وودي آلن يحلّق عالياً من دون ان يمثّل في فيلمه الجديد...«ضربة المباراة»:
ابراهيم العريس |
تنطلق طابة كرة المضرب بقوة لا بأس بها. تجتاز نصف الملعب وإذ يصبح عليها عبور الشبكة الى نصف الملعب الآخر تتوقف فجأة فوق الشبكة تماماً لتجمد في مكانها. ويتذكر مشاهدو السينما انهم سبق لهم ان شاهدوا شيئاً من هذا القبيل في فيلم «ساحرات ايستويك» من تمثيل جاك نيكلسون: طابة كرة المضرب تعلو وتعلو حتى تتوقف في الفضاء تماماً، قبل ان تقرر النزول بقوة. ولكن على رغم ان الفكرة واحدة، فإن التوظيف يختلف بين فيلم «ضربة المباراة» لوودي آلن، وفيلم «ساحرات ايستويك». ففي فيلم وودي آلن تتوقف الطابة، لكي يعلو صوت من خارج الشاشة يفسر لنا الأمر في علاقته بمبدأ الصدفة: إن الطابة اذ تصل هنا يكون امامها واحد من امرين، إما ان تسقط في هذا الجانب من الملعب وإما ان تسقط في ذلك الجانب... والأمر هنا محض صدفة، وإذا سقطت هنا يكسب لاعب هذه الناحية، اما اذا سقطت هناك فسيكسب المباراة لاعب الناحية الثانية. هذه البداية للفيلم تحيلنا الى فكرة من هذا القبيل كان بول توماس اندرسون بدأ بها، قبل سنوات بفيلمه «ماغنوليا» الذي ينطلق بدوره من مبدأ الصدفة. اوسكار وايلد غير ان التشابهات تتوقف هنا بين «ضربة المباراة» والفيلمين الآخرين. ذلك ان وودي آلن في فيلمه الجديد هذا، والذي عرض خارج المسابقة الرسمية لمهرجان «كان»، يتجه بعد ذلك وجهة مختلفة تماماً إذ يعالج موضوعاً جديداً تماماً بالنسبة الى سينماه، وفي إطار جغرافي لا عهد له به... ما يجعل للفيلم في نهاية الأمر سمات تقربه من دوستويفسكي والكاتب الأميركي هنري جيمس في آن معاً. ولئن كان حضور هذا الأخير في الفيلم موارباً، ويقتصر على شخصية نولا (سكارليت جوهانسون) الأميركية المقيمة الآن في لندن، فإن حضور دوستويفسكي اهم وأكثر وضوحاً: ففي «ضربة المباراة» اطلالة على رواية «الجريمة والعقاب» واضحة، وذات دلالة... بل قد يمكن اعتبار الفيلم نوعاً من إعادة القراءة لرواية دوستويفسكي الكبيرة. غير ان المرجعيات الأدبية في «ضربة المباراة» لا تتوقف هنا، إذ يمكن ايضاً ان نرى الفيلم كله، موضوعاً وتحليل شخصيات، منتمياً الى عالم اوسكار وايلد، وليس فقط لأن وودي آلن اختار هذه المرة ان تكون لندن وطبقتها الارستقراطية، مسرح فيلمه وعالمه، بل كذلك لأن سمات الشخصيات، في علاقاتها وانتهازيتها تكاد تكون مستقاة في شكل مباشر من مسرحيات وايلد. ولنعد الى موضوع الفيلم: إنه يحدثنا عن الشاب كريس، الإيرلندي المتواضع الأصل، الذي بعدما كان لاعب كرة مضرب محترفاً، تحول الآن الى مدرب والتحق بناد يؤمه افراد الطبقة العليا من المجتمع الإنكليزي. ومنذ البداية يكشف لنا وودي آلن – الذي لا يمثل في الفيلم هذه المرة – عن انتهازية بطله وعن رغباته الإجرامية الدفينة: فهو هنا ليس للعمل فقط، بل لدخول العالم الأرستقراطي من باب سيعثر عليه. ثم نجده ليلاً يقرأ «الجريمة والعقاب» ويتمعن في دراستها. ومن هنا لا يعود لدينا أي شك في المجرى الذي ستتخذه احداث الفيلم. إذ بسرعة سيتعرف كريس على توم، تلميذه في كرة المضرب... ومن توم الى آل