كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما

 جديد الموقع

 

 

 

التالي
السابق

 

كتبوا في السينما

سينما المقاومة في فلسطين

«الحس» للإيطالي فيسكونتي

يسري نصر الله: أفلامي بسيطة وشديدة الخصوصية

غودار: نحن أقرب إلى نقطة النهاية لأننا عاجزون عن الكلام

 

 

بلاغة السينما فـي تـرنــُّمــها بأحلام البسطاء

بقلم ناجح حسن

يحتل المخرج المصري داوود عبدالسيد مكانة لائقة وسط اقرانه من صناع السينما المصرية الجديدة غير المعلنة، وهو الذي تجاوزت اعماله مجتمعة بدءا من فيلم الصعاليك «1985»، «البحث عن سيد مرزوق» 1990، «الكيت كات» 1991، «ارض الاحلام» 1993، «سارق الفرح» 1995، «ارض الخوف» 1999، وفيلمه الاخير «مواطن ومخبر وحرامي» 2002، الحارة والمصنع والافكار المباشرة عن الصراع الاجتماعي. كما تحرر فيها من طريقة السرد الدارجة في السينما المصرية وفق التصاعد التدريجي للاحداث، ووجد في عنصر الفانتازيا الذي جربه ملاذا للتعبير عن رؤيته. انها باختصار واقعية الرؤية الفنية وليست واقعية الوصف الخارجي كما بدا في الافلام التسجيلية القصيرة التي حققها عبدالسيد في بداية مسيرته السينمائية التي اعقبت تخرجه في المعهد العالي للسينما في القاهرة عام 1967 وهو المولود عام 1946.

في معظم افلام داوود عبدالسيد وابناء جيله من المخرجين الذين اطلق عليهم نقاد السينما «تيار الواقعية السحرية» في السينما، شهدت السينما المصرية على نحو واع ومقصود ما عرفته من قبل على نحو عفوي وفطري وغير منظم بان الشاعرية في السينما ليست بسعي السينمائي الى استعراض وفذلكة تقنياته بقدر ما هي احساس وتلمس للواقع الذي يحيا فيه الانسان البسيط، وان يعكس ذلك في بلاغة بصرية وسمعية ويستفيد من الموروث الايجابي في الأعمال الكلاسيكية للسينما ويطورها، ويستعيض عن الديكورات باستغلال الأماكن الطبيعية الى اقصى درجة.

لا يطمح داوود عبد السيد في افلامه عادة ومنها التسجيلية الى تحطيم وحدتي الزمان والمكان والتحليق بعيدا في آفاق السرد الحر التداعي، ولا في عالم التأملات الذهنية المجردة، لكنه من الناحية الموضوعية يتجاوز الكثير من القوالب السائدة المألوفة.

من خلال هذا الوعي الجمالي والسياسي يبدأ عند داوود عبدالسيد عمله في فيلمه التسجيلي الاول «وصية رجل حكيم» 1976. وفيه يلجأ الى شريط الصوت وتنافره كاملا مع الصوت فهناك الرجل الحكيم الذي يتحدث بطريقة الخطاب الرسمي خلال حقبة السبعينيات من القرن المنصرم، ويبدو في ظاهره بليغا مؤثرا، لكنه في اعماقه يخفي قدرا مفزعا من الجهل في حقيقته، فالصورة تحثه على ترك القرية ومغادرتها نتيجة للواقع الصعب والبائس الذي تنمو فيه الحياة بيد ان المتلقي للفيلم لا يجد سوى رغبة بتحسين هذا الواقع وتغييره على نحو الافضل.

يشكل فيلم عبدالسيد التسجيلي الثاني، «العمل في الحقل» 1979 تجربة متميزة ايضا في عالم الفيلم التسجيلي، فهو للوهلة الاولى يبدو وكأنه يحاكي الافلام التسجيلية التي تحصر نفسها في دائرة الحديث عن لوحات تشكيلية للرسام حسن سليمان، لكن الفيلم يؤكد على اصالة الحياة التي يسير عليها الفنان في استلهام واقعه برصانة المبدع ووعيه لتمنح الفيلم حرارة وصدقا خصوصا عندما يصور العمل حالة الفنان في كهولته وهو بعيد عن العمل في حقله وهو النشاط الاثير لديه عندما كان في اوج انطلاقته وشبابه.

يلخص الفيلم «العمل في الحقل» ببلاغة شاعرية بالامكانيات المتاحة للمبدعة كي يحمي نفسه من الانزلاق  في مأزق الوحدة والتشاؤم وان يظل ملتزما بواقعه وبتفاصيل حياته اليومية والغوص فيها لانتشال لحظة الابداع الكامنة هناك.

