نشرت هذه الدراسة في مجلة هنا البحرين في أربع حلقات

من 04 إلى 25 نوفمبر 1992

 
 
 
 
 
 
 
 
إضغط للذهاب إلى مهرجان الصور الخاص بالشخصية
 
       

       
 
 
 

 

مخرج مصري، ولد في عام 1934، ودرس في معهد باريس للسينما وتخرّج منه في عام 1965، وتميز منذ عودته إلى مصر بعشرات الأفلام، منها: (المستحيل، البوسطجي، إمبراطورية ميم، أبي فوق الشجرة، ثرثرة فوق النيل). توفي في عام 2003 عن عمر يناهز 69 عامًا.

تاريخ الميلاد: 17 اغسطس 1934    تاريخ الوفاة: 23 مارس 2003

 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 
 
 
 
 
 

 
       

       
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 
 
 

نحن هنا أمام حالة خاصة جداً، تتمثل في المخرج حسين كمال، الذي يعد من أهم مخرجي السينما التقليدية التجارية المصرية. ومما لا شك فيه أن حسين كمال مخرج مبدع وموهبة فنية كبيرة، خسرته السينما الجادة، بعد أن أهداها فيلمه (البوسطجي)، والذي يعد من أهم عشرة أفلام قدمتها السينما المصرية على مدى تاريخها كله.

في أفلامه الثلاثة الأولى (المستحيل، البوسطجي، شيء من الخوف)، قدم حسين كمال سينما جديدة، أثارت اهتمام النقاد وبشرت بولادة مخرج كبير. إلا أن توقعات النقاد قد خابت بعد أن حصلت انتكاسة كبيرة لهذا المخرج، بعد إخراجه فيلم (أبي فوق الشجرة)، حيث اختار السير في تيار السينما التجارية، وآثر أن يكون مخرج شباك على حساب موهبته وفنه. ومن ثم قدم أفلاما كثيرة لا تمت إلى أسلوبه السينمائي المتميز الذي بدأ به مشواره السينمائي.

قال حسين كمال ذات مرة:

(...هناك سؤال مهم، هل نريد عمل أفلام من أجل المكسب، أم نريد رسالة ثقافية من خلال الفيلم؟ إنه لا يمكن الجمع بين الثقافة والهلس. ولكن حسين كمال تراجع عن فكرته هذه ليتشبث بالنقيض، أي سينما الهلس (على حد تعبيره) وهي السينما التي تضع شباك التذاكر مقياساً للنجاح...).(1)

وهذه المقدمة ربما تكون قاسية ولكنها الحقيقة، لذلك سيكون من الأفضل أن نتتبع مسيرة حسين كمال السينمائية كي نكون صادقين في رأينا، والذي بني على مشاهدات ومتابعات لجميع أفلام هذا المخرج.

بدأت ميول حسين كمال الفنية منذ الصغر - كما يقول - بعد أن تعود أن يذهب إلى دار السينما مع العائلة، وكان إحساسه بالخوف والرهبة والانبهار من هذا العالم الغريب، قد أثر في شخصيته. وعند بلوغه مرحلة المراهقة وجه اهتمامه نحو السينما والموسيقى. وقد حاول بعد تخرجه من المدرسة دراسة السينما، إلا أن والده أجبره على دراسة التجارة، رغم مقاومته في الدفاع عن ميوله الفنية. وبعد حصوله على دبلوم التجارة المتوسطة من مدرسة الفرير، سافر إلى باريس لتحقيق حلمه القديم، والتحق بالمعهد العالي للسينما (الأديك)، لدراسة الإخراج، حيث تخرج منه عام 1954. وبعد عودته إلى مصر فوجئ بأن (...مجتمع السينما في مصر - كما يقول حسين كمال نفسه - كان مغلقاً على مجموعة بعينها من المخرجين والمساعدين، وكانت فترة عصيبة شعرت خلالها بإحباط ويأس لا مثيل لهما...).(3)

اكتفى حسين كمال خلال هذه الفترة بتصميم ملابس وديكورات فندق هلتون النيل. حتى جاء افتتاح التليفزيون عام 1960، ليقدم أوراقه ويجتاز امتحان القبول بتفوق. وقد قبل أيضاً لكونه دارساً للسينما ويجيد خمس لغات. حيث أرسل إلى بعثة تدريبية في إيطاليا، اكتسب خلالها الإحساس بطبيعة العمل التليفزيوني. وعند عودته ثانية عمل مخرجاً للبرامج منها (مجلة الشباب، مشاكل وآراء). بعد ذلك أخرج عدة تمثيليات تليفزيونية منها (الخط ورايا ورايا) و(البديلة) و(لمن تحيا) و(رنين) التي فازت بالجائزة الأولى في مسابقة داخلية بالتليفزيون عام 1963، ثم تمثيلية (كلنا أخوة) و(الفخ) وغيرها. وأهم أعماله التليفزيونية هو فيلم (المنعطف) عن قصة لنجيب محفوظ، والذي فاز بالجائزة الأولى للدراما في مهرجان التليفزيون عام 1964. حيث لفت هذا الفيلم أنظار النقاد والمهتمين بإمكانيات حسين كمال كمخرج تليفزيوني متمكن.

في الوقت نفسه الذي أخذت مؤسسة السينما دورها في مجال الإنتاج السينمائي، وفتحت الطريق أمام المخرجين الشباب، حيث كانت فرصة حسين كمال بإخراج أول أفلامه (المستحيل) من خلال القطاع العام. يقول حسين كمال:

(...مهما كان نجاحي في هذا الفيلم باقياً ويشاد به إلى وقتنا هذا، فإني لن أنسى فضل أستاذي الكبير صلاح ابوسبف الذي أعطاني فرصة عمري لأقدم هذا العمل، والذي جاء بكل المقاييس منعطفاً جديداً نحو السينما كفن قبل أن تكون تجارة!!...).(4)

 

المستحيل - 1965

قدم المخرج حسين كمال في فيلم (المستحيل ـ 1965)، عن قصة مصطفى محمود، مشكلة اجتماعية نفسية بأسلوب فني جيد وجديد على السينما المصرية آنذاك. حيث لجأ فيه إلى تطبيق خبراته الفنية التي اكتسبها من دراسته وعمله في التليفزيون. وقدم فيلماً بطله هو التصوير السينمائي. حيث اهتم بالناحية التشكيلية فيه، من تقسيم الكادر وتوزيع الظل والضوء في المشه. وكان مدير التصوير عبدالعزيز فهمي هو من ساهم بشكل رئيسي في تجسيد ما أراده حسين كمال.

بطل المستحيل (كمال الشناوي) يعاني من سأم في حياته التي رسمها له والده.. سأم من كل شيء، من بيته الذي تخيم عليه الكآبة والحزن، من زوجته (كريمة مختار) وعقلية المرأة العربية التقليدية المتخلفة. يعيش في رتابة الواقع المحيط به، ويحاول الخروج منه بأية وسيلة. يتصل بعلاقة بزوجة جاره (نادية لطفي) التي أخذت مكان أختها بزواجها هذا، والذي كان خارجاً عن إرادتها. وتعيش أيضاً حالة نفسية عصيبة. إنهما يلتقيان وكل منهما يعيش هذا السأم، إنها علاقة عاطفية غير طبيعية، فالمأساة التي يعيشانها هي التي جمعتهما. فكل منهما لم يختر حياته، تلقاها جاهزة ولم يساهم في خلقها. يحاولان أن يتغلبا على كل هذا إلا أنهما يصدمان بالمستحيل، بالواقع المفروض على كل منهما.

كان حسين كمال مصراً على الدقة في التفاصيل، بمعنى أنه اهتم اهتماماً كبيراً بتفاصيل الشخصيات والإضاءة والديكور والإكسسوا، حيث قال إن هذا يمكنه من (...التركيز على الإطار الذي توضع فيه الشخصية، على أن الشخصية ليست إلا عنصراً من عناصر التعبير في الفيلم ولابد من وجود تكامل بين هذه العناصر جميعاً. وأنا لا أهتم باللقطة فحسب بل بالكادر نفسه وليس اهتمامي من الناحية الجمالية كما يقول النقاد عني، فأنا لست مخرج كادرات جمالية، وإنما اهتمامي ينصب في الأساس على معطيات الكادر الدرامية. هذه العناصر جميعاً التي تدخل في بناء الكادر أو اللقطة، موظفة لتقول شيئاً محدداً...).(1)

وهذا ما نجح حسين كمال في تجسيده.. فنحن نلاحظ إن تفاصيل حجرة النوم الخاصة بالبطل وزوجته، تشعرك بمدى انهيار الحياة الزوجية التي يعيشها البطل. كذلك الإضاءة في الحجرة والتي تشعرك بالكآبة، وعند فتح النافذة، نلاحظ اندفاع ذلك الضوء الساطع والحاد، ليعطيك الإحساس بأنك في صيف حار ومقبض، مما يجسد الإحساس لدى الزوج بالضيق والرغبة في الهرب. إن جميع العناصر من ديكور وإضاءة وإكسسوار وزوايا التصوير، ساهمت مجتمعة في تجسيد الإحساس بانهيار الحياة الزوجية بين البطل وزوجته.

