فيلم زياد دويري الجديد يبدأ عروضه التجارية: «ليلا قالت هذا» وخلصت شيمو من مصيره الرتيب باريس - أرليت خوري |
بضعة شوارع في حي فقير، يتدلى الغسيل على شرفاته وتتردد في ارجائه ألحان الموسيقى العربية او النشرات الإخبارية لقناة «الجزيرة» ، تشكل العالم الذي يعيش فيه شيمو (الممثل محمد خواص) وأصدقاؤه الثلاثة، وجميعهم من اصل عربي، في فيلم المخرج زياد دويري الجديد Lila dit ca (ليلا قالت هذا). افراد المجموعة شبان ضائعون، ايامهم ولياليهم فارغة ومتشابهة يملأونها عشوائياً ومزاجياً، الى ان حلت ليلا (الممثلة فاهينا جيوكنتي) الفرنسية الشقراء للإقامة في الحي، فاضطربت حياة المجموعة الصغيرة. «هذه الفتاة كفيلة بالتسبب بجهاد عملاق»، هكذا علق احد افراد المجموعة عندما شاهد ليلا تجوب شوارع الحي على دراجتها الآلية تحت اشعة الشمس التي تنعكس على شعرها وبشرتها مضفية عليها هالة من النقاوة والشفافية. وما ان تظهر ليلا على الشاشة، حتى يحدث تحرك مفاجئ في الفيلم، فتصبح الفتاة محط اهتمام المجموعة وتحديداً زعيمها المفترض مولود (الممثل كريم بن حرو) الواثق من قدرته على الإيقاع بها جاهلاً ان اهتمامها منصب على صديقه شيمو. الفتاة - اللغز تبدأ المجموعة بمطاردة ليلا التي لا تبدي اي اكتراث بل تصر على رفض الحديث مع مولود او حتى النظر إليه، فيما نراها من جانبها تطارد شيمو. في البداية لا نعرف شيئاً عن ليلا، فهي تمثل لغزاً تاماً، فقط هي اختارت شيمو وصممت على ملاحقته لتسرد عليه قصصها وهواجسها الجنسية وكل ما يدور في مخيلتها، بكلام مباشر واستفزازي. لماذا شيمو؟ لأنه مختلف عن افراد المجموعة من حيث شخصيته ونظرته للآخرين وتعامله مع نفسه ومع ما يدور من حوله، اضافة الى تمايزه عنهم بمتابعته دراسته، وهذا ما أدركته ليلا على الفور. فعندما تذهب المجموعة للسطو على احد المتاجر، يتهافت الجميع على واجهة الحلى، فيما يقف شيمو ساهياً امام كومة من الكتب. لكن شيمو غير واعٍ لاختلافه، ولذا فهو يتساءل عن سبب اختيار ليلا له ويقول: «أنا لست سوى عربي داكن البشرة وأسود الشعر». وميزة شيمو هذه مردها الى مشاعره المتضاربة حيال ليلا، التي لا يسعه عندما ينظر إليها الا ان يرى ملاكاً بالفعل، ولكنها لا تفتح فمها سوى لتبادره بأحاديثها الغريبة عن جسدها ومغامراتها الجنسية وما تحبه وتتمناه لنفسها ولمن تحب. يتأرجح شيمو الرقيق والدائم الشك بنفسه بين الريبة حيال ليلا وحبه لها، فهي حدث في حياته، هو الذي لم يسبق لأحد ان تصرف معه او تحدث إليه على هذه الطريقة لذا لا يحكم عليها بل يفسح لها المجال للاسترسال. يخفي شيمو قصته مع ليلا عن اصدقائه لكن حيرته تزداد، من هي ليلا؟ هل هي كما يقول مولود مجرد عاهرة تتقن الإغواء ويجب التصرف معها كعاهرة؟ وإذا كانت كذلك لماذا ترفض مولود وتصده دائماً؟ ولماذا تعامله هو بطريقة مختلفة؟ ان ليلا تتحدث بطريقة غريبة ودائماً عن الشيء نفسه، الهواجس الجنسية التي تجول في خاطرها، لكن احاديثها هذه لا تثير شيمو، بسبب البراءة التي تلفها، فكلامها ينطلق تلقائياً وهي تتحدث عن رغباتها كمن يتحدث عن صحته او حال الطقس. اسقاطات الأفق المغلق وعلى مدى الفيلم يعيش شيمو وسط تضارب يتصاعد تدريجاً، بين نظرته الى ليلا ونظرة اصدقائه العربية الذكورية، والتي تعبر عن حقدهم على ما تجسده هذه الفتاة الغربية الغريبة التي يسقطون عليها اوهامهم وأحكامهم المسبقة ويحملونها المسؤولية عن الأفق المغلق امامهم. هذا التضارب يولد نوعاً من الخوف لدى شيمو الذي لا يعرف ما تقصده ليلا من خلال ملاحقتها له واستفزازه وإثارته، فيجد نفسه عند مفترق، فإما ان يتجه نحو ليلا التي لا يعرف اين ستقوده، وإما ان يعود الى المجموعة التي ابتعد عنها، في الآونة الأخيرة. يتخبط شيمو بين الخيارين، خصوصاً ان طريقه الى ليلا حافل بالعقبات الناجمة عن محيطه وأصدقائه ووالدته التي ترى فيها «فرنسية» مشابهة لتلك التي هجرها زوجها لأجلها. لكنه في النهاية يحسم امره، ويصغي لاختلافه، خصوصاً انه ادرك ان ليلا ليست سوى فتاة حرة بالمطلق اختارت إغواءه على طريقتها الملتوية لأنها تحبه. فيغادر مدينته والمكان الذي راوح فيه ليتعلم مهنة الكتابة التي طالما كان يحلم بها، وينتهي الأمر بخلاص شيمو بفضل ليلا التي برزت امامه ذات يوم وغيرت مصيره، تماماً كالشجرة التي نرى في بداية الفيلم انها تنبت من الإسمنت في الحي البائس الذي يقيم فيه. اقتبس زياد دويري قصة فيلمه عن كتاب يحمل العنوان نفسه Lila dit ca كان أثار في باريس جدلاً واسع النطاق لدى صدوره باسم مستعار هو شيمو ولا يزال اسم كاتبه الحقيقي مجهولاً حتى الآن. وأبدى دويري الذي كتب ايضاً السيناريو بالاشتراك مع جوييل توما، دقة فائقة في اختياره لجيوكانتي، التي لعبت دور ليلا، خشية سقوط هذا الدور في ابتذال كان من شأنه مع اختيار آخر ان يفقد الفيلم كل جماليته. الحياة اللبنانية في 4 فبراير 2005 |
«السقوط»: صورة الطاغية في حنانه المفرط! باريس – ندى الأزهري كان لافتاً الحضور الكثيف لجمهور شاب لمشاهدة الفيلم الألماني "السقوط" للمخرج أوليفييه هيرشبيغل. ويظهر الفيلم الأيام الأخيرة في حياة هتلر والحصار الذي كان مطبقاً عليه وخسارته الحرب التي قادته إلى الانتحار. كما يبين الوجه الآخر لهتلر. الوجه البشري لوحش تسبب في قتل الملايين. وقد أثار هذا الفيلم حينما عرض في ألمانيا جدلاً واسعاً ل اسيما مع حلول ذكرى إحياء المحرقة البولندية, والاحتفال بمرور ستين عاماً في 27 كانون الثاني (يناير) الجاري على تحرير معسكر أوشفيتز في جنوب غربي بولندا. تشدنا الأحداث التاريخية في هذا الفيلم منذ اللحظات الأولى, فعدا عن أسلوب المخرج المتميز والمتمكن, يلعب الفضول دوره للتعرف إلى وجه جديد لهذا الطاغية. وجه قد تشكل معرفته سلاحاً ذا حدين, وقد يكون فيه مكمن الخطر. يرسم الفيلم صورة لهتلر الذي لم يكن يقبل بكلمة "لا" من أي طرف كان, وهو محاصر في ملجأه المحصن تحت الأرض "بانكر" فيما يقترب الروس ويتهيأون لدخول برلين. ونراه من خلال أعين فتاة شابة تتقدم لمنصب السكرتيرة الشخصية له. وكان عنصر التشويق على أشده منذ المشاهد الأولى للفيلم حينما يفتح الباب ليخرج منه هتلر لمقابلة المرشحات. فكأن المتفرج هو هذه السكرتيرة التي تتحرق لرؤية هذا الذي طبقت شهرته الآفاق والتي تتهيب هذه الرؤية في الحين نفسه. بدا فوراً لطيفاً