ضوء ... أفلام عربية عن الاعتقال السياسي عدنان مدانات |
ضوء ... التمرد على سحر الشاشة عدنان مدانات قديماً، في عصر السينما الصامتة، كان يقال في مدح السينما إنها تنقل المشاهدين من عالم الواقع إلى عالم الأحلام. كانت السينما تهيئ مشاهديها، من أجل تنفيذ عملية الانتقال هذه، عن طريق وضعهم ضمن أجواء خاصة تجعلهم واقعين تحت تأثيرها، أجواء يمكن تلخيصها بعبارة “عتمة الصالة”، العتمة التي تحيط بالمشاهدين وتعزلهم عن العالم من حولهم وتجعلهم يتطلعون بانشداد نحو ضوء الشاشة وما يعكسه من عوالم متحركة متخيلة. يمكن تشبيه هذه الأجواء بما يحصل في جلسات تحضير الأرواح حيث يجلس المشاركون فيها وسط العتمة ويبدأون شعائرهم بفترة صمت جليل تهيئهم للاستسلام لعالم الغيب السحري. خلال ربع القرن الأول من عمر السينما كان لعتمة الصالة جلالها الخاص وكانت العتمة تترافق في انسجام متبادل مع الصمت الذي يعم صالة العرض، الصمت، ليس فقط بمعنى صمت المتفرجين بل بمعنى صمت الشاشة. أما الموسيقا المرافقة التي كان يعزفها الموسيقيون المختبئون خلف شاشة العرض فلم تكن تخرق الصمت بل كانت تضفي عليه روحاً خاصة. كانت السينما آنذاك توصف بأنها “الصامت العظيم” لأن المخرجين آنذاك كانوا يبتكرون الحلول الفنية التعبيرية “محض البصرية” عبر إعادة بناء للواقع تسمح لهم بتجسيد أفكارهم على أفضل وجه ممكن وضمن تتابع سلس للصور المتحركة ينظم النقلات فيما بينها بشكل مريح للعين ويجعل المرئي مسموعاً من دون أن يصدر عنه صوت. في الفيلم الوحيد الذي اكتفى شارلي شابلين بإخراجه في فترة السينما الصامتة ولم يمثل فيه، يطلق أحد الممثلين الرصاص أثناء حفلة على الممثلة فيسمع المشاهدون صوت الرصاصة، غير المسجل أصلا، بفضل التنظيم المونتاجي للحلول البصرية التي ابتكرها المخرج والتي صورت ردود فعل الممثلين على الحدث. هذا التنظيم المونتاجي الدقيق والمريح للعين وللنفس الذي يحقق سلاسة الانتقال بين اللقطات المختلفة المتنوعة الأحجام والزوايا، والذي اكتشفت السينما الصامتة طرقه وأساليبه وأرست قواعده وأصوله تدريجيا وطورته من فيلم الى فيلم كان الأساس الذي حكم في فترة السينما الصامتة تنظيم التسلسل السردي للقطات، وليس فقط في الأفلام ذات الأحداث الهادئة مثل الأفلام التي يطلق عليها صفة “الاجتماعية” أو “العاطفية” أو “النفسية” التي لا تتضمن صراعات حادة، بل أيضا في باقي الأنواع الفيلمية التي أساسها الحركة المثيرة، مثل الأفلام التاريخية والبوليسية وأفلام الغرب والأفلام الكوميدية، والذي سارت على هداه فيما بعد السينما الناطقة بمختلف أنواعها واستمرت تتقيد به لعقود طويلة من الزمن مضيفة إليه تنظيم العلاقات ما بين الأصوات المختلفة وبينها وبين الصور. كان هذا التنظيم المونتاجي الصارم هو ما سمح للعديد من المخرجين المهرة بتجسيد تصوراتهم الفنية والإخراجية الدقيقة شبه النهائية حول الفيلم المقبل، عن طريق كتابة نص السيناريو مع الوصف التفصيلي للقطات بجميع عناصرها السمعية والبصرية والمرفق برسومات توضيحية لمحتوى اللقطة ومسارات الحركة فيها وزمنها. وهذا ما عبر عنه أحد المخرجين الفرنسيين ذات يوم عندما صرح بأن فيلمه الجديد صار جاهزاً ولم يبق لإنجازه تماما إلا القيام بإخراجه. مقابل هذا التأسيس التدريجي لما يمكن أن يطلق عليه مجازاً صفة “القواعد” السينمائية والتي بات