أما حجرة نوم سيدة المجتمع المغامرة (سناء جميل) فيقول عنها حسين كمال: (...كانت تشبه الغابة بقوانينها الخاصة، هناك ديكور فخم جداً لكنه خاو.. خال من الانطلاق، فراغ كبير هي ضئيلة في داخل، وكانت حول السرير تماثيل أفريقية، كل تمثال منها يمثل علاقة من علاقاتها، وهكذا يمكن أن ندرك بأن علاقاتها هذه تتصف بالبدائية والهمجية رغم إدعائها التحرر والانطلاق...).(1)

ورغم تحمس حسين كمال لفيلمه (المستحيل) آنذاك.. إلا أنه بعد أن انخرط في الإتجاه التجاري، هاجم الفيلم، منكراً بذلك تلك المرحلة الجادة من مسيرته الفنية.. ففي رد على سؤال عن رأيه في الفيلم، قال: (...وجدته كارثة بشعة.. حلم قديم يرتبط بفكرة ثابتة عن السينما التعبيرية الألمانية.. شخصيات غريبة تتحرك في عالم غريب، سناء جميل في غابة.. نادية لطفي تقول كلاماً غريباً.. فقط كريمة مختار التي تجاوبت معها.. لم أكن أعرف كيف أصف إحساسي، إلا الآن!!...).(2)

 

البوسطجي - 1968

رغم مرور أعوام طويلة على إنتاجه، يبقى فيلم (البوسطجي - 1968)، علامة بارزة في تاريخ السينما المصرية.. فيلم يعد ضمن كلاسيكيات السينما المصرية. وهو فيلم يحكي بصدق عن ذلك التخلف الذي تعيشه القرية المصرية في تلك الفترة. في ثاني تجربة إخراجية للمخرج حسين كمال، وهو الفيلم الذي قدمه كمخرج للوسط الفني والسينمائي، ليصبح فيما بعد من أبرز أعمدة الإخراج في مصر.

يحكي الفيلم عن عباس (شكري سرحان)، الشاب القادم من القاهرة لاستلام وضيفته كناظر لمكتب البريد في قرية "كوم النحل" في الصعيد. والفيلم يطرح عدة خطوط درامية منسجمة ومتداخلة في بعض، إلا أن هناك خطان رئيسيان مهمان.. الأول يخص البوسطجي القاهري، والذي يعيش صراعاً حاداً بين تصوره للواقع الاجتماعي وتصور أهالي القرية المتخلف لهذا الواقع. فهو يعيش في عزلة اجتماعية قاسية ومملة، فرضها عليه أهالي القرية. وفي عزلته هذه، يحاول كسر حدة الوحدة والملل، فيلجأ إلى فتح رسائل أهل القرية، يدفعه إلى ذلك حرصه الشديد لمعرفة ما يدور في هذه القرية.

أما الخط الدرامي الثاني، فهو قصة حب بين فتاة من القرية (زيزي مصطفى) وبين شاب من خارجها، لذا تكون الرسائل هي حلقة الوصل الرئيسية بينهما. ومن خلال إطلاعه على رسائل القرية، يفاجأ البوسطجي بهذه العلاقة ويتعاطف معها كثيراً. إلا أنه، وبسبب خطأ غير مقصود منه، يتسبب في انقطاع خط الاتصال بينهما، وذلك بعد أن أثمرت هذه العلاقة جنيناً غير شرعي، فتكون نتيجة ذلك مقتل الفتاة على يد والدها الصعيدي (صلاح منصور)، لمحو هذا العار. لينتهي الفيلم بلقطات قوية ومعبرة لعباس البوسطجي وهو يبكي ويقطع الرسائل وينثرها في الهواء، وذلك لإحساسه العميق بالذنب لحدوث هذه الفاجعة المأساوية.

قصة الفيلم مأخوذة عن قصة للأديب يحيى حقي بعنوان "دماء وطين"، إلا أن السيناريو استطاع أن يحولها إلى فيلم سينمائي متماسك، به كل مقومات الفيلم الناجح ، وإن الإضافات فيه مدروسة بعناية، ولا تشعر المتفرج بالإطالة أو الافتعال.

يتحدث حسين كمال في هذا الصدد، فيقول: (...أنا حريص باستمرار على إبراز فكرة المؤلف ثم إضافة فكري الخاص. وفي البوسطجي قلت وجهة نظري، في الجملة التي جاءت مع المشهد الأخير "مملكة ثانية".. ولكن لا بد أن أقدم يحيى حقي، وإذا كانت لدي فكرة أخرى أكتبها وأقدمها للناس. وعموماً فإن اختيار موضوع معين والإحساس به ثم إخراجه، يعني إنني متفق معه...).(1)

أما عن كتابة الفيلم، فيقول: (....من المؤكد بأنني وجدت نفسي فعلاً في فيلمي الثاني (البوسطجي)، فبعد عامين من التفكير الطويل والتأمل العميق، كان هذا الفيلم مثل لحظة تنوير، فقد كتبته مع صبري موسى ودنيا البابا، دون علم صلاح أبوسيف، ثم ذهبت إليه، وقلت له لن أصنع إلا هذا...).(2)

بفيلم (البوسطجي)، استطاع حسين كمال أن يحقق استخداماً متقناً للمونتاج بقيادة المونتيرة رشيدة عبدالسلام، والتي عملت معه في أغلب أفلامه فيما بعد. كذلك استفاد كثيراً من التفاصيل الصغيرة والشخصيات الثانوية، في إغناء الخط الدرامي الرئيسي وتعميقه. وحقق أيضاً توازناً موفقاً وملحوظاً بين السيطرة على أدواته الفنية والتقنية كمخرج، وبين المضمون الذي يطرحه الفيلم.

ففي بيت البوسطجي، الذي استأجره من العمدة، وكان مهجوراً في السابق.. هذا البيت كان يمثل سجن البوسطجي في القرية. فالبيت واسع جداً، إلا أن جدرانه متهدمة، والمكان مشبع بالرطوبة، مما ساهم في إحساس البوسطجي بالكآبة، وانزوائه في ركن من أركان هذا البيت الكبير. كما إن الصور الإباحية التي لصقت على الجدران، ومشهد الغازية، إضافة إلى هذا الجو القذر الذي يعيشه، كل هذه العناصر تمثل حرمانه الاجتماعي والجنسي، وتحول هذا الحرمان إلى وسيلة خاطئة للإشباع. كذلك مكتب البوسطة، بتكوينه وشباكه الحديدي، يمثل سجناً آخراً والبوسطجي سجيناً فيه.

أما مشهد الاغتصاب في برج الحمام، فيتحدث عنه حسين كمال، ويقول: (...أنا أنفذ اللقطة أو المشهد ليعطي معنى محدداً.. فمثلاً عندما قرأت مشهد البرج في السيناريو أول مرة، كنت أسمع طبولاً تدوي في المكان، وبنيت تصوري للمشهد على أساس توظيف الكاميرا والموسيقى والديكور والإكسسوار لخدمة مضمون محدد. فمع الطبول قدمت سلامة ومريم بثلاث زوايا رئيسية مختلفة، تهدف إلى تعريف المتفرج بالمكان الذي يجمع بين الحمام الأبيض رمز البراءة والطهر، في حركة متواصلة من أعلى ومن أسفل، ثم الرجل والفتاة على أرض البرج، وكان الميزانسين مرسوماً، في محاولة لعجنهم مع بعض، أو تذويبهم داخل بعض. ثم بزاوية منخفضة مع صرخة الاغتصاب، وتسكن الحركة فجأة، لتبلور موقف الرفض والإدانة...).(1)

ثم يأتي مشهد المجلات الإباحية في مكتب البوسطة، والذي أعطى فكرة سيئة لأهالي القرية عن البوسطجي، واستغلال هذه الفكرة لتحطيم شخصيته. وبالرغم من رفضهم لما في هذه المجلات ظاهرياً، إلا أن أمنيتهم هي ما بداخلها.. هنا إبراز لذلك التناقض في شخصياتهم.

يتحدث حسين كمال عن أسلوبه السينمائي، فيقول: (...أسلوبي أستمده من العمل نفسه، آخذ المشهد وأذوب فيه، فالمشهد هو الذي يفرض عليّ الطريقة التي أنفذها به.. العمل المكتوب هو الذي يفرض ويحدد أسلوب المعالجة، حيث إنني أترك نفسي له تماماً...).(1)

عندما أراد حسين كمال إخراج فيلم (البوسطجي)، سافر إلى أسيوط وأقام ثلاثة أسابيع هناك، إضافة إلى ذهابه إلى قرية النحيلة، والتي تبعد ساعة ونصف عن أسيوط، يراقب ويتعايش مع جو الفيلم قبل البدء في الإخراج. فقد كان حسين كمال شديد الحرص على إظهار القرية بشكل واقعي صادق، ومختلف عن الشكل الذي ظهرت فيه فيما سبق من أفلام قدمتها السينما المصرية. كذلك استطاعت شخصيات الفيلم أن تقنعنا بمصداقيتها وذوبانها في هذا الواقع، وكانت موازية لكافة العناصر الفنية الأخرى.

