بياض الذاكرة وحداد الأم الدائم دمشق - ابراهيم حاج عبدي |
»الكيلومتر صفر« للعراقي هونر سليم
بقلم هدى ابراهيم تدور أحداث فيلم »كيلومتر صفر«للمخرج العراقي هونر سليم، الذي يشارك في المسابقة الرسمية لمهرجان كان السينمائي الثامن والخمسين، في منطقة كردستان العراقية خلال الحرب العراقية- الايرانية عام ٨٨٩١ ويروي قصة شاب كردي يجبر على دخول الجيش ويرسل الى الجبهة في المرحلة التي سبقت نهاية تلك الحرب. وحين يكلف الشاب آكو من قبل قيادته بمرافقة جثمان شهيد والعودة به الى اهله مع اذن بعبور ما يزيد عن سبعمئة كيلومتر، يكون عليه ان يصاحب سائقا عربيا لساعات طويلة على طرقات العراق وبين جباله في منطقة كردستان. ينجح الفيلم في تصوير مدى القهر والقلق والغضب الكامن في قلب كل عراقي على الجبهة أو في الداخل من خلال السائق وآكو الذي كان يرغب في الرحيل لكن زوجته المرتبطة بابيها المسن المريض رفضت مغادرة البلد. يتحول الفيلم الى نوع من رحلة عذاب طويلة يتبادل خلالها آكو والسائق الشتائم ويظهر كل منهما للاخر مدى كراهيته له، لكن العلاقة بينهما لا تتطور وتراوح مكانها فيما يعكس سياسيا انقسام المجتمع العراقي بسبب ما عاشه هذا البلد وممارسات النظام السابق. ورغم طول الطرق الذي يمتد لمئات الكيلومترات عبر عراق خال إلا من الحواجز التي تمنع عبور التوابيت نهارا وتجبر الجميع على انتظار الليل يبقى كل من الكردي والعربي منغلقا على حاله ولا تنشأ صداقة بينهما. وقد اخذ عدد من النقاد العرب في كان على الفيلم طرحه الذي يشجع على التفرقة بين ابناء المجتمع العراقي الواحد رغم ما يحتويه من جماليات كثيرة وموسيقى تصويرية وتقنية جيدة. ويختصر تصريح للمخرج طروحات الفيلم »حتى وان كنت اتكلم العربية فانه ومن دون ان يطلب رأينا تم ضمنا للعراق لنخضع للأكثرية العربية. انا لا اعرف العرب، لا اعرف منهم الا الشرطة السياسية والجيش«. فهذه العبارة للمخرج تعبر عما ينطوي عليه الفيلم من انغلاق سياسي حيث لا يظهر اي انفتاح على الآخر في حين كان يمكن ان يرتفع مستواه البنيوي لو ان العلاقة بين الشابين نمت في اجواء ايجابية اكثر. وتوجد العديد من العناصر الاخراجية المشتركة في »الكيلومتر صفر« وهو انتاج فرنسي عراقي وفيلم المخرج السابق »فودكا ليمون« الذي فاز بجائزة افضل فيلم في تظاهرة »الاتجاه المعاكس« في مهرجان البندقية عام ٣٠٠٢ وجذب اهتمام النقاد والجمهور. كذلك يتاثر هونر سليم بأجواء المخرج الإيراني الكردي بهمان غبادي وان كانت افلام هذا الاخير تتسم بالبعد الاجتماعي فيما تتخذ افلام سليم منحى سياسيا اكثر. والاثنان من ابناء تلك المنطقة الكردية على الحدود بين العراق وايران. يحاول المخرج الذي يعيش في باريس منذ الثمانينات اعادة خلق الاجواء التي عاشها حيث يصور الفيلم الطبيعة في جبال كردستان بشكل جميل وشاعري ويلتقط هدوء الحياة التي لا يعكرها سوى هدير الطائرات العابرة. ومن اجمل مشاهد الفيلم الدرامية مشهد سيارات الجيب التي تسير وراء بعضها مع حلول المساء لتعود بكل تلك الأجساد المسجاة داخل توابيت ملفوفة بالعلم العراقي الى ذويها. وقد استند المخرج في السيناريو على قصة اخيه الذي ارسل الى الجبهة لينسج من حولها احداث الفيلم الذي يحتوي على قدر كبير من المشاعر القوية والعنيفة في آن. ويؤدي دور آكو الممثل المسرحي العراقي آكو نظمي كيريك فيما تؤدي دور زوجته بلسيم بلجين التي ولدت في انقرة. الأيام البحرينية في 7 يونيو 2005 |