وقد كشف داوود عبدالسيد في اول اعماله الروائية الطويلة «الصعاليك» عن مولد سينمائي جديد يلتزم بقضايا الانسان المعاصر ومثابرته الدؤوبة في محاولته التأقلم مع عالم مجبول بالمشكلات والعوائق ومحاولته تغييره الى واقع افضل باقل الخسائر.

ومثل هذا الجهد تطلب من المخرج الواعي ان يكشف وبجرأة شديدة عن عناصر الواقع التي وقفت جدارا منيعا ضد انطلاقته الى عوالم ارحب واكثر طمأنينة.

فهو في فيلم «الصعاليك» لا يعزل علاقات ابطاله الانسانية عن الواقع الذي تنمو فيه، وقليلة جدا هي الافلام التي وان لم تعزل فانها تحللها بدقة وواقعية ومن منطلق علمي ومقنع وان كان بناء عبدالسيد لمثل هذه العلاقات في «الصعاليك» دراميا وسينمائيا قد خضع بشكل او بآخر لمفاهيم الرقابة المصرية السائدة ولبعض شروطها الضرورية. لقد نسج داوود عبدالسيد علاقاته الانسانية على اكثر من محور في الفيلم وبالذات من خلال بطليه الاساسيين نور الشريف ومحمود عبدالعزيز حيث تطورت حياتهما مع الآخرين مع نمو علاقاتهما الانسانية في لحظات المتعة العابرة مع بائعات الهوى ايام التشرد مرورا بخياراتهما الصائبة في علاقة انسانية مع بطلة الفيلم يسرا القادمة من عائلة فقيرة واضطراب العلاقات لدى ذروة احداث الفيلم وبلوغهما سدة المجتمع.

وليصل الى غاية الفيلم الاساسية في كشف وتعرية نظام حياتي اقتصادي يمثل ظاهرة تستشري داخل المجتمع المصري اطلق عليها «الانفتاح الاقتصادي» ويدمجها بالتعبير عن وجهة نظره في دواخل الانسان، ويعبر بعمق عن الجدل الدائر بين الفرد والمجتمع وبين المرأة والرجل والرجل والرجل.

برز فيلم «الصعاليك» كعمل فني متكامل على نحو يندر في السينما المصرية، وشكل حافزا للعديد من زملائه السينمائيين الشباب (انذاك) بالسير على خطاه في اعمال كونت فيما بعد تيارا غير معلن في السينما المصرية الجديدة بعد ان صار تيار السينما الواقعية الجديدة الذي ظهر في اواخر حقبة الستينيات من القرن المنصرم في غياهب ارشيف السينما العربية!

وبإجماع النقاد والجمهور على رؤية داوود عبدالسيد السينمائية الثاقبة وشديدة الرقة والحساسية، تكرس فيلم «الصعاليك» كواحد من افضل حقبة الثمانينيات. فقد اضطر عبدالسيد الى الانتظار سنوات كاملة ليتمكن من تصوير وانجاز عمله الروائي الطويل الثاني «البحث عن سيد مرزوق» 1990 وفيه ينقل المشاهد الى عوالم اخرى على مدى ساعتين - زمن عرض الفيلم - هي عوالم بطله سيد مرزوق ليلتقي مع نور الشريف في احداث مكثفة تقف على خطوط التماس بين الواقع والحلم والكابوس، وحرص فيه داوود على ان يكون الحاجز قائما لا يستطيع فيه المشاهد ان يعي انه امام واقع او حلم.

يقدم عبدالسيد في «البحث عن سيد مرزوق» رؤية فلسفية وميتافيزيقية للحياة والموت والوجود، ولهذا فان بطله نموذج للانسان في صراعه مع الحياة، كما ان الانسان الذي يقدمه هو انسان اسير ومقيد باغلال الواقع ولا مهرب له سوى بالحلم او الكابوس، وهي مغلفة بالرؤى البصرية والسمعية المتوهجة نورا وظلالا والوانا عميقة الدلالات والاشارات.

يحطم داوود عبدالسيد في «البحث عن سيد مرزوق» تقاليد الافلام المصرية السائدة الاستهلاكية منها والفنية في آن معا، بل ويتجاوز الواقعية الجديدة التي صنعها جيله، وساهم فيها بفيلمه الاول، منطلقا الى افاق رحبة في منطقة كبار فناني السينما الذين يحاولون التعبير عن الشرط الانساني بابعاده الاجتماعية والوجودية المختلفة. فالفيلم يخلو من اي قصة، ويتجاوز سائر اساليب التعبير الواقعي الى اسلوب اقرب الى السيريالية على نحو لا مثيل له من قبل في الافلام المصرية، ومع ذلك فالفيلم يعبر عن الواقع المصري المعاصر في مطلع التسعينيات كما يراه الفنان.