بالإمكان تدريسها في المعاهد السينمائية المتخصصة، عرف تاريخ السينما حالات من التمرد الإخراجي، والبنائي الدرامي بطبيعة الحال، على ما تم ترسيخه من “قواعد” سينمائية، تمثلت في الاتجاهات التجريبية والحداثية والثورية الفنية عند بعض المخرجين في أنحاء العالم المختلفة ومنهم بشكل خاص المخرج الفرنسي جان لوك غودار أحد الأقطاب الرئيسيين لتيار الموجة الجديدة في السينما الفرنسية، والذي كان فيلمه الروائي الثاني “بيير المجنون” الذي أخرجه قبل أربعين عاما، يعبر مباشرة، بشكله الإخراجي وبنائه الدرامي ومضمونه وحتى موضوعه، عن موقفه المضاد للسينما السائدة ولقواعدها المتعارف عليها. وما يميز موقف غودار الحداثي المضاد هو أنه لم يقتصر على شكل وموضوع الفيلم بل تقصد التمرد حتى على طبيعة علاقة المشاهد مع العرض السينمائي والتي تؤثر فيها إلى حد ما ظروف مشاهدة الفيلم التي تجعل المشاهد ينسجم ويتماهى مع الفيلم، ومن هذه الظروف تأثير هدوء وعتمة الصالة عليه بما يجعله يستسلم لسحر الشاشة، في حين كان المطلوب عدم الاستسلام لسحر الشاشة بل استقبال متعة الفيلم السينمائي بوعي إيجابي. كان تمرد غودار وغيره من المخرجين السينمائيين الحداثيين والتجريبيين والثوريين ممن سبقوه أو عاصروه أو جاؤوا بعده على السينما السائدة شكلاً إخراجياً وأسلوباً فنياً ومضموناً فكرياً وعلاقة مع المشاهدين، ينم عن مواقف قصدية ذات طبيعة إبداعية فنية جمالية أحياناً وايديولوجية في أحيان أخرى. كان فيلم “بيير المجنون” أحد النماذج المهمة المبكرة في تيار “الموجة الجديدة” في السينما الفرنسية والتي كان لها أثر كبير في نشر مفهوم “سينما المؤلف” منذ ستينات القرن العشرين، وفي طرح مفهوم جديد لفن السينما مغاير تماما للسينما الهوليوودية المهيمنة ذات القواعد المهنية النمطية. ويعكس الفيلم أهم عناصر الأسلوب الخاص بالمخرج جان لوك غودار الذي ميزه عن أقرانه من مخرجي “الموجة الجديدة”، وهو الأسلوب الذي يهدف إلى كسر قواعد البناء الدرامي السردي وإلغاء حالة التماهي التي تسيطر على المتفرج أثناء مشاهدة الفيلم كي يحاكم ما يراه عقليا بدون ان يكون أسيرا للعواطف. لا يوجد في “بيير المجنون” حكاية متصلة يمكن تتبع أحداثها المترابطة، باستثناء أن الفيلم يقدم حالات ترتبط ببطليه اللذين يتنقلان من مكان إلى مكان وكأنهما يعيشان أحداث رواية يعملان على تأليفها ولكن بدون أيما تصور لموضوع الرواية. وما يتخيلانه ويعيشانه في نفس الوقت من أحداث متفرقة، مجرد استعارة من الأفلام البوليسية أو سينما “الحركة” “الآكشن”. والفيلم لا يمكن فهمه إلا بفهم أسلوبه القائم على تفكيك أفلام الآكشن وإعادة صياغتها، ولكن ليس على طريقة الأفلام الكوميدية التي تقلد وتسخر من أنماط الأفلام الأخرى من أجل إثارة الضحك، بل من أجل تقديم مفهوم جديد للسينما. بشكل ما يمكن اعتبار “بيير المجنون” فيلماً عن السينما نفسها. لهذا يعرض المخرج لقطات هي نوع من الفواصل، التي تبين ملصقات للأفلام أو تظهر فيها كلمة “سينما”، كما يضمن المخرج جمل الحوار بعض الإشارات إلى أفلام سينمائية، هذا إضافة إلى أن الخط الأساسي للفيلم الذي يصور مسار رحلة البطلين بعد الجريمة يذكر بالفيلم البوليسي الأمريكي الشهير “بوني وكلايد”، ولكن بعكس فيلم “بوني وكلايد” الذي يركز على تصوير مشاهد مطاردة البوليس لبطلي الفيلم، فإن فيلم “بيير