شعار الموقع (Our Logo)

 

 

على العكس مما كان متوقعاً جاءت نتائج مهرجان الأفلام في برلين ( برلينالا ) مخيباً لتوقعات النقاد والعاملين في حقل صناعة السينما. في نهاية الأسبوع ، وبعد 11 يوماً من العروضات المكثفة، منحت هيئة التحكيم جوائز الدب الذهبي والدب الفضي لأفضل الأفلام ولأفضل إخراج ولأفضل ممثلٍ..الخ، كما هي العادة في هوليود وكان والبندقية.

ومع أن 24 فيلماً فقط كان مدرجاً في قائمة المباراة، وهي عموماً أفلامٌ لم تتسم بالجودة هذا العام، إلاّ أن النقاد رشحوا ثلاثة أفلام منها لتفوز بجائزة الدب الذهبي. والأفلام الثلاثة هي فيلم باتي جينكن "الوحش" وفيلم ريشارد لنكليتر "قبل شروق الشمس" وفيلم كين لوك "قبلة حارة ". غير أن مفاجأة لجنة التحكيم جاءت مدوية حينما أعلنت فوز الفيلم الألماني "ضد الجدار" بجائزة الدب الذهبي لأفضل فيلم في المهرجان. وقد علّق الناقد يان شولتز ـ أويالا في صحيفة التاغشبيغل قائلاً: حقاً كانت هيئة التحكيم تملك الشجاعة لتتخذ قرارها ـ بأن تتجاهل كافة الأفلام ـ وتمنح فيلم "ضد الجدار" هذه الجائزة التي لم يكن احد يتوقع أن تفوز بها. ويمكن القول بأن الجائزة هبطت من السماء كهدية لهذا الفيلم. فضلاً عن أن هيئة التحكيم منحت جائزة الدب الفضي لفيلم دانييل بورمان الأرجنتيني "العناق الضائع" الذي لم يأخذه أحد في المهرجان بمحمل الجد، ولكنه نال أيضاً عن ممثلة دانييل بورمان بجائزة أفضل ممثل من قبل لجنة التحكيم. وتقول صحيفة تاغسشبيغل البرلينية معلقة على ضياع المقاييس الفنية في تقليد الجوائز: من الصعوبة ان يؤخذ بجدية قرار النساء الأربع والرجال الثلاثة الذين يشكلون لجنة التحكيم، ويوصف القرارمن ثمَّ بالحيادية. ثم تقول: على اية حال إنها إثارة.

مخرج تركي لفيلم ألماني

أما الفيلم الألماني "ضد الجدار" الفائز بجائزة الدب الذهبي فهو للمخرج فاتح آكين المولود في هامبورغ بالمانيا من عائلة تركية أستقدمت للعمل في نهاية الخمسينيات. ولعب اتراكُ والمان أدوار الفيلم، ونفذ أيضاً على نحوٍ مشترك.

ولذلك يقول آكين معلقاً على نيل الجائزة : إنها فخرٌ لألمانيا ولتركيا معاً. وتجري أحداث الفيلم في هامبورغ وفي اسطنبول.

وتدور قصة " ضد الجدار" على نحو تقليدي في عائلة تركية بهامبورغ. أسرةٌ محافظة متدينة تتمسك بالتقاليد وتخاف الفضيحة، وإبنة الأسرة زيبل (زيبيل كيكللي) هي من الجيل الثاني او الثالث للمهاجرين الأتراك، تريد الخلاص من القيود ومن سجن الأسرة، وهي قد ترعرعت في وسط مجتمع مختلف عن مجتمع الأبوين. تفحص هويتها، تتناقض مع نفسها. تعاني وتتألم، وتثور على واقعها. تري الإنغماس في الحياة مثل أقرانها الألمان حقاً مشروعاً لها. وحينما لا تعثر على الخلاص تحاول الخلاص من حياتها بالإنتحار. إلاّ أنها تفشل في الوصول الى الموت، فتحاول الخلاص هذه المرة بالتوسل لإستعطاف جاهد (بيرول أُونيل )، أحد أبناء جلدتها، ليتقدم للزواج منها ويعقد قراناً شكلياً يتيح لها الخروج من سجن العائلة والتمتع بالحياة.