لقد سبق ان خرجت الواقعية الجديدة الى الفانتازيا في كوميديات رأفت الميهي السوداء، واعمال الثنائي شريف عرفة وماهر عواد، ولكن بينما يلجأ الفنان في الفانتازيا الى تضخيم الواقع الى حد الكاريكاتير، ويعتمد على المفارقات الحادة في الواقع، وعلى انقلاب المواقف الى حد العبث، يلجأ داوود عبدالسيد الى اشكال الاحلام والكوابيس التي تنقطع عن الواقع تماما، وان استمدت عناصرها منه بدورها.

في المشهد الاول من الفيلم يستيقظ يوسف من النوم وينظر الى ساعة المنبه، ويكتشف انه استيقظ دون ان تدق، وفي المشهد الثاني نراه في حديقة عامة يجلس على اريكة ويتحدث الى جاره قائلا: لقد ذهبت الى العمل ثم اكتشفت ان اليوم الجمعة، يوم الاجازة الرسمية، ويضحك يوسف ولكن جاره لا يشاركه الضحك، يقول له سليمان ان ابنته ولدت في الشهر السابع وتحتاج الى حاضنة لمدة شهرين ايجارها اليومي ثلاثين جنيه وهو لا يملك المال الكافي لذلك، يعرض يوسف على سليمان مائة جنية، ولكنه يعتذر شاكرا، وفجأة يهرع خارجا من الحديقة قائلا لقد وجدت الحل، وفي المشهد الثالث نرى صعلوكا يقلد شارلي شابلن في شارع خال من شوارع احد الاحياء الراقية، انه عالم الفقراء والاغنياء والطبقة الموجودة بينهما.

بطل الفيلم يوسف نموذج لمثقف الطبقة الوسطى الحائر، اذ ورث عن والده ارضا تدر عليه بعض المال وقد شارك في الاحداث الوطنية عندما كان طالبا، ومنذ اللحظة التي يلتقي فيها يوسف مع سيد مرزوق يلتقي ايضا مع منى، انها الحب الجميل والأمل المشرق. وفي اللحظة نفسها ايضا يلتقي يوسف مع ضابط الشرطة عمر وطوال الفيلم يقوم عمر بمطاردة يوسف ويبحث يوسف عن منى حتى قبل ان يلفق سيد مرزوق تهمة القتل ليوسف ويطارده عمر وقواته.

ولان الفيلم ليس حلما او كابوسا، وانما يعتمد على منطق الحلم والكابوس في السرد، لا ينتهي بمشهد البداية مرة اخرى، وانما بمشهد اقدام جنود الشرطة تدق الارض والكلاب البوليسية بين اقدامهم تعوي، ويرتفع صوت دق الاقدام وصوت العواء الى ان يصم الاذان، وتذكرنا هذه النهاية بسيناريو فيلم داوود عبد السيد الاول عام 1971 الذي لم ينفذ ابدا، وعنوان «الناس والكلاب».

البحث عن سيد مرزوق» رؤية متعددة الابعاد للقاهرة 90 والصراع الطبقي في المجتمع المصري، والعلاقة بين الشعب والسلطة من ناحية، وللانسان المعاصر في التسعينات الذي يعيش في خضم عالم متغير من ناحية اخرى. انه تعبير سينمائي، حيث لا يعرف الناس هل هم اغنياء ام فقراء، في حالة حرب ام سلام، منتصرون ام منهزمون. وحتى ازمة الاسكان لا يعرف الناس هل هي حقيقة أم وهمية، فهناك ازمة وهناك في الوقت نفسه ملايين الشقق الخالية. كما يعبر الفيلم عن حيرة الانسان في مطلع العقد الاخير من القرن العشرين وازمات الانسان الفكرية والروحية. وبحثه عن العدالة والحرية بل ان سيناريو الفيلم يبلغ درجة عالية من الاحكام والدقة رغم عدم وجود (حدوثه) بالمعنى التقليدي ويعبر في الوقت ذاته عن رؤيا لثقافة شاملة من ادب كافكا الى سينما مارتن سكورسيزي وخاصة فيلمه «بعد ساعات» كما يوجه عبد السيد في فيلمه تحية جميلة الى سينما شارلي شابلن.