هنا.. ليس بوسعنا إلا التأكيد على أن حسين كمال في فيلمه (البوسطجي)، استطاع أن يحطم بعض قيود السينما التقليدية ـ في الستينيات من القرن الماضي، وتقديم شكل فني وسينمائي جديد ومغاير، قد وضعه في مصاف المخرجين المجددين آنذاك.

 

شيء من الخوف - 1969

الفيلم الثالث في مسيرة المخرج المصري حسين كمال، هو فيلم (شيء من الخوف ـ 1969).. وهو الفيلم الذي أنهى به مرحلة من أخصب مراحله الفنية في مشواره السينمائي الطويل.. ألا وهي المرحلة التجريبية. وبهذا الفيلم ـ أيضاً ـ ينهي حسين كمال تعاقده مع القطاع العام، ويتجه للعمل مع القطاع الخاص، وذلك لتنفيذ أفلام تستهدف تحقيق أعلى الإيرادات، وتخاطب الغرائز والرغبات السهلة لدى قطاع كبير من الجمهور.

خلال مرحلته الفنية الأولى (التجريبية)، نجح حسين كمال في كسر وتحطيم بعض القواعد التقليدية للسينما المصرية، وتقديم شكل جديد وضعه في مصاف أهم المخرجين المصريين آنذاك. ففي فيلمه (شيء من الخوف) قدم حسين كمال أسلوباً فنياً مبتكراً، حيث لجأ الى أسلوب جعل من الفيلم أشبه بالحكاية الشعبية، علماً بأن الفيلم مأخوذ عن قصة قصيرة للكاتب ثروت عكاشة.

حكاية الفيلم تدور في فلك مقاومة الظلم والطغيان والجشع، من قبل رجال الإقطاع في صعيد مصر.. من خلال علاقة الطفلين، عتريس (محمود مرسي)، وفؤادة (شادية)، اللذان يعيشان في قرية يسيطر عليها عتريس الجد (يقوم بدوره محمود مرسي أيضاً). الطفلان تجمعهما البراءة والصحبة وكره العنف والدم رغم محاولات عتريس الجد لإعداد حفيده ليكون الرجل القوي والمسيطر من بعده، وتمر السنوات ويكبر الطفلان لتتحول الصحبة إلى حب يصطدم مع التحولات الجذرية التي طرأت على شخصية عتريس بعد مقتل جده بين يديه مفتديه بحياته. لتكون هذه نقطة التحول عند عتريس لتحديد طريقه في السيطرة على القرية وأهلها والإنتقام لمقتل جده. هنا تكون الموجهة بين عتريس وفؤادة، في التصدي لهذا الظلم، حيث تقف فؤادة في وجه عتريس متحدية ظلمه.. عندها يقرر عتريس الزواج من فؤادة واحتواءها تحت مظلته، حتى مع رفضها له، وذلك بتزوير الزواج. وبعد انتشار خبر زيف هذا الزواج وبطلانه، يقرر الأهالي مجتمعين، مواجهة عتريس في مسيرة ضخمة نحو قصره، حاملين ضحاياه معهم. وينتهي الفيلم باحتراق عتريس داخل قصره، بعد هجوم الأهالي بمشاعل النار على القصر.

لقد كان حسين كمال ذكياً عندما لجأ الى أسلوب الحكاية الشعبية مستخدماً بعض الأغاني، التي توزعت بين ثنايا الفيلم، للتعليق على الأحداث، حيث أكسبت الفيلم نكهة خاصة جعلت المتفرج يتفاعل معه ويتحمس له حتى النهاية. هذا من جهة، ومن جهة أخرى حاول حسين كمال تغطية ما في القصة من مبالغات في المواقف الدرامية، معتقداً بأن الموقف بمجمله، وليس بتفاصيله، هو هدف الفيلم، على عكس ما كان في فيلميه السابقين (المستحيل، البوسطجي)، حيث كانت التفاصيل فيهما عوناً له في إغناء الحدث الدرامي الرئيسي وتعميقه.

تخلى حسين كمال ـ أيضاً ـ عن واقعيته في هذا الفيلم، واقعيته التي قدمها في (البوسطجي)، فالواقعية ليست تصوير الأماكن الحقيقية وجعل الشخصيات تتكلم بلغة المكان، وإنما هي تقديم الأحداث والشخصيات بشكل مقنع وصادق في أفكارها وتصرفاتها، لتذوب في هذا الواقع وتعطي عملاً واقعياً متكاملاً.

وبالرغم من أن حسين كمال، في فيلم (شيء من الخوف)، استطاع أن يجعل المتفرج يعيش مع صورة من الريف المصري، بكل تقاليدها وعاداتها ولغتها، إلا أنه لم يستطع أن يقنعه بهذه الصورة المفتعلة والمبالغ فيها من الإجرام والمتمثل في عتريس.. والإجرام بطبيعته إما أن يكون من السلطات وأعوانها أو أن يكون إجرام الإقطاع، وهو إجرام منظم.

وكما هو معروف منذ أقدم العصور، بأن التكوين والهيكل الاجتماعي للأسرة في القرية المصرية يعطي الأولوية في كل شيء للرجل، وليس المرأة سوى تابع للرجل وتحت حمايته. فكيف يمكن لحسين كمال إقناعنا بأن تكون فؤاده (المرأة) هي من ينقذ القرية من الظلم والإجرام؟ كما إن إصرار عتريس (الجد) على أخذ وعد من حفيده لمواصلة ما بدأه، ثم ذلك التحول المفاجئ للحفيد يتناقض تماماً مع شخصيته وتكوينها (في بداية الفيلم)، ولم يقدم لنا حسين كمال مبررات كافية ومقنعة لهذا التحول، أي إنه لم يستطع إقناعنا بواقعية بعض شخصياته وبعض أحداثه في فيلمه هذا.

لقد كان دور الصورة السينمائية، في القسم الأول من الفيلم، بارزاً. وكان الحوار مركزاً داخل تكوينات جمالية قوية للكادر. وليست مشاهد الأرض العطشى وما بها من تشققات ثم ارتواؤها بالماء إلا دليلاً على ذلك. أما القسم الثاني، فقد طغى عليه الحوار وضعفت تكوينات الصورة، بالرغم من أن الحوار الذي كتبه عبدالرحمن الأبنودي تتضح فيه الصياغة الجيدة والعذوبة في نسج الجمل الحوارية. وتأتي الموسيقى التصويرية مع الأغاني والكورال، لتضفي على الفيلم طابعاً جميلاً ومؤثراً.

وبالرغم من احتواء فيلم (شيء من الخوف) على بعض السلبيات، إلا أنه يظل واحداً من الأفلام البارزة في تاريخ السينما المصرية، وذلك لتقديمه أسلوب الحكاية الشعبية بشكل جديد ومؤثر. وبهذا الفيلم، ينهي حسين كمال مرحلة من أهم مراحله السينمائية، والتي يمكن أن نطلق عليها (المرحلة التجريبية).

وبفيلم (شيء من الخوف) أيضاً، ينهي حسين كمال تعاقده مع القطاع العام، ويتجه للعمل مع القطاع الخاص، لتنفيذ أفلام تستهدف تحقيق أكبر الإيرادات، وتخاطب الغرائز والرغبات السهلة لدى الجمهور المتخلف.

 

أبي فوق الشجرة - 1969

لقد حطم فيلم (أبي فوق الشجرة ـ 1969) جميع الأرقام القياسية في شباك التذاكر في مصر، حيث استمر عرضه في دار سينما واحدة مدة ثلاثة وخمسين أسبوعاً. فلنتخيل هذا الرقم الذي ـ حتى الآن ـ لم يتم تحطيمه على مستوى السينما المصرية والعربية بشكل عام.

أما إذا بحثنا عن سبب هذا النجاح الخارق للعادة، فلن يكون ـ بالطبع ـ بسبب مستوى الفيلم الفني.. علماً بأن حسين كمال، في هذا الفيلم، قد ساهم بشكل واضح في تطوير الأغنية السينمائية العربية، وقدمها في صورة تختلف كثيراً عن الشكل التقليدي الذي عودتنا عليه الأفلام الغنائية المصرية السابقة. إلا أن الملفت في الأمر بأن حسين كمال قد اعتمد في فيلمه هذا ـ وللأسف ـ على حكاية ضعيفة فنياً ومستهلكة، بل إنها لم تصل أحياناً إلى مستوى الكثير من الأفلام الغنائية التي سبقت فيلمه، لتكون إطاراً لهذه المجموعة الكبيرة من الأغنيات الجيدة والوجوه الجميلة والمناظر الخلابة. ومما لاشك فيه من أن قيام الفنان الكبير عبدالحليم حافظ، بنجوميته وشعبيته، ببطولة الفيلم، كان له الأثر الأكبر في نجاح الفيلم بهذا الشكل. لذلك من الصعب تخيل نجاح هذا الفيلم بدون عبدالحليم.