يعرف جاهد جوهر الأزمة، مثلما يعرف المعاناة والتمزق، كشأن جيله في المانيا. ويعرف ان تلك المعاناة قادته الى الكحول والى المخدرات. ويتذكر عندما هَمَسَ الطبيب في أذنه وهو محجوز في ردهة خاصة بإحدى المستشفيات لدى محاولته الإنتحار : إنك تستطيع أن تنهي حياتك ولكن دون أن تنتحر، يعرف جاهد مالذي عناه الطبيب. عليه ان يبدأ حياة جديدة بالرغم من الغضب والسخط والعاطفة المتفجرة في اعماقه، تلك التي تعشعش دوماً في أعماق روحه وتصرخ لكي تخدّر بالكحول أو بالمخدرات. وهكذا يوافق جاهد بعد تردد قصير أن يلعب اللعبة ويتقدم للزواج من زيبيل.

وربما عرف جاهد بضبابية أن هذا الزواج من المحتمل أن يكون منقذا له من ازمته، وربما قام بالأمر لمجرد تقديم خدمة للغير وهو لم يفعل ذلك لأحد طوال حياته. هكذا جمعهما الزواج الشكلي في شقة واحدة. زيبيل التي تخلصت من الأسرة تستمتع بحياتها الجديدة على نحو متطرف وتلتقي بعشاقها، فيما يستمر جاهد الذهاب الى الفراش مع مارن، التي تعرف عليها كمهاجرة من بلده. إلاّ أن جاهد يبدأ مع الوقت بتلمس العاطفة التي تكبر في داخله تجاه زيبيل ؛ يعرف قلبها وأزمتها مثلما يعرف احتدامها وجوعها للحياة. و تتعمق مشاعره تجاه زيبيل مع الزمن ويحبها. ثم ينظر الى نفسه ليكتشف بداية حب للحياة نفسها. أما زيبيل فقد استمرت بلقاءاتها مع رجال اخرين، مع انها بدات باكتشاف عاطفة هادئة تكبر أزاء جاهد إلاّ أن الوقت كان قد مضى وحدثت الجريمة. لقد دفعته الغيرة لأن يقتل أحد عشاق زيبيل.

وهكذا أُلقي القبض على جاهد وأودع السجن. ولم تستطع زيبل العودة الى منزل العائلة التي لفضتها : لذلك لم تجد مناصاً من ان تحزم أمرها وحقائبها ثمّ تهرب الى استامبول. وبعد مرور فترة من الزمن تلتقي هناك جاهد إثر إطلاق سراحه. وفي اللقاء يأتي الماضي كما تأتي الذكريات حاضرة لتحرك لديهما بعض المشاعر. وربما يأمل بها الإثنان ويعتقدان بأن المستقبل سيكون مفتوحاً امامهما لحياةٍ مشتركة.

دراما المهاجرين

هكذا عَرَضَ فاتح آكين قصته التقليدية : دراما عن حياة المهاجرين، فيها مظاهر الإدمان على الكحول والمخدرات  والحب المحرم ومحاولات عنفٍ وقتلٍ و انتحار وسجنٍ ووثائق زواج شكلي. ولأن الفيلم يتناول كل هذه الأمور فقد استقطب اهتمام المشاهدين الألمان الذين، في أغلبهم، لا يرون في الجالية التركية والأجنبية إلاّ هذه الملامح.

ومع أن فاتح آكين قدم قبل فيلمه "ضد الجدار" ثلاثة افلام هي "في وقت قصير وبدون ألم " و "في تموز" و "سولينو " غير أنه لم يلفت اهتمام النقاد السينمائيين الألمان الذين، في الواقع، ينتقدون فقر السينما الألمانية أصلاً. وكانت ألمانيا قدمت فيلماً ثانيا للمباراة في المهرجان اتسم بضعفٍ شديد ولم يرد تعليق جاد عن هذه المساهمة.

ومن المفارقات عن فوز فيلم فاتح آركين، أن الفيلم لم يقبل في البداية في قائمة الأفلام المرشحة للتنافس على جائزة الدب الذهبي، بل كان مرشحاً ليعرض مع عشرات الأفلام في العرض العام (البانوراما) إلاّ أنه قُبِلَ في المنافسة مع 23 فيلماً في اللحظة الأخيرة ثمّ ليقفز الى الصدارة ويقطف الجائزة الذهبية. وكان فاتح آركين قد صرّح آنذاك، وهو يائسٌ من قبول فيلمه في قائمة التنافس : انه سيكتفي بعرض فيلمه في مهرجان (كان) إذا ُوفّقَ في ذلك.