يتسم اسلوب اخراج داوود عبد السيد في هذا الفيلم بالدقة التي يتصف بها ايضا السيناريو، فعندما لا يكون منطق السرد هو المنطق الواقعي، بينما الشوارع والاماكن واقعية، وملابس الشخيصات واقعية، وحوارها واقعي، والاشياء التي تتعامل بها واقعية، يصبح على المخرج اختيار زوايا خاصة للتصوير واحجام خاصة للقطات، وعلاقة خاصة بين اللقطات وبين الصوت والصورة وبين الضوء والظلام وبين الالوان، تتألق فيه خصوصية اسلوبيته المدهشة التي تنهض على التناقض بين الواقعي واللاواقعي ففيه يراعي حركة الزمن الكلاسيكية لفيلم تدور احداثه في دورة يوم وليلة، ولكن مصادر الضوء تتجاوز الواقع في مشاهد كثيرة مثل مشهد المقابر، والمشاهد داخل السيارات في الليل، ومشاهد النهار القليلة في الحديقة والشوارع تعكس بهجة عميقة، بينما تعكس مشاهد الليل بالتناقض بين الاضوا والظلال والالوان الحادة كآبة اكثر عمقا تعبر عن الغموض والحيرة.

وفي الوقت الذي لا نطرب فيه للموسيقى، نطرب للغناء دون موسيقى بصوت الفنانة لوسي، فالعازفون الفقراء الذي يصاحبونها لا يمارسون العزف الا قليلا، وكل الاغاني التي تغنيها لوسي سواء في القارب النيلي او في السيارة من الاغاني العربية القديمة التي اصبح انتشارها محدودا، وحلت محلها الاغاني المتبذلة وينجح عبد السيد في ابداع العلاقة بين الصوت والصورة وبين الصورة والصمت، بحيث يصبح كل شيء في موضعه وفي وقته، وبملابس واحدة لا تتغير، وبفهم يندر في سينما لمفهوم الممثل/ النجم، لا يتردد نور الشريف في القاء جسده في عربة القمامة، او السباحة تحت الماء بملابسه كاملة، ولكن الاهم من ذلك انه ادرك ابعاد الفيلم الاجتماعية والوجودية، وانعكس ذلك في نظراته طوال الفيلم، فهو في البداية لا يدرك ما الذي يدور حوله وينساق وراء سيد مرزوق، ولكنه عندما يدرك ان سيد مرزوق يعبث به، وان عمر يطارده ولا يحميه، يتحول الى انسان اخر يقبض على حريته، ويقرر ان يقتل سيد مرزوق، وان يجد فتاته منى، ويدهشنا عبد السيد بذلك الممثل علي حسنين الذي يؤدي دور سيد مرزوق، بثقة وحضور، ويؤكد جمال الاداء العفوي للممثلة اثار الحكيم التي قامت بدور منى ولم تتحدث كثيرا طوال الفيلم، ولكنها كانت موجودة دائما بقوة الاداء وتفهمها للدور المرسوم.

في العام 1991 يقدم داود عبدالسيد في فيلمه «الكيت كات» المأخوذ عن رواية ادبية للكاتب المصري ابراهيم اصلان المعنونة «مالك الحزين» قصيدة سينمائية اسرة مليئة بالرهافة والرقة والعذوبة المغلفة بالبهجة والشجن بالضحك والبكاء ومرثية  للاحلام الصغيرة للبسطاء الذين يعجزون عن تحقيق متع الحياة لعدم توافر الشروط الانسانية للحياة، او لفقدانهم احدى حواسهم، كما هو الحال لدى بطل الفيلم محمود عبدالعزيز، الاعمى الذي يعيش حياته على اتساعها ويغرف من متعها دون ان يأبه لتبعات ممارساته في عرف المحيطين به.

موضوع التحدي هو القيمة التي يحملها فيلم «الكيت كات» وهو التحدي ذاته الذي يحمله داود عبدالسيد لهموم واحباطات وعوائق الحياة التي ينشدها وليجعل منها فسحة للمرح والانبهار والتحليق والغناء لواقع اكثر حنانا وعطفا وانسانية.

ويتلخص موضوعه حول الشيخ الموسيقي الاعمى «حسني» (يؤدي الدور محمود عبدالعزيز) ورغبته الجادة ان يعوض عاهته بتصرفات وافعال يعاند بها قدره وعجزه.