من الطبيعي القول بأن نجاح (أبي فوق الشجرة)، وبهذا الشكل الجماهيري الذي فاق كل التصورات، هو الذي جعل حسين كمال يتمسك أكثر بما أقدم عليه من تحول شامل في فكره وأسلوبه، واستمراره في تقديم الأفلام التجارية التقليدية.

 

هذا ما حدث بالضبط لحسين كمال، إنها انتكاسة كبيرة لمخرج جاد، غير فيها أسلوبه السينمائي واهتماماته الفكرية بالكامل. وإذا حاولنا البحث عن أسباب هذه الانتكاسة، فلا نجد إلا أن حسين كمال قد سعى لإرضاء الجمهور العريض الذي حققه بفيلم (أبي فوق الشجرة) على حساب امكانياته الفنية والفكرية. أما هو فيبرر ذلك بقوله: (...الفن نوعان، الفن التجريبي والفن الكبير لكل الناس، هذه مسألة محددة تماماً في رأسي، في السيدة زينب كانت الناس تحطم الكراسي سخطاً، وفي البيت كانت أكوام الصحف التي تمجد. أعتقد أن الفن التجريبي ضروري جداً ولا بد أن يوجد من يصنعه، ولكني اخترت أن أصنع الفن الكبير. لقد وضعت اسمي على باب سينما شبرا، بدلاً من أن أضعه على باب نادي السينما أو مركز السينما...).(2)

أما نحن، فنقول بأن حسين كمال قد تناسى وظيفة الفن الحقيقية. فهناك فرق كبير بين أن يكون الفن للجماهير، وبين أن يكون الفن عن الجماهير. وإن العلاقة بين الفن والجماهير/ المتلقي تشكل معضلة صعبة وحساسة جداً. فلكي يكون في وسع الفن أن يقترب من المتلقي، وفي وسع المتلقي أن يقترب من الفن، ينبغي أن يكون هناك ـ أساساً ـ مستوى فني وثقافي متقارب ـ نوعاً ما ـ بين الفنان وجمهوره/ المتلقي. وليس معنى هذا ـ بالطبع ـ أن ينزل الفنان بمستواه ليصل للجماهير. حيث إنه لو فعل ذلك فهو بالتالي يقدم للمتلقي إبداعاً مزيفاً وغير صادق، نابعاً من الذات المزيفة للفنان. وكذلك عندما يشترط الفنان في المتلقي أن يكون مثقفاً، فليس لكي يكون قادراً على استيعاب ما يقدمه الفنان له فحسب، وإنما لكي تتوفر للمتلقي الظروف الإنسانية الملائمة ليمارس حقه في الإبداع الجماعي.

يتحدث حسين كمال عن أفلامه الثلاثة الأولى، فيقول: (...كانت الأفلام سابقة لعصرها بما تقدمه من جديد مختلف عن ما كانت تقدمه السينما المصرية عموماً في الستينات، فلم يستطع الناس أن يستوعبوا هذا الجديد بسرعة.. ولكن بعد فترة أصبحت هذه الأفلام، والتي شكلت عقدة ليّ وللناس، مفهومة من الجميع، وبالتالي مرغوبة من الجميع!!...).(3)

إن كلمات حسين كمال هذه، لهي دليل على صحة حديثنا، بأن وظيفة الفن الرئيسية هي الارتفاع بمستوى المتلقي الثقافي والفني، حتى يستطيع استيعاب ما يقدمه الفنان من إبداع، وليس بالنزول إلى مستواه لكي يفهمه.

ولا يفوتنا الإشارة إلى أنه من الصعب ـ كما هو معروف ـ الجمع بين النقيضين.. إرضاء الجمهور النقاد في آن واحد، فهي معادلة صعبة، قال عنها الناقد والمؤرخ السينمائي الفرنسي "جورج سادول" بأنها محاولة اختراق المستحيل، وبالتالي فالمسألة تحتاج ـ فقط ـ إلي وقت.. وقت يحاول فيه المتلقي أن يرتقي ويطور من قدراته التذوقية للعمل السينمائي والفني بشكل عام. إلا أن مخرجنا حسين كمال لا يستطيع الانتظار طويلاً، فهو يريد من أفلامه أن تدر عليه أعلى الإيرادات بعد إنتاجها مباشرة.

ويواصل حسين كمال تبريره لهذا التحول، فيقول: (...شعرت بأنني وجدت طريقي إلى السينما، وأصبح لي أسلوب مميز في الإخراج، فكان لا بد لي أن أخوض الواقع السينمائي. فأنا مقتنع بأن السينما مخاطبة لوجدان الناس، كل الناس، وليست قاصرة على الخاصة أو على فئة بعينها دون الفئات الأخرى. فكان فيلم (أبي فوق الشجرة) هو اللقاء الأول بيني وبين الجمهور العريض وتطلب الأمر تغييراً شاملاً في فكري وأسلوبي...).(3)

ولا نخفي تصورنا من أن نجاح فيلم (أبي فوق الشجرة)، وبهذا الشكل الذي فاق كل التصورات، قد جعل حسين كمال يتمسك أكثر بما أقدم عليه من تحول شامل في فكره وأسلوبه واستمراره في تقديم الأفلام التجارية التقليدية.

وهذا ما حققه مخرجنا بالفعل، حيث إن أغلب أفلامه التي قدمها بعد انتكاسته الفنية، أي بعد إخراجه لفيلم (أبي فوق الشجرة)، والتي تجاوزت الثلاثين فيلماً، قد لاقت نجاحاً جماهيرياً تفاوت من فيلم إلى آخر. فمن بين ما نجح له من أفلام ثرثرة فوق النيل ـ 1971، إمبراطورية ميم ـ 1972، مولد يا دنيا ـ 1976، إحنا بتوع الأتوبيس ـ 1979، أرجوك أعطني هذا الدواء ـ 1982.

 

نحن لا نزرع الشوك - 1970

فيلم (نحن لا نزرع الشوك) مأخوذ عن قصة ليوسف السباعي، قدم فيه حسين كمال عملاً ميلودرامياً، لا يختلف عن بقية ميلودراما السينما المصرية، ولم يضف أي شيء إلى رصيده السينمائي.

وعن تجربته في هذا الفيلم، قال: (...الميلودراما شكل فني، حياتنا ميلودراما، وعلى أية حال كان لا بد أن أجرب الميلودراما. أنا حتى الآن أدخل تجارب ولم أصل إلى شيء. "نحن لا نزرع الشوك" ميلودراما رسمي ولكنه ليس فيلماً عبيطاً...).(2)

 

ثرثرة فوق النيل - 1971

في (ثرثرة فوق النيل)، يقدم حسين كمال رؤية فنية ضبابية، بلا موقف فكري، بل ويكرس فئة من الناس للمتاجرة بالنكسة على نحو سيء ومبتذل. ورغم أن الفيلم قد اعتمد على رواية لنجيب محفوظ بنفس الاسم، إلا أن الفيلم ظهر بشكل مختلف تماماً، لذلك من المجحف حقاً المقارنة بين الفيلم والرواية.

نحن في عوامة حسين كمال، نرى داخلها مجموعة من أنماط بشرية غابثة وغارقة حتى النخاع في الجنس والمخدرات، دون أن يكون هناك تبرير اجتماعي منطقي قوي ومقنع، فقد أفرغت الشخصيات من كل ما تحتويه من توتر وصراع وخوف وملل ورغبة في الهروب من الواقع، ولا تجسد الإحساس الكامن بالهزيمة والجمهود الذهني والفكري، الذي احتوته الرواية.

فشخصية رجب القاضي (أحمد رمزي) ممثل مشهور حرفته النساء ويمثل في أفلام هابطة، مهمتها تخدير المتفرج. وسنية (نعمت مختار) زوجة تخون زوجها لمجرد أنه خانها مع الخادمة. وتتحول إلى مومس لأهل العوامة. وليلى (سهير رمزي) فتاة فقيرة تطمح في الحصول على سيارة مرسيدس وشقة في الزمالك، ومن أجل تحقيق ذلك فقط، تبيع جسدها بأعلى سعر ممكن. وعلي السيد (عادل أدهم) صورة ممسوخة للناقد الفني والصحفي. كذلك خالد عزوز (صلاح نظمي)، الكاتب الذي يعيش على هامش الأحداث. وسناء (ميرفت أمين) التي تمثل الجيل الجامعي الضائع الطامع للشهرة بأية طريقة.

جميع هذه الشخصيات لا تحمل أي مبررات مقنعة لحالة الفوضى والعبث اللتان يعيشونها ولا تمثل أية أزمة فكرية أو سياسية. ربما الشخصية الوحيدة التي تشير إلى ذلك، هي شخصية أنيس (عماد حمدي) في تجسيد هذه الحالة. إلا أن المحتوى الفكري للشخصية يفتقد إلى العمق والاقناع.. الشخصية الوحيدة المقنعة في الفيلم هي "الجوزة".. كانت البطلة الرئيسية حقاً، وكانت بارزة في أغلب مشاهد الفيلم، حيث كان دخانها هو الذي جعل أهل العوامة يعيشون عزلتهم هذه، ويصبحون عبيداً لها، يساهمون في تزويدها بالفحم وتوفير مستلزماتها، إنها حقاً استخدام ذكي من حسين كمال لكي يجعل من فيلمه هذا واحداً من أهم الأفلام التجارية، حيث استمر عرضه سبعة عشر أسبوعاً.