توم الأثرياء وعالمهم المخملي، ثم الى شقيقة توم كلوي، الحسناء الليبرالية التي سرعان ما تهيم حباً بكريس وسط مباركة الأهل الليبراليين. ومن الحب الى الزواج حتى يصبح كريس جزءاً من العائلة والطبقة، خطوة تُقطع بسهولة خصوصاً ان الأب يستغل مكانته لإلحاق صهره بوظيفة مهمة... إذاً تسير الأمور في شكل طبيعي. وكادت تظل كذلك لولا نولا. ونولا هي حسناء اميركية شقراء رائعة الحسن ترتبط بعلاقة مع توم، لكننا نكتشف بسرعة ان نمط علاقتها مع صاحبها هذا، هو من نفس نوعية نمط علاقة كريس بكلوي: إنها تريد ان تصل حاملة معها قيم تحررها وعدم انضباطها الأميركية – مثل شخصيات هنري جيمس – ولأن كريس ونولا شبيهان، غريبان وسط بيئة تفتح لهما ذراعيها بترحيب وإنما بإصرار على الفوارق الاجتماعية، يجد كريس نفسه منجذباً الى نولا طبقياً، ثم عاطفياً فجنسياً في نهاية الأمر. وهكذا اذ يتركها توم، لأسباب على علاقة لها بكريس، وإذ تفشل هي في كل محاولاتها ان تصبح ممثلة، تجد نفسها مرتبطة بكريس على رغم زواجه وسعادته العائلية ووصوله الى ما كان، اصلاً، يبتغي الوصول إليه. غير ان ما كان يبدو اول الأمر علاقة عابرة يتحول الى علاقة قوية، تحاول نولا المحافظة عليها والاستئثار بكريس، ولا سيما اذ تحمل منه، فيما يحاول هو التخلص منها، اذ تصبح عبئاً عليه وتهدد بأن تفضح امره. وهكذا في الوقت الذي تحمل فيه كلوي من كريس، ويتعزز مركز هذا الأخير عائلياً واجتماعياً ووظيفياً، تبدأ نولا بتشكيل تهديد قوي له ولطموحاته. فلا يكون امامه إلا ان يتخلص منها بـ ... القتل. وهكذا يرسم خطته بإحكام، انطلاقاً، من عمق قراءته لـ «الجريمة والعقاب»: يقتل جارة عجوزاً تقطن قرب شقة نولا، مظهراً الأمر وكأن دافعه السرقة، ثم يقتل نولا... مظهراً الحكاية وكأن اللص القاتل فوجئ بحضور نولا وقتلها. ثم اذ يجمع جواهر العجوز، يتخلص منها بسرعة... ليكتشف بعد حين انه نسي خاتم زواج المرأة العجوز في جيبه، فيسرع الى النهر ليرمي به من بعيد... لكن الخاتم يتوقف تماماً فوق حاجز النهر، لتتذكر مفتتح الفيلم. وإذ يسقط الخاتم على البر بدلاً من تجاوز الحاجز للوصول الى الماء، لا يعود امام المتفرج شك في ان كريس سيخسر مباراته. لأن الشرطة ستعثر على الخاتم وتستنتج ان الجريمة لم تكن اصلاً بدافع السرقة. وهذا هو المنطقي... لكننا هنا نتذكر اننا في فيلم لوودي آلن، والأمور لدى وودي آلن ليست على مثل هذه البساطة إذاً؟ إذاً، سيعثر متشرد على الخاتم ويضعه في جيبه، وستعثر الشرطة على المتشرد وفي جيبه الدليل على انه هو... القاتل ولداعي السرقة. اما كريس فإنه، بكل انتهازيته وإجرامه ولؤمه، سيواصل عيش حياته ويستقبل في تلك اللحظة بالذات وليده من كلوي وتسير اموره على ما يرام. فقط سيكون وودي آلن في اثناء ذلك شدد على مفهومه الخاص لنظرية الصدفة، من خلال ذلك الربط الذي يقيمه، بين مشهد الطابة المتوقفة فوق الشبكة ومشهد الخاتم المتوقف فوق حاجز النهر. وسيكون وودي آلن قدم ايضاً واحداً من اجمل افلام السنوات الأخيرة، بل واحداً من افضل افلامه، على الإطلاق، منذ «آني هال» و»مانهاتن». والسؤال هنا هل كان وودي آلن في حاجة الى الخروج، بأفلامه وموضوعاتها، من مكانه الأثير نيويورك، حتى يستعيد لسينماه شبابها؟ وهل كان في حاجة الى ان يحقق فيلماً لا يمثل فيه، حتى تخف الثرثرة لديه، ويصبح فيلمه مكان توازن ممتاز بين ما يشاهد وما يقال في الفيلم؟ وهل كان في حاجة للخروج من عوالم تشيكوف وبرغمن التي سيطرت على سينماه طويلاً، والدخول في عالم اوسكار وايلد ودوستويفسكي، حتى يقدم جديداً مفاجئاً. نظرية الصدفة الحقيقة ان وودي آلن، منذ سنوات مجده الأولى، كان بدأ يصيبه بعض الوهن، وهو يصر على تقديم فيلم جديد في كل عام... وهو وهن تجلى في عدد من افلامه الأخيرة، التي حتى وإن حققت نجاحات تجارية لا بأس بها، عجزت تماماً عن ان تكون مقنعة، وأن تعيده الى مستويات افلامه القديمة، حين كان يقدم تحفاً تحمل اسماء «ستارداست ميموري» و»زهرة القاهرة القرمزية» و»زيليغ». وأخيراً، بعد تجربة تجارية بحتة، لم تقنع احداً، اكتشف وودي آلن، كما يبدو، منذ «نهايات هوليوودية» ان الوقت حان لإجراء شيء من التغيير في سينماه، خصوصاً ان ردود الفعل النقدية الفرنسية ازاء «نهايات هوليوودية» كانت في غاية السلبية – وهو ما كان توقعه اصلاً في واحد من مشاهد ذلك الفيلم الذي كان فيلم الافتتاح لدورة من دورات «كان» الأخيرة –... ومن هنا حدثت عنده تلك الانعطافة الجديدة، اولاً في فيلمه السابق «ميلندا وميلندا»، (في العام الفائت) والآن في هذه التحفة الجديدة «ضربة المباراة»، ليستعيد الفنان السبعيني ألقه القديم، وقدرته على التفاعل مع ممثليه (خصوصاً هنا مع ملهمته الجديدة سكارليت جوهانسون في دور نولا، ومع جوناثان ريس – مايرز، في دور كريس)، عبر ادارة صارمة عرفت كيف تطلع منهم بأفضل ما عندهم. غير ان المأثرة الأهم هنا تبقى هذه الصورة المفاجئة والمشمسة التي قدمها وودي آلن لمدينة لندن (من دون ان ننسى ان الفيلم كان كتب اصلاً ليصور في نيويورك، لكن ظروفاً شخصية وإنتاجية ادت الى نقله الى العاصمة البريطانية كما يبدو)، اذ بدت لندن هنا اشبه بنيويورك مثالية، بمعارضها الفنية ومجتمعها الرهيف وشققها الفاخرة، وبخاصة بانعكاس روحها على ارواح ساكنيها. انها لندن كما كان فنان من طينة اوسكار وايلد يريد لها ان تكون. هكذا إذاً، عاد وودي آلن قوياً معافى في فيلم ماكر وذكي، يضيف عوالم جديدة الى عوالم وودي آلن المعهودة، من دون ان يقتصر الى المرجعيات الأدبية والسياسية، ومن دون ان تنقصه تلك العبارات «الوودي آلنية» الشهيرة التي اعتادت ان تعيش اطول من الأفلام التي تقال فيها، لكنها من المؤكد انها هذه المرة ستعيش جنباً الى جنب مع هذا الفيلم المفاجئ الجديد. الحياة اللبنانية في 10 يونيو 2005 |
