«راي»: الفن السابع حين يقترب من سيرة الفنان في معاناته وانتهازيته وذكرياته التبريرية إبراهيم العريس |
الغناء الزنجي والمعتقلون الجزائريون في خريف العام 1961، اقام راي تشارلز اول حفلة له في فرنسا، بل ربما كانت ايضاً اول حفلة له خارج القارة الأميركية. ولقد تطابق تاريخ تلك الحفلة، كما اشارت صحيفة «لوموند» في ملف كرسته لراي تشارلز عند وفاته (آذار/ مارس 2004) مع التظاهرات الضخمة التي جرت في باريس يومها, وشارك فيها عشرات ألوف الجزائريين بدعوة من جبهة التحرير الوطنية للمطالبة باستقلال الجزائر, وهي التظاهرة التي قمعتها قوات الأمن الفرنسية بعنف ما ادى الى سقوط ما بين 30 و220 قتيلاً – بحسب المصادر المتناقضة – كما ادى الى اعتقال مئات المتظاهرين الذين اودعوا في قصر الرياضة (باب فرساي) أي المكان نفسه الذي اقيمت فيه حفلة راي تشارلز بعد اربعة ايام. ويومها، كما تقول «لوموند» اوحى ذلك التزامن للصحافية كاترين بيار بمقال جاء فيه: «كانت مصادفة غريبة تلك التي جعلت قصر الرياضة يشهد حفلة راي تشارلز، ذلك الضرير الأسود الذي يعبّر في شكل مؤثر عن الألم الإنساني, بعد ايام قليلة من مأساة الجزائريين المعتقلين الذين جرى اخلاؤهم بسرعة ليوضعوا في ملحقات تابعة للجيش... وكان مدهشاً ايضاً منظر قوات الأمن المرعبة التي نشرت عند كل مداخل القصر، وقد كلفت قمع التظاهرات السياسية, اكثر مما كلفت إسكات حماسة الجمهور للحفلة الغنائية. «هناك, في قاعة كبرى حافظت على بقايا رائحة المواد المنظفة، تجمع نحو ستة آلاف شخص اتوا جميعاً ليصفقوا لـ»العبقري» الذي كان يومها يغني في باريس للمرة الأولى. في بداية البرنامج عزفت الفرقة وحدها... وبدا واضحاً ان عزفها هناك لم يكن مختلفاً عن عزف سابق لها كنا تحدثنا عنه (في مهرجان انتيب)... اذ بدا واضحاً من جديد ان كل فنان هنا, فنان متميز... بيد ان اياً منهم لم يبد متفرداً... بل بدا ان المجموعة كلها تفتقر الى شيء من التجانس. اما راي تشارلز فإنه لم يخيب املنا. سابقاً في جوان لوبان – عزف على البيانو. اما هنا فإنه عاد الى آلته المعتادة، البيانو الكهربائي ذي الأداء الهارموني الذي بدا هنا ملائماً تماماً لغناء يطبعه «الغورسيل» بكل حميّاه. «مثل لويس ارمسترونغ، يعرف راي تشارلز كيف يعبر بالمقدار نفسه من الكثافة عن الفرح وعن الحزن. فهو حينما يغني «البلوز» يصغي إليه الجمهور بهدوء وتفان. اما حينما ينشد، مصحوباً بفرقته «راتيلات» اغنيات مثل «اجل... حقاً» او «اضرب في طريقك يا جاك»، فإن ايقاعاً قوياً يسيطر على المتفرجين فيروحون خابطين بأيديهم وأقدامهم تبعاً للإيقاع. «اما عند المخرج في النهاية، فقد كان في وسعنا ان نلاحظ بعض الفوضى... ولكن من دون اية مشاكل: بعد ذلك في المترو فقط, راح الشبان يفلتون العنان لحماستهم، وراحوا يخلطون غناء هذه الأغاني بغناء تلك. وحدث ذات لحظة ان قطع شخص ما التيار الكهربائي عن حافلة مترو، فكان جواب الشبان ان اقتلعوا اللافتات الإعلانية وحطموها...». الحياة اللبنانية في 18 مارس 2005 |