ولكن مع ذلك يتحدث آكين بدقة وبمعرفة عميقة عن عالمه، عالم الجيل الثاني والثالث من المهاجرين الأتراك. الجيل الذي يتحدث اللغة الألمانية بطلاقة وهو قلما يستطيع التعبير عن نفسه وعواطفه باللغة التركية. ويقول آركين في مؤتمره الصحافي إثر فوزه بالجائزة: أن هذا الجيل مملوءٌ بالسخط والغضب ؛ مراهقون وشباب ممتلئون بالعاطفة وبالطاقة، يصرفونها بسبب من اليأس ومن المعاناة والعذابات في أعمال عنف وأعمال إجرامية. وكان آكين واحداً منهم لكنه لم يقتل أحداً. ويقول : هؤلاء، مثل ابطالي في الفيلم، ضائعون وخاسرون وموعودون للإنتحار وللموت، ولكنهم عطشى للحياة تكمن في دواخلهم تناقضات مبهمة. ويجسد آركين في أعماله، كما يقول، هذا العنف دون تجميل وبدون رحمة. وفيلمه قاسٍ كالحياة نفسها، أي كالواقع نفسه ـ موتٌ سريع وقصير. ويصور آركين القسوة كنبض لحياة ابطاله آتية من أنفس مخربة ومهدمة. ولذلك يقول معلقاً على فوزه بجائزة الدب الذهبي : لم أكن اتوقع ان جائزة كبرى مثل هذه يمكن ان تُمنَحَ لفيلم صغير قذر.

أهداف سعيدة

على اية حال جاء فوز "ضد الجدار" ليحقق ثلاثة أهداف سعيدة، كما يرى المعنيون والنقاد لمهرجان برلينالا، وهم يغمزون من قناة لجنة التحكيم. أول الأهداف هو تتويج البرلينالا في دورته الرابع والخمسين بفوز فيلم الماني بعد مرور 24 عاماً على فوز فيلم راينهارد هاوف "شتامهايم" في العام 1984 الذي يتحدث عن جماعة بادر ماينهوف ، وبعد فوز فيلم فاسبندر "شوق فيرونيكا فوس" في العام 1982

أما الهدف الثاني السعيد فهو طبيعة الفيلم الذي ترغب فيه أطرٌ عديدة في البلاد وتريد أن ترى تلاحق الثقافات فيما تسميه تعدد الثقافات المطلوب تحقيقه من قبل المهاجرين في المانيا. ويأتي الفيلم التركي الألماني ليحقق ثنائية المكان ـ تركيا والمانيا وثنائية الممثلين والفنيين، وهو يحملُ فضلاً عن ذلك حقائق حياتية صعبة ومعقدة ومحتشدة بالمعاناة في سياق ما سمي بضرورة تعايش خلاق بين ثقافات مختلفة، ربما تبتعد الواحدة عن الأخرى بسبب السياسة وبتهميش الثقافة السائدة لغيرها من الثقافات الواردة إليها.

والهدف الثالث هو الفوز الشخصي لعهد مدير المهرجان كوسليك في العام الثالث لتوليه إدارة المهرجان ، وقد حقق إنجازاً للفيلم الألماني فيما لم يحققه المدراء السابقون.
والواقع أن الكثيرين يشتكون من واقع السينما الألمانية ويقولون، على سبيل المثال : منذ عشر سنوات لم ير مهرجان (كان) فيلماً المانياً واحد تأهل لدخول المباراة، ولم تستطع صناعة السينما من الناحية الفنية او التجارية أن تكون مؤهلة للتنافس مع افلام بلدان اخرى عديدة. ان ألمانيا فقيرة جداً من هذه الناحية.

وتريد المانية الإتحادية عبر لجنة المهرجان أن تجعل من برلينالا نقطة جذب لنجوم ولصانعي السينما في العالم تكون فيه على قدم المساواة مع هوليود وتنافس مهرجان كان والبندقية. كما تريد موقعاً فنياً في هذا المجال تناسب موقعها المهم في اوربا كدولة صناعية واقتصادية تتقدم البلدان الأوربية الأخرى، وهي تريد في الواقع، خاصة منذ الوحدة الألمانية، أن تلعب دوراً استثنائياً في كافة المجالات. لقد دعت لجنة المهرجان عددا كبيرا من نجوم السينما المشهورين وبسطت السجادة الحمراء تحت أقدامهم كملوك ورؤساء، بينما جعلت مركزها في بوتسدامر بلاتس ـ المنطقة المعمارية التي تمّ تشييدها منذ الوحدة بأبنية حديثة التصاميم ومرافق هامة كدور السينما والمسقفات والكاليريات والمقاهي والملاعب لتكون مركز اوربا، وماهاتن صغيرة ببناياتها العالية، وهي تقول ان المطقة تمثل اكبر ورشة عمل في أوربا.

لذلك فقد تمّ حشد جيش من الصحفيين والإعلاميين لتغطية فعاليات المهرجان، فيما بثت كافة القنوات التلفزيونية تقارير ضافية عن الآفلام التي تعرض وعن المؤتمرات الصحفية، وعن نجوم ومشاهير السينما.

