ضوء ...
عدنان مدانات |
في الفترة التي تلت نكسة يونيو/حزيران كثرت التساؤلات حول الطريق الذي ستتخذه السينما العربية في محاولتها للتعبير بصدق عن قضايا الواقع العربي المعاصر. وفي هذا المجال دعا الكثير من السينمائيين العرب للاهتمام بإنتاج الأفلام التسجيلية التي اعتبروها أنسب وسيلة تعبير سينمائية قادرة على مناقشة مشاكلنا الاجتماعية بموضوعية. كان هذا الطرح في السابق يمثل نوعا من الفهم الأيديولوجي الذي يرى في الفيلم التسجيلي، الواقعي المضمون، وسيلة مقنعة قادرة على التقاط وتسجيل الوقائع الحياتية المختلفة في صيغة نوع فيلمي يجسد “الوثيقة” الموضوعية ويمكن الوصول من خلاله إلى استنتاجات قابلة للتعميم وذات صدقية. تجدد الاهتمام بالفيلم التسجيلي في العالم العربي بعد حرب الخليج الأولى التي أدت إلى أن يمارس السينمائيون العرب نشاطا ملحوظا في مجال إنتاج الأفلام التسجيلية والبرامج التسجيلية التلفزيونية. ثمة أسباب كثيرة لهذا النشاط المستجد فيما يشبه الصحوة. من هذه الأسباب ما يتعلق بالأحداث ذات الأهمية التاريخية المصيرية التي شهدتها، ولا تزال، المنطقة العربية، منذ التسعينات وحتى الآن، والتي تستوجب الكثير من التفكير، ومنها أيضا تكاثر أعداد الفضائيات العربية المتخصصة في الأخبار والقضايا الإعلامية. وهذا التكاثر، بالطبع، هو نتيجة منطقية لتزايد اهتمام المواطنين العرب بمتابعة الأحداث الجسام والمتلاحقة مما يجعلهم مشدودين إلى الشاشات التي تقدم لهم الوقائع الآنية في بث مباشر لحظة بلحظة. لكن هذه العلاقة المباشرة مع الحدث، والتي تمارس تأثيرا لحظيا وتتسبب في إشباع فضول المشاهدين لمتابعة ما يحدث أولا بأول، أو تستجيب لانفعالات آنية قد تخفت حدتها بعد حين، لا تغني عن الحاجة للتعامل مع الأحداث ليس فقط من خلال أبعادها المعرفية والحاجة للتفكر في وتحليل خلفيات وأبعاد ما يحدث، بل أيضا من خلال استكشاف والتعبير عن جوانبها الروحية العاطفية والجمالية. وهذا ما لا يتوافر من خلال التقارير والريبورتاجات الإخبارية المصورة، مما يجعل من عملية إنتاج الأفلام التسجيلية ضرورة ملحة. لهذه الضرورة أسباب موجبة أخرى : أهمها، أنه على الرغم من انجذاب الناس إلى شاشات التلفزيون لمتابعة الأحداث الآنية صوتا وصورة، إلا أن الخبرة اليومية جعلتهم يدركون أن البث المباشر والعرض الإخباري لا يقدم صورة كاملة متكاملة ولا معرفة شاملة لهم، والأهم من ذلك، انه لا يقدم، بالضرورة، الحقائق، أو الوقائع، بموضوعية منزهة عن الأغراض. من المعروف أن ولادة السينما التسجيلية كانت سابقة على ولادة السينما الروائية فأول فيلم سينمائي في تاريخ السينما عرض عرضا عاما على الجمهور كان فيلما تسجيليا قصيرا، وأن إنتاج الأفلام السينمائية التسجيلية كان على الدوام موازيا لإنتاج الأفلام الروائية، كما أن أهم النظريات التي درست السينما كفن وكوسيلة تعبير وعكس للواقع وكوسيلة اتصال جماهيرية جديدة، لم تتكون ولم تكتمل إلا بدراسة وتحليل مبادىء وخصائص وطبيعة السينما التسجيلية سواء من خلال الأفلام الإخبارية الطابع او من خلال الأفلام التسجيلية ذات المواضيع المحددة وحتى ذات المنحى التجريبي، هذا إضافة إلى تحليل جوهر علاقتها بالسينما الروائية. ولكن، على الرغم من انه منذ بداية تاريخ السينما كرست السينما التسجيلية نفسها كنوع متساو في الأهمية وكوسيلة تعبير فنية بالمقارنة مع السينما الروائية وإن لم يكن معادلا ومساويا لها في الحجم وفي فرص العرض الجماهيرية، إلا انه وإلى ما قبل اختراع التلفزيون ومن ثم انتشاره في العالم، كانت الأفلام التسجيلية لا تجد فرصا حقيقية للعرض الجماهيري، فمجالات عرض الأفلام التسجيلية كانت محصورة في النوادي السينمائية والمؤسسات