جايمي فوكس من الجلسة الاولى مع راي الى الاوسكار بيروت - فيكي حبيب بعد أشهر قليلة من موته الذي هزّ عالم الجاز والفنون الاستعراضية في شكل عام، ها هو راي تشارلز يعود الى الحياة مجدداً، بل ينال حتى اوسكاراً لأفضل ممثل، هو الذي لم يمثل فيلماً طويلاً واحداً في حياته. عاد تحت ملامح جايمي فوكس الممثل الاسود الذي أمعن في حفل الأوسكار الاخير في إدهاش عالم فتح أعينه من جديد على اسود ينال جائزة سينمائية كبرى نادراً ما نالها أسود. لمرة واحدة بالنسبة الى هذه الاوسكارات، كان التوافق كبيراً بين نقاد السينما واهل المهنة - من الذين يُعهد اليهم توزيع الجوائز مرة في كل عام - فإذا كان فيلم راي الذي يتحدث تحديداً عن حياة راي تشارلز رشح لغير جائزة رئيسة، كان من الطبيعي ان يكتفي بجائزة أفضل ممثل، ذلك ان الفيلم كله هو بطله، فوكس الذي قال كل النقاد انه لم يكن هنا يقلّد راي تشارلز بل كان راي تشارلز نفسه. خارجاً وداخلاً. في تعابيره وفي سماته الروحية. في علاقته مع الموسيقى. في علاقته مع شبح اخيه الطفل الغارق ذات يوم أمام عينيه قبل ان يفقد البصر ومن دون ان يتمكن من انقاذه... ثم خصوصاً في علاقته مع النساء ومع عائلته ومع مديري أعماله. فيلم «راي» هو هذا كله. هو حياة راي تشارلز ولكن ليس كما تروى حياة الآخرين، أي من بعد موتهم ومن دون معرفتهم. هنا نحن امام عمل من الواضح انه نال رضا صاحب العلاقة وموافقته: راي تشارلز الذي من المحزن انه لم يعش ليرى الفيلموالذي من الملائم القول ان الفيلم يعرض في الذكرى الاولى لرحيله. إذاً حسب النقاد وكما يمكن أي مشاهد للفيلم ان يلاحظ، هناك بعدان كبيران في الفيلم: الفيلم نفسه وجايمي فوكس. ومع هذا في الافلام الكثيرة التي قام بها فوكس من قبل، لم تكن قوة الأداء هذه، واضحة او مؤكدة، ربما لأن الرجل لم يُعط حقه من الادوار الجيدة مسبقاً، بل قد يمكننا ان نقول ان هذه هي المرة الاولى تقريباً التي يُعطى فيها دور بطولة مطلقة لكنها حتماً لن تكون الاخيرة شرط ان يُعثر له على أدوار يمكنه ان يدخل في جوانية شخصيتها كما فعل هنا. فمن هو جايمي فوكس؟ الحقيقة اننا اذا تمعنا في سيرة هذا الشاب ابن السابعة والثلاثين لا نستغرب اختياره لهذا الدور هو الذي تمتع منذ طفولته بثقافة موسيقية، وتحديداً في مضمارالعزف على البيانو منذ كان في الخامسة من عمره. أما بداياته في عالم التمثيل فكانت من خلال المسلسلات التلفزيونية، إذ كان اول ظهور له في العام 1990 في «ان ليفنغ كولور» عبر الشاشة الصغيرة، ليدخل بعد عامين عالم السينما في «تويز» حيث استخدم صوته فقط، والذي تبعته مجموعة من الاعمال لعل أهمها في تثبيت قدميه في