«البرىء» مشاهد ممنوعة أيمن الحكيم |
حينما كان الزمان شتاء العام 1977 خرج الشاب القروى وحيد حامد يهتف وسط الهاتفين فى المظاهرات التى خرجت يومها، احتجاجا على رفع أسعار الخبز..كان وحيد حامد خارجا لتوه من سنوات الخدمة العسكرية التى قضاها على الجبهة بين حربى النكسة والعبور مشحونا كان بالحماس والوطنية والبراءة سار وسط المظاهرات يهتف مع المتظاهرين: سيد مرعى يا سيد بيه / كيلو اللحمة بقى بجنيه. ووصلت المظاهرة إلى مكان قريب من محل فول وطعمية شهير فى وسط البلد ومع رائحة الطعمية الساخنة التى تسربت إلى أنفه كان هناك من يهوى بشومة غليظة على ظهره ومن فرط الألم تلفت وراءه ليرى الجانى، فإذا به عسكرى أمن مركزى بلدياته ومن نفس قريته فى الشرقية ولأن القرية كانت صغيرة ولا يزيد عددها يومها عن 5 آلاف فرد فإن كل أهلها كانوا يعرفون بعضهم ويرتبطون بصلات نسب وقرابة وجيرة. وكادت الشومة تسقط من يد الجندى البسيط عندما تعرف على بلدياته الأفندى الذى كان قد سبقه إلى القاهرة تسبقه أحلامه فى الأدب والسينما وببراءة صاح الجندى: أستاذ وحيد.. هو انت من أعداء الوطن؟ وبرقت عندها فى ذهن وحيد حامد فكرة فيلم عن استغلال السلطة لبراءة هؤلاء المخبرين وأميتهم، وغسل أدمغتهم بأفكار خادعة، وإفهامهم إلى حد اليقين أن كل من يخرج عن طوع السلطة فهو خائن وعميل وعدو للوطن وبالتدريج يتحول هؤلاء البسطاء إلى مدافعين بواسل عن السلطة لا عن الوطن، وقليل منهم هو الذى يكتشف الخدعة ولو صدفة مثل ذلك العسكرى بلديات وحيد حامد، إذ يسقط فى يده عندما يراه بين فئة أعداء الوطن، ويكتشف أن رؤساءه سقوه الوهم، وأن هؤلاء الشباب الذين تظاهروا ضد السلطة هم أحباء الوطن لا أعداءه. وهكذا خرجت شخصية أحمد سبع الليل بطل «البرىء» وراحت شخصيات الفيلم تختمر فى ذهن وحيد حامد على امتداد أكثر من سبع سنوات لا ينكر وحيد حامد أن أغلب شخصيات الفيلم حقيقية، أو مستوحاة من الواقع كشخصية الشاب الذى قبض عليه خطأ عندما سار فى المظاهرات ليس إيمانا بأهدافها بل لمجرد «البصبصة» للمتظاهرات وراح يحلف ويقسم بأغلظ الإيمان أنه لا له فى الثور ولا فى الطحين، ولكن صوته ضاع أمام التوتر الشديد والعصبية الأشد التى تعاملت بها أجهزة الأمن لقمع المظاهرات التى انتشرت فى طول البلاد وعرضها ولم تحقر من شأنها تسمية الرئيس السادات لها بـ «انتفاضة الحرامية» كانت مفاجأة لى عندما كشف وحيد حامد أن تلك الشخصية هى الممثل الجميل على الشريف، وكان يومها يعمل محاسبا فى إحدى الشركات بشارع عماد الدين، وأعجبه منظر مظاهرة يسير فيها عدد غير قليل من الشابات اليساريات فقفز إلى الشارع بهدف التسلية والمعاكسة، فأوقعته البصبصة فى شر أعماله، ووجد نفسه فجأة فى المعتقل، ولم يشفع له حلفاؤه بأنه بتاع ستات مش سياسة. وفى المعتقل الذى دخله خطأ تغير مجرى حياته عندما وجده إلى جوار صفوة مفكرى مصر، فوقع فى سحرهم وتأثيرهم... فخرج ليطلق المحاسبة والبصبصة ويتجه إلى التمثيل بعد أن اكتشف الرفاق الجدد فيه موهبة حقيقية ساعدوه على تفجيرها. أما «توفيق شركس» الضابط الشرس فى المعتقل الشاعرى خارجه وهى الشخصية التى أداها محمود عبدالعزيز باقتدار فكانت مستوحاة كذلك من شخصية حقيقية هى اللواء حمزة البسيونى الذى تولى لسنوات إدارة السجون الحربية، ونسبت إليه عمليات التعذيب الوحشية للمعتقلين السياسيين. وحيد حامد جمع معلومات من مصادر موثوق بها عن حمزة البسيونى،كلها أجمعت على أنه كان يعيش بشخصيتين متناقضتين فخارج أسوار السجن كان إنسانا بسيطا وزوجا مقهورا ومواطنا يمشى جنب الحيط..