لم استطع الإنتظار أكثر من يوم واحد لكي أعود الى السينما لحضور فيلم (أوغست
راش) للمرة الثانية وبكيت أيضاً (للمرة الثانية).. فيلم مؤثر للمخرجة
الأيرلندية (كيرستن شريدان) التي استطاعت أن تأخذ من أجمل الأشياء..
أجملها. وخطت في روحنا ندباً مأخوذة بما تركت.
الموسيقى ليست من صنع البشر!
أول كلمة في الفيلم هي (أصغوا).. نسمعها بصوت طفل مأخوذ بالموسيقى، ونراه
سابحاً وسط أمواج حقل القمح في مشهد يرسم موسيقى الحقول كما تقترحها
المخرجة شريدان والمؤلف الموسيقي الحائز على الأوسكار (مارك مانسينا).
يواصل الطفل إيفان (فريدي هايمور) سرد تفسيره للموسيقى بأنها موجودة بيننا
في كل شيء تراه أعيننا، ما علينا إلا أن نصغي، عندها سيتحول كل شيء الى
موسيقى (مدوزنة) بشكل متوافق. وبذكاء استطاعت المخرجة أن تجعلنا نتلبس
شخصية إيفان في شفافيته التي تحول كل صوت الى نغمة موسيقية، فكنت اصغي الى
كل صوت يدخل في خلفية المشهد، وكنت ابتكر له تأويلاً..
يستمع إيفان من بداية الفيلم الى ثيمة موسيقية عبارة عن خمس نغمات بهذا
التسلسل (صول، دو، ري، صول، مي)، تمثل صوت الريح بالنسبة له، وصوت ولادة
الأشياء ببراءتها ونقاءها، تظهر له (ولنا أيضاً) في كثير من المشاهد، فمرة
يسمعها في الحقل، وأحياناً تظهر بين شفتي مراقب الملجأ الذي يسكن فيه وهو
يصفر هذه الثيمة الموسيقية ثم يحاول إيفان ان يقلده، ونسمعها على آلة
الهارمونيكا يقوم بعزفها ماكسويل الساحر (روبن ويليامز) ليلة اللقاء الأول
بين عازفة الشيللو وعازف الجيتار، حيث (تكوّن) إيفان في هذه الليلة من
العشق على هذه النغمات، ثم نسمعه بعد ولادته بأسبوع تقريباً على سريره
ينتظر ملجأً بين الأطفال، وهو يتهجى نفس اللحن لكن على شكل مناغاة ناعمة
لطفل يعدنا بموسيقى باهرة! استطاع المؤلف الموسيقي (مانسينا) ان يوظف كل
مؤثر صوتي في الفيلم لكي يساهم في تأجيج مشاعرنا واللعب على أوتار دهشتنا
كما يلعب إيفان على آلة الجيتار وأقول هنا (يلعب) لأنه وببساطة لم يكن يعرف
العزف، فقط جلس مع آلته واستطاع ان يكون له لعبة ممتعة ولكن بعد ان دوزن
أوتارها لكي تتفق مع الثيمة اللحنية التي يسمعها في رأسه طوال الوقت. وعند
هروبه من الملجأ في إحدى الليالي لا ينسى (مانسينا) ان يسمعنا الأصوات التي
تنتقل في أسلاك الكهرباء المعلقة على امتداد الطريق. وفي الكنيسة التي
زارها إيفان حيث استمع الى جوقة (الغوسبل) وهي تنشد (إرفعها عاليا)، وقد
قامت بالغناء جوقة (إمباكت ريبرتوري اوف هارلم)، وكان هناك دوراً مميزاً
للظاهرة الغنائية التي لم تتجاوز العشر سنوات (جاميا سيمون ناش) التي قامت
بأداء دور فتاة تدعى (هوب/أمل)، والتي منحها الرب (مبكراً) جميع أدوات
الغناء المحترف، حيث تملك مساحة صوتية مبهرة وإحساس بالكلمة التي تؤديها،
وقد رشحت هذه الأغنية لجائزة الأوسكار لأفضل أغنية أصلية. والدور الأصعب