هوليوود، كان مع اوليفر ستون في «أي يوم احد كان». اما اجمل ادواره فكانت تلك التي اعطاها له مايكل مان: مرة في «علي» الى جانب ويل سميث الذي جسد شخصية الملاكم الشهير محمد علي كلاي (2001)، ومرة أخرى في «كولاتيرال»(2003) الى جانب توم كروز... لكن في كلتا الحالين كان جايمي فوكس يجسد أدواراً ثانوية لا تدنو الى مستوى البطولة، من دون انكار اهمية تلك الادوار. وظلت حاله هكذا حتى كان التحول الحقيقي، والنقلة النوعية مع «راي». فكيف كان اول لقاء له مع راي تشارلز نفسه؟ «كنت جالساً أمام البيانو- يقول جايمي - عندما وصل راي. أردت أن اقوم لأساعده، لكنني بسرعة كبيرة ادركت انه يملك قدرة كبيرة على التحكم بالمكان. جلس بدوره امام بيانو آخر وطلب مني أن أعزف قطعة بلوز. كنت طبعاً مرتبكاً بعض الشيء ولكن سرعان ما تحسنت حالي. بدأ بقطعة لتيلونيوس مونك، فتابعته قدر ما استطعت... بعد بضع نوتات توقف وقال: حسناً... هذا الشاب هو بالمستوى المطلوب. اريده هو ولا احد سواه». واذا كانت إجادته العزف على البيانو من أسباب ترشيحه لدور راي، خصوصاً بعد ان اعجب راي تشارلز نفسه به، فإن للبيئة التي خرج منها فوكس أيضاً أثراً كبيراً في اتقانه الدور. فهو من ولاية تكساس حيث الاعمال العنصرية تجاه السود لا تزال مستشرية في ايامنا هذه. وانطلاقاً من هذا اختبر جايمي كما يخبرنا الذل والاسى اللذين عاشهما راي في خمسينات القرن الماضي وسبعيناته... اختبر ذاك الشعور بعدم المساواة، فهمه جيداً، ونقله بأمانة الى الشاشة. «ان تكون أسود لا يعني انك أياً كان، خصوصاً عندما تعيش في هذا البلد، حتى في هوليوود، التي هي بزنس البيض»، يقول راي، ويضيف في مجال آخر: «ان تدخل في شخصية راي تشارلز، الصورة الرمزية لمجتمعنا، هو عبء ثقيل، ومسؤولية كبيرة، عليك ألا تخذلها»! وبالفعل لم يخذل جايمي صديقه العجوز راي اطلاقاً في الفيلم، حتى وإن لم يقدر لهذا الأخير أن يشاهده اذ أخذه الموت قبل مسافات قليلة من انجازه... والحال أن راي كان حاضراً بتقاسيم وجهه وتعابيره، بطريقة هزّ رأسه، بمشيته، بحركاته، بصوته... كان حاضراً بكل كيانه. حتى ان من يشاهد الفيلم يكاد ينسى انه أمام جايمي فوكس لا امام راي تشارلز. «عندما كنت صغيراً كنت أراقب الناس الذين يحيطون بي، وعلى الفور أقلدهم. انها طريقة لأثبت لهم انني موجود». بعد هذا الفيلم لا يمكن الا ان يكون جايمي فوكس موجوداً، وبقوة، بين نجوم هوليوود مع ما يتمتع به من موهبة لا تخفى على احد. «لكن الموهبة لا تكفي، يقول جايمي، اختبرت الذل وعلمتني قسوة الحياة. اذا اردتم ان تحققوا أعمالاً جيدة، عليكم ان تعملوا وتعملوا بلا تباطؤ، وهذا ما قام به راي حتى مماته». الحياة اللبنانية في 18 مارس 2005 |
