فيلم "عطش" للمخرج توفيق أبي وائل:
بقلم إنغريد أرنولد ترجمة يوسف حجازي |
المكان الذي صوِّر فيه "عطش"، كان قريةً مصطنعةً تقع بالقرب من مدينة أم الفحم، موطن المخرج توفيق أبو وائل، وقد استخدمها الجيش الإسرائيلي سابقاً ساحةً لتدريب عناصره على القتال. لم يتجاوز المخرج الفلسطيني توفيق أبو وائل السادسة والعشرين من عمره عندما حقق فيلمه الطويل الأول "عطش" الذي يروي حكاية أبي شكري وعائلته التي يعيش معها، منذ عشر سنوات، منعزلاً في ثكنة عسكرية مهجورة. تقرير إنغريد أرنولد كومٌ من الفحم أشعلته شرارة. ولم يكن الحريق قد أُخمد بعد، عندما أطاح الوالد بالسقّالة المهترئة التي تحمل خزان الماء، ليسيل على التربة الغبراء، وليصرخ "أريد ماءً من المواسير، كباقي الناس". بينما يفر الولد بعيداً، وتتيبس الأم والبنتان البالغتان بإستسلام، في مدينة الأشباح القابعة في مكان ما، على أرض اللاأحد. يبدو أنهم اعتادوا ذلك الغضب المفاجئ، لكنهم رغم ذلك لا يدعمون مطلب الوالد بتمديد مواسير الماء: "بإمكاننا أن نستأجر منزلاً بثمن المواسير"، تقول الأم مستعطفةً. النفى إلى اللامكان يكشف هذا المشهد الأول من "عطش" نزاعات متعددة. أما السر الذي يدفع بالعائلة لتلتحم ببعضها البعض، فيتجلى رويداً رويداً. لا يعيش أفراد العائلة الخمسة، ضمن هذه الشروط المفعمة بالعوز، بمحض إرادتهم. وتمديد مواسير الماء، قد يعني الإستقرار الدائم في هذا المكان النائي، الذي كان الوالد قد قرر، قبل عشر سنوات، الانتقال إليه من أجل إنقاذ حياة ابنته الكبرى. حينئذٍ كان على الوالد أن يقتل "الغانية" جميلة، تحت ضغوط أهل القرية ومجتمعها، ليعيد الاعتبار لشرف العائلة. اليوم يؤمِّن بيع الفحم المصنوع من الخشب المسروق للعائلة الإستمرار في الحياة، لكن النساء لا يغادرن الوادي الصغير أبداً. يفتح تمديد المواسير مجالاً لتغييرٍ، أكثر مما يرغب الوالد المتسلط. فتتكاسل الإبنة الصغرى عن أداء واجباتها، اما جميلة فتتحرر ببطئ من عزلتها ولكن بإستدامة أكثر. وكذلك الإبن، الذي يذهب إلى مدرسة القرية بالضد من إرادة أبيه، ويرفض بإضطراد هذا التسلط. أما الأب المعذب منذ سنوات، بسبب إتعاسه لأناسٍ يحبهم، فهو مهددٌ بفقدان هيبته. لذا يؤكد على الخوف مما هو آتٍ من الخارج، كتخريبٍ من قبل "الإدارة اليهودية". لهذا تُحرس مواسير الماء الممدودة على المنحدر ليلاً نهاراً. ويقوم الولد بهذه المهمة أثناء غياب الوالد. حياة تحت المراقبة يروي "عطش" حكايةً تراجيديةً أزلية. وما من شك، من أن لإحتلال إسرائيل للمناطق الفلسطينية تأثير على الحياة الإجتماعية الفلسطينية، ويندرج هذا على مناطق أخرى من البلاد، ولربما يقوّى الإحتلال من موقف سكان القرية التقليدي. وعلى اية حال فإن حكاية الفيلم النموذجية تصنع من العائلة، الوحدة الأصغر في المجتمع، رمزاً يمثل شعباً بأكمله. على خلاف ذلك، لم يكن إختيار مكان ناءٍ كهذا لأحداث القصة بسبب تمثيل حياة عربية واقعية، بل يعود على الأرجح لقرار يهدف لتحقيق تأثيرات جمالية أقوى. تخلق زوايا التصوير غير المعهودة وكذلك تقطيع اللقطات حالةً دائمةً من عدم الإطمئنان، حيث تُعاق النظرة الطلِقة، ويشعر المتفرج بأنه مسجون ومراقب مع الممثلين. إلا أن هذا الشعور باللاحقيقة لا ينتج من خلال إختيار زوايا التصوير وحسب، فالمكان الذي صوِّر "عطش" فيه، كان قريةً مصطنعةً تقع بالقرب من مدينة أم الفحم، موطن المخرج توفيق أبو وائل، وقد استخدمها الجيش الإسرائيلي سابقاً ساحةً لتدريب عناصره على القتال. النزاع دائم الحضور أم الفحم هي ثاني أكبر مدينة عربية في إسرائيل، وهي ليست بعيدة عن حدود المناطق المحتلة. جمع الخشب من أجل تصنيعه فحماً هو جزء من المداخيل المالية التقليدية في تلك المنطقة. وفيها زاد تأثير الإسلاميين في السنوات الأخيرة، مما أدى إيضا إلى زيادة المشاحنات مع قوى الأمن الإسرائيلية. توفيق أبو وائل من مواليد عام 1976، درس الإخراج السينمائي في جامعة تل أبيب، ويعتبر نفسه ممن يُدعوّنَ بجيل الفنانين الجدد، الذين يرفضون أن تملي عليهم حالة الإحتلال المواضيع التي يتناولونها. وهذا ما أدى بالمخرج أبي وائل، لمواجهة صعوبات مالية جمة، من أجل تحقيق فيلمه الطويل الأول، إذ يبدو جلياً أن المموليين الأوروبيين يتوقعون منه أن يعالج بوضوح، موضوع النزاع مع الإحتلال الإسرائيلي، وأن يُظهر الجنود وأسيجة الحدود. يصوِّر "عطش" بدلاً من ذلك، مجتمعاً مأسوراً بتقاليده الأبوية المتسلطة، حيث يسود عنفٌ أخرس وحيث يبدو أنه قلما يوجد تغييرٌ أو حركة. يُظهر توفيق أبو وائل ما يعرفه هو جيداً. وقد استعان المخرج بممثلين هواة ينحدرون من نفس المنطقة. بالرغم من ذلك، فإن كل ما لا يظهره الفيلم، حاضرٌ على الدوام. وبذلك تكون هذه الرواية، وبهذا المفهموم ايضاً، رمزاً للواقع. "عطش" فلسطين، إسرائيل 2004، سيناريو وإخراج توفيق أبو وائل، تمثيل حسين ياسين محاجنة، أمل بويرات، ربى بلال، جميلة أبو حسين، أحمد عبدالغني. حقوق طبع النسخة العربية قنطرة 2005 صدر المقال في موقع fluter.de
www موقع "قنطرة" في 2 مايو 2005 |