عودة متأخرة الى النقاشات القديمة دمشق - وفاء صبيح قدمت مانيا بيطار في كتابها بعنوان «القصة في السينما السورية» عرضاً تاريخياً عن علاقة السينما بالنص الأدبي. ومنه عادت إلى بدايات الفن السينمائي، منذ أن كان صامتاً، وتساءلت عن إسقاط بعض التقاليد المفروضة على المخرج السينمائي، من حساب المؤلف الأدبي والرقابة، وعن منطقية استلهام الأعمال الأدبية في السينما، بعيداً من الالتزام الصارم. استطاعت المؤلفة أن تحشد عدداً لا بأس به من التعريفات، حول السينما، فمرة تكون السينما على لسان بيير مايو هي كادر لتكرير الواقع، وإفراز واقع تنقصه الكمالية الحسية، ومرة تكون السينما فناً جامعاً لفني الكتابة والتشكيل، بحسب هردر ليسنغ، ومرة ثالثة تكون السينما فناً بوصفها علاقات ترمز دلالاتها الى واقعها الفني. واذ تجمع مانيا بيطار كل التعريفات السابقة تقول: «إنها فن مركب مرحلي سردي أيقوني متكامل». اقتربت السينما من الأدب وتوطدت صلاتهما، لمعرفة المخرجين العميقة، بأسبقية فنون الأدب، ولافتقار السينما الى أهمية القصة، حينما كانت صامته. مع ان بعض الكتاب يرفض تحويل روايته الى السينما، ومنهم الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز، الذي يريد أن يترك للقارئ حرية المخيلة بالكامل، وهنا تعارضه مانيا بيطار، قائلة ان السينما لا تمنع حرية مخيلة القارئ ولكن من دون أن تدقق في معنى كلام ماركيز الذي اذ يؤكد «حرية المخيلة بالكامل» لا يعلن ان السينما تمنع حرية المخيلة، بل جزءاً منها فقط، وهذا رأي شخصي، فأنا أقرر أيضاً أن أفلمة «مئة عام من العزلة»، ربما يفقدها الكثير من تحريضها اذا تحولت الى السينما، وتأكيدي هو أنني شاهدت الشيخ والبحر ثلاث مرات، وعندما أعود الى النص الروائي أجده يتفوق على الشريط السينمائي، مع أن سبنسر ترايسي هو من قام بدور الشيخ وأجاده بقوة». عرضت المؤلفة نماذج من أفلام القطاع العام في سورية، وهي سبعة أفلام: «الفهد»، «المخدوعون»، «السكين»، «العبد»، «اليارزلي»، «الليل»، و»آه يا بحر»، أخذت من نصوص أدبية، روائية غالباً. وتحدثت عن كل فيلم على حدة، بدءاً من أسماء القائمين على العمل، بكل جوانبه وانتهاء باللغة، وبنية العمل، وتحدثت عن بنية الشخصيات، وبنية الاضاءات، أي الحيز المكاني الجغرافي، وهو المعادل لمفهوم المكان في الرواية. وترى المؤلفة وجود بعض الاختلافات بين أسلوب القصة وأسلوب الفيلم، وهي أحصت 37 اختلافاً منها التراكيب القصيرة المتفككة عكس تراكيب القصة الفنية، والالتزام بالوحدات السردية، واستخدام أفعال دالة على الحركة، وتحديد علاقات المستويات الثلاثة «الموسيقي والصوتي والبصري» بأسلوب مباشر، وتحديد عناصر المكان من خلال علاقتها مع حركة الشخصية والحوار، وتحديد علاقة عناصر المؤثرات مع الصوت البشري بأسلوب مباشر وصريح على عكس أسلوب القصة. في الفصل الثاني تقوم المؤلفة بتعريف مصطلح القصة، وتلقي نظرة تاريخية، لنشأة القصة عند العرب، ومن ثم تأثرها بالغرب، ولجوئها إلى شكل القص الغربي، وتجري دراسة على القصص، ذات البينة الغنائية، وتختار خمس قصص هي: «آرشو آغا»، «ما تبقى لكم»، «الفهد»، «إعلانات عن مدينة كانت تعيش قبل الحرب» و»الدقل» ومن ثم تقوم الكاتبة بدراسة نظام كل قصة على حدة، وبرنامجها السردي، ومستواها الخطابي، وفواعلها، وتدرس أيضاً ظواهرها الفنية، وتخلص المؤلفة الى تلخيص ما قامت بطرحه على مدى 374 صفحة وتقول من جديد «السينما آلة وفن»، فالسينما فن مركب مرحلي سردي متكامل «وتعود من جديد لأسباب العلاقة بين السينما والأدب». الحياة اللبنانية في 10 يونيو 2005 |