المخرج الكوردي هونر سليم يحقق سابقة تاريخية أول فيلم كوردي يشارك في مهرجان كان السينمائي العالمي باسم كوردستان كتب ابراهيم شمدين / شبكة الآن في حوار أجرته معه إحدى الصحف العربية قبل أشهر يقول المخرج الكوردي المبدع هونر سليم: "ذاكرتي الكردية بيضاء باستثناء لباس والدتي الأسود"، في هذه الجملة المختزلة نتبين تاريخا طويلا من الظلم، والقمع، والاضطهاد، تاريخا قاسيا غابت فيه الثقافة والفن الكوردي...همش، وحوصر وأريد لها أن تموت، وهي الجملة نفسها التي رددها الشاعر الكوردي الكبير شيركو بيكه حين قال ما مفاده: في تلك المساحات البيضاء بالثلوج التي كانت تغطي كل شيء، كانت لباس أمي سوداء فحسب، وكان الحزن اسود. غير أن المبدعين الذين يجري في شرايينهم دماء المغامرين يرفضون الاستكانة، والاطمئنان إلى المصير المأساوي. القدر الأحمق، أمام الإصرار، يستسلم لطموح من تتقد بين جوارحه رغبة عارمة في توجيه مسار الحدث بحيث يستطيع قطف ثمار المجد. لم يكن التاريخ بخيلا مع هؤلاء العباقرة، والحالمين فسجل، لمن قهر الظروف، وتحدى الصعاب، واقتحم المجهول، إنجازا يشير إلى شخص اختلس من الزمن الطويل والقاسي، ساعة، ليضمن لنفسه الخلود. إن هذا التمهيد ليس محض إنشاء أدبي بل هو حقيقة دامغة بالنظر إلى الظروف القاهرة، والحكاية التراجيدية التي عاشها هونر سليم حتى وصل إلى قمة الشهرة عبر مشاركة فيلمه "الكيلو متر صفر" في المسابقة الرسمية في أهم مهرجان سينمائي في العالم هو مهرجان كان، يقول سليم ((أعتقد أن علاقتي بالسينما وُلِدت في الطفولة من دون ان أكون واعياً لذلك. عندما هربنا، عائلتي وأنا، من الجيش العراقي من مدينتنا عقرة، استقرينا في الجبال وعشنا لبعض الوقت في الكهوف. كان والدي مفتوناً بالشعر، فكان يقرأ لنا كل ليلة من الشعر الكردي الكلاسيكي. لم أكن آبه كثيراً بذلك حينها إلى ان فتح أمامي ذات يوم كتاب شعر يتضمن لوحات فنية وكانت تلك المرة الأولى التي أرى الرسم فيها. وشرح لي والدي ان الشعر ألهم تلك الرسوم التي مازلت أذكر أنها لنساء جميلات بلباسهن الملون. بدأت أسمع الشعر بينما انظر إلى الصور وأحفظ. وثم بعد عودتنا إلى المدينة، تعرّفت إلى التلفزيون للمرة الأولى أيضا الذي كان خالي قد اشتراه في أوائل السبعينات على ما أذكر. كانت كل الصور المبثوثة تمجيداً لصدام حسين وأحمد حسن البكر وأغاني القومية العربية. عندما انتهت صدمة الصورة الأولى، صرت أسأل نفسي: لماذا هذا الجهاز يتكلم العربية فقط بينما أنا في كردستان؟؟!!)). هذا السؤال البسيط، والبريء، والمرير في الآن ذاته فتح جرحا عميقا، ورسم في مخيلة