متفهماً, ومفاجئاً ليس للسكرتيرة فحسب وإنما للمشاهد. وتتتابع مشاهد من حياته اليومية التي يعيشها مع عشيقته التي أصبحت زوجته, وقادة أركانه المخلصين له لا سيما غوبلز من دون إغفال ذكر أولئك الذين تخلوا عنه. ويركز الفيلم على كل دقائق الشخصية الداخلية والخارجية, الجسدية والفكرية مبيناً انفعالاتها ومبرزاً تفاصيلها وتناقضاتها, بمرضها وقوتها, تسلطها وضعفها, خيبتها وغضبها, علاقاتها من خلال مواقفها وقراراتها والعبارات النارية التي تصبها على المحيطين " لم أدخل أكاديميات(مثلكم) ولكنني غزوت أوروبا كلها" يقول هتلر وهو يعنف أركان حربه والهزيمة تقترب. أو حينما يصرخ في معرض رده على الذين توسلوه ليترك برلين كي يدخلها الجيش الروسي من دون معارك وتتم المحافظة على أرواح المدنيين "ليس مهماً تعرض الشعب الذي يخسر الحرب للهلاك لأنه لا يستأهل أكثر من ذلك". ما يبرزه الفيلم من نواح في شخصية هتلر: إصراره على الصمود, حزمه في اتخاذ القرارات, لباقته بل وحنانه مع سكرتيرته, عشقه لايفا براون, عفوه عن أحد وزرائه الذي لم يطبق أوامره بالحرف... ومن مواقف مرافقيه المتسمة بالشجاعة والالتزام والإخلاص حتى اللحظات الأخيرة على رغم اقتراب النهاية المحتومة. وكل هذا يحمل المتفرج على التوقف طويلاً والتأمل أطول. ففي مقابل هذا الوجه "البشري", لا يبدو الوجه الآخر" الوحشي" على القدر نفسه من الأهمية. ربما لأنه معروف للجميع, ولأن سعي المخرج منصب في الأساس على إبراز الوجه البشري لهتلر. وفي تبريره لذلك يقول المخرج في مقابلة معه "الاستمرار في إعطاء هتلر ملامح وحش غير واقعي أخطر بكثير من كشف وجهه البشري". لكن, وعلى رغم اعتماد الفيلم الواقع والحقيقة التاريخية فمع شخصيات على هذا القدر من الخطورة, يجب اتباع الحذر الشديد عند الحديث عن جوانبها "الإنسانية". لأن التذكير بوحشيتها بل وجنونها يجب أن يبقى متوازناً وحاضراً بالمقدار نفسه. ولم تكن بعض المشاهد لبرلين المحاصرة وسقوط المدنيين ومعاناتهم جراء قرارات الديكتاتور التضحية بهم كافية لموازنة الصورة الأخرى لهتلر "الإنسان" فهي التي طغت ورجحت, إذ بدت تلك المشاهد ضعيفة أمام قوة شخصية هتلر وحضوره الطاغي وتأثيره السحري على من حوله حتى اللحظة الأخيرة. كما أن إبراز الفيلم لمواقف المحيطين به والذين آمنوا به "كقائد" مثالي يحمل كل الخير والمنفعة لبلده(!) قد يثير الإعجاب والسؤال عن الذي دفعهم حقاً إلى الإيمان بهتلر والتعلق به هذا التعلق "المجنون"؟ بل تشبث يدفع بأم, زوجة غوبلز, للتضحية بأطفالها وتسميمهم " لأن العالم لن يستأهل أن يعاش فيه بعد هتلر!!". شخصية هتلر بدت هنا شديدة التعقيد برع الممثل السويسري برونو غانزنز في أدائها الى درجة كبيرة ما جعل البعض يتهمه بأنه أضفى" أكثر مما ينبغي من الإنسانية" على شخصية الزعيم النازي. وقد عبر المخرج كلود لانزمان مخرج فيلم المحرقة عن ذلك أحسن تعبير في معرض هجومه على الفيلم " حينما نشاهد هتلر في هذا الفيلم, نود الاقتراب منه وتفهمه. علينا ألا نحاول تفهم مثل هؤلاء. إن الجرائم التي ارتكبها تتخطى كل المبررات التي يمكننا إيجادها له". الحياة اللبنانية 4 فبراير 2005
|