ومن بين حضور المهرجان ليزا مانيللي وتوم كروز وباد سبينسر و كلوديا كاردينالي وبيتر فوندا وكريستوفر لي والسر بيتر أوستينوف ورينيه زيلويكر وجاليس ثيرون المرشحة للأوسكار وكيت بلانشيت وعشرات غيرهم من كافة الأقطار.  وأشارت بعض الإحصائيات الى بلوغ عدد الضيوف الى 2000

جوائز اخرى

وبعد أن توِّج فيلم "ضد الجدار" لفاتح آركين في قاعة قصر برلينالا بجائزة الدب الذهبي، مُنحت الجائزة الكبرى للجنة التحكيم ـ الدب الفضي ـ لفيلم دانييل بورمان "العناق الضائع". كما نال ممثل الفيلم نفسه دانيال بورمان الدب الفضي لأفضل ممثل. و كانت جائزة الدب الفضي لأفضل إخراج من نصيب فيلم الكرواتي كيم كي ـ دوك "الممرضة "، بينما ذهبت الجائزة الفضية لأفضل ممثلة مناصفة بين جارليس ثيرون، وهي من جنوب أفريقيا، عن دورها في فيلم  " الوحش " من إخراج باتي جينكنز ـ وهو إنتاج مشترك بين جنوب أفريقيا والولايات الأمريكية المتحدة ـ وبين الممثلة الكولومبية كاتالينا ساندينو مورينو في فيلم "ماريا المملوءة رحمة " المشترك الإنتاج أيضاً بين كولومبيا والولايات الأمريكية المتحدة " لجوشوا مارستون.

وتلعب ثيرون، المرشحة لجائزة اوسكار، في فيلم الوحش دور قاتلة بالجملة لإمرأة لها علاقة حب بمثلها. ويتحدث مخرج "ماريا المملوءة رحمة" يوشوا مارستون عن قصة يقول انها واقعية عن فتاة تعمل في حقل زهور شمال بوكوتا لكنها تصادف مصاعب كثيرةا في عملها وهي حامل فتترك العمل وتنزح الى المدينة لتجرب حضها هناك ولكنها تقع في شباك المخدرات حتى يلقى القبض عليها وفي معدتها 62 كيسا صغيرا من الهيرويين. ونال الفيلم ايضا على جائزة باور التي تذكر بمن أوجد البرلينالا قبل عقود. أما جائزة الدب الفضي لأفضل إنجاز فني فذهب الى فيلم بيورن رونكه "الفجر". بينما حاز باندا أوسيرز على الدب الفضي عن موسيقاه في فيلم ماتيو كارون " الحب الأول ".

ولم تكتف الأفلام بجوائز هيئة التحكيم، فقد نالت معظم الأفلام على جوائز مادية ومعنوية واعتبارية من قبل لجان وهيئات ومؤسسات وشخصيات. وجاء منح هذه الجوائز وفق اعتبارات و منطلقات خاصة لطبيعة تلك اللجان والهيئات مثل جائزة السلام وجائزة الشباب وجائزة القراء وجائزة الكنيسة...الخ. التي وجدت في مضامين الأفلام ما يلائم توجهاتها.
 ويبقى برلينالا هذا العام حدثاً يليق باستعراض إحتفالي، فيه كثيرٌ من الألوان والبذخ، وكثيرٌ من التضخيم، بينما لم يرتق بما قدمه من أفلام الى مرتبة مهرجان فني عن صناعة السينما المعاصرة.

موقع "إيلاف" في  20 فبراير 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

بسام الذوادي ـ لقاء

      مهرجان البندقية.. يكرم عمر الشريف

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

آسيا جبّار عبّرت عن الهواجس الدفينة للمرأة

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

"برلينالا" حشدت نجوم السينما:

مهرجان صاخب ونتائج فنية هزيلة

مازن الراوي

صور من المهرجان:

 

 

 

 

____________

مقالات ذات صلة

مهرجان برلين: افتتاح بارد لفيلم “جبل بارد

عالم ما بعد 11 أيلول في مهرجان برلين

المخرجين الجدد بين الخيال العلمي والواقع المأساوي

لائحة الفائزين بجوائز مهرجان برلين الرابع والخمسين للسينما

حضور طاغ للنساء في مهرجان برلين السينمائي

تشارليز ثيرون أحسن ممثلة في مهرجان برلين السينمائي

الفائز بدب برلين الذهبي يأمل اندماج الاتراك في المجتمع الالماني

في "برلين": انقسام بين النقاد حول الأفلام التي تستحق الجوائز

في مهرجان برلين: لم يفز أي فيلم أميركي كما كان متوقعا