بعض المشاريع لا يكون منطقياً السؤال لم تحققت، بقدر منطقية السؤال: لماذا تراها استغرقت كل هذا الوقت قبل أن تتحقق. وبعض الأنواع الفنية يكون من الحشو السؤال حول الظروف التي مكنتها من أن تكون رائجة في فترة من الفترات. ونبدأ بهذه المسألة الأخيرة لنقول ان الرواج المتجدد منذ سنوات عدة لأفلام السيرة، كان يجب توقعه منذ زمن بعيد، بحيث لا يعود يدهش أحداً، لا سيما بالنسبة الى السير التي تتناول كبار فناني وأدباء وشخصيات القرن العشرين. إذ حين شارف القرن على نهايته، كان من الطبيعي لأبنائه، وقد قفزوا الى قرن آخر، بل وألفية أخرى، ليلتفتوا وراءهم ويحاولوا استعادة ذكرى بعض الذين برزوا، ايجاباً أو سلباً في هذا القرن... في أعمال هي الآن سينمائية في المقام الأول، وتلفزيونية اكسسوارياً، طالما ان الصورة تصبح، أكثر وأكثر، الجزء المكمل للحياة أكثر من أي جزء آخر. أما بالنسبة الى المشاريع التي بها بدأنا هذا الكلام، فمنها ما يلفتنا اليه الآن تحديداً، عرض فيلم «راي» للمخرج تايلور هاكفورد... وهو فيلم يتحدث، طبعاً، عن حياة المغني الأميركي الأسود راي تشارلز الذي رحل عن عالمنا ربيع العام الفائت، بعد أن ملأ دنيا الموسيقى – والجاز خصوصاً – وشغل ناسها عقوداً طويلة من السنين. بالنسبة الى مشروع الفيلم عن راي تشارلز يبدو منطقياً السؤال: لماذا تأخر... من دون أن يعني هذا ان اصحاب هذا المشروع قد انتظروا رحيل الفنان «العبقري» – بحسب توصيفه في عالم الموسيقى – حتى يحققوا فيلماً عنه... فالواقع يقول لنا ان العمل على الفيلم بدأ وكان الرجل لا يزال حياً، وهو ساهم في رسم خطوط رئيسة فيه، واجتمع مرات عدة الى كاتبه ومخرجه والى الممثل الذي اختير لأداء الدور جايمي فوكس، وكان يردد أمامهم جميعاً انه يفضل ألا يموت قبل مشاهدة الفيلم. فإذا أضفنا الى هذا ان الابن الأكبر لراي تشارلز، راي روبنسون تشارلز جونيور، كان في عداد منتجي الفيلم، يمكننا ان نفهم اننا هنا أمام ما يشبه «السيرة الموثقة» لصاحب العلاقة. وهذا ما يعطي الفيلم صدقية كبرى قد تفتقر اليها أفلام كثيرة تتناول سير شخصيات عاشت خلال فترة أو خلال أخرى. بين الصدقية والجودة يقيناً ان هذا يضمن نوعاً ما، صدقية الأحداث المروية، وإن عبر عزوها الى نظرة صاحب العلاقة اليها... لكنه بالتأكيد لا يضمن وصول الفيلم الى أمثل آيات التعبير عن موضوعه. وقول هذا منذ البداية يبدو لنا هنا أمراً ضرورياً، إذ لا بد من المبادرة الى القول ان «راي» حتى وان كان فيلماً نزيهاً حسن النيات، فإنه لا يتمتع، على سبيل المثال لا الحصر بعبقرية فيلم أقدم منه كثيراً ويتناول بدوره عبقرياً موسيقياً، ونعني بذلك «أماديوس» عن حياة موتزارت لميلوش فورمان، ولا حتى بروعة فيلم معاصر لـ»راي» يتناول بدوره حياة شخصية بارزة من شخصيات عالم الاستعراض الأميركي: «الطيار» لمارتن سكورسيزي. «راي» يبدو، من ناحية مستواه، أقرب الى «شابلن» ريتشارد اتنبورو، أو، أخيراً، الى فيلم «دي لافلي» المتحدث عن حياة