ف. ي. |
ما يميز كتاب «درس في السينما» الصادر مترجماً الى العربية في دبي حقاً هو انه يرينا كيف ان مخرجين كباراً من طراز بيرلوتشي وسكورسيزي وبيدرو آلمودوفار وفيم فندرز ورومان بولانسكي وآخرين ليسوا أقل شأناً يجدون الوقت والحيلة للتهرب من اعطاء دروس في السينما. كتاب شيق يجمع تجارب الكبار ويضيفها الى رؤى الكبار، فهذا بيرلوتشي الذي لم يتعلم السينما في مدرسة يرى ان تعلم هذا الفن يجيء من تحقيق الافلام، ولهذا ربما حالفه الحظ في العمل مساعداً لبيير باولو بازوليني الذي رأى في كل فيلم يعمله على حدة بمثابة آخر فيلم يدشن فيه أسرار هذه المهنة وكأنه ينوي الاحتفاظ باسرار أفلامه له وحده وبعيداً من عيون حتى أقرب مساعديه. يرى بيرتولوتشي ان «قواعد اللعبة» لجان رينوار مد الجسر بين الانطباعية أي فن والده أوغست رينوار والفن الحديث، أي فنه هو، وفي هذا شيء مدهش، ففيما يحسب بيرلوتشي انه اكتشف السينما في «الموجة الجديدة» يرى ان رينوار اكتشفها قبلهم بثلاثين سنة على الأقل وهو تعلم منه أعظم درس في حياته عن هذه المهنة عندما قال له وهو على كرسيه المتحرك: «ينبغي ترك باب موقع التصوير مفتوحاً على الدوام، لأننا لا ندري فقط ما يمكن ان يدخل عبره». اختلاف الا ان الباب المفتوح على كل ما هو تلقائي لا يجيب من فوره عن ماهية السينما، فالافلام التي يعنيها انما تجيء دوماً مختلفة عما يتصورها في البداية، فالفيلم هو أشبه بسفينة قراصنة من المستحيل معرفة وجهتها عندما تترك على حريتها وتتبع رياح الابداع، ففي لحظة ما يعتبر بيرلوتشي ان التناقض أساس كل شيء وانه محرك كل فيلم. بهذه الطريقة حقق فيلمه (1900)، وهو فيلم حول الاشتراكية مولته الدولارات الأميركية، فيلم اختلط فيه ممثلو هوليوود مع فلاحي منطقة (بو) الذين لم يروا كاميرا في حياتهم. هل في هذا درس في السينما من نوع ما... ربما؟! ففي سؤال بازان عن السينما ثمة ما يكمن في نوع الاستجواب الدائم الذي قد ينتهي الى حد ما ليصبح موضوع كل فيلم. أمير كوستوريتسا يعترف بالاثارة التي قد يسببها درس السينما ولكنه يظل غير واقعي، فبعد ان قام بتدريس السينما طوال سنتين في جامعة كولومبيا في نيويورك استنتج ان من المستحيل تقديم مسار محدد لكل شخص حول كيفية تحقيق فيلم. وهو لطالما بدأ دروسه بعرض فيلم جان فيغو «الاطلانطية» على الطلاب لأنه يرمز الى أفضل توازن ممكن بين الصوت والصورة، وهو فيلم حقق في الثلاثينات من القرن العشرين واستخدمت فيه الصورة والصوت بحذر شديد واتزان...وهذا يبدو له الآن غير متوافر مع الاستخدام السيئ للصورة والصوت... على ان كوستوريتسا ينتقل من بعد «أطلانطيك» الى «قواعد اللعبة» الذي يمثل «أعظم عمل في السينما في ما يتعلق بتخطيط الاخراج». و»هذا الفيلم هو قمة الأناقة في السرد». موهبة وودي آلن لم تكن لديه رغبة حقيقية يوماً لتدريس السينما، ولم يقترح عليه احد ذلك الا مرة واحدة حينما استدعاه سبايك لي الذي كان يدرس في هارفارد لتقديم درس هناك. ولكن المشكلة الكبرى التي صادفته في هذا الدرس اليتيم انه لم يدر ما الذي سيقوله للطلاب، فالاخراج من وجهة نظره موهبة كالكتابة، فاذا لم يملكها المرء فانه سيقضي بقية حياته في الدراسة من دون ان يصبح سينمائياً جيداً. ويرى وودي آلن ان الاخراج لا يحتوي على شيء غريب او معقد لذلك لا يجب ان يخاف الطالب او يضفي عليه مسحة عقلانية مفرطة... اذ يكفي المرء ان يتبع حدسه، فاذا ما كان موهوباً فإن الامر سيكون سهلاً للغاية. أما أوليفر ستون، فإنه يشعر بالخجل لأن ما يعوقه عن اعطاء دروس في الاخراج يعود الى سبب مالي، فالتدريس سيجبره على التوقف عن العمل سنتين على الأقل، وهو لا يمكنه تحمل ذلك مالياً. وهذه خسارة مؤلمة بالنسبة اليه، فهو يحتفظ بذكرى جميلة حينما كان طالباً للسينما في نيويورك اذ اكتشف في سكورسيزي استاذاً له قدرة رائعة على تقاسم حبه للسينما مع الآخرين. بيد ان التأثير