المجنون” لا يتضمن أية مطاردة، وذلك على الرغم من ان بطلي الفيلم يحرقان السيارة كي يضللا البوليس الذي “يتوقعان” أو يفترضان أنه سوف يطاردهما. ينعكس هذا الأسلوب الإخراجي أيضا على أداء الممثلين، الذين يؤدون أدوارهم بحيادية باردة دونما أية تعابير تعكس انفعالات ذات علاقة بالحدث. ومثلما يسخر الفيلم من السينما الهوليوودية النمطية، فهو يتضمن نقداً للعقلية الأمريكية وللسياسة الاستعمارية الأمريكية، وذلك بشكل خاص من خلال تصوير مشهد ساخر عن الحرب في فيتنام. على الرغم من صعوبة هذا الأسلوب بالنسبة للمتفرجين، إلا أن الفيلم لا يتسم بالغموض ويقدم أفكاره بشكل واضح للمتفرجين، والأهم من ذلك أن المخرج ينجح في جعل فيلمه مشوقاً وممتعاً في آن. الخليج الإماراتية في 23 مايو 2005 |
ثمة في الأدب العربي المعاصر الكثير من الروايات والقصص ذات المنحى السياسي التي تندرج تحت ما بات يطلق عليه صفة “أدب السجون”، والتي يدور جزء كبير من أحداثها داخل السجون، وتركز بشكل خاص على قضايا الاعتقال السياسي، وتصور أوضاع المساجين السياسيين وما يحصل معهم داخل السجون والمعتقلات. بدورها عرفت السينما العربية عبر تاريخها الطويل عددا قليلا من الأفلام السينمائية الروائية الطويلة التي تجرأت وتحدثت عن السجون والمعتقلين السياسيين وذلك على الرغم من أن التطرق إلى المواضيع السياسية عامة، وما يتصل بها من مواضيع تتعلق بقوى اليسار وما تعرضت له من قمع سلطوي خاصة، كان من أكبر المحظورات التي تقف في وجه حرية التعبير سينمائيا. قدمت السينما المصرية نموذجين مختلفين لمعالجة قضايا الاعتقال السياسي والتعذيب الذي مورس على المعتقلين السياسيين اليساريين أو المتهمين بالانتماء لليسار من قبل الأجهزة الأمنية، أحدهما الفيلم الشهير “الكرنك” المقتبس عن رواية بنفس العنوان للكاتب نجيب محفوظ. تنتقد رواية “الكرنك” بشكل مباشر فترة العهد الناصري من خلال حكاية شخصيتين رئيسيتين هما إسماعيل وزينب اللذين اتهمتهما السلطة بأنهما عدوين للثورة ينتميان إلى تنظيم شيوعي فتم اعتقالهما. وفي السجن تتعرض زينب للاغتصاب ويتعرض إسماعيل للتعذيب، بأمر من ضابط المباحث القاسي الذي فرض عليهما أن يصبحا مخبرين يتجسسان على رفاقهما. ينقل فيلم “الكرنك” (1975)، من إخراج علي بدرخان، أحداث هذه الرواية ويركز بشكل خاص على مشاهد التعذيب داخل السجون ويصور ضابط المباحث على هيئة وحش بشري. جرى إنتاج هذه الفيلم في الحقبة الساداتية وما صاحبها من انتقاد رسمي لفترة حكم جمال عبدالناصر، فبدا هذا الفيلم وكأنه يساند السلطة الجديدة في انقلابها على السلطة السابقة، لهذا السبب بالذات اتخذت القوى الوطنية اليسارية المصرية موقفا مضادا للفيلم على الرغم من أن القوى اليسارية بالذات وما تعرضت له من قمع معنية أكثر من غيرها بإبراز هذا الجانب من تاريخها. الفيلم الآخر هو فيلم “البريء” (عام 1986)، الذي أخرجه عاطف الطيب وتحدث فيه عن المعتقلين السياسيين المثقفين الماركسيين وما تعرضوا له من قمع في المعتقلات الصحراوية. نعثر في السينما السورية على فيلم واحد فقط فيما يخص موضوع الاعتقال السياسي، وهو فيلم “القلعة الخامسة” (1979)، للمخرج بلال الصابوني عن رواية للكاتب العراقي فاضل العزاوي. وهذا الفيلم الذي تجري معظم أحداثه داخل السجن، لم يتطرق إلى أوضاع معاصرة أو قريبة العهد مما يبعد عنه