الموسيقي كول بورتر... وهو في أحسن أحواله قابل لأن يقارن بـ»حياة وموت بيتر سيلرز» الذي عرض في الدورة الأخيرة لمهرجان «كان». ولا نعتقد بأن في هذه التوكيدات إهانة لسمعة مخرج الفيلم تايلور هاكفورد، أو لكاتبه جيمس وات. حتى وإن كان ما يدهش، منذ البداية ايضاً، ان حياة راي تشارلز لا تقل تعقيداً وجاذبية وامتلاءً بالإمكانات الدرامية من حياة موتزارت أو هوارد هيوز أو كول بورتر أو حتى بيتر سيلرز. وهذا يبدو واضحاً، على اي حال من خلال ما يلمح اليه «راي» في كل حين... ليعود بعده الى تحويله مسكوتاً عنه، مكتفياً بأن يكون فيلماً سردياً عادياً في معظم الأحيان. فالفيلم في نهاية الأمر يحاول أن يروي لنا حياة «العبقري» خلال سنواته الصعبة، بين 1948 حين كان في السابعة عشرة من عمره، وأواسط سنوات الستين من القرن العشرين، حين قيّض له أن يبرأ أخيراً من إدمانه على الكحول، ومن المشكلات التي سببها لنفسه جراء علاقاته النسائية، وتحت وطأة ذكريات عذابه وواقع عماه، ورد فعله على كل الذين استغلوه واستغلوا فنه خلال السنوات السابقة. وفي هذا الاطار يبدو الفيلم محدداً زمنياً، مع انه يطل زمنياً، بوفرة، على ما قبل العام 1948، ثم يطّل أخيراً، وبشيء من الاختصار على العقود الأربعة الأخيرة من حياة راي تشارلز... أي العقود التي يوحى الينا ان حياته خلت خلالها من الأبعاد الدرامية، بل التراجيدية، لتستقيم سيرته كفنان عالمي يحقق نجاحات مدهشة ويعيش حياة عائلية مستقيمة، ويصبح نجماً في أعين عشرات ملايين محبيه في العالم أجمع. سمات وعظية انه تأطير منطقي، لفيلم درامي، لكن المشكلة معه انه قد يبدو وكأنه يعطي الفيلم سمة وعظية، أي يجعل منه درساً في الاخلاق، مع نيته الأصلية كانت كما يبدو، تقديم البعد الدرامي سقوط انسان وعودته الى النهوض بفعل ارادة قوية ما. بل ان ثمة في استعادة راي تشارلز، في الفيلم، لذكريات آتية من طفولته وصباه المبكر، في كل مرة يبدو حاضره له فيها مرعباً أو على مفرق طريق ما يعطي سقوطه التراجيدي مبررات سيكولوجية ثانوية المستوى (فرويدية من الدرجة العاشرة). وهكذا، بدلاً من أن تروى لنا حكاية أم راي تشارلز التي عانت ما عانت من أجل طفليها اليتيمين، ثم قررت أن تترك صغيرها راي يعتمد على نفسه ليكف عن ان يكون فقيراً، وبدلاً من أن تروى لنا حكاية غرق أخيه الطفل أمامه، كعنصرين يشكلان جزءاً من سيرته، يروى لنا هذا كله وغيره كفعل تبريري لما يصيبه في حاضره. ومن هنا، على رغم الجمال التشكيلي الفني لمشاهد الذاكرة والحلم، تبدو هذه المشاهد مفتقرة الى المنطق الدرامي. ما ينقذها فقط هو انها تروى لنا عبر وجهة نظر راي نفسه، وليس كجزء من سيناريو عن حياته مطلوب منه ان يقنع المشاهدين. إذاً، ما لدينا هنا هو سيرة حياة راي تشارلز، عبر نظرتين: نظرة الفيلم – وأصحابه – اليها، ونظرة الشخصية المحورية في الفيلم