ذات الاهتمام بهذا النوع من الأفلام. وفي نفس الوقت كانت الأفلام التسجيلية القصيرة، خاصة منها الأفلام الإخبارية والجرائد السينمائية المصورة، تعرض في بعض صالات العرض السينمائية كمقدمة تسبق عروض الأفلام الروائية الطويلة. ومن ناحية ثانية كانت السينما التسجيلية تجد أحيانا متسعا لها سواء في بعض المهرجانات السينمائية الدولية التي كانت تخصص لهذا النوع من السينما حيزا محدودا ضمن أقسامها أو في المهرجانات المتخصصة بالسينما التسجيلية والتي ظلت تحل في المرتبة الثانية في سلّم المهرجانات السينمائية الدولية من حيث الاهتمام الجماهيري والصدى الإعلامي. فتح انتشار البث التلفزيوني في العالم والذي تزامن مع الحقبة التي تلت انتهاء الحرب العالمية مجالات جديدة أمام الأفلام التسجيلية، خاصة بعد أن صار إنتاج الأفلام والبرامج التسجيلية جزءا أساسيا من نشاط المحطات التلفزيونية مكملا لوظائفها الاتصالية وبالذات في مجال متابعة القضايا الراهنة التي تلقى اهتماما خاصا من جماهير المشاهدين. غير أن هذا التوجه نحو إنتاج الأفلام التسجيلية لمصلحة التلفزيون وبالتناسب مع طبيعته واستحقاقاته تسبب في نشر فهم خاطئ لطبيعة الفيلم التسجيلي وإمكاناته الفنية يقصر وظيفته على تقديم المعلومات والتوثيق للأحداث أو للشخصيات المؤثرة في الأحداث. من هذا المنطلق صار ينظر البعض للسينما التسجيلية باعتبارها مجرد صحافة سينمائية. وقد تكرست هذه النظرة بقوة مع تقنيات التلفزيون التي باتت قادرة على ملاحقة الحدث في كل مكان وحتى تقديمه للمشاهدين في بث حي مباشر. لكن السينما التسجيلية في جانبها الحقيقي فن يحتوي على إمكانات درامية عالية وبخاصة عندما لا تكتفي السينما التسجيلية بالأحداث الكبيرة بل وتقتنص أدق التفاصيل اليومية، العامة والخاصة، المتعلقة بحياة البشر، والتي يمكن لعدسة الكاميرا أن تستوعبها. والسينما التسجيلية، والتي وصفها السينمائي التسجيلي الهولندي يوريس ايفنس بأنها “ضمير السينما” هي المؤهلة أكثر من غيرها للسير في هذا الاتجاه الذي يجعل من الوثيقة مادة فنية درامية، فيما لو تم استيعاب ووعي وظيفتها ودورها كما يجب. وذلك ليس فقط لأنها تعتمد على التصوير المباشر للواقع الحي الحقيقي بل وأيضا، لأن تميزها كنوع فني، ينتج عن كونها تعيد تنظيم الواقع من خلال عملية تحليله وإعادة ترتيبه بهدف الوصول الى فهم صحيح للعلاقة بين العام والخاص، بين النموذج والظاهرة، وبهدف الوصول الى تعميم صحيح لنماذج الواقع المصورة والمختارة بعناية من بين آلاف النماذج الأخرى. من هذا المنطلق بدأت تتزايد في السينما التسجيلية المعاصرة عالميا وعربيا اتجاهات لا تقصر الفيلم التسجيلي على وظيفته الإخبارية بل تنحو باتجاه استفادة السينما التسجيلية من صيغ وإمكانات السينما الروائية، بحثا عن إمكانية تطوير مجالات الفيلم التسجيلي لكي يتمكن من التعبير عن دواخل النفس البشرية والجوانب الانفعالية العاطفية في الواقع المعروض وليس فقط تصوير الأحداث الخارجية، وجعل الأفلام التسجيلية تؤثر مثل الدراما، إضافة إلى تطوير وظيفة السينما التسجيلية بحيث لا تعود تقتصر على التوثيق والإعلام بل تتعدى هذه الوظيفة باتجاه تحويل الفيلم التسجيلي إلى وسيلة للإبداع الفني وبالتالي تحويل هذا النوع من الأفلام إلى فن بحد ذاته يعكس دراما بشرية ويعبر عن أحاسيس داخلية، بل وحتى تحويله إلى وسيلة للتعبير الذاتي عن طريق صنع أفلام تعكس علاقة ذات المخرج بالواقع من خلال مادة الواقع نفسها أو أفلام تجريبية تتضمن عناية خاصة بالجماليات المشهدية، وهذا ما يحيلنا إلى التجارب الرائعة الرائدة في مجال السينما التسجيلية العالمية في عصر ما قبل التلفزيون. الخليج الإماراتية في 2 مايو 2005 |