في فيلم «الكيت كات» نحن ازاء شخصيات متأزمة ورغبات مكبوتة واحلام تدوم حول الفقر والكبت، ويبدو الشيخ «حسني» وحده القادر على رؤية الامور بشكل اكثر تبصرا مما يجعله وكأنه  السجل الحي لحياة حارة (الكيت كات) حيث تنتهي احداث الفيلم بمصالحة الشيخ حسني مع ابنه يوسف من جهة وبمصالحته مع رغبته في تجاوز عجزه من جهة ثانية.

يقول داود عبدالسيد عن عمله هذا: لم انطلق في تحقيقي لهذا الفيلم من اية مبادىء او افكار مسبقة، بل تعاملت مع رواية (مالك الحزين) للاديب المصري ابراهيم اصلان بكل حرية. لقد اعجبتني الرواية وراقني عالمها.. هذا الفيلم مجرد حكاية ولك ان تخرج كمشاهد بما تريد من الدلالات والاحالات، لان العمل فيه من الزوايا ما هو مختلف وكل متلق يقرأه كما يريد من خلال فهمه وخبراته وثقافته ورغباته.

يمكن الاستطراد مطولا في البلاغة السينمائية التي اتسم بها «الكيت كات» مجسدة في الاختيار الواعي لكل عناصر الصورة والصوت، لكن البلاغة السينمائية وحدها ليست هي التي تصنع شاعرية داود عبدالسيد السينمائية، وانما قدرته هو ذاته على التوحد مع ابطاله مما يخلق لدينا شعورا اقوى من ذلك.

لقد كان فيلم «الكيت كات» نموذجا فريدا لقدرة السينما الجديدة على تحقيق المعادلة الصعبة بين كونه عملا فنيا شديد البراعة والاتقان في بنائه ومعياره وجماليته، وكونه فيلما جماهيريا يثير ضحكات المشاهدين ويدفع الدمع من مآقيهم، لانهم ببساطة وجدوا شيئا مما فيهم في شخوص الفيلم.

خصوصا وان داوود عبدالسيد اختار ان يقدم اجابة في هذا الفيلم عن الطريقة التي يواجه بها البسطاء عنت وقسوة محاولة الاستمرار في الحياة.

لقد شكل داوود عبدالسيد في فيلمه «الكيت كات» اضافة حقيقية الى رصيد تيار السينما الجديدة في مصر، و عبر فيه عن تطوره ونضجه، وأكد على مكانته اللائقة في تاريخ السينما العربية.

مع فيلمه الرابع «ارض الاحلام» 1993 يبدأ داوود عبدالسيد مرحلة مختلفة عن افلامه الثلاثة الاولى، ولا يعني ذلك انها مرحلة جديدة، ذلك انها بشكل او بآخر امتداد لرؤيته لواقع عالمه الفسيح.

لا ينتمي «ارض الاحلام» الى الكوميديا المباشرة ولا هو بالكوميديا الساخرة تماما، بل يجد نوعه ما بين الاثنين ويعمل على تكريس مواقف لا تنتهي من الاحباطات والصدمات، وخيبات الامل وصولا الى نهاية تزيد الوضع غموضا وحيرة.

هو فيلم ضد الهجرة، ومكتوب بهدف الوصول الى هذه النتيجة وفي المشهد الاول، عندما ترى «فاتن حمامة» بطلة الفيلم تسير مع ابنتها وابنها باتجاه السفارة الاميركية للحصول على تأشيرة الهجرة نشعر بانها ليست سعيدة تماما بالخطوة، ونتلمس هذا الفتور الذي تشعر به الام تجاه فكرة الهجرة من خلال حوار داخلي مسموع، انها مدفوعة لرغبة ابنائها، احدهم سافر الى ارض الاحلام ويطلبهم الى طرفه، والثاني متزوج وهو طبيب معروف، اما الابنة فهي مذيعة ناجحة، والابن والابنة مستعدان للتضحية بنجاحهما واستقرارهما في سبيل الهجرة.

وعلى اسلوبية سينمائية خطها عبدالسيد في اعماله السابقة فان «ارض الاحلام» يمتلك القدرة نفسها على تحقيق البلاغة السينمائية، لكنه لم يستطع دفع المشاهد الى الاندماج مع بطلته بالرغم من ان احداثه تسري في ليلة واحدة على غرار فيلم «البحث عن سيد مرزوق» حيث تتغير المواقف وتبدأ رحلة الاكتشاف وحسابات المنطق وان بدت احيانا على قدر من البراءة او السذاجة والسلبية التي تتحكم بالبطلة وهي دائمة البحث عن مصير جواز سفرها الضائع في اكثر من مكان وداخل مفارقات ليلية متداخلة وينتهي الفيلم بان تجد البطلة جواز سفرها في احدى حقائبها وتقرر البقاء في مصر.