وكل هذا لا ينفي إمكانيات حسين كمال الحرفية، والتي ساهمت في نجاح الفيلم، ففي المشهد الذي يبين أهل العوامة وهو يعبثون بتاريخهم المتجسد في تمثال رمسيس، حيث تمثل الأحساس بالتناقض الساخر في نفسياتهم. كذلك اللقطات التي يظهر فيها أنيس وهو يمشي في وسط الزحام ويتلو منلوجه الداخلي، معلقاً على ما يحدث من حوله، كانت معبرة ووفق المخرج في تنفيذها. أيضاً اللقطة التي تجمع أنيس والأرجوحة المهجورة في الإسماعيلية بعد عدوان يونيو، نراه واقفاً أمامها متخيلاً صوت الأطفال وهم يمرحون، حيث يأتي صوتهم من خارج الكادر.

ورغم أن هذه المشاهد تعكس قدرة حسين كمال على الخلق، إلا أنها غير كافية لطرح وجهة نظر، أو موقف فكري معين، فحسين كمال في تعامله مع رواية نجيب محفوظ هذه، يبدو أقرب إلى تعامل حسن الإمام مع روايات نفس الكاتب منه إلى التنفيذ الجيد الذي قدمه صلاح أبوسيف مثلاً في (القاهرة 30، وبداية ونهاية). يقول حسين كمال: (...ثرثرة فوق النيل فيلم سياسي، ولكن حكاية الحشيس كان لها في السينما وقع آخر غير وقعها في الرواية، في السينما لم يتجاوب الجمهور إلا مع الجوزة، الجوزة كانت 67...).(2)

 

إمبراطورية ميم + أنف وثلاث عيون - 1972

في عام 1972، يقدم حسين كمال فيلمين هما: (إمبراطورية ميم، أنف وثلاث عيون)، وهما عن قصتين لإحسان عبدالقدوس، الأول يلخص فيه مشكلة الافتقاد إلى الروح الديمقراطية من وجهة نظر الطبقة البرجوازية الجديدة، حيث يقدمها لنا بشكل متخلف وملفق وهي انتخاب الديكتاتور من جديد، مع اشتراك الخدم في هذا الانتخاب، كذلك نرى رجل الأعمال الذي يحب بطلة الفيلم (فاتن حمامة) والتي قصد بها المخرج لتكون رمزاً لمصر، حيث يقول على لسانه: (...لا يوجد في العمل رأسمالية، ولا اشتراكية...)، ويدلل على ذلك بالتبادل التجاري بين الدول الاشتراكية والدول الرأسمالية، ويقول حسين كمال عن فيلم (إمبراطورية ميم): (...كان يمكن أن يكون أفضل لولا فاتن حمامة، إصرارها على توجيه كل انتباه المتفرج إليها، جعل السياسة في الخلفية، رغم أنه فيلم سياسي من الطراز الأول، انه حوار بين طالب ووالده حول الديموقراطية...).(2)

وعن (أنف وثلاث عيون) يقول حسين كمال: (...أرى انهما من أفلام الحواديت، مجرد حواديت، عندما أفكر فيهما الآن أقول ياه.. كل هذا من أجل ماجدة أو من أجل نجلاء فتحي.. طبعاً ماجدة ممتازة في الفيلم الأول وكذلك محمود ياسين، والمغرب ظهرت جميلة كما لم تظهر من قبل في الفيلم الثاني، ولكن دفاعي ضعيف، هنا أنا أصنع قصصاً ولكن بالكاف، وليس بالقاف...).(2)

 

دمي ودموعي وابتسامتي - 1973

بعد ذلك قدم فيلم (دمي ودموعي وابتسامتي) الذي يدين فيه عالم رجال الأعمال وأصحاب الملايين ويصفهم بالظلم وانعدام الضمير، ولكنه بدلاً من أن يقدم ضحايا هؤلاء الرجال الحقيقيين كآلاف العاملين المسحوقين في مؤسساتهم، أو حتى آلاف المتعاملين مع هذه المؤسسات، بدلاً من ذلك نراه يقدم لنا ضحية وهمية، هي الفتاة الشريفة (نجلاء فتحي)، التي تدافع عن عذريتها في هذا العالم المليء بالذئاب البشرية.

والفيلم من الناحية الفنية يتميز بايقاع جميل وشاعري وينقلنا إلى بيروت بمناظرها الخلابة، وإلى المغرب ليقدم لنا رقصاتها الشعبية التي أبرزها لنا حسين كمال بشكل متقن وجميل. إضافة إلى ثقته وتمكنه من حرفيته وصناعته والتي ساعدته في اقناع الجمهور بما يشاء، حتى ولو كان ما يطرحه غير منطقي ومناف للحقيقة.

 

أربعة أفلام في موسم واحد

في موسم عام 1975 السينمائي، قدم حسين كمال أربعة أفلام دفعة واحدة، هي (لا شيء يهم، الحب تحت المطر، النداهة، على ورق سيلوفان). الأول والثاني يطرح من خلالهما وجهة نظر سياسية، ففي (لا شيء يهم) عن قصة لإحسان عبدالقدوس، ليس هناك شيئاً مهماً، انها مجرد أفكار سياسية مبعثرة تناولها المخرج بشكل غير مترابط وعشوائي، حيث فقد حسين كمال السيطرة على الفيلم، وانتهى دون أن يقول شيئاً ذا قيمة. وفي فيلم (على ورق سيلوفان)، عن قصة ليوسف إدريس، يتناول مثلث الحب التقليدي.. الزوج والزوجة والعشيق، وبنفس التركيبة والمواصفات التي شاهدناها مراراً ومللنا منها ضمن عشرات الأفلام التي قدمتها السينما التجارية المصرية.

 

النداهة - 1975

قصة فيلم (النداهة) كان الهدف منها هو تصوير إلتهام المدينة الكبيرة وسحقها لأبناء الريف.. إلا أن حسين كمال قد حول الفيلم إلى حكاية مشوهة عن فتاة من الريف (ماجدة)، تسقط في الخطيئة عند ذهابها للقاهرة. وكان من الممكن أن يظهر بمستوى أفضل لو أن حسين كمال قد اهتم أكثر بتقديم الأسباب التي تجعل من القرية منطقة طرد.. كما فعل واهتم بالقاهرة كمنطقة جذب. حيث أنه قدم لنا الريف السياحي، بنسيمه العليل وأشجاره الباسقة، وكان من الأجدر له أن يبين لنا الفقر والبطالة التي تعاني منه القرية وتجعلها منطقة طرد. كما أن هناك تفاصيل صغيرة وهامة تساهم في خلق الشخصيات قد أهملها حسين كمال. فنحن نلاحظ بطلة الفيلم في الريف بوجهها المشرق وشعرها الناعم ومكياجها الذي زادها فتنة، وملابسها الجديدة واللامعة والغالية.. كل هذا لا يشعرك حقاً بأنها فلاحة حقيقية. ومن الواضح فعلاً بأن حسين كمال عندما أراد تصوير القرية في هذا الفيلم لم ينتبه إلى قريته الحقيقية التي قدمها في (البوسطجي).

أما الإضافات التي أضيفت إلى قصة يوسف إدريس القصيرة، فلم تفد الفيلم، بل فتحت المجال للتطويل الممل فقط، وشغل وقت الفيلم. حيث كانت بعض الشخصيات والأحداث ساذجة ولا تخدم تعميق الخط الدرامي للفيلم، فشخصية (ميرفت أمين) لا تعبر عما أريد لها التعبير عنه، كنموذج لفتيات المدينة المتحررات. كذلك شخصية الخادمة العائدة إلى القرية وأحاديثها الطويلة للفتيات عن القاهرة كان من الممكن اختصارها. أما المشاهد الفكاهية التي تصور ذهول فتاة الريف في التعامل مع المصباح والمصعد الكهربائي وأدوات المطبخ الحديثة، إذا كان الهدف منها هو التخفيف من مأساوية الأحداث، فلم ينجح المخرج في ذلك. وكانت من زوائد العمل. إضافة إلى ذلك فان حسين كمال لم يستفد من قدراته الفنية في جذب المتفرج، والإرتفاع بمستوى الفيلم التقني. فنحن نراه وفي لقطات عديدة يكتفي بتثبيت الكاميرا في كادر يتحدث فيه الممثلين حديثاً طويلاً ومملاً، دون أي تغيير في زوايا التصوير، وكأننا أمام تمثيلية تلفزيونية رديئة.