بالنسبة لي والذي يضاهي صعوبة التأليف الموسيقي والإخراج هو دور المونتاج
الذي ابدع فيه المونتير (وليام شتاينكامب) الحاصل على ثلاث ترشيحات
للأوسكار، حيث استطاع ان يترجم رؤى المخرجة و إحساس المؤلف الموسيقي ويضفي
بصمته الخاصة والفريدة في التعامل مع التأثير الرمزي للصوت ممزوجاً
بالتأثير البصري للصورة، فقد كان موفقاً في إلباس موسيقى الروك التي يعزفها
لويس كونللي (جوناثان ريس مايرز) والد إيفان، ثوباً يسمح بدخول موسيقى
المؤلف الإنجليزي إلغار الذي تقوم بعزفه ليلى نوفيشيك (كيري راسل) والدة
إيفان، في محاورة سلسة في التنقل بين صخب الروك ورزانة الكلاسيك بصرياً
وموسيقياً. ومن الأمور التي تحسب للفيلم هي اننا خرجنا منه ونحن نكاد نصدق
ان الممثلين قادرين على العزف، مع ان الممثلة راسل لم تعزف نوته واحدة قبل
الفيلم وقد تم تدريبها لتعزف اعمالاً من أصعب الأعمال التي كتبت للتشيللو
لتشايكوفسكي، باخ وإلغار، لكن من الأشياء التي فاجأتني هي أنني اكتشفت أن
الممثل جوناثان ريس مايرز كان يعزف ويغني بنفسه، حيث انه يملك صوتاً لا بأس
به..
أما في المشهد الختامي من الفيلم فهو يلخص مشوار إيفان منذ ولادته وولادة
الثيمة الموسيقية معه، فاختيار موقع الأمسية الموسيقية في (السنترال بارك)
بإجماع من الكاتب والمخرجة ثم المنتجون أضاف للمهمة التي يحلم بها إيفان
طوال الوقت (ان يستمع لموسيقاه أكبر كم من البشر) مصداقية، حيث انهم لو
تنازلوا لأي سبب من الأسباب وكانت الأمسية في صالة مغلقة لن تعطي هذا
التأثير الذي يعكس حياة وأمنيات إيفان في الوصول لوالديه. فعندما يعتلي
إيفان المسرح مواجهاً الأوركسترا الفيلهارموني حتى تحضر جميع الأصوات التي
مرت على إيفان منذ ولادته، فنستمع للريح ولصوت المطر، الزجاج، قطار الميترو،
الأشجار، ثم تبدأ موسيقى الخروج النابضة بالحياة، والتي تمثل هروبه من
الملجأ من جهة، ومن جهة أخرى (بما أنه اختار آلة التشيللو في مؤلفته أن
تعزف لحناً قيادياً) نستطيع أن نأول أنه ودون أن يعلم كتب حالة أمه وهي
تبحث عنه - وهي عازفة تشيللو- وهذا اللحن هو الذي شد انتباهها لكي تعود الى
مكان القاعة كي تراه، ثم نسمع آلات النفخ النحاسي تعزف لحناً يشبه صفارات
سيارة الإسعاف التي أخذت أمه للمستشفى يوماً عند وقوع الحادث لها (فقد كان
هو يصغي وهو في بطنها)، ثم يدخل الجيتار كي يرسم رؤية أبيه لموسيقى الروك،
ولكي يجذبه هو الآخر للموقع، عندها يهدأ اللحن عند لقائهما بين الجمهور،
ويستشعر إيفان هذا اللقاء فيعطي الدور للفتاة (هوب) لكي ترتجل صوتيات تمثل
الأمل الذي كان متشبثاً به والذي لمسه في الترنيمة التي سمعها في كنيسة
هارلم، عندها تسري رعشة في يده ويلتفت ليرى والديه أمامه، ينظر الى الأعلى
وكأنه يقول للرب شكراً. سأتوقف عند هذا الحد لكي أذهب للسينما كي أشاهده
مرة أخرى.
الوطن البحرينية في 24
فبراير 2008
|