استطاع داوود عبدالسيد عبر فيلمه هذا ان يقدم تفاصيل جديدة هي جوهر اسلوبه السردي وان يصور عالم ابطاله في برهة زمنية قصيرة، كما ينجح بحسه المرهف في التعبير عن عالم ابطاله الساعين الى تغييره باقل الخسائر الممكنة، وان يمنح تلك اللحظات قدرا غير قليل من الدفء والعذوبة، ويمنح بطلته احساسا بالقوة الدافعة للحياة كي تستمر وتتحمل.

يعود عبدالسيد في فيلمه «سارق الفرح» 1995 الى اجوائه الاثيرة وعوالم البسطاء والهامشيين اكثر مما يهتم بالحبكة الدرامية وتعقيداتها، ويرسم ملامح لابطال قادمين من الحارات الشعبية يملؤها ضجيج الحياة بالفرح والمرح المطعم بسخرية مريرة من قبح ومأساوية مصائرهم، ويضمن احداثه لحظات من الاستعراض والغناء والرقص وابراز لطقوس الغيبيات الخرافية، من خلال تقديمه لرؤية سينمائية مستمدة عن قصة قصيرة للاديب خيري الشلبي، غير ان داوود عبدالسيد ترك لنفسه العنان في اضافة ما يراه من شخصيات لا وجود لها بالطبع داخل القصة الاصلية، الى جانب ادخاله ملامح شخصيات لها وجود بالقصة بغية ابرازها دراميا.

يعد «سارق الفرح» مغامرة انتاجية كبيرة للمخرج وهو نوع من التأمل السينمائي الرصين والشاعري لعالم هؤلاء الفقراء من دون شعرات وبعيدا عن النغمة الميلودرامية الزاعقة، فهؤلاء الذين يندفعون وراء احلامهم الصغيرة والمشروعة يسرقون الحب ويختطفون لحظات الفرح الصغيرة وينتهون نهاية مأساوية لا يستحقونها في معظم الاحوال.

يعبر فيلم «سارق الفرح» عن تطور مخرجه ونضجه وشكل اضافة حقيقية الى رصيد السينما الواقعية السحرية التي بدأت تبحث عن مكانة لها في جدارية السينما المصرية الجديدة التي تسعى الى تجاوز السائد واصلاحه وتجديده من خلال خيط درامي يدور حول فتاة تدعى احلام «لوسي» تتطلع للزواج من الشاب عوض الذي لا يستقر في مهنة.

وفي المشهد هناك العائد من الخليج ويسعى الى الزواج من احلام ويعطي والد احلام مهلة لعوض لتدبر امره، والا سيضطر لتأمين مستقبل ابنته مع آخر.

وهنا يسعى عوض الى اساليب ملتوية في سبيل الحصول على المال اللازم للزواج من حبيبته، ويرسم الفيلم شخصيات اخرى داخل الاماكن التي تجري فيها الاحداث على اطراف مدينة القاهرة مثل القرداتي «حسن حسني» الذي يرغب الزواج من فتاة صغيرة، وبصعوبة كبيرة وبفضل العلاقات الانسانية التي تجمع بين شخصيات الحارة يتمكن عوض من الزواج باحلام وكأنه يحقق حلمه المستحيل.

في المشهد الاخير من الفيلم تستعرض كاميرا عبدالسيد مدينة القاهرة النائمة في ساعات الفجر الاولى وتتمهل عند التل الرمادي الصخري الذي يطل عليها من فوق هضبة جبل المقطم، لنرى الجفاف  القاسي وقد ترك طابعا كئيبا على العالم النائم بعد طول سهر وتعب لا يدل عليه سوى الثياب والملابس الملونة المعلقة على واجهة المصبغة وكأنها رايات لهؤلاء الناس تعلن استسلامها لواقعها المعاش.

لقد استلهم المخرج الاجواء التي تشيعها القصة الادبية والمكان الذي يجمع الشخصيات الموجودة اصلا في القصة او التي ابتدعها خيال المخرج من اجل ان يصنع عالما يحمل رؤيته وتصوراته الخاصة بالناس والمكان.

يؤكد فيلم «سارق الفرح» على اهتمام عبدالسيد بالتركيز في افلامه على الشخصيات البسيطة المغلوب على امرها والضائعة التي تقف على هامش المجتمع تلعب دور المراقب لايقاع الحياة اليومية في الشارع او الحارة وسعيها الدؤوب من اجل التماسك والبقاء لتحقيق حلم من احلامهم الصغيرة.

