سقوط بغداد وسقوط نظام, احتلال ومستقبل جديد, مدينة تدمر علي أمل أن تبني وأنت وسط هذا كله شاب في عمر الثلاثين كيف تفكر وكيف تعيش وكيف تتماشي مع الأحداث, كانت هذه هي البنية الأساسية, لذلك بعض النقاد الغربيين اتهموا الفيلم بالذاتية كون بطل الفيلم مخرجا سينمائيا يحاول صناعة فيلم, لكننا نحاول أن نكون صادقين إلي آخر درجة وكان يمكن أن يكون البطل يمتهن أية مهنة ثانية لكن أن يكون مخرجا سينمائيا سيكون مترجما فعليا لما نشعر به, فكانت محاولة قراءة الحدث بزاوية بعيدة عن وجهة النظر الإخبارية أو التقريرية يعني كان هنالك اقتراب من تحليل النفس الشعري إذا صح التعبير. · أعتقد أن أصعب شيء هنا هو أن هذه اللحظة الانفعالية التي اشتغلتم بها ممكن أن تتغير بعد لحظات فكيف تعاملتم مع هذه التغيرات السريعة؟ هنا كان دور صبر فريق العمل مع, صبر التقنيين والفنانين, الإشكالية التي واجهتنا أننا اشتغلنا بنسبة خام لا تكفي لفيلم زمنه عشرون دقيقة لكننا استطعنا بهذا الصبر أن نخرج بفيلم زمنه سبعون دقيقة, إضافة إلي أننا تعرضنا إلي الموت وإلي إطلاق الرصاص. · تعتقد أن هذا الفيلم هو صالح للعرض فعلا؟ بالتأكيد هو صالح للعرض باشتراطات أن لا تأتي بجاهزية للتلقي, أن لا تأتي وأنت تريد أن تشاهد فيلما عن العراق, أن لا تأتي وأنت تريد أن تشاهد سينما صنعت ضمن مواصفات مثالية, اترك هذه المنظومة وتجرد وادخل قاعة العرض ستجد الفيلم صالحا للعرض. · ما الفكرة التي يطرحها الفيلم؟ الفكرة الأساسية التي يطرحها الفيلم هي كيف تتصرف أنت كإنسان حساس إزاء هذه المتغيرات, كيف تقرأ المدينة وكيف تقرأ الشخصيات المحيطة بك, هل تصنع شخصيات وتضعها في الفيلم أم تأتي بشخصيات من الواقع, كيف تستطيع أن تصنع فيلما بخامة محدودة وخامة تالفة, بالإضافة إلي مقولة أكبر بالنسبة لي هي أن هذه المدينة وهذا البلد في أقسي ظروفه يبقي بلدا منتجا. · المونتاج تم في ألمانيا وكذلك الإجراءات التقنية الأخري فلماذا ألمانيا؟ لعدة أسباب أولها أن منظومتنا التقنية والبنية السينمائية في العراق انهارت قبل التسعينيات مثل الصوت أجهزة المونتاج الطبع التحميض وهناك سببان مهمان أولهما ابتعاد ألمانيا سياسيا والتزامها بالحياد عما يحدث في البلد وهو أمر يهمني لأنه لو أنني أخترت عروض من أمريكا أو لندن وأتتني عروض منهما لكن هنا سيدخل الفيلم في خانة التأويل السياسي وهذه مسالة أنا أرفضها لأن هذين البلدين شئنا أم أبينا هما قوة احتلال في البلد, هذا من جانب الجانب الآخر أن صديقي المخرج الألماني المعروف توم تكفر فتح لي باب الوسط السينمائي الألماني للمساعدة في إنجاز الفيلم فكان دور المخرج تكفر دورا أساسيا في إنجاز مرحلة ما بعد التصوير. · هل كانت الحرب أو ظروف البلد هي التي أثارت غريزتك السينمائية لإنتاج هذا الفيلم؟ الفكرة ليست غريزية بل حتمية, أنا موجود أنا ابن المدينة, لماذا أنا موجود, فكرة صناعة فيلم بالنسبة لي أشبه برغبة احتضان امرأة جميلة, رغبة وجودية وهي يومية, يبقي عملية توفير باقي عناصر الإنجاز, هذا خاضع لقوي خارجة عن إرادتي فعندما استطيع توظيف هذا كله في إنتاج فيلم فلن أتردد. · هل نقلت نشاطاتك بالكامل إلي ألمانيا؟ فكرة وجودي في ألمانيا هي فكرة فيها نوع من أنواع البراجماتية الشخصية أولا هناك منظومة تقنية كنا في قطيعة عنها لعشرات السنوات وهذه المنظومة لكي أستكمل مفرداتها فهذا يتطلب وجودي هناك.. فأنا أدرس كل يوم ليست الدراسة الأكاديمية ولكن عبر التواصل اليومي وعبر التواصل مع الإنتاج الألماني هذا من جانب, من جانب آخر عملية توفير تمويل لمشروعي القادم تتطلب وجودي في أوروبا, أنا بين بغداد وبرلين, بغداد هي مدينتي الأولي وبرلين هي المدينة التي فتحت أبواب إنجاز فيلمي فلن أتنازل عنها بسهولة. · هنالك من يأخذ عليكم أنتم الشباب أنكم لم تقدموا للسينما العراقية ما يساعدها علي الاستمرار والنهوض من جديد, وهاأنت تلملم أوراقك وتحط في ألمانيا؟ أولا نحن خرجنا من نظام كان يدعي الاشتراكية وهو نظام خاضع للدولة وهي تنتج كل شيء, وهنا وجد الفنان نفسه موظفا في دائرة يحضر بانتظام ويستلم راتبه الشهري, تضاعفت قسوة هذا الموضوع عندما أصبحت فرصة الحصول علي عمل بالفضائيات برواتب تنافس عمل الفنان كفنان, وبغداد غزيت بالفضائيات العربية والأجنبية ومن ثم المحلية فاتجه السينمائي لتحقيق معادلة العيش اليومي من أجل أن يعيش, الذين أمسكوا بزمام الثقافة في البلد ورغم الجهود التي تبذلها وزارة الثقافة إلا أنها لم ترتق إلي المستوي العملي في ما يخص السينما إلي إنجاز شيء مهم مثلا إننا أنجزنا الفيلم علي حسابنا الخاص, الآن وزارة الثقافة حققت إنجازا بتشغيل أربع وحدات تصوير ذات تقنية عالية لكنه لم يجد من هو مهتم بتشغيل هذه الوحدات, إذن العجز مشترك, وهناك إشكالية أكبر من كل هذا وهي إشكالية التلقي حاليا المتلقي العراقي ليس مهيئا لتقي فيلم سينمائي هنالك ضرورات تسبق هذه اللحظة وأنا لا أقول إن لحظة تلقي الفيلم هي لحظة ترف ولكن هنالك ضرورات منها كيف تستطيع أن تذهب لمشاهدة فيلم وفي مخيلتك أنه من الممكن أن تنفجر صالة العرض مثلا فهذا معطل أيضا.. أنا لا أبريء أحدا لا أبريء الإدارة الحكومية ولا أبريء الفنانين ولا أبريء المتلقي, الكل مشترك في تعطيل لحظة السينما. · قضية الاحتلال الأمريكي للعراق وتداعياته هل تدفعك لأفكار يمكن تحقيقها في فيلم سينمائي؟ هي شغلي الشاغل, بغض النظر عن الشعارات التي دخل بها الأمريكيون إلي العراق فهم قوة احتلال وأخلاقيات الاحتلال هي أخلاقيات مطلقة, أخلاقيات الجندي الألماني في فرنسا بعد الاحتلال الهتلري هي أخلاقيات الجندي الأمريكي الموجود في الشارع العراقي حاليا.. وإذا كنا قد مررنا بلحظة رومانسية لحظة سقوط النظام فإننا الآن في إشكال كبير إشكال عقائدي وسياسي هنالك مشروع لوضع العراق كمغناطيس لجلب مسامير الإرهاب في العالم هذا كله نزيف داخلي عراقي شخصي, فهذه قضيتي أنا كمثقف ولكن يبقي كيف سأجد ذاتي وكيف سأقول كلمتي* الأهرام العربي في 11 يونيو 2005 |