الطفل وشما أبديا. سؤال صغير انطبع في وجدان الطفل وأثار في الذاكرة الطرية والغضة مأساة كبيرة، فراح، وهو الطفل، يبحث عن جواب قلق في المنافي الأوربية البعيدة. غادر العراق مطلع الثمانينات وذهب إلى إيطاليا، ومنها إلى فرنسا حيث يقيم الآن، ولعله يبحث عن الجواب إلى الآن، ولعله يعمل و يبدع بحثا عن إجابة مقنعة لسؤاله ذاك:لماذا يسمع العربية من التلفزيون بينما هو في كوردستان؟؟!! ترك البلاد قبل الحرب العراقية ـ الإيرانية، وهو يحلم بلغة كوردية عبر الشاشات، بمعلم يعطي الدروس بالكوردية, بوطن كوردي عصي على الولادة...خرج حاملا هذه الهواجس، ومعها الهموم وخيبات طفولة معذبة وهاربة من صوت المدافع، وأزيز الرصاص، ورائحة النعوش وملاحقات الأمن المستمرة في مدينته الصغيرة عقرة التي ولد فيها العام 1964 م. رحلة حافلة بالأمل، والخيبة، والإبداع حقق خلالها هونر سليم عدة أفلام نالت استحسان النقاد، ورضا الجمهور فقد اخرج منذ مطلع التسعينات والى الآن أربعة أفلام وهي، إضافة إلى "الكيلومتر صفر"، "فودكا ليمون"، و"ما وراء الأحلام"، و"شيرو"، وقد حصل على عدة جوائز عالمية على أفلامه، كما صدرت له عدة مؤلفات عدة، من أهمها "بندقية أبي" ويروي في هذا المؤلف حكاياته مع بندقية أبيه والجبال وقصص حب انتهت في تلك الظروف القاسية بالفشل، ويشرح الكاتب رحلته الطويلة الحائرة في التعرف إلى السلاح، والأبجدية، والأسماء، والصور...فهو الذي ولد كرديا لأب كردي، على أرض كردية يعاني وجع سؤال مرير: لماذا ينكر عليه هذا الأصل؟ لماذا يمنعونه من الافتخار بهذا الأصل والتباهي به كما تفعل القوميات الأخرى؟، لماذا يفرض عليه لغة أخرى، وثقافة مختلفة، وتراثا مغايرا ألا يملك ـ وهو الكوردي سليل أحمدي خاني، ونالي، وكاوا، وهيمن، وقاضي محمد ـ هذه العناصر الحية النابضة، ألا يحق له أن يتباهى بكورديته ؟؟!! تلك هي الأسئلة التي تراود ذهن الطفل في الظلام القاتم الحزين في الغرف الطينية الفقيرة، المظلمة، الواطئة وسط طبيعة كوردستان وجبالها الخلابة التي لا تمنح لساكنيها سوى الألم والانتظار؟ فأي إله ذاك الذي يسكن السماء، ولا يغفو إلا بعد مجزرة؟ يتساءل الكوردي المقهور. في تقديمه فيلمه "فودكا ليمون" ليلة ختام أيام بيروت السينمائية قبل أشهر، قال سليم جملة واحدة: "في كل مرة أبدأ بكتابة سيناريو، أقول لنفسي سأصوره في كردستان، وفي كل مرة اكتشف من جديد استحالة ذلك". لماذا تكرر ذلك وأنت تدرك في العمق انه غير ممكن؟ تسأله الصحفية، فيرد: "أحتاج إلى خداع نفسي"، ويوضح: "أحياناً تكون هذه الفكرة الوهمية هي التي تحركني لأكتب. هناك دائماً طاقة إيجابية، تدفعني تثيرني فأبدأ من الملموس، كردستان ربما، وأبحر بعد ذلك لا أعرف إلى أين". غير أن هذا الحلم الذي راود مخيلة المخرج سليم يتحقق أخيرا في فيلمه "الكيلومتر صفر" الذي قامت بتمويله حكومة أقليم كوردستان وبعض الجهات الفرنسية، ولعبت دور البطولة فيه الممثلة الكوردية التركية بلسيم يلجين، والممثل الكوردي نظمي كيريك، وتدور أحداث الفيلم في منطقة