«سارق الفرح» ربما هو اكثر افلام داوود عبدالسيد اقترابا من الواقعية سواء في بناء السيناريو ورسم العلاقة بين الشخصيات او في اسلوب تصويره وتصميم الحركة داخل لقطاته والتحكم في طريقة الاداء والحوار واختيار مواقع التصوير، وفضلا عن هذا كله، يجعل داوود عبدالسيد همه الاساسي في هذا العمل البحث في فكرة السعادة عند الشريحة السفلى في المجتمع ويركز على الثمن الذي من الممكن ان تدفعه للوصول الى غايتها مركزا على نوعية الضغوط والواقع القاسي وجبروته وقسوته امام محاولات الاستمرار في الحياة.

ويتميز الفيلم الى ذلك بحرفية عالية في اختيار الديكور الذي جاء مناسبا لاغراضه فوق سفح احد التلال مراعيا فيه مطابقة الواقع من ناحية مما يتيح الفرصة كاملة امام مدير التصوير لكي يبدع بالكاميرا سواء باختيار الزوايا او الاضاءة مبتعدا عن الابهار الشكلي.

ويتسم العمل بسيطرة عبدالسيد على عناصر التمثيل التي تدهشنا حقا، فهو يوظف اقصى الامكانيات التعبيرية للممثلين والممثلات، ويبدو حسن حسني في دور «القرداتي» في واحد من افضل ادواره السينمائية.

فيلم «سارق الفرح» ربما يكون من الافلام القليلة التي تكشف عن الواقع البائس الذي يفرز البؤس والشقاء، وفوق هذا كله هذا التصميم على انحيازه للبسطاء والهامشيين واحلامهم الصغيرة المشروعة.

وقبل ان يطوي القرن العشرين ايامه الاخيرة حقق داوود عبدالسيد تحفته السينمائية «ارض الخوف» 1999 وموضوعه يتكئ على شخصيات محدودة وامكنة تسري فيها الاحداث متشعبة ومتعددة، ويبدو بطله احمد زكي راويا للاحداث وتتداخل فيه الازمنة لفترات متنقلة ما بين الماضي القريب ونهية الستينات مرورا بعقد السبعينيات وانتهاء بالثمانينيات، ومن الممكن وصف العمل بالحالة الذهنية.

فيلم «ارض الخوف» ليس فيلما عن المجتمع بقدر ما هو عن الفرد وعن الرجل المختلف عن محيطه، والذي يكشف لنا في البداية انه رجل غريب الاطوار والنزعة، الا اننا سرعان ما نكتشف انه اكثر الجميع طبيعية، وان الاخرين هم غرباء السلوك حين يرصد الجزء الاخير من الفيلم تدهور الشخصية المحورية، حيث يعيش احمد زكي متخفيا عن الجميع بعد ان يتخلى عنه رجال العصابات ورجال الشرطة الذي عاش بينهم، ويتبين له ان حياته قد ضاعت هباء، وانه خسر عمله الى الابد وصار مطلوبا الى جانب فشله في الحب والزواج.

في عمله الاخير «مواطن ومخبر وحرامي» يتجاوز عبدالسيد الواقعية المباشرة التي وسمت انتاج من سبقه من المخرجين الرواد، الذين اسسوا للواقعية في السينما المصرية، متجها نحو واقعية جديدة مفعمة بالاساليب واللغة التعبيرية والمشهديات البصرية اللافتة.

من خلال موهبة متوهجة، وروح متقدة، وباحساسه المرهف، يجد داوود عبدالسيد في «مواطن ومخبر وحرامي» ضالته في النبش عن الامكنة، والناس البسطاء، ويأخذ برصد العلاقات والمتناقضات، ويتابع مظاهر الحياة التي تقترب من السكون الذي ينم عن تحولات قادمة لا محالة، حيث تجول الكاميرا داخل الشوارع والازقة والبيوت القديمة المتخمة باسطوانات الغناء الكلاسيكي القديم، والتي تعبر عن اصالة تكبلها اليوم قيود الفقر، والتخلف، والجهل، والتعسف التي تتطابق شخصياته الرئيسية الثلاث: المواطن (خالد ابو النجا) والمخبر (صلاح عبدالله) والحرامي (شعبان عبدالرحيم) ويختار حقبة بداية الثمانينات من القرن المنصرم مسرحا لأحداثه، حيث الحرامي في السجن، والمواطن في حياته الباذخة يقرر العودة الى البيت القديم، وفجأة يتعارف مع المخبر الذي يحاول تذكيره بعائلته التي عاش بينهما، ويأخذ بالاقتراب منه الى حد الالتصاق وكأنه احد افراد البيت.