اليها... أو الى الجزء الأول منها: سنوات الطفولة. وحياة راي تشارلز العملية، كما يرويها لنا الفيلم، تبدأ بتلك الرحلة التي يقوم بها من مسقط رأسه الى سياتل عبر فلوريدا، بعد ان تلقى فتات علم ودراسة وراح يتقن العزف على البيانو. كان يشعر انه في سياتل سيبدأ حياة فنية ما من دون أن يدرك، طبعاً، المدى الفسيح الذي ستوصله اليه تلك الحياة. وهكذا تتوالى امام ناظري المتفرج سيرة، معروفة الى حد كبير، وتكاد تشبه سيراً أخرى عدة في عالم فناني الجاز الاميركي من البائسين السود الذين كان عليهم أن يبذلوا جهوداً مضاعفة للخروج من وضعيتهم المزدوجة كأقلية في المجتمع الأميركي: أقلية كونهم زنوجاً وأقلية كونهم – بالتالي – فقراء. المختلف هنا، للوهلة الأولى، ان راي تشارلز كان ينتمي الى أقلية ثالثة، كونه ضريراً... لكنه – وهذه اشارة رائعة في الفيلم – كان ضريراً من دون عصا ومن دون كلب. لماذا؟ لأن حاسة السمع لديه حلت مكان حاسة النظر، الذي فقده منذ كان في السابعة بسبب داء نادر أصابه. وهكذا، يدفعنا الفيلم – وأحياناً في تكرار مزعج – الى ملاحظة كيف ان راي يستمع الى اصوات لا يقيض لغيره الاصغاء اليها. ومن هنا، طبعاً، حسه الموسيقي المذهل. وهذا الحس قاده الى مهنته التي ستبدأ مع بداية الفيلم، فسيعمل عازفاً أول الأمر، ثم يبدأ الغناء ثم التأليف، حتى تبدأ شهرته بالتنامي، وسط عالم يهيمن عليه اللصوص والانتهازيون. بيد ان ما هو أسوأ في حال راي تشارلز، كان ان تنامي شهرته وقوته الموسيقية إنما تزامنا مع بدء ادمانه الهيرويين، وبدء تشعب علاقاته النسائية التي لم يحد منها زواجه بمغنية شابة أنجبت له ذريته وظلت رفيقته حتى النهاية. المشكلة في السيناريو؟ إن هذا كله يروى لنا في الفيلم، عبر لغة بسيطة وهادئة تتمركز أساساً من حول أداء جايمي نوكس، الذي بدا على الشاشة وكأنه راي تشارلز نفسه مجسداً بأفضل ما يكون – راجع مكاناً آخر في هذه الصفحة -، لكن المشكلة هنا تكمن في أن أداء فوكس الجواني والرائع، لم يستغل كما يجب اخراجياً على الأقل، وربما تبعاً لنقصان في السيناريو المكتوب. وهكذا غابت اللحظات التي كان يمكن لنا فيها ان نرصد الارهاصات التي كانت تقود راي الى هذا الموقف او ذاك، الى رد فعل معين، أو حتى الى تصرف سيرافقه ويسيء إليه طوال سنوات عدة من حياته. لقد أجاد الفيلم في الحديث عن استغلال الآخرين للفنان، مالياً ومعنوياً، لكنه جعل من رد فعله على هذا، حين يعيه، فجائياً، ويبدو خارجاً عن السياق التدريجي لردود الفعل وولادتها. بل صوره انتهازياً – من دون أن يدينه على ذلك، على أية حال – خلال عملية انتقاله من العمل لحساب شركة باسفيك لانتاج الموسيقى، الى العمل لحساب شركة «آي بي سي – بارامونت». غير ان ما لا بد من قوله هنا هو ان هذا كله لم يقلل من أهمية هذا الفيلم، حتى وإن كان منعه من أن يكون فيلماً