أي احتمال لمعارضة رقابية، بل عاد بأحداثه إلى بدايات الخمسينات من القرن العشرين، ليروي قصة مجموعة من المناضلين الشباب من ذوي التوجه القومي المعتقلين في أحد السجون بسبب مناهضتهم للحكم الديكتاتوري في سوريا آنذاك. غير أن الفيلم لا يهتم بتصوير حالات القمع التي يتعرض لها المعتقلون السياسيون بقدر ما يهتم بإبراز أفكارهم عبر النقاشات التي كانت تدور فيما بينهم وهم داخل أسوار السجن والتي تتضمن في نتيجتها النهائية دعوة للسعي نحو مستقبل أفضل في ظل مجتمع جديد تسوده العدالة الاجتماعية. ونجد في الفيلم العراقي “الأسوار” (1979)، للمخرج محمد شكري جميل حيزا كبيرا لموضوع الاعتقال السياسي. يروي الفيلم المقتبس عن رواية للكاتب العراقي عبد الرحمن مجيد الربيعي، والذي تبدأ أحداثه في أواسط الخمسينات من القرن العشرين، قصة ثلاثة شبان لا يزالون بعد على مقاعد الدراسة الثانوية يندمجون في العمل السياسي ضد النظام الملكي. أحدهم سرعان ما يخون مبادئه، ويموت ثانيهم برصاص الشرطة أثناء مشاركته في تظاهرة، أما ثالثهم فيتم اعتقاله بعد أن توجه له زورا تهمة ارتكاب جريمة قتل بحق حلاق في حي شعبي. وهكذا يتعرض للتعذيب في السجن. لم تتخلف السينما التونسية عن التطرق لموضوع الاعتقال السياسي والتعذيب في السجون وذلك من خلال فيلمين هما “صفائح من ذهب” (1979)، للمخرج نوري بو زيد و”ليلة السنوات العشر” (1990)، للمخرج ابراهيم باباي. يعتمد المخرج التونسي نوري بو زيد على وقائع من تاريخه الشخصي عندما كان مناضلا يساريا وتعرض للاعتقال. يبدأ الفيلم من لحظة خروج بطله يوسف من السجن بعد أن قضى فيه نحو ستة أعوام مع بعض رفاقه الذين ضمهم تجمع يساري نشأ في تونس في الستينات وعرف باسم “آفاق”، حيث تعرض يوسف خلال تلك الفترة إلى شتى أنواع التعذيب، ولكن التعذيب الذي مورس عليه لم يكسر إرادته ولم يغير من قناعاته. إلا أن يوسف يفاجأ بعد خروجه من السجن أن العالم قد تغير وأنه بات في واد والناس من حوله باتوا في واد آخر. شهدت السينما المغربية في عام 2004 فورة لافتة باتجاه معالجة قضايا الاعتقال السياسي والتعذيب في سجون المغرب، خاصة في سبعينات القرن العشرين التي احتدم فيها الصراع بين السلطة وقوى المعارضة اليسارية. تمثلت هذه الفورة بإنجاز فيلمين روائيين طويلين حول هذا الموضوع هما “جوهرة بنت الحبس” و”درب مولاي الشريف” مع وجود مشاريع أفلام أخرى قيد الإنجاز منها فيلم بعنوان “ذاكرة أب” للمخرج جيلالي فرحاتي. سبق هذه الفورة فورة مماثلة في مجال الأدب الروائي المغربي وكتب السيرة الذاتية حول الموضوع نفسه، وهي المصادر الأدبية التي اعتمدت عليها هذه الأفلام. فيلم “جوهرة بنت الحبس” للمخرج سعد الشرايبي، يحكي من خلال ذكريات جوهرة حكاية أمها التي تعرضت للاعتقال ومن ثم التعذيب في السجن، وحتى الاغتصاب من قبل رجال الشرطة. ويتميز الفيلم المغربي “درب مولاي الشريف” للمخرج حسن بن جلون باعتماده على السيرة الذاتية لبطل الفيلم وبالذات في فترة شبابه التي أودع فيها السجن لسنوات طويلة على الرغم من أنه كان قد تخلى عن العمل السياسي طوعا واستقال من التنظيم الماركسي الذي كان عضوا فيه. يستند الفيلم إلى كتاب بعنوان “الغرفة السوداء” للمؤلف جواد مديديش، الذي أسهم في كتابة سيناريو الفيلم بالتعاون مع المخرج حسن بن جلون. الخليج الإماراتية في 16 مايو 2005 |