كوردستان العراق خلال الحرب العراقية- الإيرانية بين عامي 1980 و1988 م، ويروي قصة شاب كوردي يجبر على دخول الجيش ويرسل إلى الجبهة في المرحلة التي سبقت نهاية تلك الحرب. وحين يكلف الشاب الكوردي آكو مرافقة جثمان شهيد والعودة به إلى أهله مع إذن بعبور ما يزيد عن سبعمئة كيلومتر، يكون عليه ان يصاحب سائقا عربيا لساعات طويلة على طرق العراق وبين جباله في منطقة كوردستان. ينجح الفيلم في تصوير مدى القهر والقلق والغضب في قلب كل عراقي على الجبهة أو في الداخل من خلال السائق وآكو الذي كان يرغب في الرحيل لكن زوجته المرتبطة بابيها المسن المريض رفضت مغادرة البلاد. ونقلت وكالة فرانس برس للأنباء انه وفي العرض المخصص للصحافيين، أشاد الصحافيون بروح الفكاهة السوداء التي تميز الفيلم الذي يحكى قصة كردي عراقي يخدم في جيش النظام العراقي السابق للقتال ضد إيران عام 1988. إلا ان الفيلم يهدف إلى وضع هذه المسالة في إطار الجدل الدائر حول الحرب التي شنتها الولايات المتحدة على العراق وانعكاساتها. وأشارت الوكالة ان الفيلم يسعى إلى طرح مقارنة بين الحرب العراقية الإيرانية والحرب على العراق حيث وضع القصة ضمن مشاهد معاصرة بحيث ظهرت الشخصيات الرئيسية في الفيلم تبدي ردود فعلها على النزاع من باريس أولا بالدهشة، ثم بالفرح لسقوط بغداد. تم تصوير أحداث الفيلم في مناطق العمادية بشمال مدينة دهوك وناحية ديبكة في جنوب مدينة أربيل، ويشارك حاليا وفد رسمي من وزارة الثقافة الكوردية برئاسة السيد سامي شورش وزير الثقافة في فعاليات مهرجان كان السينمائي، وكان سليم قد أعلن بوضوح ـ ردا على بعض المقالات الصحفية التي تشير بان الفيلم عراقي، بان فيلمه يشارك في المسابقة الرسمية باسم كوردستان، ليس فقط بسبب مخرجه الكوردي وأبطاله الكورد، بل كذلك لان التمويل جاء أساسا من حكومة إقليم كوردستان.ومن المتوقع أن يفوز فيلم هونر سليم بإحدى الجوائز في المسابقة الرسمية. يشار إلى ان السينمائي الكوردي التركي الراحل يلماز غوني كان قد شارك في دورة مهرجان كان عام 1982 في المسابقة الرسمية بفيلمه "يول" أو الطريق وفاز الفيلم حينها بالجائزة الأولى مناصفة مع فيلم "المفقود" لكوستا غافراس، ورغم مواقف غوني المعروفة من قضيته الكوردية إذ ناضل بكتابته وفنه ضد السياسات التركية القمعية، ودافع عن حقوق شعبه غير انه لم يجد بديلا حينها عن المشاركة في المهرجان باسم تركيا، أما فيلم هونر سليم فهو المشاركة الكوردية الرسمية الأولى باسم كوردستان، في مهرجان يتمتع بسمعة عالمية، وبمكانة مرموقة. موقع "الجيران" في 5 يونيو 2005 |