وعن سبب اختياره لقصتي يوسف إدريس.. على ورق سيلوفان، والنداهة، قال حسين كمال: (...الأولى رائعة، والثانية مبهرة!! فيلم على ورق سيلوفان برجوازي جداً، وأنا لا أحب شخصية نادية لطفي فيه، ولكن أعجبتني فكرة الزوجة التي تشك في زوجها من خلال حياتها معه في المنزل فقط ولا تعرف عنه شيئاً في عمله. ثم فكرة الزوجة المخلصة التي تعيش في وهم عابر.. إنه فيلم على ورقة سيلوفان فعلاً. أما النداهة فبهرتني فيه فكرة التناقض بين القرية والمدينة بالشكل الذي عبر عنه يوسف إدريس.. في العمارة التي أسكن بها انتحرت فتاة منذ شهور من الدور السادس، ولم أعرف لماذا؟ لأني في عالمي، كل دور يكون للآخر مثل المريخ! وهذا بالطبع لا يحدث في القرية!...).(2)

 

الحب تحت المطر - 1975

ويأتي فيلم (الحب تحت المطر)، والمأخوذ عن رواية بنفس الاسم لنجيب محفوظ، ليكشف وبضراوة، الفساد الذي تعيشه طبقة البرجوازية الصغيرة في فترة ما قبل حرب أكتوبر 73، وهي فترة من أقسى فترات الغليان السياسي والتي سميت بحالة اللاحرب واللاسلم، ونية حسين كمال طيبة وواضحة، في تناول كل ذلك من خلال ما طرحته الرواية، لكن النية وحدها لا تكفي لعمل فيلم سينمائي. فنحن نشعر بأن هناك أكثر من مخرج وراء هذا الفيلم، وذلك لاضطراب وتفاوت مستواه. فمرة يرتفع حسين كمال بلغته السينمائية إلى مستوى جيد، كما في مشهد مونولوج (عشماوي) أمام الجدران المغطاة بالشعارات اللاهبة، وأخرى نراه يقدم لغة ومستوى بدائي، كما في مشهد الشاب العابث حول زجاجات البيرة. وهذا الإضطراب في المستوى ساهم بلا شك في النيل من قيمة الفيلم الفنية.

ولا يفوتنا أن نذكر بأن أهم مشاهد الفيلم، تلك التي تناولت ما وراء كواليس صناعة السينما، مشاهد اتخذت موقف الهجاء العنيف من السينما التجارية السائدة. وكأن حسين كمال ينتقد وبشكل لا شعوري السينما التي قدمها هو نفسه. أما استخدامه للتناقض في شريط الصوت والصورة في أكثر من مشهد فجاء استخداماً فنياً موفقاً. ومن بين المشاهد الزائدة التي أساءت إلى الفيلم، مشهد الشباب وهم يعاكسون فتاة مع والدها، مشهد مفتعل ومبالغ فيه. كما أن تصرفات العديد من الشخصيات ساذجة وغير مبررة، مثل القرار الفجائي للطبيب باستكمال أبحاثه في السجن. أما النهاية التي تضمنت بداية حرب أكتوبر، كحل لكل هذه المشاكل والمتناقضات، فيقول عنها حسين كمال: (...لا.. هذه ليست نهاية فيلمي، هذه نهاية صنعها المنتج، فيلمي ينتهي بظلام دامس، ويعرف المتفرج أنه من هذا الظلام طلع أكتوبر، ولكن هذا لا.. "سلويت" في الغروب، ده أفيش صابون "أومو" عن حرب أكتوبر، ده استجداء ستة أكتوبر.. إنها إهانة كبيرة!!...).(2)

لقد حاول حسين كمال أن يلتزم إلى حد كبير بما قدمته الرواية من شخصيات كثيرة بكل علاقاتها مصالحها وأخلاقياتها، ولكنه أخفق في تجسيد كل ذلك لأن هذا يحتاج أولاً لدراسة عميقة ومتأنية لرواية صعبة مثل هذه.. كما يحتاج لتفرغ كامل من قبل المخرج لتنفيذه، ومخرجنا ـ كما عرفنا ـ قدم أربعة أفلام في موسم واحد فقط، فكيف له أن يتفرغ لمثل ذلك.

 

مولد يا دنيا - 1976

أما في موسم عام 1976، فيقدم حسين كمال فيلمين هما (بعيداً عن الأرض) و(مولد يا دنيا)، الأول عن فصة لإحسان عبدالقدوس.. وهي قصة ربما تصلح للقراءة فقط، أما أن تشاهدها في فيلم سينمائي فهذا هو الإسفاف بعينه. فموضوع الفيلم لا يتناول أي مشكلة هامة في حياتنا الاجتماعية، كما أن الفكرة قدمها حسين كمال من قبل في فيلم (دمي ودموعي وابتسامتي) وهي الخيانة الزوجية نتيجة المصالح التجارية، وحيرة الزوجة وصدمتها في زواجها هذا. علماً بأن المقارنة بين الفيلمين لن تكون في صالح فيلمه الأول.

يبقى فيلم (مولد يا دنيا) الذي احتل مركز أحسن الأفلام المصرية التجارية في ذلك الموسم، حيث استمر عرضه سبعة عشر أسبوعاً، وليعتبر أيضاً من بين أشهر أفلام السينما المصرية الاستعراضية. القصة كتبها يوسف السباعي مباشرة للسينما من واقع أحداث فرقة البحيرة للفنون الشعبية، وكما رواها صاحبها ونجم الفرقة (كمال نعيم) لحسين كمال. ويأتي هذا الفيلم ليؤكد مقدرة حسين كمال الفنية في إخراج الأغاني والإستعراضات. فقد سبق له وأن قدم نموذجاً جيداً ومستحدثاً للأغنية السينمائية فيل فيلم (أبي فوق الشجرة)، وجاء فيلم (مولد يا دنيا) ليجعل للأغنية أهمية درامية وليست مجرد إضافة جمالية للفيلم. كذلك تجربته التي قدمها في الثمانينيات في المسرحية الكوميدية الاستعراضية (ريا وسكينة) كانت ناجحة فنياً وجماهيرياً. كما قام بإخراج مجموعة من أغنيات (نجاة الصغيرة) تلفزيونياً، وقدمها بشكل استعراضي ناجح. كل هذا يؤكد أن حسين كمال من بين أقدر المخرجين المصريين في مجال الأفلام الاستعراضية، وهذا ما جعل المهتمين بهذه النوعية النادرة من الأفلام يتساءلون.. لماذا لا يكون هناك تخصص من قبل حسين كمال لتقديم الشكل الاستعراضي الذي أثبت مقدرته فيه. ولكن حسين كمال لديه وجهة نظر أخرى، حين يقول: (...أنا لدي إمكانيات متعددة، ومن الخطأ أن أحصر نفسي في قالب نجحت فيه، لذلك فانني بعد أن قدمت في (المستحيل) ظاهرة اجتماعية، قدمت (ثرثرة فوق النيل، احنا بتوع الأتوبيس، مولد يا دنيا) وغير ذلك من الأفلام، التي يندرج كل منها تحت نوعية مختلفة تماماً، وهكذا كانت خطتي أن أقدم أعمالي دون أن تكون محبوسة في قالب واحد أو شكل فني محدد بالذات!...).(4)

نرجع لفيلم (مولد يا دنيا) لنتعرف على الأسباب التي جعلت منه فيلماً ناجحاً. لقد استطاع حسين كمال ـ وعينه على شباك التذاكر ـ أن يجمع ما بين المواقف الكوميدية والتراجيدية والمغامرات، وبين الأغنيات والاستعراضات، استطاع أن يجانس فيما بينها بشكل مدروس وذكي، حيث كان ربط الحدث الدرامي بالغناء والاستعراض موفقاً إلى حد كبير وليس زائداً أو مصطنعاً. صحيح أن الفيلم احتوى على بعض المبالغات في المواقف الدرامية، إلا أن إيجابيات الفيلم كانت أكثر من سلبياته. حيث كانت هناك العديد من المشاهد المؤثرة والجميلة التي استطاعت أن تكسب اهتمام الجميع. فقد فاجئنا حسين كمال بقدرات (عبدالمنعم مدبولي) التمثيلية التراجيدية، وخصوصاً في المشهد الذي يؤدي فيه أغنية (يا صبر طيب)، حيث كان هذا الدور واحداً من أجمل وأرق أدوار مدبولي، لاحتوائه على فلسفة ساخرة ومعان ولمسات إنسانية عميقة. ورغم أن بطولة الفيلم جماعية إلا أن (عفاف راضي) وفي أول أدوارها السينمائية برزت من بين الجميع، وكانت مقنعة في الأداء وطبيعية جداً.. كما كانت مفاجأة حسين كمال الثانية في هذا الفيلم. يبقى أن نقول أن حسين كمال في هذا الفيلم كان في أحسن حالاته بعد مرحلته التجريبية.

 

احنا بتوع الأتوبيس - 1979

في فيلم (احنا بتوع الأتوبيس) يطرح حسين كمال وجهة نظر سياسية خطيرة، ولو أنها جاءت مشوشة ومشوهة، حيث نراه يدعو المتفرج إلى الاقتناع بأن هزيمة 67 هي هزيمة طبيعية لنظام سياسي كان كل همه هو تعذيب البشر لمجرد أنهم دخلوا في مشاجرة مع محصل تذاكر الأتوبيس. فالفيلم حاول أن يدين السلطة ولكنه أخفق في ذلك لأن حسين كمال أظهرها كسلطة بلهاء لا تعرف عدوها الحقيقي.. سلطة تبحث عن شرعيتها بشكل إرهابي من خلال أخذ توقيعات المعتقلين بعد تعذيبهم. إنه فعلاً فيلم خطير، والأخطر من ذلك هو ارتفاع مستواه الحرفي الذي جسده حسين كمال في الكثير من المشاهد والمواقف المصطنعة.