عبقرياً يليق بالفنان الراحل. ومع هذا، فإن الأساسي في الفيلم، فن راي تشارلز، قدم بطريقة جيدة... بل تكاد تقترب في جودتها من المستوى الذي كان فيم فندرز، مثلاً، قد وصله في فيلم حققه قبل أعوام قليلة، لحساب مارتن سكورسيزي، عن تاريخ موسيقى الجاز. إذ، في هذا الاطار، قدم «راي» صورة مفصلة – بل رائعة – للاضافات التي أضافها راي تشارلز الى شتى أنواع الجاز، حين مزج الموسيقى الدينية («غوسبل») بالجاز الراقص و»الكاونتري» بموسيقى «السادل» (الروحية)، كما قدم في السياق نفسه، صورة لافتة للاحتجاجات المتزمتة التي قامت مجابهة استخدام تشارلز لموسيقى الغوسبل في شكل دنيوي. وعلى هذا النحو، وضمن اطار هذا كله، يجد المتفرج – الملم على الأقل – نفسه أمام مشاهد ولحظات تصور ولادة ومسار بعض أشهر أغاني راي تشارلز، منذ «حصلت على امرأة» – التي كانت أول اغنية كبيرة ناجحة له في العام 1954 – وصولاً الى «أنت دائماً في خيالي» أواسط سنوات الستين، مروراً بـ»اطلق سرح قلبي» و»اضرب في طريقك يا جاك» وغيرها من تلك الروائع التي رافقت أجيالاً بأمرها معطية الجاز وغناءه نفساً جديداً وشعبية واسعة. وفي هذا الاطار لافت أن يكون الفيلم قد توقف طويلاً عند واحدة من أغاني راي تشارلز الأساسية «جورجيا أون ماي مايند» ليذكرنا بأن تشارلز قد كتب هذه الأغنية تحية لمسقط رأسه، ولاية جورجيا، التي كانت من أكثر الولايات الأميركية عنصرية، الى درجة انها منعته بمرسوم من الحاكم، من الغناء فيها سنوات سنوات، لمجرد انه احتج ذات يوم – وبعد ان كان صار في أوج شهرته – لحجز مقاعد حفلته كلها للبيض. ويبدو ذو دلالة هنا ان يكون واحد من آخر مشاهد الفيلم هو ذاك الذي تتراجع فيه الولاية عن قرارها، وتعيد الى راي تشارلز اعتباره ومواطنيته، بل تعتبر «جورجيا أون ماي مايند» نشيدها الوطني... يبدو هذا ذو دلالة، حتى وإن كان فيلم نفسه، في مضمار العنصرية ومعاناة راي تشارلز منها، يبدو وكأنه غفل عن الأمر طوال الفيلم، ليعود ويتذكره في ذلك المشهد النهائي، الذي قد لا ينتبه كثر الى أن «ممثله» هنا كان راي تشارلز نفسه، لا قرينه جايمي فوكس. مهما يكن من أمر، يأتي فيلم «راي» بعد عام من موت راي تشارلز، ليعيد الى النفوس ذكراه، ويحكي قصته ويحيي اغانيه وحكاياتها (هل تراها ماتت أبداً؟!)... وليضيف الى سينما السيرة، عملاً جديداً يختلط فيه العائلي بالشخصي، والفني بالسياسي، والنفسي بالتبريري، في بوتقة واحدة قد يكون من الصعب القول انها انتجت فيلماً استثنائياً، ولكن من السهل – في المقابل التأكيد – انها انتجت فيلماً يشاهد بيسر، ويهز المناكب والركب في الصالات المظلمة، وقد يحدث له ان يسيل بعض الدموع... في وقت يتلقى فيه متفرجوه درساً فحواه: ان الادمان هو الشر المطلق، لكن في إمكانكم التخلص منه... واسألوا راي تشارلز... الحياة اللبنانية في 18 مارس 2005 |