وفي مزيد من التواصل بينهما يقوم المخبر باحضار خادمة الى البيت (الممثلة التونسية هند صبري) التي ما تلبث ان تقوم بسرقة البيت ومنها مخطوط رواية كان المواطن قد انتهى من كتابتها حديثاً، ويكشف الفيلم ان الخادمة هي اصلاً على علاقة مع الحرامي الذي خرج من السجن حديثاً، وصارت تقيم عنده، مما يحدو بالمخبر ان يتتبعها وليصل اليها وينجح في اعادة المسروقات لكن لا يلبث المواطن ان يفقد الرواية ويعرف انها لدى الحرامي المغرم بقراءة الروايات البوليسية، ويأخذ بمناقشة المواطن عن موضوع روايته، التي لا ترضيه لأنها تتحدث عن نساء سيئات وعلاقات غير شرعية، ولا يلبث الحرامي ان يرمي مخطوط الرواية في النار المشتعلة التي يستخدمها لغلي الشاي، عندها يقوم المواطن باقتلاع عين الحرامي الذي يذهب الى المستشفى فيما يتم ايداع المواطن السجن، وبواسطة المخبر الذي نجح بالتفاوض مع الحرامي يتم اسقاط الدعوى ويجتمع شمل الثلاثة في مصالحة مقابل مبلغ من المال ليشتركوا معاً في اقامة دار نشر يتزوج المواطن من الخادمة، والحرامي من فتاة كانت على علاقة مع المواطن سابقاً، ويخبرنا راوي الفيلم الذي كان معلقاً على مدار الاحداث ان ابنائهما ايضاً يتطلعون الى مستقبل مشترك حيث احب ابن الحرامي ابنة المواطن ويتزوجان بعد معاناة ليعودا وينجبا وليدهما وتحتفل الاسرة جميعاً بهما.

يقدم داود عبدالسيد نموذجاً في الرصانة والبلاغة البصرية والتوازن الدقيق والاستخدام الواعي لمفردات اللغة السينمائية كأداة توصيل للأفكار والرؤى التي يطرحها، ولذلك فقد تم توظيف العناصر السينمائية من تصوير ومونتاج وموسيقى وديكور، وفوق هذا كله، غناء شعبان عبدالرحيم، لخدمة الدراما، وقد حرص المخرج على واقعية الحدث من خلال مكونات بيت المواطن والحارة التي تعيش فيها الخادمة، وتبدو خبرة داوود عبدالسيد واضحة في اختيار ابطاله وسائر ممثلي الفيلم وبخاصة في ادارتهم وتوجيههم، ويلعب كل منهم واحداً من اهم الادوار في تاريخه الفني، واستطاع خالد ابو النجا تجسيد حياة المواطن والمثقف القادم من اسرة غنية والمنغمس مع اجواء قاع المدينة في توازن دقيق مع لحظات الوحدة والتفاوت الثقافي مع زميليه المخبر والحرامي.

ان هذه العناصر جميعاً تجعل من فيلم «مواطن ومخبر وحرامي» عملاً يحقق المعادلة الصعبة بين سويته الفنية، ورغبته في الوصول الى اكبر عدد ممكن من الناس، لكن داوود عبدالسيد في معرض جذبه لهؤلاء المشاهدين، عرف كيف يصنع حبكته السينمائية لقضايا الاجتماعية والسياسية بمهارة لا تخلو من المراوغة، بنعومة اخاذة تخفي اكثر ما تظهر، وفيه راحت كميرا سمير بهزان الهادئة المتمهلة، تتابع ابطاله في حنو وشفقة، مما اسهم في خلق نوع من الايقاع الخاص، الذي يسمح بالتأمل والتفكير.

يتوخى «مواطن ومخبر وحرامي» بمناخاته الاثيرة، الاستيهامية والكابوسية والواقفة عند حدي الواقع والخيال، استكشاف المجهول والغرائبي في الحياة العادية للناس المتأرجحة بين البؤس والفرح الزاهي بالغناء الطاغي الذي يقدمه نموذج شعبان عبدالرحيم.

تظل سينما داوود عبدالسيد تجربة طموحة لمخرج معطاء يمتلك القدرة على اثارة اعجاب المشاهدين وثناء النقاد على السواء، بطرحه نماذج جريئة لسينما الافكار والدلالات والاشارات مما يضعه في مكانه اللائق بين قامات السينما العربية الرفيعة.

الرأي الأردنية في 6 مايو 2005

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

التالي
السابق
أعلى