يقول حسين كمال عن فيلمه هذا: (...وجدت نفسي أصور عملاً ليس سهلاً على الإطلاق، وهذا الفيلم كان خطراً ومن الممكن أن يذبح أي مخرج لأن فيه موقفاً سياسياً وفيه أيضاً مواقف كوميدية، ولأن الصعب يستهويني كثيراً جداً قررت أن أصور هذا الفيلم...).(5)

 

حبيبي دائماً - 1979

في (حبيبي دائماً) يقدم حسين كمال فيلماً ميلودرامياً ورومانسياً، استوحى قصته السيناريست (رفيق الصبان) عن قصة حب حقيقية عاشها الفنان عبدالحليم حافظ. والفيلم ذو مستوى تقني راق، قدم حسين كمال من خلاله لقطات ومشاهد رائعة طهرت وكأنها لوحات تشكيلية مدروسة من حيث التكوين واللون. وقدم رؤية جديدة لمدينة لندن، إذ لم يسبق للأفلام المصرية التي احتوت على مشاهد خارجية في أوروبا أن قدمت مثلها. كل هذا جاء ليخدم موضوعاً مستهلكاً سبق وأن قدمته السينما المصرية عشرات المرات، كما قدمته السينما العالمية في الفيلم الشهير (قصة حب) لمخرجه أرثر هيلر.

صحيح أن فيلم (حبيبي دائماً) في حدود نوعيته صنع بدقة وعناية، إلا أنه لم يطرح أي قضية ملحة وجادة ذات أبعاد إنسانية اجتماعية.. فهو يقدم قصة حب بين شاب فقير وفتاة غنية، وهذا الفرق الطبقي حال دون زواجهما في البداية، إنه لمن دواعي الأسف حقاً أن مثل هذه الموضوعات ما زالت تحظى باهتمام بعض المخرجين المصريين. فرغم العمر الطويل للسينما المصرية الذي تجاوز الستين عاماً، إلا أن (ليلى) ما زالت بنت الفقراء. إن حسين كمال بهذا الفيلم قد أهدر طاقاته وطاقات من عمل معه في عمل تجاري تقليدي.

بعدها قدم حسين كمال ثلاثة أفلام، وهي (العذراء والشعر الأبيض، أرجوك اعطني هذا الدواء، أيام في الحلال)، وجميعها أعمال مأخوذة عن قصص لإحسان عبدالقدوس.. وإحسان عبدالقدوس تميز بتناوله لقضايا المرأة، قضايا يؤكد فيها على ضرورة استقلالها ذاتياً ومالياً وحتى في إطار الحياة الزوجية يدافع عن حريتها ومشاعرها وعواطفها.

وهذا ما يدور في أفلام حسين كمال الثلاثة، فرغم جودة الأفلام الثلاثة في الصنعة الحرفية، إلا أنها أفلام رومانسية شاعرية شفافة، يكرر فيها حسين كمال تجربته في فيلم (حبيبي دائماً)، كما يقدم فيها البيئة البرجوازية ومتطلباتها من بيوت فخمة بأثاثها وديكوراتها ومكاتبها ونواديها وسياراتها.

 

أرجوك اعطني هذا الدواء - 1984

ورغم ذلك، إلا أنه لا بد من الإشارة، ولو بكلمات قليلة عن فيلمه (أرجوك اعطني هذا الدواء) الذي أثيرت حوله ضجة كبيرة في الصحافة والوسط السينمائي المصري، حيث تناول فيه حسين كمال حق المرأة الشرقية الجنسي وموقفها منه. ورغم جرأة هذا الموضوع الشديدة بالنسبة للتقاليد العربية واخلاقيات البيت المصري، إلا أنه قد تحول على يد حسين كمال إلى فيلم من الأفلام الجنسية التجارية، واستغل مقدرته الفنية والحرفية لدعدغة حواس وغرائز المتفرج، علما بأنه كان من الممكن استثمار هذا الموضوع لتقديم فيلم نفسي واجتماعي عميق وجريء، إلا أن حسين كمال لا يفوته أن يأخذ في اعتباره شباك التذاكر والنجاح التجاري.

 

قفص الحريم - 1986

عن قصة (مجيد طوبيا) وسيناريو (رفيق الصبان) يقدم حسين كمال فيلم (قفص الحريم ـ 1986). وفيلمه هذا يطرح قضية مثيرة ومتشعبة، ويحمل مضموناً في غاية الحساسية. حيث يقول ـ وبشكل موجز ـ بأن الرجل في أي زمان ومكان.. الأمي والمتعلم، المتزمت والمتحرر، لا يقبل مطلقاً للمرأة بأن تأخذ دوره وتمارس حقه، ويرفض بشكل قاطع أن تمارس حقها في اختيار شريك حياتها.

ويتناول الفيلم ثلاثة نماذج للرجل للتدليل على ذلك. فالعمدة الصعيدي المزواج يمثل الجيل القديم والمتخلف في نظرته للمرأة كتابع ضعيف خاضعة له، كما أنه يلح على ابنته "ريم" بأن تتزوج وتعدل عن إصرارها باختيار عريسها، إلا أنها تصر على أن الاختيار لا بد أن يكون من جانب الطرفين. أما الرجل المتعلم والفنان فنراه يطرح أفكاراً متحررة جداً، لدرجة إعجاب ريم بهذه الأفكار  وبه شخصياً، ولكنه عندما يريد تطبيق هذه الأفكار ويختار شريكة حياته فهو يفضلها غير متعلمة وقروية. أما النموذج الثالث فهو الشاب العصري وطالب الجامعة الذي اختارته ريم ليكون زوجاً لها، حيث تفاتحه بحبها وعن رغبتها بالزواج منه، وفي يوم الزفاف يتركها في انتظاره ولا يأتي، إنه يفاجاً بجرأتها وجسارتها في إعلان حبها له وطلب يده للزواج.

الفيلم بهذا المضمون يطرح فكرة خطيرة ومتخلفة، يطرح نظرة الرجل للمرأة.. نظرة متدنية، لا تتغير مهما كانت ثقافته ووعية ودرجة تحضره وتحرره. وحسين كمال في رؤيته السينمائية هذه، يقدم وجهة نظره خاصة من خلال فيلم ذي مستوى فني وتقني جيد.

 

آه يا بلد آه - 1986

هنا نكون قد وصلنا إلى آخر محطة فنية لحسين كمال وهي فيلم (آه يا بلد آه - 1986)، والذي كتبه مباشرة للسينما (سعدالدين وهبة). وهو فيلم زاخر بالعديد من المعاني الاجتماعية والسياسية التي جسدها في الفيلم. حيث الدعوة التي وجهها للشباب بعدم الهجرة، والبقاء لتعمير وبناء مستقبل الوطن.. بناء الإنسان.. فبالإنسان وحده تحيا الأوطان.

وقد اعتمد في تجسيد ذلك على شخصيتين رئيسيتين في الفيلم. الأولى أيوب (فريد شوقي) وهو شخصية ذاقت مرارة الاستعمار وسيطرته، شخصية قاومت وضحت حتى وصل بها الحال إلى حالة من التشرد والعبثية، حاملة معها لوعة التضحية وحب الوطن. والشخصية الثانية تتجسد في مجدي(حسين فهمي) الشاب الذي يعيش حالة من الحيرة والضياع، توصله للسعي إلى تصفية كافة ممتلكاته وقراره بالهجرة من بلده التي يرى أن الفوضى قد عمت كل مراففها، ويتصور أن الهروب هو الذي سيخلصه من كل ذلك.

من الواضح أن الفيلم قد تأثر بفيلم (زوربا اليوناني) في رسم شخصية أيوب، لدرجة استبدال الآلة الموسيقية المصاحبة لشخصية زوربا بآلة الناي أو المزمار. يقول حسين كمال: (...فريد شوقي في هذا الدور الكبير، زوربا مصري جديد، يتحدى أنتوني كوين أو زوربا اليوناني...).(6)

ولم تكن شخصية "أيوب" فقط هي المتأثرة بـ"زوربا".. إنما حتى مسار الأحداث الدرامية بشخصياتها تبين لنا مدى التشابه الشديد بين الفيلمين.. لقاء المصادفة بين الشخصيتين يكون في محطة القطار بدل الميناء، ووصول الشخصيتين إلى القرية.. كذلك المشهد الذي يحاول أيوب الرجوع إلى صباه ونسيان ما فات. والاحتفال مع صديقته الراقصة المعتزلة (تحية كاريوكا).. يذكرنا بـ"زوربا" عند ذهابه إلى المدينة وبعثرة المال على الشمبانيا وقضاء وقت ممتع مع بنت جميلة، كما أن الأرملة المكروهة من أهالي القرية والمتشحة بالسواد دائماً، في فيلم "زوربا"، استبدلها الفيلم بالأرملة فريدة (ليلى علوي) التي تقف لوحدها ضد الاقطاعي رضوان (أنور إسماعيل)، حتى موقف أهل القرية منها، عند رجم بيتها بالحجارة يتشابه كثيراً بما جاء في فيلم "زوربا اليوناني".