في حوار أجرته معه إحدى الصحف العربية قبل أشهر يقول المخرج الكردي هونر سليم: «ذاكرتي الكردية بيضاء باستثناء لباس والدتي الأسود»، تكاد هذه الجملة الموجزة أن تختزل تاريخاً طويلاً من الظلم، والقمع، والاضطهاد، عانى من قسوته سليم الذي وجد نفسه ابناً لثقافة كردية محاصرة، مهمشة، منسية... غير أن المبدعين الذين تجري في شرايينهم دماء المغامرين يرفضون الاستكانة أو الاطمئنان إلى المصير المأسوي، فنبرة الحرمان والانكسار تتحول لديهم إلى غنائية عذبة تفصح عن نفسها في السينما، والشعر، والرسم، والغناء، والرواية... هكذا فعل هونر سليم مثلما فعل أكراد آخرون: عمر حمدي (مالفا)، بشار عيسى، سليم بركات، شيركو بيكه س، شفان، يلماز غوني... وسواهم ممن ينتمون إلى كردستان (بلاد الألف ثورة والألف حسرة)، بتعبير جوناثان راندل، أو «بلاد المهانة والخوف» بتعبير محمد أبي سمرا. هذه البلاد التي لفظت ساكنيها الكرد، فراح هؤلاء يغزلون من عذوبة الحنين، و»لوعة الغياب» والذكرى فناً مملوءاً بالصدق، مفعماً بالأمل. سينما الطفولة هونر سليم الذي وصل إلى قمة الشهرة عبر مشاركة فيلمه الأخير «الكيلومتر صفر» في المسابقة الرسمية في أهم مهرجان سينمائي في العالم، مهرجان كان، هو واحد من أبطال هذه التراجيديا، ولد في بلدة عقرة في كردستان العراق عام 1964 وراح يقرأ بعيني الطفل صفحات الألم، هذه الصفحات التي تزخر بكل شيء إلا السينما، يقول سليم: «أعتقد بأن علاقتي بالسينما وُلِدت في الطفولة من دون ان أكون واعياً لذلك. عندما هربنا، عائلتي وأنا، من الجيش العراقي من مدينتنا عقرة، استقرينا في الجبال وعشنا لبعض الوقت في الكهوف. كان والدي مفتوناً بالشعر، فكان يقرأ لنا كل ليلة من الشعر الكردي الكلاسيكي. لم أكن آبه كثيراً بذلك حينها إلى ان فتح أمامي ذات يوم كتاب شعر يتضمن لوحات فنية وكانت تلك المرة الأولى التي أرى الرسم فيها. وشرح لي والدي ان الشعر ألهم تلك الرسوم التي ما زلت أذكر أنها لنساء جميلات بلباسهن الملون. بدأت أسمع الشعر بينما انظر إلى الصور وأحفظ. وثم بعد عودتنا إلى المدينة، تعرّفت إلى التلفزيون للمرة الأولى أيضاً في أوائل السبعينات. كانت كل الصور المبثوثة تمجيداً لصدام حسين وأحمد حسن البكر مرفقة بأغاني القومية العربية. عندما انتهت صدمة الصورة الأولى، صرت أسأل نفسي: لماذا هذا الجهاز ينطق بالعربية فقط، بينما أنا في كردستان؟!». هذا السؤال البسيط، والبريء والمرير في آن معاً، فتح جرحاً عميقاً، ورسم في مخيلة الطفل وشماً أبدياً. سؤال صغير طُبع في وجدانه وأثار في الذاكرة النضرة البيضاء، قلقاً أسود بحجم الكون، وزرع لديه فضول البحث عن جواب لعله يجده في صقيع المنافي الأوروبية النائية. غادر العراق مطلع ثمانينات القرن الفائت وذهب إلى إيطاليا، ومنها إلى فرنسا حيث يقيم الآن. ترك البلاد، وهو يحلم بلغة كردية عبر الشاشات، بمعلم يعطي الدروس بالكردية، بوطن كردي عصي على الولادة... خرج حاملاً هذه الهواجس، ومعها الهموم، وشغب طفولة معذبة، هاربة من صوت المدافع وأزيز الرصاص ورائحة النعوش... لكنه لم يعثر على الجواب إلى الآن، ولعله يعمل ويبدع مدفوعاً بأمل العثور على إجابة مقنعة لسؤاله ذاك: لماذا يسمع العربية من التلفزيون بينما هو في كردستان؟! رحلة حافلة بالأمل والخيبة حقق خلالها هونر سليم أفلاماً عدة نالت استحسان النقاد، ورضا الجمهور فأنجز منذ مطلع التسعينات والى الآن أربعة أفلام، هي، إضافة إلى «الكيلومتر صفر»، «فودكا