د.صبحى شفيق يكتب ويفسر:
|
النظرة الأخرى، هى السينما الأخرى، هى التى حرم جمهورنا من مشاهدتها طوال أكثر من ربع قرن. هى السينما التى لا تخرج من مصنع النجوم حيث يفصل السيناريو على مقاس هذا النجم أو تلك النجمة، وهى التى ترسم شخصياتها كأنما مكوناتها النفسية إرث من أنماط تتكرر جيلا بعد جيل، لا نعرف من أين يحصلون على قوت يومهم ولا فى أى بيئة تتحقق ذاتيتهم. إنها سينما الإثارة بأى ثمن: استدرار دموع المشاهد فى لحظات ميلودرامية أو زغزته بنمر يفركها «المضحكاتى» فيلما بعد فيلم، وهو يتصور أن هذه «الصيغة» ستدر على «المنتجاتى» ملايين وملايين، ولا بأس من تنويع الصيغة، بتجميع الكم التقليدى من الافخاذ والنهود، والذهاب بهن إلى شرم الشيخ أو الشاطئ الشمالى. هذه السينما هى الآن في مرحلة الاحتضار.. لماذا؟ لأنها كانت موجهة إلى جمهور هامشى، من السباكين والصنايعية وصغار المدرسين وعمال المصانع الذين ذهبوا إلى ليبيا أو إلى إحدى دول الخليج، وعادوا ليكونوا طبقة جديدة، كل مفاهيمها عن الحرية وعن أوروبا وعن الحياة «الأسبور» مستمدة من حكايات لا وجود لها خارج أذهانهم. ولحسن حظهم، وجدوا عمالقة من كبار السماسرة أصبحوا سندا لنفايات الفنون، مثلهم. وعندما تسأل منتجى هذه النوعية يرددون العبارة التقليدية: «الجمهور عايز كده!». أى جمهور؟ هو ذلك الذى حددته، سوسيولوجيا، وهو نفس جمهور المسارح التى توجه لمن لديه القدرة على دفع مائة وخمسين جنيها، جمهور هامش «الانفتاح». إلا أن مدخرات هذا الجمهور من البترودولار توشك أن تنضب، فى الوقت الذي تتبلور فيه تيارات جديدة من الفكر ومن النظرة إلى الواقع وإلى العالم لدى جيل جديد يطالب بحقه فى العمل، فى أن يكون له مسكن مريح، فى أن تكون له أسرة متسقة العلاقات، جيل يرى الحياة فى القدرة على الإنتاج، وهو الآن فى مرحلة تحد لجيل يرى الحياة فى الاستهلاك، وفى استيراد كل شىء من الخارج، هامش يلوى شفتيه امتعاضا كلما رأى إنتاجا مصريا، ويردد: «ياه.. دا بلدى قوى». أما الجيل الحالى فهو «بلدى قوى»، وهو يريد أن يرى ما يدور بداخله وقد انعكس فى الخارج، على شاشة السينما وعلى شاشة التليفزيون، ولو قمنا بعملية إحصاء ودراسة سوسيولوجية، واتحدث من واقع احتكاكى بطللابى، وقد تخرج منهم نحو الألفين خلال السنوات العشر الأخيرة، أقول لو قمنا بدراسة سوسيولوجية لهذا الجيل، مع إحصاء دقيق، لوجدنا أنفسنا أمام جمهور يحصى بالملايين إلى هذا الجيل الجديد، يوجه السينمائيون الجدد كاميراتهم، وهم من حيث مفهومهم للدراما، لا يرون الشخصيات فى الأزمنة القوية، أى لحظات البطولة الخارقة أو الانحراف الحاد أو التآمر الشديد، وإنما الدراما عندهم هى شبكة العلاقات التى تحدد مسارنا، فى واقعنا اليومى. ما الذى نريده؟ بل: من نحن؟ إلى أين نتجه؟ السيناريست هانى فوزى اتجه إلى واقع لم يحدث أن عبر عنه كاتب أو مخرج سينمائي، واقع أسرة «طهورية» بالمعنى الذى كان سائدا فى العصر الفيكتورى بإنجلترا، أى أسرة تعيش على الأرض وتعمل على أن تدخل «من الباب الضيق» «الإنجيل» أو تسير على الصراط المستقيم «القرآن الكريم». كل زخارف الحياة، ومنها السينما والتليفزيون، محرمات، أملها هو أن تتحرر من خطاياها، بتجنب كل ما يحدثها، ويمثل هذه الأسرة الزوج عدلى «محمود حميدة»، وتسايره زوجته، لأنها دخلت فى النموذج المصغر «البيت» للنظام الكبير «المجتمع كما يراه عدلى». إلا أن محركات الضغط تتزايد، فإذا بها تحدث صدعا فى كل من يحيطون بعدلى. تبدأ بزوجته كانت رسامة، واضطرت إلى العمل كتربوية، ناظرة مدرسة ثم يحدث صدع. يكتشف عدلى أن مساعدته للطلبة، وهو إخصائى اجتماعى، مساعدة لنصابين يمثلون دور المصورين، وأن إدارة المدرسة عصابة لنهب الميزانيات، وأن تربيته لطفله الوحيد الذى يفزعه دائما راسما صورة العقاب فى الآخرة: «حتروح النار». الصدع لدى عدلى يقابله صدع لدى نعمات زوجته، يجئ مفتش رسم من المنطقة وبالصدفة يرى لوحة لها ويشدها إلى الفن مرة أخرى. ثم يحاول إيقاعها فى الخطيئة، حب التصور المسيحى. بدون البيئة المحيطة بالشخصيات، لا دراما، لأن الكل يدور فى نسيج من الطقوس، بينما الواقع الحقيقى واقع عملى ومادى. من يكشف لنا عن هذه التناقضات؟ طفل.. طفل يمثل البراءة والرغبة فى التفتح، والحرية، ومن هنا عبثه بكل المقدسات، وضحكته الماكرة عندما يثير غيظ هؤلاء «الطقوسيين» لا: لسنا أمام دراما عن أقباط شبرا، بل عن كل مصر، فالفيلم يبدأ بعنوان: «شبرا 1966»، وهى دلالة يزيدها وضوحا خطاب الزعيم الراحل عبدالناصر عقب النكسة. هذا هو عالمنا كما يقدمه أسامة فوزى، المخرج، وكما يجسده الطفل يوسف عثمان، ومحمود حميدة فى أروع أدواره، وليلى علوى بتلقائية لا يصل إليها ممثل إلا بعد خبرات طويلة، وقدره على الدخول فى جلد شخصية الزوجة، هذا بالإضافة إلى الدور الرائع الذى قامت به عايدة عبدالعزيز، لقد نسيت عايدة التى عملت معى فى البرنامج الثانى أكثر من ربع قرن، ووجدتنى فى حارة مصرية حقيقية. عالم آخر، هو عالمنا حقيقة، تدعونا إلى اكتشافه وسام سليمان، سيناريست فيلم: «أحلى الأوقات»، إخراج هالة خليل. إنه عالم البنت المصرية اليوم. فى فترة المراهقة والدراسة، أى فتاة لها أحلام، ثم تدريجيا تدخل فى روتين الحياة، تارة بالزواج، كما هو حال «يسرية» «هند صبرى» أو بالعمل والدخول فى قصة حب مع زميل تنتهى بالخطوبة، كما هو حال ضحى «منة شلبى» أو تجد نفسها بلا صديق، خاصة بعد أن يقطع آخر خيط يربطها ببداية حياتها، بالحياة نفسها، وأعنى الأم. لقد ماتت أم سلوى «مها أبو عوف» وتركتها مع زوج الأم «سامى العدل» ولا يخرجها من عزلتها النفسية سوى حدث غريب: خطابات تصلها من مجهول، ويصحبها شريط لمحمد منير الذى تعشق ألحانه. إذن هو شخص يعرف كل شىء عنها. أيكون جارها الماريونيت «عمرو واكد» أم.. أم. وتنفرج أبعاد الواقع لدى سلمى «أداء حنان ترك فى دور رائع ودقيق» عندما تصلها صورة لزملاء دراستها، عندما كانت معهم فى شبرا، قبل أن ينقلها زواج أمها إلى المعادى الأرستقراطية. تبحث سلمى عن يسرية، وعن ضحى، وتعود العلاقة بين الثلاثة. هل تشدهم هذه الرابطة إلى نقطة البداية، إلى أحلام الصبا؟ زوج يسرية «خالد صالح فى دور يرفعه إلى مستوى الأداء المتكامل» أقول زوج يسرية يريد شد زوجته إلى النظام، خطيب ضحى، نفس السلوك، فيما عدا زوج الأم، إنه فى صراع دائم مع نفسه، ومع مشاعره تجاه ضحى، ومع انعطافه نحو ضحى، دور صعب للغاية، لأنه يدخل فى مجال: «تراجيديا الحياة اليومية»، وراء كل هذه الشخصيات توجد هالة خليل. أهم ما يميزها، ويدخلها فى دائرة السينما المعاصرة على مستوى العالم، هو إعراضها عن الكادرات السيمترية، أى تقطيع المشهد كما يحدث فى الرسم على مربعات: شخص يتحدث «فى لقطة مكبرة، أى كلوز» آخر يرد «كلوز آخر» اثنان يردان «لقطة متوسطة لاثنين» هذا الديكوباج ولد عندما كانت الكاميرا لا تتحرك على قضبان، أو فوق رافعة «كرين»، وقبل اكتشاف الإضاءة غير المباشرة، أما الإخراج الحقيقى فهو أسلوب «اللمسة»: ستار تحرك ما على منضدة، وايشارب يطير فى الهواء، وفراش ينم عن العزلة، تتابع هذه اللمسات يقول لنا: هذا هو عالم الأم «مها أبو عوف». نظرات سلمى «حنان ترك» دون إجابة قاطعة، إعراض كاتبة الحوار وهى أيضا السيناريست عن الجمل الكاملة، واستخدام جمل ناقصة، وفترات سكون، وتنهد، وهمس، كل هذا يشكل تعبير الشخصية، قطرة قطرة، عما بداخلها. الحديث يطول لو دخلنا فى التفاصيل، وإذا كان «أحلى الأوقات» وكذلك «بحب السيما» قد توجهما المهرجان القومى للسينما، فهذا يدل على أهمية المهرجان، لأنه المؤشر إلى ما سوف تصير إليه السينما المصرية، وأداة كشف عن السينما الأخرى: «السينما». جوائز الإنتاج لاشك أنها تشجع المنتج على الاستمرار فى هذه النوعية من الأفلام، وهى جرأة من إسعاد يونس أن تنتج فيلما مثل «بحب السينما»، لكننى أعرفها مغامرة فى عالم الفن منذ أن قدمتها لى هالة سرحان عندما كانت تعمل بالإذاعة ووجدت فيها فنانة كامنة، ودارت الأيام لتصبح من ممثلات الكوميديا الراقية، وها هى تعود إلى نقطة البداية: الفن الحقيقى. منتج جرىء آخر، هو محمد العدل، وليس فيلم هالة خليل أول مغامراته، فقد سبقته أفلام عديدة، مثل «فيلم ثقافى»، لكن ها هو الجمهور الآخر، وهو أضعاف أضعاف فى جمهور «عوكل وإخوانه» ها هو الجمهور الآخر، جمهور شباب مصر وجمهور المصرى الذى لم تلوثه نفايات الإنتاج، ها هو يقول رأيه، فقد حقق «أحلى الأوقات» نجاحا كبيرا. أما الممثلون الذين أشرت إليهم، فقد صدق حدسى: كرمهم المهرجان، كما كرم موسيقار أحبه، وتتبعته وهو صغير، عندما كان الصديق سامى داود يدعونى لزيارته فى مصر الجديدة، ولى تجربة مع موسيقار آخر، هو راجح داوود، أود لو عاد إلى التأليف، فهو مثل راجح، قد ذوبا الدراسة الأكاديمية فى الموسيقى الشعبية، واكتشفا هرمونيات كامنة وجديدة. جريدة القاهرة في 2 مايو 2005 |