وأما هذا كله، إلا أن صانعي هذا الفيلم لم يكلفوا أنفسهم بوضع ولو إشارة على تترات الفيلم تشير إلى هذا الإقتباس/ السرقة العلنية.

لقد قام حسين كمال بإخراج هذا الفيلم وفي ذهنه أن يصنع من فريد شوقي زوربا آخر، ولكنه بذلك قد ظلم نفسه وظلم فريد شوقي معه، عندما جعله عرضة للمقارنة بـ"أنتوني كوين"، علماً بأن "زوربا" هو الذي نبه العالم إلى وجود ممثل كبير وفنان عظيم اسمه أنتوني كوين، لدرجة أنه مازال يحمل لقب "زوربا السينما العالمية". كما لا يفوتنا أن نقول أن إبداعات حسين كمال الفنية والإخراجية كانت غائبة في هذا الفيلم، فقد استخدم نفس أسلوبه التقليدي في اختيار زوايا الكاميرا وعناصر الفيلم الأخرى. إضافة إلى أن هناك مشاهد كثيرة زائدة وغير ضرورية، كمشاهد (الفلاش باك) التي روتها فريدة، واللقطات التيي جاءت بعد مقتل أيوب. أما النهاية فكانت غير منطقية، بدأها بخطبة ساسية مباشرة ألقاها أيوب على أهالي القرية لكي يبرر هذا التحول المفاجيء في مواقفهم تجاه الاقطاعي.

 

خاتمة:

بهذا نكون قد أشرفنا على نهاية موضوعنا هذا، إلا أنه من الأجد بنا أن نشير إلى بعض الحيثيات التي اعتمد عليها حسين كمال في نجاح أفلامه جماهيرياً.

إن السينما التي قدمها حسن كمال هي بالطبع سينما تجارية تقليدية، إلا أنه وفي نطاق الأفلام التجارية قد قدم أفضل بكثير مما قدمه غيره من مخرجي هذه النوعية من الأفلام. ولعل من أهم العوامل التي ساعدته لتحقيق ذلك يكمن في حرصه الشديد على اختيار روايات وقصص معروفة لأشهر الكتاب المصريين (احسان عبدالقدوس، نجيب محفوظ، يوسف إدريس، يوسف السباعي، مصطفى محمود.. وغيرهم) وتحويلها إلى أعمال سينمائي، إضافة إلى قدراته الحرفية والتقنية في اختيار بقية عناصر الفيلم الأخرى. كما لا نغفل أن نذكر أن اهتمام حسين كمال بعنصر التمثيل والممثلين كان في صالح الفيلم جماهيرياً. فقد كانت أفلامه دائماً تحمل أسماء نجوم السينما المصرية والعربية (عادل إمام، فاتن حمامة، محمود ياسين، شادية، نور الشريف، نادية لطفي، ماجدة، محمود عبدالعزيز، نجلاء فتحي، نبيلة عبيد)، كما أنه من خلال هذا الاهتمام بالتمثيل ساهم في اكتشاف الكثير من المواهب التمثيلية وعلى رأسهم محمود ياسين.

يقول حسين كمال في هذا الصدد: (...ان سبب نجاحي في توجيه الممثلين يرجع إلى فترة دراستي للاخراج السينمائي في فرنسا، وهناك تعلمت أن الممثل هو أهم أداة من أدوات الإخراج، ولذلك درست التمثيل في معهد الأديك.. وهذا يساعدني في توجيه الممثلين توجيها سليماً.. فأنا لا أقول للممثل أفعل كذا أو كذا، وإنما أقوم بتمثيل المشهد أمامه ثم أطالبه بأن يؤديه، وهذا يجعله يبذل أقصى طاقته ليؤديه أفضل مني...).(3)

حقا.. إننا أمام مخرج كبير انخرط في تيار السينما التجارية، ونسى ما قدمه في بداية حياته من تجديد سينمائي في مرحلته التجريبية، والتي قال عنها ذات مرة: (...انني أبحث خلالها عن الأسلوب، وعن الفكر الخاص بحسين كمال.. كنت أحاول أن أحقق ذاتي الفنية، وأن أبني شخصيتي السينمائية، وأردت أن أقول للناس، "هذا أنا" وان أعرفهم بي وبإمكانياتي وأسلوبي كمخرج.. ولذلك خرجت الأفلام الثلاثة الأولى من تحت يدي محددة المعالم، واضحة الفكر، وإن تميزت بالصعوبة في الشكل والمضمون، لأنني رفضت أن أبدأ مشواري السينمائي بتقديم السهل، لأنني كنت غاضباً من السينما التي أغلقت الباب في وجهي بعد عودتي من فرنسا، وفي نيتي أن أثأر لكرامتي.. فعلت الصعب لأثبت للجميع أن حسين كمال قادر على صنع الصعب...).(3)

ولا يسعنا أخيراُ، إلا أن نتمنى من الجيل الجديد من المخرجين أن يكون حذراً في مواجهة مغريات هذه السينما التجارية، ويقف في وجهها، ويتحداها بتقديم كل ما يفيد المتفرج وليس ما يريده هذا المتفرج، ومحاربة مصطلح "الفن الكبير" الذي ابتدعه حسين كمال، لتبرير انخراطه في تيار السينما التقليدية التجارية.

 
 
 
__________________________________________________________________
 

مراجع:

جميع أقوال المخرج التي وردت في هذا المقال

مستقاة من مقابلات له في الصحافة العربية، وهي:

1)          مجلة المسرح والسينما المصرية ـ يوليو/ أغسطس 1968

2)          مجلة الحياة السينمائية السورية ـ شتاء 1980

3)          مجلة ألحان اللبنانية ـ 5/9/1981

4)          جريدة الأنباء الكويتية ـ 9/5/1983

5)          مجلة المجلة السعودية ـ 1980

6)          جريدة الوطن الكويتية ـ 9/12/1986

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 
 
 
 

1.  نحن لا نزرع الشوك 1998 -  (ﻣﺴﻠﺴﻞ)

2.  الجميله و الوحشين 1996 -  (ﻣﺴﺮﺣﻴﺔ)

3.  حزمني يا 1994 -  (ﻣﺴﺮﺣﻴﺔ) - مشرف إخراج سينمائي

4.  أنا والنظام وهواك 1993 -  (ﻣﺴﺮﺣﻴﺔ)

5.  ديك البرابر 1992 -

6.  نور العيون 1991 -

7.  المساطيل 1991 -

8.  حارة برجوان 1989 -

9.  نص أنا .. نص إنتي 1988 -  (ﻣﺴﺮﺣﻴﺔ)

10.  كل هذا الحب 1988 -

11.  علشان خاطر عيونك 1987 -  (ﻣﺴﺮﺣﻴﺔ)

12.  قفص الحريم 1986 -  + (رؤيا سينمائية)

13.  آه يا بلد.. آه 1986 -

14.  الواد سيد الشغال 1985 -  (ﻣﺴﺮﺣﻴﺔ)

15.  أيام في الحلال 1985 -

16.  أرجوك اعطني هذا الدواء 1984 -

17.  ريا وسكينة 1983 -  (ﻣﺴﺮﺣﻴﺔ)

18.  العذراء والشعر الأبيض 1983 -

19.  حبيبي دائماً 1980 -

20.  إحنا بتوع الأتوبيس 1979 -

21.  أفواه وأرانب 1978 -  (ﻣﺴﻠﺴﻞ)

 

 
 

21.  أفواه وأرانب 1978 -  (ﻣﺴﻠﺴﻞ)

22.  مولد يا دنيا 1976 -

23.  بعيدا عن الارض 1976 -  +( سيناريو)

24.  بمبه كشر 1976 -  (ﻣﺴﺮﺣﻴﺔ)

25.  لا شيء يهم 1975 -

26.  النداهة 1975 -

27.  على ورق سيلوفان 1975 -

28.  الحب تحت المطر 1975 -

29.  دمي ودموعي وابتسامتي 1973 -

30.  إمبراطورية ميم 1972 -

31.  أنف وثلاث عيون 1972 -

32.  عودة الروح 1972 -  (ﻣﺴﻠﺴﻞ)

33.  ثرثرة فوق النيل 1971 -

34.  نحن لا نزرع الشوك 1970 -

35.  ثم غاب القمر 1969 -  (ﻣﺴﺮﺣﻴﺔ)

36.  أبي فوق الشجرة 1969 -

37.  شيء من الخوف 1969 -

38.  البوسطجي 1968 -

39.  ذكريات بعيدة 1967 -  (ﻣﺴﻠﺴﻞ)

40.  المستحيل 1965 -

41.  المعطف 1964 -  (ﺳﻬﺮﺓ ﺗﻠﻴﻔﺰﻳﻮﻧﻴﺔ)

42.  ثورة قرية 1961 -  (ﻣﺴﺮﺣﻴﺔ)

 

 
 

اضغط اسم الفيلم لقراءة المزيد

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004