ليمون»، و»ما وراء الأحلام»، و»شيرو»، وحصل على جوائز عالمية عدة عن أفلامه، كما صدرت له عدة مؤلفات، من أهمها «بندقية أبي» التي يروي فيها حكاياته مع بندقية أبيه، والجبال، وقصص الحب الفاشلة، والأبجدية، والأسماء، والصور... سيرة نموذجية لطفل كردي وجد نفسه في ظلام قاتم وحزين، في الغرف الطينية الفقيرة، المظلمة، الواطئة وسط طبيعة كردستان وجبالها الخلابة التي لا تمنح لساكنيها سوى الألم والانتظار. مع هونر سليم تصح المقولة البائسة: «المعاناة تولد الإبداع»، فقد استطاع أن يعمل، على رغم الإمكانات الضئيلة، إلى أن وصل إلى محطة يتطلع إليها الكثير من المخرجين. أن تصل إلى مهرجان كان السينمائي العالمي الذائع الصيت، وتشارك في المسابقة الرسمية، بصرف النظر عن الجوائز، ذلك إنجاز كبير، وتتضاعف قيمة الإنجاز حين يكون المشارك كردياً ينتمي إلى أرض الخيبات، هذه سابقة أن يشارك فيلم كردي، بتمويل كردي، ولغة كردية، وبحضور وفد رسمي كردي في مهرجان كان، ذلك أن مشاركة المخرج السينمائي الكردي الراحل يلماز غوني في هذا المهرجان بفيلمه «يول» مطلع الثمانينات حيث قطف السعفة الذهبية مناصفة مع فيلم المفقود لكوستا كافراس، سجلت باسم تركيا، على رغم مواقف غوني المناهضة لسياساتها ضد الأكراد. تدور أحداث فيلم «الكيلومتر صفر» الذي أسندت البطولة فيه إلى الممثلة الكردية التركية بلسيم يلجين، والممثل الكردي نظمي كيريك، في كردستان العراق خلال الحرب العراقية - الإيرانية في عقد الثمانينات، ويروي قصة شاب كردي يجبر على دخول الجيش ويرسل إلى الجبهة في المرحلة التي سبقت نهاية تلك الحرب. وحين يكلف الشاب الكردي آكو مرافقة جثمان شهيد، والعودة به إلى أهله مع إذن بعبور ما يزيد على سبعمئة كيلومتر، يكون عليه ان يصاحب سائقاً عربياً لساعات طويلة على طرق العراق وبين الجبال في منطقة كردستان. اعادة ترتيب العالم أشاد النقاد بروح الفكاهة السوداء التي تسيطر على أجواء الفيلم، غير أن الأهم من ذلك هو مشاركة الفيلم في مهرجان كان بالنظر إلى هوية مخرجه الذي أعلن بوضوح ـ رداً على بعض المقالات الصحافية التي تشير الى أن الفيلم عراقي ـ الى أن فيلمه يشارك في المسابقة الرسمية باسم كردستان، وهذه رسالة سياسية نسمع في سطورها جواباً لذاك السؤال البعيد الذي طرحه الطفل. ولا نعتقد بأن التحليلات التي ذهبت إلى ان الفيلم يحمل الشعب العراقي، لا نظامه، مسؤولية المآسي التي تعرض لها الأكراد في السنوات الماضية، صحيحة، ذلك ان المخرج هو ضحية ذلك النظام القمعي، وليس من الجائز ان يدافع الضحية عن الجلاد، فسليم يعي قسوة الألم، ويدرك أن الشعب العراقي بأسره عانى من النظام السابق، وإذا كانت مشاركة فيلمه في مهرجان كان لا تخلو من موقف سياسي أراد منظمو المهرجان تكريسه، غير أن ذلك لن ينقص من فرحته، ولن يقلل من شأنه كشاب خرج من وسط الخراب والفوضى، وها هو يعيد ترتيب هذا العالم على نحو أجمل بكاميرته التي تصور تلك الحياة المشتهاة التي حرم منها طويلاً. الحياة اللبنانية في 10 يونيو 2005 |