فإذا ما ارتدى البدلة الميرى ومارس عمله كضابط تحول إلى إنسان سادى لا يتورع عن ارتكاب الفظائع ويشجيه أنين المعتقلين. ولا يرفض مؤلف «البرىء» التخمينات التى تقول إن شخصية المثقف الثورى التى أداها ممدوح عبدالعليم فى الفيلم هى شخصيته الحقيقية، ويشير بيديه إلى أحمد سبع الليل الشخصية التى أداها باقتدار النجم الراحل أحمد زكى وينسبها إلى العسكرى بلدياته الذى ضربه بالشومة فى مظاهرات يناير 77، بل يعترف أنه أخذ من لسانه الجملة الاستفهامية التى رددها أحمد سبع الليل فى مشهد النهاية موجها كلامه إلى المثقف بلدياته: هو انت من أعداء الوطن يا أستاذ؟ قبل أن يقوم هو بالانتقام من أعداء الوطن الحقيقيين الذين خدعوه وغسلوا دماغه. وكان من الأسرار الجديدة التى أفشاها وحيد حامد وهو يستعرض ذكرياته المليئة بالشجن قبل عرض الفيلم كاملا لأول مرة فى افتتاح المهرجان القومى للسينما الثلاثاء الماضى هو أنه ذهب بالسيناريو إلى الفنان نور الشريف ليلعب دور أحمد سبع الله فلما قرأ نور السيناريو أعاده إلى وحيد حامد بتواضع فنان كبير ناصحا إياه أن يذهب به إلى أحمد زكى... فهو الأجدر والأصلح للدور وكل المواصفات تنطبق عليه، وقد كان. طالت المدة بين «الحمل» بـ «البرىء» فكرة، وولادته سيناريو مكتملا فجاء ناضجا، باهرا محملا بشحنة هائلة من الصدق والبراءة والفن، وربما لهذه الأسباب لم تتوقف الرقابة طويلا عند السيناريو فأجازته دون حذف مشهد واحد وسط دهشة مؤلفه وصناعه الذين توقعوا معركة مع الرقابة وكان على رأسها يومذاك المرأة الحديدية والرقيبة التى لا ترحم نعيمة حمدى. وانتهى تصوير الفيلم فى هدوء، وخرجت تتراته بالبيانات الآتية: سيناريو وحوار وحيد حامد، إخراج عاطف الطيب، الإنتاج سميرة أحمد وصفوت غطاس، التصوير سعيد شيمى، المونتاج نادية شكرى الأشعار عبدالرحمن الأبنودى، الموسيقى والألحان عمار الشريعى، البطولة لأحمد زكى ومحمود عبدالعزيز، وإلهام شاهين وممدوح عبدالعليم وصلاح قابيل وجميل راتب. ونزعا لفتيل أزمة متوقعة اقترح وحيد حامد أن تسبق التترات لوحة تقول إن وقائع الفيلم لا تمثل الزمن الحاضر، بل يمكن أن تقع فى أى زمان ومكان. ودعا صناع الفيلم إلى عرض خاص صفوة النقاد والمفكرين كتقليد روتينى يحرص عليه أغلب منتجى السينما، وأظن أن صناع «البرىء» لو كانوا يعرفون أن هذا العرض سيجر عليهم المشاكل ويفتح أبواب جهنم على الفيلم لألغوه تماما، ودفعوا بـ «البرىء» إلى دور العرض مباشرة. والذى حدث أن أحد كبار المثقفين رفض وحيدحامد تسميته خرج من العرض الخاص حاملا صفة «المخبر» وأجرى على الفور اتصالات بالأجهزة الأمنية محذرا من كارثة سينمائية وشيكة اسمها «البرىء» ناصحا فى غير براءة بوقف عرض الفيلم واعتبره إساءة بالغة وإهانة فى حق الوطن. واهتزت الأجهزة الأمنية للبلاغ الذى قدمه المثقف / المخبر.... وذهب الضباط ليروا «الجريمة» ويرفعوا التقارير.. وحسما للخلاف تقرر أن تتشكل لجنة من وزير الدفاع آنذاك المشير أبوغزالة، ومن وزير الداخلية يومها اللواء أحمد رشدى، ووزير الثقافة وقتها د. أحمد هيكل. وأحس منتج الفيلم بالرعب، فاللجنة المشكلة أقرب إلى «وزارة حرب» ولابد أنها ستحكم على الفيلم بالإعدام، وهو ما يعنى بمنطق التاجر أن يخسر الجلد والسقط، ومن ثم تفتق ذهنه عن حيلة ليخرج بها من هذا المطب، وهى أن يقوم بنفسه بـ «تهذيب» الفيلم وتخليصه من كل المشاهد التى يمكن أن تعكر مزاج الأمن ولذلك كانت دهشة اللجنة كبيرة عندما جاءوا لمشاهدة الفيلم فوجدوه فى منتهى التهذيب، فبصموا على عرضه بالثلث، ولم يعرفوا أنهم شاهدوا الفيلم منزوع الدسم. وفى 11 أغسطس 1986 كان العرض الأول للفيلم فى سينما مصر بالاس وعلى الرغم من النجاح النقدى والجماهيرى الذى حققه الفيلم إلا أن مؤلفه ظل يراه منقوصا، إذ أن ساطور الجزار الذى استخدمه منتجه فى ذبح مشاهده جعله مشوها غير مكتمل الملامح والرؤية. وأظن أن وحيد حامد كان أسعد الناس يوم الثلاثاء الماضى عندما شاهد الجمهور البرىء كاملا متكاملا، بعد أن ردت إليه المشاهد التى اقتطعها ساطور الجزار. القاهرة المصرية في 26 أبريل 2005 |