الكبير في مهنته كمخرج جاء من حرب فيتنام، فهو عندما ذهب الى هناك كان عقلانياً وأراد ان يصبح كاتباً لكنه اكتشف استحالة ذلك، فقد واجه اشياء بالغة القوة وأخذ يلتقط الصور رويداً رويداً حتى انه اكتشف حسية الصورة التي كانت حينئذ أقوى من أي شيء كان سيكتبه، فقد أصبح باطنياً أكثر مما هو عقلاني بخاصة عندما كان يسير في الأدغال بحثاً عن الاعداء...! ويقول ستون ان سكورسيزي دفعه الى السينما بعد ثلاثة أفلام قصيرة تافهة، فقد أجبره على اللجوء الى تجربته الشخصية فصور فيلماً طوله 15 دقيقة يجري في شوارع نيويورك ويتحدث عن الحرب. بيدرو آلمودوفار (الذي يذكر بمواقع اخرى باسمه العربي) يقول انه لم يوافق اطلاقاً على اعطاء دروس في السينما على رغم تلقيه عروضاً كثيرة، فهو يرى ان السينما يمكن تعلمها ولكن ليس تدريسها، فهي نوع من التعبير الشخصي التام، فاذا ما أردت تعلم السينما، فستحتاج الى طبيب نفسي اكثر من استاذ. لكن آلمودوفار الذي ذهب مرتين للقاء الطلبة في جامعات الولايات المتحدة قال لهم ناصحاً: «لا تقترضوا بل اسرقوا»... اذ يمكن تعلم السينما – وهذا أضعف الايمان – بمشاهدة الافلام، وهنا تكمن الخطورة في الوقوع في فخ الولاء، على ان التعامل الأول (الولاء) مع الفيلم هو اقتراض والثاني سرقة، وبالنسبة اليه فإن السرقة مبررة، واذا كان ذلك ضرورياً فلا يجب التردد، فكل الممثلين يقومون بذلك. سينما بنت الملل المخرج الصيني وونغ كار – وي مولود في شنغهاي، وقد هاجر والداه الى هونغ كونغ وهو في سن الخامسة. وهناك كان الناس يتكلمون لغة صينية مختلفة جداً عن تلك التي تكلمها في شنغهاي. والواقع انه لم يكن هناك من يتكلم معه، ولم يتمكن من اقامة صداقات فشعر بملل عظيم وهذا دفع أمه لتأخذه الى دور السينما لأن هناك شيئاً يمكن فهمه بمشاهدة الصور يتعدى الكلمات. فيم فندرز يرى، وهو يدرس الاخراج السينمائي في مدرسة السينما في ميونيخ، ان أعظم طريقتين لتعلم الاخراج هما تحقيق الافلام، وكتابة النقد. ففي النقد تحدث العلاقة المباشرة بين الطالب وبين الشاشة، فيتحدث عن اشياء شاهدها بينما في الدرس النظري ثمة وسيط هو المدرس الذي يفسر ما شاهده الطالب وهذا أمر يمسخ عملية الفهم. ويأخذ فندرز على الجيل الجديد انه نسي سرد قصة مهمة وأخذ يتلهى بالدعايات وأشرطة الفيديو اذ لم يعد السرد هدفهم الأول ولا دافعهم الرئيس. وديفيد لينش لم يقترح عليه احد ان يقوم بتدريس السينما، وهو لم يشعر قط في الواقع باي اغراء من هذا النوع، فهو لن يكون مدرساً جيداً، لذلك هو يوصي طلابه ان وجدوا بأخذ الكاميرا والذهاب للتصوير. ولكن لو سئل لينش عن الافلام التي يرى انها تمثل النماذج المتألقة في اخراج مشهد، فهو سيختار ثمانية ونصف لإظهار كيف ان فيلليني يتوصل لبلوغ سينما مماثلة في نتيجتها لبعض ما فعله الفنانون في الرسم التجريدي، أي الحفاظ على ايصال عاطفة من دون ان يقول قط أو يظهر هذا في شكل مباشر ومن دون شرح البتة، بل بما يشبه السحر تقريباً. على ان رومان بولانسكي الذي طلب اليه مراراً ان يقوم بالتدريس في مدارس السينما في أميركا وبولندا وباريس لم يقم بذلك لمدة طويلة بل قام بعقد بعض الندوات، فهو لم يكن مدرساً ناجحاً، لأنه يعتقد ان ليس بوسعنا ان نتعلم لغة بمجرد سماعها، ولا سينما بمشاهدة الافلام. في اختصار، يبدو كتاب «درس السينما» اذ ترجم الى العربية، كتاباً مهماً وفيه جهد واضح في جمع وترجمة مواده، اذ تربطه وحدة الدرس التي تكاد تفضي الى نتيجة مفادها ان الكاميرا هي الباعث الاول... والباقي مجرد ديكورات تضيع في زحمة القول، وزحمة السرد، وزحمة السينما. والكتاب الذي يحمل رقم 17 في سلسلة كراسات السينما 2005، صدر اخيراً عن المجمع الثقافي في ابو ظبي لمترجمته نادية عمر صبري المولودة في الدار البيضاء وتحمل ماجستير في اللغات من باريس السابعة، والترجمة من السوربون. الحياة اللبنانية في 6 مايو 2005 |